حصريا

محمد فريد وجدي: التوفيق بين الدين والعلم د. وجيه يعقوب – مصر

0 39

(محمد فريد وجدي: المؤلف الموسوعي ورائد التوفيق بين الدين والعلم)

بقلم: أ.د. وجيه يعقوب السيدأستاذ النقد الأدبي والأدب الحديثبكلية الألسن جامعة عين شمس

إن يكن اليوم لا يُذكر حق ذكراه، فما هو بالخمول ولا هو بالقصور عن الخلود، ولكنه يعيش في عزلة من دنيا التاريخ، كما عاش أيامه في عزلة من دنيا الحياة. (العقاد متحدثا عن أستاذه محمد فريد وجدي في كتابه: رجال عرفتهم، ص 119)

وقد أتى على مصر حين من الدهـر كان الوافد من شتى الربوع الإسلامية القاصية من أندونيسيا والصين واليابان والهند لا يسأل إلا عن ثلاثة من علماء مصر؛ هم (السيد محمد رشيد رضا) و (محمد فريد وجدي) و(طنطاوي جوهري) لانتشار آثارهم المقنعة في شتى جنبات الأرض، فكانوا يفدون بالأسئلة الشائكة، والاعتراضات الموغلة في الغوص فيجدون من محمد فريد وجدي وصاحبيه برداً وسلاماً واطمئناناً لقلوبهم. (د. محمد رجب البيومي: محمد فريد وجدي الكاتب الإسلامي والباحث الموسوعي، ص 39)

هذا كاتب من طراز نادر وفريد حقا حفي وجدير بالإشارة إليه في هذه المقالة القصيرة، عسى أن تعيد للرجل بعض حقه وتلفت نظر الباحثين إلى مشروع هذا المصلح الاجتماعي والمفكر الإسلامي الكبير،فقد كانمثالا يُحتذى في استشراف المستقبل والوعي المبكر بطبيعة المعارك الفكرية، التي ستدور رحاها بين الشرق والغرب وبين القديم والجديد نتيجة التطور والتغير الطارئ في العلاقة بين الشرق والغرب،ولذلك جعل هَمَّه وهِمته في التركيز على تجليةالأفكارالجوهرية والأصيلة وإظهارهالاالهامشيةأوالشخصية، وهو ما يؤكد علىرؤيةناضجةوثاقبة ورصينة لا حَظَّ للنفس فيها،ورغم احتدام المعارك فقد عُرفبدفاعهالهادئوالرزين عن آرائه وأفكاره،فلم يصدر في كل ما يكتب عن انفعال أوهوىأوتعصب أو سخرية من خصومه،وسَخَّرَ حياته وقلمه وكل ما يملك في سبيل الدفاع عن معتقداته وأفكاره دون ضجر أو ملل، وفوق ذلك كان صاحب دين وخلق واستقامة وورع حقيقي؛لم يخالف قوله فعله قط، ولم يعرف عنه سعي للشهرة ولا للمجد أو التكسببكتاباته، وكان رحمه اللهعالما موسوعيا عالج شتى الموضوعات الفكرية والدينية والأدبية بإتقان منقطع النظير، متسلحا في ذلك بقراءاته الواسعة والعميقة ونظراته الثاقبة والدقيقةوطاقتهالهائلة على العمل المتواصل التي لا تعرف الكلل أو السآمة،وهو ما أهَّلَه باقتدارللتصدي لدراسة الموضوعات الشائكة والمثيرة للجدل، والانتصار للحق مؤيِّدا وجهة نظره بالبراهين العلمية والدراسات الجادة،واستطاع أن يدحض شبهات الملاحدة والمنكرين للوحي والنبوة والروحانيات ويقيم الحجة عليهم، وما أحوجنا إلى احتذاء منهجه والاقتداء به في هذا الجانب، فما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشد ضراوة المعركة على الإسلام وتشريعاته،وإن كانت هذه المرة من خلال أبواق مأجورة صنعها الاستعمار، وأنفق عليها المليارات، لتنوب عنه في هذه المعركة الشرسة والقذرة!

