حصريا

فقذف به في وجهه ! – د. موفق سالم نوري – العراق –

0 76

فقذف به في وجهه !

د. موفق سالم نوري

لم تكن مدينة كبيرة؛ ولكنها ليست صغيرة أيضاً، يتجاوز سكانها النصف مليون نسمة، إذا مررت بها لا يخطئ حدسك أنها مدينة طيبة….. تشمخ مآذنها عالية؛ تناجي ربها في كل وقت وحين ….. وكأن في أعاليها أعشاش صقور تولت حراستها من فوق, تدفع عنها شر الضواري.

ومن عجائبها أن أصغر أبنائها يمكن أن يستدرجك إلى بيته إذا وجدك غريباً؛ ليظهر لك ألوانَ الكرم والسخاء، فيتسلل إلى عروقك إحساس أن أبناءها كلهم ودودون، وأنهم رجال حقاً، وهكذا نشأوا …. تقرأ في عيونهم معاني النخوة والرجولة حقيقة….. وكانت المدينة عنيدة صعبة القياد.

****************

بدا أن احتلال الأمريكان أصبح واقعاً, وكان لابد من التعامل الآني معه ريثما تبدأ الخطوات العميقة لمقاومته, ومن هنا تم الاتفاق بعد التفاوض مع وجوه المدينة ألا تدخلها القوات الأمريكية لما اقتربت منها أول مرة على أن لا تصدر من المدينة أية أعمال مقاومة، غير أن الأمريكان وكمحتلين ليس لهم إلّ ولا ذمة دخلوها واتخذوا من إحدى مدارسها مقراً لهم، وذلك له دلالته المرفوضة عند الأهالي.

إذ تتوسط المدرسة في العادة الحي السكني مما يعني إطلالة الجنود على الدور السكنية المحيطة في أثناء قيامهم بواجب الحراسة من على السطح، والناس هناك أصحاب غيرة شديدة, والشرف عندهم بمستوى خطورة الدين! فهي مدينة محافظة تحكمها أخلاق العشيرة وقيمها فضلاً عن قيمها الدينية, لذا اشتدت مطالبة الأهالي بضرورة ترك الأمريكان للمكان، إلا أن الرعونة التي عُرف بها هؤلاء واستهانتهم بأهل المدينة, وأموراً أخرى كانت مبيته لديهم جعلتهم يسيئون تقدير الموقف عمداً، لينزلقوا إلى مواجهة ندموا عليها فيما بعد!

احتشد رجال المدينة وشبابها في تظاهرة كبيرة تطالب الأمريكان بالمغادرة، لكن الأرعن لا يفهم لغة التواصل، فأطلقوا النار على المتظاهرين فسقط منهم قرابة العشرين شهيداً.

لم يفوتها أهل الفلوجة لهم، فتربصوا بهم الدوائر حتى جاءت الفرصة المواتية؛ قافلة  من شركة بلاك ووتر الأمنية القذرة، سيئة السمعة والصيت, مرَّت في وسط المدينة، فهاجمها الأهالي ونالوا منها، فقتلوا أربعة من أفرادها … ثم سحلوهم في الشوارع …. ثم علقوا جثثهم على جسر في المدينة تذكاراً للعالم بأن هؤلاء أناس لا يركعون، ولا يمر بهم الغدر  سهلاً !

طاش عندها عقل الغزاة؛ فعملوا على النيل من السكان…. فوقعت في نيسان من عام 2004 معركة ضارية هي أشرس مواجهة بين العراقيين والأمريكان, اضطرتهم للبحث عن حل وسط وخروج مشرف من المأزق، فكان ذلك بوساطة من أحد الأحزاب المتنفذة حينها.

يومها أصبحت الفلوجة محجة المجاهدين من كل مكان، وأخذوا يحتشدون فيها متوسمين تسطير ملحمة أخرى بعدما تبين ورسخ في الذهن أن هؤلاء الغزاة ليسوا أسطورة لا تقهر….

بدأ المقاتلون بالاحتشاد في المدينة…..عراقيون ومن جنسيات كثيرة، وأخذ الجميع يفكر ويخطط ويعد العدة للمواجهة القادمة، وكان منزل العم أبو خضر أحد المقرات المهمة التي شهدت اجتماعات مكثفة لوضع خطط المواجهة، وكان الدفاع عن المدينة من الأمور التي كثر حولها الجدل والنقاش.

