حصريا

العدالة لا المساواة المطلقة-أ.عبد الله قَدُوس

0 522

العدالة لا المساواة المطلقة

أ.عبد الله قَدُوس

رغم ما يوجد بين العدالة والمساواة من التقاء واشتراك واقتضاء، فإن بينهما من الاختلاف- معنى ومبنىً- ما يجعل المرادَفَةَ بينهما والاستعاضةَ بإحداهما عن الأخرى من الخطأ البَيِّن، وقد جرى هذا الخلط وشاع هذا الخطأ على ألسنة كثيرٍ من الناس، وفي القوانين الوضعية كذلك، فلا بد – إذن- من بيان ما تلتقيان فيه وما تفترقان فيه، حتى نضع كلَّ واحدة منهما في الموضع المناسب، وبالمقدار المناسب، وبذلك تُجتنب المظالم التي وقعت فيها المذاهب الأرضية من جرَّاء الخلط، أو فرض المساواة وتعميمها بإطلاق! فالعدالة ليست دوماً هي المساواة، وليست المساواة دوماً صحيحة ومقبولة بإطلاق، حتى وإن كانت هي أصلاً ثابتاً في شريعة الإسلام، ومطلباً في القوانين الوضعية والمذاهب الفكرية. نعم أمام القانون والقضاء ينبغي أن يستوي الناس جميعُهم، كما يستوون في الصلاة خلفَ إمامهم، ولكن التسوية المطلقة في الحقوق والواجبات فيها نظر وتفصيل.

إن بند المساواة في هذا الباب أصبح مادة دستورية تقول:” تكون المواطنة أساس الحقوق المتساوية والواجبات لكل المواطنين” وفي بعض البلاد العربية ينصُّ القانون على أن يكون كل ” المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة “، وفي بعضها ” المواطنون سواسية أما القانون، وفي الحقوق والواجبات”(عبد الكريم زيدان، أحكام الذميين والمستأمنين، 73.).

في حين نلاحظ غياب أو ندرة مواد تنصُّ على العدالة، فلا تجد لها ذكراً في القوانين إلا قليلا، وهي إن ذُكِرت فعلى غير معناها الصحيح، ولعل المشرِّعين ينطلقون من تكريس مبدأ المساواة، وبالتالي فلا مكان للعدالة، إلا تغنِّياً، لأنها كثيراً ما تختلف معها، بل تتناقض معها أحياناً، أو أنهم لا يُفرقون أصلاً بين العدالة والمساواة، فيظنونهما شيئا واحداً، فيكتفون بتعبيرٍ واحد، هو الذي شاع في الغرب أول أمرهم مع حقوق الإنسان، ثم مع تصدير الغرب لمذاهبه الفكرية من ديمقراطية ومواطنة وغيرها، مما ينصّ على أنه يقوم على المساواة بين الناس، ولا يذكر العدالة، ومع أن مشرعي بلاد المسلمين يقعون في هذا المطبّ تقليداً للغرب، بعد أن وقعوا في المطبّ الأكبر، بل الدِّهليز المظلم، الذي تاهوا فيه ولم يجدوا منه مخرجاً، فلا هم وصلوا به إلى دار الأمان، ولا هم بقواْ خارجاً في الضِّيَاء، ذلك هو تَولِّي التشريع والتقنين بعيداً عن نصوص الشريعة الإلهية، وقواعدها المحْكمة ومقاصدها العظيمة، فكانت دساتيرُ بلاد المسلمين في غالبها ترجمة لدساتير الغرب، ونقلاً حرفياً في بعضها، وبِلُغتِهم.

بل أصبح ذكر “العدالة” يذهب بأذهان الناس مباشرة إلى المحاكم ومجالس القضاء، وهذا قصرٌ للعدالة على بعض مواطنها ومعانيها، حتى غَدَت مفهوماً ينبغي أن يُصحح مع جملةٍ من المفاهيم التي انحرفت فيها الأفهام، في مجالات كثيرة من حياة الناس الدينية والدنيوية، وتبعها انحراف في المناهج التي بُنِيَت عليها؛ لأنَّ ما بُني على خطأ فلا يكون إلا خطأً.