وُلد المفكر الكبير محمد فريد وجدي عام 1875م بمدينة الإسكندرية لأسرة ميسورة الحال؛فقد كان أبوه من كبار الموظفينحيث شغل منصب وكيل محافظة دمياط، وانتقل وجدي مع أسرته إلى مدينة القاهرة ليستكمل دراسته الأولية، لكنه اختار لنفسه طريقا آخر لا يتقيد فيه بالدراسة النظامية والإلزامية، فقد كان قارئا نهما باللغتين العربية والفرنسية، وكان شغوفا بمراسلة الصحف والمجلات في ذلك الوقت، وكتب عددا منالمقالات والتعليقات بأسماء مستعارة وهو في السادسة عشرة من عمره نالت استحسان الناشرين والقراء، كما كان تفكيره ونظرهللأمور الدينية والإصلاحية مختلفا عن النظرة التقليديةالسائدة، وهو ما دعاوالده – على الرغم من معارضته لهذا الأمر في البداية– إلى موافقة ابنه النجيب في اختياره هذا المسار.

ولم يخيِّب فريد وجدي ظن أبيه ولا ظن أمته برمتها به؛ فقد حقق نجاحاتعريضة،وصارت كتاباته قبلة للباحثين وطلاب العلم، رغم عصاميته العلمية،واعتماده في تحصيل معارف كثيرة لا حصر لها على نفسه،وقد نالت كتاباته شهرة منقطعة النظير في مصر وخارجها،فقد تُرجمت كثير من مؤلفاته إلى عدة لغات شرقية وغربية،لِما تتسم به من عمق فكري وما يميزها من روح علمية أصيلة،وحَقَّ لمحرر مجلة (المعرفة الجديدة) أن يصفه بأنه أمة تمثلت في فرد أو فرد تجمعت فيه أمة؛حيثصنع نفسه بنفسه، وأجاد الصنعة كل الإجادة، تقرأ سيرته فتشعر أنك تُقلِّب في سفر جامع حافل بالتليد والطريف، وتحس نفسك أمام بنيان شامخ تُخِيِّرت أسسُه من لبنات العلم الصحيح، واتُّخِذتْ قواعدُه من قوائم المعرفة الصحيحة؛ ذلك هو علامتنا الكبير الأستاذ مخمد فريد بك وجدي، صاحب المؤلفات الشهيرة والمجلدات الضخمة والموسوعات الذائعة الصيت، وبحسبك أن تعلم أنه صاحب دائرة معارف القرن العشرين، لتعرف أيَّ معجزة أتى بها لعصره وتفهم أي فخر أكسبه الشرق. (انظر: المعرفة الجديدة، العدد الأول، مايو 1931م، ص 20، وكذا محمد رجب البيومي: النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، الجزء الأول، ص 91 وما بعدها)