كان رأي بعض المجاهدين العرب أن يأخذوا دورهم في الدفاع عن المدينة عند محيطها الخارجي بوصف أن المجاهدين العراقيين أدرى بممرات المدينة الداخلية، وأولى لهم أن يكونوا على تماس مع مَن تبقى من عوائلهم، وأن المقاتلين العرب هم أكثر حماساً للشهادة التي ما جاؤوا إلا من أجلها، ووجودهم في المحيط الخارجي سيمكنهم من الالتحام المباشر مع المحتلين وذاك أغلى أمانيهم, وكان الأمير أبو الهيجاء أشدهم حماساً لذلك …. وكان خضر يومها يافعاً يمر في الاجتماعات ولا يشارك فيها بل يقدم الضيافة اللازمة للمجتمعين ثم يمضي خارجاً.

وبدأت الغربان بالزحف على المدينة لتطوقها وتحاصرها من كل جانب, ثم بدأت الحرب الضروس تطحن كل شيء، وكان للمقاتلين سلاحهم المتواضع، لكن صدقهم وإخلاصهم وهمتهم في المواجهة لم تكن متواضعة، بل حق لهم أن يباهوا بالأسطورة التي جسدوها في الواقع، مع أشكال الإجرام كلها التي مارسها الأمريكان, الذين لم يبخلوا في استخدام كل أشكال العنف بما في ذلك المحرمات الدولية!!

***********

ومرة أخرى كانت الوساطة هي سبيل حل العقدة التي واجهها الغربان، فوضعت الحرب أوزارها، وانقشعت سُحب المعركة، وكل معركة لابد لها من أسرى، وكان خضر بين هؤلاء هو وأُخوته مع أبيهم من دون تمييز في الأعمار بين صغير وكبير, وبينما كان خضر ينتقل يوماً في معسكر الأسر من مكان لآخر لحاجة له، إذا بصوت ينادي عليه باسمه: خضر … يا خضر!

تلفت خضر وكان قد توسط باحة المعسكر، فلم يجد أحداً ممن يعرفه بزيه المحلي       ( الدشداشة ) بل ثمة عسكري أمريكي في ناحية المعسكر …. كذّب خضر أذنيه.

ربما كان الصوت هاجساً ما، ربما هو الوهم، ربما كان الصوت بمعنى آخر وهو من جانبه أخطأ في تفسير ما سمع، ولكن علام يشك في نفسه؟! لقد سمع صوتاً يناديه فعلاً باسمه، وهذا أمريكي لا يمكنه أن يلفظ اسمه كما سمعه …… الخاء والضاد لا يمكن لهذا العلج أن يلفظهما كما سمعهما!

وجد نفسه متحيراً في تفسير الأمر، هل ثَمٌ من يناديه من داخل إحدى الغرف أو … أو … تساؤلات كثيرة تداخلت في رأسه

تجاهل الأمر وقرر وقف التداعيات التي حلت على ذهنه ومضى في طريقه على أمل أن من ناداه مرة سيناديه مرة أخرى إن كان يقصده فعلاً …. عندها سيكون متأكداً من صحة ما سمعه، وسيسعه حينها تفسير الأمر، وفعلاً عاد الصوت يناديه: خضر … يا خضر انتظر قليلاً!

توقف خضر في مكانه والتفت إلى جهة الصوت فإذا هو ضابط أمريكي يتقدم ناحيته وعلى وجهه نظارة سوداء أخفت مع غطاء رأسه ملامحه فلم يعد من مجال لمعرفة حقيقة مَن يكون.

قطع الضابط الطريق على استرسال خضر في تساؤلاته الداخلية التي شغلت باله, فقال بلغة عربية سليمة: ماذا يا خضر هل عدت لا تعرفني حقاً؟! بلهجة هي مزيج من الجد والسخرية

رد خضر بحزم: وكيف لي أن أعرف مَن كان مثلك؟

–   وما به من كان مثلي؟ قالها الرجل ساخراً ومستهزئاً

انهمك خضر في التفتيش في تلافيف ذاكرته عن صاحب الصوت، فهو يتكلم بلسان عربي واضح، إنه عربيٌّ وليس أمريكياً، مَن يكون هذا يا الله؟ حاول جاهداً أن يتذكر لمن يكون هذا الصوت وهذه النبرة وبهذه اللهجة التي سمعها….