وابتداءً نقول: إن هذه المساواة المطلقة التي ينادُون بها- حتى لو افترضنا صحتها- فهي حبر على ورق، أو هي كلام طار في الهواء، لا علاقة له بمنطق فلسفي، ولا دليلَ عليه من شرع سماوي، ولا حقيقة له في واقع بشري، بل إن المذاهب التي نادت به، نادت أيضاً بخطره وضرره، بعد أن ذاقت ويلاته، ووجدت نفسها كمن قيل فيه:

المستجير بِعَمْرٍو عند كربته           كالمستجير من الرمضاء بالنار.

لأنهم فرُّوا من مظالم التفريق الفاحش المطلق، إلى المساواة المطلقة، فوقعوا في النقيض، بل وقعوا في مظالمَ أخرى، فنادى المصلحون منهم بتغليطها، وأعلنوا أنها تقضي على الإنسان، وعلى الفضيلة فيه، وتُمِيت التَّمَيُّزَ؛ حين يسوِّي القانون مثلا بين النابغة والبليد، وبين العالم والجاهل، وبين الصالح والطالح.

إن المساواة المطلقة:  Absolute Equalitariansismهي ” نوعٌ متطرف من المساواة بين الأفراد نادى بها بعضُ المصلحين الاجتماعيين لا سيما في صفوف الاشتراكيين الطوباويين، والشيوعيين الثوريين المتطرفين. إلا أن الماركسية بشكل عام ترفض المساواة المطلقة؛ لأنها غير عملية ومضرة بالمجتمع، وقد تبنَّاها ستالين ونعتها بأنها: (انحراف بورجوازي صغير) في خطابه الشهير عام 1931م Urvanilovka speech))، وقد جرى نقاشٌ للمبدأ في الصين بشكل واسع لا سيما إبَّان الثورة الثقافية العظمى؛ حيث كان ” لماوتسيتونغ” آراء مختلفة في المساواة المطلقة، ولكنه في النهاية أدانها عام 1972م، بالإشارة إلى ممارسات جيش التحرير الشعبي. ومن المتفق عليه بين الماركسيين أن المساواة لا يمكن تحقيقها إلا حسب (الحاجة)؛ بما يعني وجود الفروقات”(عبد الوهاب الكيالي،  موسوعة السياسة، 6، 172)؛ أي أنّ دعوى المساواة فارغة كاذبة، وخاطئة ظالمة.

وعليه فإن مما يؤخذ إسلامياً-أيضاً- على المذاهب الغربية ما تقوم عليه أو تدَّعيه من المساواة المطلقة، بل الظالمة بين المواطنين، من غير اعتبارٍ لمبرراتِ وأسبابِ الاختلاف بينهم، وموانع المساواة. وأسباب التفريق هذه قد تكون طبيعية أو وظيفية أو سلوكية مما يستوجب التفريق ويمنع إجراء المساواة بشكل مطلق.

وإن المساواة لتستهوي كثيراً من الناس- حتى بعض مثقفي المسلمين- وخاصة أولئك الذين يُحِسُّون بمظالم تقع عليهم، أو تفضيلا عند غيرهم يرون أنفسهم أحقَّ به أو شركاء فيه، فينادون بمساواتهم بغيرهم، وليست المساواة محمودة بكل حال، وإنما تُحمد في مواضعَ وتُذَمُّ في مواضعَ أخرى، بينما العدالة ممدوحة دائماً، محمودة بكل حال. وحيث تَصِحُّ المساواة وتُوضَعُ موضعها اللائق تكون هي عين العدالة، وحين تخالِف موضعها تكون ظلماً لا عدالة. وقد جاء في القرآن ذمُّ المساواة كثيراً، ولم يأتِ ذم العدالة أو العدل إلا في شيء واحد، وهو في حقيقته عدول عن الحقيقة، وليس عدلا فيها! بل هو مساواة شنيعة استنكرها الله-تعالى- فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾(الأنعام 1)؛ أي يُسَوُّون به غيرَه في العبادة والطاعة، وفي قوله -سبحانه-:﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾(الأنعام، ١٥٠)؛ فسِيق العدل في الآيتين مَساق الذم والاستنكار؛ لأن الله –سبحانه- واحد أحد مالك الملك، لا شريك له ولا عديل، وإنما تكون العدالة أو المساواة بين المشتركين في حق أو واجب أو وصف، والله ليس كمثله شيء، ولا ولد له ولا والد، ولا شريك له في خَلْقٍ أو أَمْرٍ، وهو غنيٌّ عن العالمين. وليس في غير هذا موضع تُذم فيه كلمة العدالة، بخلاف المساواة المطلقة، بينما جاءت النصوص والأصول تترى؛ تأمر بالعدالة في كل مجال واتجاه وقول وفعل وخُلُق ومعاملة وقانون، كما سيأتي بيانه قريباً، على العكس من المساواة.