عَرَف فريد وجدي طريقه مبكرا وحدد أهدافه جيدا وعكف على مشروعه الفكري والتنويري، لا يشغله شيء عن تحقيق طموحاته وإنجاز مشروعه مهما كانت التضحيات، لذلك لا نراه يحفل طوال حياته بالأضواء ولا يسعى إلى الشهرة، وإنما كان شغله الشاغل هو الدفاع عن الحق وتقديم صورة مشرقة وحقيقية عن الثقافة العربية والإسلامية، في ظل أوضاع وظروف متردية كان يعيش فيها العالم الإسلامي بأسره، وقد استطاع على امتداد عمره المبارك الذي نَيَّفَ على السبعين،أن يقدم للمكتبة العربية – كَمَّاً وكيفاً– ما تعجز مؤسسات بأكملها عن إنجازه،وهي مؤلفات تعالج مشكلات حقيقية قائمة وليست مفتعلة أو مصطنعة، وعلى الرغم مما قدَّمه من إنجازات شديدة الأهمية نجد تجاهلا كبيرا لإنتاجه الغزير ولشخصه ومنهجه، سواء في حياته أو بعد مماته، رغم أنه كان ملء السمع والبصر،كما كانمقدرا من العلماء الأثبات والمحققين، ويكفي أنيصفه الأستاذ العقاد بأنه فريد عصره غير مدافع، وأن هذا الوصف ليس من باب المجاملات كما جرت العادة عند الكتابة عن الأصدقاء، ولكنه وصف يصدق عليه حرفا حرفا حقيقة لا مجازا. يقول العقاد رحمه الله: لقد عرفنا في عصره طائفة غير قليلة من حملة الأقلام ورجال الحياة العامة، فلم نعرف أحدا منهم يماثله في طابعه الذي تفرد به في حياته الخاصة أو العامة، وفي خُلقه أو تفكيره، وفي معيشته اليومية أو معيشته الروحية، وأوجز ما يقال عنه في هذه الحالات جميعا: أنه لم يُخلَق في عصره من يتقارب المثل الأعلى والواقع المشهود في سيرته كما يتقاربان في سيرة هذا الرجل “الفريد”. (انظر: العقاد: رجال عرفتهم، ص 112)

والعقاد ليس من هذا الصنف من الناس الذي يُثني على أحد بسهولة وبدون استحقاق، وهو يعي تماما ما تدل عليه هذه المفردات اللغوية التي وصف بها هذا الرجل العظيم، من تفرد وورع ودين واستقامة وعلم،بل إن العقاد يشبه سلوكه وسمته بسمتالأولياءوالصالحين؛حيث كان بعيدا عنالبدع والشبهات وكل ضلالة ينكرها الدين، وكان يساند الحق ويناصر صاحبهمهما كان خلافه مع صاحب الحق،ويضرب العقاد العديد من الأمثلة التي تؤكد رأيه في الرجل، ومنهاموقف فريد وجدي منشيخ مشايخ الطرق الصوفية محمد توفيق البكري، حيث كان وجدي ينكر على الطرق الصوفية إغراقها في الدروشة والابتعاد عن هدي الرسول الكريم وموقفه في ذلك معروف ومشهور، لكنه وقف معه حين أهانهأحد الأمراء بدون وجه حق رغم أن ذلك قد يعرضه لغض الأمير،وكتب على صفحاتجريدته (الدستور)مستنكرا ما حدث مع البكريوأن هذا التصرف لا يليق بمقام الرجل ولا مكانته، وحين قرأ البكري المقال شكره وعرض عليه تمويلا لجريدته المتعثرة آنذاك، لكنه رفض أن يتقاضى أي مقابل مادي من السيد البكريإطلاقا، لأنه فعل ما فعل انتصارا للمبدأ الذي لا ينحرف عنه أبدا كما يقول الأستاذ العقاد، وحرصا على استقلال جريدته وعدم خضوعها للأحزاب أو الأشخاص، اعتمد في تمويلها على ماله الخاص، فكان يحرر الجريدة بنفسه ورفض أية مساعدة مادية تأتيه من أي أحد.