عربي في الجيش الأمريكي؟  يعرفني ولا أعرفه؟ إنه حقاً لغز محير!

استطرد الضابط بنوع آخر من التهكم: ماذا يا خضر حقاً لا تعرفني؟ أنا دخلت بيتكم وجلست فيه، وكانت ضيافتكم غاية في الكرم….هيا تذكر يا رجل!

  • غير معقول لم يدخل بيتنا أمثالك! رد بنصف ابتسامة فيها سخرية واستهانة

ضحك الرجل ضحكة خفيفة وقال: يا رجل وما ينقصه من كان مثلي؟ أنا الأمير أبو الهيجاء!

ذهل خضر من كلامه، وقفزت إلى ذاكرته صورة الأمير أبي الهيجاء ….. شاب في مقتبل عقده الرابع …. يتقد حماساً واندفاعاً؛ وكأن المعركة عند باب بيته، حتى جعل منه المجاهدون أميراً على إحدى المجاميع القتالية المهمة….. هل هذا معقول؟!

هذا الذي كان أميراً متحمساً شديد الحماس للجهاد في سبيل الله تعالى ضابط أمريكي؟! يا الله! كيف هذا بحق الله؟ هل كان جاسوساً؟ هل كان خائناً؟

هجم الأمر على رأسه هجوماً صاعقاً وأوشك أن يصيبه بالدوار، بل والغثيان، حتى بان ذلك على ملامح وجهه المشوب بسمرة خفيفة…. فبدت ملامحه قاسية حتى اضطرب لها سامح نصوح – وهو الاسم الحقيقي لهذا الضابط – فحاول التخفيف من وقع الصدمة على خضر فقال بين المزاح والسخرية والاستهزاء: نعم وقعنا في الأسر، وقعنا في الأسر يا سيدي، أسرنا الأمريكان ها ها ها . ضحك هكذا متهكماً وساخراً

رد عليه خضر: خيانة الدين والدم والأرض والعرض!!

ضحك سامح من أعماقه جذلاً بخيانته وساخراً من خضر وأصحابه؛ كيف يزجون بأنفسهم مع مثل هذا الخصم الشرس، والقادر على اختراق صفوفهم بكل يسر، وها هو نفسه خير مثال على ذلك, إنه ضابط مجند في المارينز، كلفته مراجعه العسكرية بالعودة إلى بلده الأم؛ ليبدأ من هناك رحلته في اختراق صفوف المجاهدين.

ولما بدأ خضر يربط بين الأحداث والأشخاص أدرك لماذا كان أبو الهيجاء متحمساً لكي يكون موقعه في القتال عند المحيط الخارجي للمدينة، لقد أراد بذلك أن تحين له فرصة اللحاق بأسياده عند أول نشوب القتال وقبل أن يناله مكروه في داخل الفلوجة، بعدما قدم لهم المعلومات الاستخبارية اللازمة حتى آخر لحظة

تأمل خضر في هذا الوجه الكالح فيما عساه أن يفعل به …. هل يشتمه؟ وما قيمة ذلك؟ بل ربما جعلته الشتيمة يغرق في الضحك والسخرية منه! فضلاً عن أنه أسلوب طفولي ليس غير….هل يلكمه على وجهه ليدميه؟ وما قيمة ذلك أيضاً؟ ربما سيصد الضربة فلا تصل إلى هدفها!

هنا اهتدى إلى السلاح الوحيد الذي لا يمكن تجريد الأسير منه، سلاح قد تعجز الأشياء كلها عن مجاراته في دلالته …. فرسم الهدوء على وجهه, وفيما هو يجول بعينيه بين ملامح هذا المسخ, متأملاً قسماته كلها…. متذكراً صنيع أبي رغال من قبل, ويتساءل في نفسه كيف يسوغ أمثال هؤلاء خيانة بني جلدتهم, ثم بدا وكأنه يبلع ريقه أو يمضغ شيئاً ما في فمه، ولكنه في الحقيقة كان يجمع فيه أقصى ما يمكن من لُعاب …. نعم أقصى ما يمكن من لُعاب ثم قذف به في وسط وجه سامح بكل ما أوتي من قوة…..وهكذا لم يعد لنصوح كبرياء يتشدق بها, بل كانت المهانة لأمثاله ألصق به من أي شيء آخر…….

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.