وأول مساواةٍ وأشنعها على الإطلاق ذمَّها القرآن وجعلها غواية وضلالاً وإجرامًا، هي مساواة الخالق بالمخلوق في صفة من صفاته أو فعل من أفعاله، أو خاصية من خصائصه، أو في حق من حقوقه –سبحانه-:﴿قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)﴾(الشعراء، 94 -99)، فهذه المساواة هنا كتلك العدالة هناك؛ تقتضي تسوية الله-سبحانه- الخالق لكل شيء، والذي وَسِع علمُه كلَّ شيء وقهرت قوته كلَّ شيء، تسويته بمخاليقَ محاويجَ، يجهلون أنفسهم فضلاً عن غيرهم من عوالم الدنيا والآخرة، وبعضهم سوَّى اللهَ -سبحانه- بخَلْقِه في الخَلق والتدبير، وبعضهم سوَّى الله بخَلْقِهِ في الأمر والتسيير! وليس لأحدٍ غيره من الأمر أو الخلق شيء، كما قال-سبحانه-:﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾(الأعراف، ٥٤)، وما الأمر إلا وضعُ الحدود والقيود، والنواهي والأوامر، والمبادئ والمقاييس، والقوانين والنواميس، وما تحديد الحقوق وتبيين الواجبات، وَقَسْمها بين الناس، وما وضع المساواة موضعها والعدالة موضعها إلا واحدة من هذا الأمر الذي اختص الله-تعالى- به نفسَه  دون أحد من خَلقه؛ ولو كان مَلَكا مقرّبًا أو نبياًّ مرسلاً، كما قرره الله-سبحانه- وكرره في كتابه الخالد بقوله الفاصل الحاصِر:﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾(الأنعام، ٥٧)، وقوله:﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾(يوسف، ٤٠)، وقوله:﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(القصص، ٦٨)، والعاصم من هذا التناقض والتخيير الباطل هو الإيمان بالله-سبحانه- والتسليم له بالأحقية والفردانية في ألوهيته الآمرة، وربوبيته الخالقة، بما في ذلك علمه الواسع وحكمته البالغة، ولذلك قال الله- تعالى-:﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾(الأحزاب، ٣٦.)، وقال:﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(النور، ٥١).

إن تسوية الله بخلقه في الخلق والتدبير، كتسويته-سبحانه- بخلقه في التعبد والدعاء، وكتسويته-جل وعلا- بهم في الأمر والنهي والتحليل والتحريم، والتقديم والتأخير، والوضع والتفضيل، سواء بسواء، وقد فرَّق الله-سبحانه- ولم يُسَوِّ، وضرب الأمثال:﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾(الرعد، 16)، فهو الواحد القهار، وهم يريدون أن يجعلوا له مشاركين في أمره، قاهرين لخلقه، وهذه تسوية مرفوضة.

إن هناك مساواةً واحدة هي التي يستوي مطلقاً فيها الناس جميعاً لا فرق فيها بين بشر وبشر؛ بغض النظر عن الجنس واللون والأرض والعِرق؛ وهي المساواة المطلقة الكاملة، والوحيدة الواجبة، وهي التي دعا إليها القرآن: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾(آل عمران، ٦٤.)، فلا كلمة سواء غيرها، ولا مساواة مطلقة في غيرها.

فهيا بنا نستوي جميعاً في الوقوف بين يدي الله عبيداً له، مكرَّمين عنده من أن يَعبُد بعضُنا بعضاً، أو أن يَتخذ بعضُنا بعضاً شريكاً في تَعَبُّدٍ أو طاعةٍ، لأنَّ ذلك ينافي المساواة التي ينادون بها، ذلك أنهم يجعلون من بعض البشر أرباباً تُعبد من دون الله؛ تأمر وتنهى، وتمنع وتعطي، وتحظُر وتبيح وتستعلي، ومن بعضه الآخر عبيداً تسمع وتطيع، وتتذلَّل طوعاً أو كرهاً، فلا مساواة إلا حين نكون جميعاً عبيداً لله الواحد الأحد.

أما على غير هذا الأساس وفي غير هذا المقام فكثيراً ما فرَّق الله –سبحانه- ولم يُسَوِّ؛ ففرَّق بين العلماء والجهال؛ فقال في سؤال استنكاري: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾(الزمر: 9)، وفرَّق بين الإيجابي والسَّلبي من الناس، فللإيجابي قال:﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾(النحل، ٧٥)،وللسلبس قال:﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾(النحل، ٧٦.).

ولا يستوي عنده الخبيث والطيب من الأشياء والأشخاص والأعمال والمذاهب والفِكَر والأسباب والأساليب: ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(المائدة، ١٠٠)،وهو تفريقٌ على أساس طِيبة السريرة من المعتقد الصالح والضمير الطاهر، وطيبةِ العمل بما يوافق مرضاة الله –سبحانه- ويحقق مصلحة الفرد والجماعة، وطيبةِ المنهج بما يقوم عليه من شرع الله-سبحانه-. أما مبدأ المواطنة بمفهومه الغربي ومجرد الانتماء للأرض فليس مؤهَّلا بأن يُسَوِّي بين هذا الذي طاب سريرةً ومعتقداً ونيةً ومقصِداً وخُلُقاً ومنهجاً، وبين من خَبُثَت طويته بالكفر أو النفاق، وخبث سلوكه بالفسق والعصيان، وخبث منهجه باتِّباعه الأهواء المضلة والطرائق المعوجَّة.

لا يستوي العالمون بالله-سبحانه- الذين يُحْيُون ليلهم ذاكرين له، مع الذين لا يعرفون الله-سبحانه- في رخاء ولا شدّةٍ، وربما أحيَوْا ليلهم-بل أماتوه- في اللهو واللغو والمجون: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾(الزمر، ٩.). ولا يستوي من بذل نفسه ومالَه في سبيل الله؛ دفاعاً عن دينه ووطنه أو قضيته، حين يَدْلَهِمُّ الخَطْب، مع من يأتي بعد التحرير والاستقلال وزوال الخوف واستتباب الأمن، ثم يأتي ليقطفَ ثمرةً زرعها وسقاها ورعاها غيرُهُ-ربما بدمائه-، أو يعيش في رخاء وأمانٍ قد كلَّف غيره الكثير من الجهد والمال، وربما الدمَ والأرواحَ، ثم يستوون مواطنةً، وتستوي حقوقهم وواجباتهم بمقتضى مبدأ وعقد المواطنة، ولكل واحد منهما أن يكون رئيس تلك الدولة، أو متنفِّذاً فيها: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾(الحديد، ١٠.).

وكما في قوله-تعالى-:﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ ﴾(غافر: 58)، وقوله-عز وجل-:﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾(فاطر، ٢٢.)، وقوله- تعالى-:﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ﴾(السجدة، 18)، وفي نهاية المطاف: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ (الحشر، ٢٠).

وهكذا كلما نُفيت المساواة في دين الله-سبحانه-، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإنما تُنفى لوجود سبب منطقي أو ضروري يستدعي التفريق، وتمتنع معه المساواة العادلة، وإنما تنتفي المساواة حين تكون حيفاً وظلماً.

وليس في الإسلام فقط يقال مثل هذا الكلام عن المساواة، فمفكرو الغرب وعقلاؤه وفلاسفته القدماء والمحدثون، أيضاً يُنكرون مثل هذه المساواة المطلقة، ويعتبرونها ظلماً لا عدالة، ويَدْعُون إلى مساواة عادلة، تراعي التمايز الطبيعي أو الكسبي بين الناس. لكن القوانين الوضعية لم تسمع نداءات هؤلاء المفكرين والفلاسفة، وكذلك حكومات العالم التابعة لم تُقنن لها عدالة يقبلها الشرع والمنطق السليم، ولا هي استقت من تنظيراتٍ معتدلةٍ لفلاسفةٍ نطقوا بالحقيقة أو قاربوها، وإنما أخذت عن حكومات مستبِدّة، واقتدت بحكام وسلاطين ظلمة أنانيين، واقتبست من قوانينهم ما يكرس لهم الامتيازات على شعوبهم ورعاياهم، وتُشَرْعِنُ لهم حقوقاً مادية ومعنوية، أخذوها باسم العدالة المزعومة! وفرضوها على الشعوب باسم الشعوب، وانتحرت الشعوب بتصفيقها لهم، وشنقت أنفسها بما وضعت في عنقها من واجب الخضوع لهم.

ومن أقوال هؤلاء المفكرين والفلاسفة الغربيين في المساواة، وفي المذاهب التي تقوم على المساواة المطلقة، قول بعضهم: “إن مذهب الديمقراطية لا يحفُل بتكوين أجسامنا وشعورنا. إنه لا يصلح للتطبيق على المادة الصلبة وهي الفرد. صحيح أن الناس متساوون، ولكن الأفراد ليسوا متساوين، فتساوي حقوقهم وَهْمٌ من الأوهام، من ثم يجب ألا يتساوى ضعيف العقل مع الرجل العبقري أمام القانون، ومن خطل الرأي أن يُعطَوْا- أي الأغبياء- قوة الانتخاب نفسها التي تُعطى للأفراد مكتملي النمو. كذلك فإن الجنسين لا يتساويان، فإهمال انعدام المساواة أمر خطير جداً. لقد ساهم مبدأ الديمقراطية في انهيار الحضارة بمعارضة نمو الشخص الممتاز.. ولما كان من المستحيل الارتفاع بالطبقات الدنيا فقد كانت الوسيلة الوحيدة لتحقيق المساواة الديمقراطية بين الناس هي الانخفاض بالجميع إلى المستوى الأدنى، وهكذا اختفت الشخصية”(كارليل، ألكسيس، الإنسان ذلك المجهول،  306، 307.).

كذلك فإن بعض المفكرين يقترح تبديل شعار الجمهورية الفرنسية المعروف: “حرية، مساواة، أخوّة” إلى: “حرية، إنصاف، أخوّة”، وهذا تخلٍّ منهم عن المساواة، واستبدالها بالعدالة، بعدما اصطدموا بأمرين؛ الأول: فرض المساواة المطلقة المخالف للفطرة وطبائع الأشياء، والثاني: فراغ الواقع من دعوى المساواة، فراحوا يستبدلونها بالعدالة، وهذا يؤكد أن القوم صاروا يفرِّقون بين العدالة والمساواة، وإلا لمْ يكن لتبديلهم معنىً ولا فائدة، لأن الإنصاف أقرب إلى معنى العدالة منه إلى المساواة، وقد أخطأ من فسَّر المساواة بالعدالة، فليس هناك ترادف بين المعنيين، وإن كانت هناك علاقة واِلْتِقاء. ومن قبلُ كان شعار أفلاطون:”الحكمة والشجاعة والعدالة”(انظر: أفلاطون، مات(-حوالي347ق.م)، الجمهورية، الجزائر، المؤسسة الوطنية،1411هـ/1990م، تقديم الجيلالي اليابس، XIV)، لكنَّه كان فيلسوفاً مُنَظِّراً، ولم يكن سلطاناً حاكماً.

العدالة محمودة دائما، وهي المطلوبة شرعا ومقبولة عقلا، أما المساواة فليست مطلوبة دوما، ولا معقولة التعميم، ولا مقبولة الفرض.. وما كان منها كذلك فلأنه عدالة في ذاته..

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.