وكما أثنى العقاد على أخلاق شيخه وأستاذه وصديق فريد وجدي وأشاد بها،فقد أشادبمنجزه الفكري الهائل ودراساته الرصينة والمتنوعة وأسلوبه القوي والبديع، فقد توَفَّرفريد وجدي وحده على تأليف دائرة معارف كاملة في عشرة مجلدات، وقدَّم تفسيرا للقرآن الكريم استقى مادته من كتب التفاسير المختلفة في أسلوب سهل وسلس، وألففي باب المعاجم والعلوم وسائر المعارف العصرية، وجمع بين الدراسات الدينية وكتابة القصص الخيالية، وكان له باع كبير في إصدار الصحف والمجلات،حيث أصدر أكثر من جريدة ومجلةلنشر أفكاره وآرائه، ولم يكن يضيق بنشر آراء معارضيه فيها،وكان العقاد نفسه يخالفه في عدد من الآراء والمبادئ السياسية والعلمية، ومع ذلك لم يرفض نشر آرائه وتعليقاته في جريدتهقط، وكان يرحب بنقد العقاد له وتعليقاته على بعض كتاباته وخاصة أشعاره، يقول العقاد: قلت له مرة: حسبك من الشعر ما يقنع قلب المتصوف ولسانه، فقال: والله إنه لخير كثير، ومن لنا ببعض هذا النصيب؟ والعقاد يذكّره بكلامه هذا بأن حظه من الشعر قليل وأن موهبته محدودة، وهو لا يغضب من رأيه بل يوافقه عليه، ويؤكد له أنه يكتب ما يسنح به الخاطر وما يؤدي الغرض.(السابق: ص 116)

وكما شهد العقاد لهذا المفكر الكبير فقد أشاد به كبار علماء عصره،كالشيخ رشيد رضا والأستاذ أنور الجندي والدكتور طه الحاجري والمستشرق الأمريكي تشارلز آدمس وغيرهم،ويكفي لتعرف مكانته ومنزلتهأن الشيخ رشيد رضا كان يعده أحد المجددين والمصلحين، الذين يعوَّل عليهم في تصحيح صورة الإسلام ورد المسلمين إلى الفهم الصحيح لهذا الدين، وقد اعتبر منهجه في الكتابة والتفكير من أنسب المناهج للحياة العصرية، حيث يقوم على الاجتهاد والتجديد وإعمال العقل والتفكير المستقلالذي لا يتقيد فيه بأحد، وقد أشادبكتابه (المدنية والإسلام) إشادة بالغة عند صدوره، وقال: إنه لا يعدله في الأهمية سوى كتاب (رسالة التوحيد) للإمام المجدد الشيخ محمد عبده، فإذا كانت كتابات الشيخ محمد عبده تأتي في المرتبة الأولى في نظر الشيخ رشيد رضا،فإن كتابات فريد وجدي تلي كتب الشيخ محمد عبده مباشرة في الأهمية والقيمة، ولا شك أن هذه مكانة كبيرة استحقها كاتبنا المرحوم محمد فريد وجدي، وقد أثبتت الأيام والأحداث حاجتنا إلى الإلمام بتلك الأفكار النيرة السابقة لعصره، في الرد على الملحدين والطاعنين في النبوة، وعن المرأة ودورها في المجتمع، وفي مناقشة المخالفين.(انظر: دكتور محمد رجب البيومي: محمد فريد وجدي الكاتب الإسلامي والباحث الموسوعي، ص 40)

ولا شك أن كتاب المدنية والإسلام –على الرغم من صغر حجمه وأن مؤلفه كان لا يزال في طور الشباب – كان حدثا مهما للغاية في تلك الفترة؛ فقد عالج فيه المؤلف أزمة العلاقة بين الشرق والغرب بصورة غير تقليدية،وابتعد عن الأساليب الإنشائية والخطابية والبكاء على الماضي،ولم يسع إلى إلصاق تهمة تخلف المسلمين بالآخر،وكان واقعيا في نظرتهللغرب معترفا بتفوقه العلمي،وبحاجة الشرق الملحة للتعامل معه طوعا أو كرها، ومن ثم وجب على المسلمينالانشغال بتصحيح صورة الإسلام لدى الغرب، والبحث عن أفضل السبلللتعايش والتواصل معه،بدلا من الانسحاب وإلقاء اللوم على الآخر واتساع الهوة بين الطرفين يوما بعد يوم، وقد توقَّع وجدي أن هذا التعارف سيأخذ في التزايد مع مرور الأيام لأسباب اقتصادية وسياسية ودينية، والتمس وجدي العذر للأوربيين في تصورهم السلبيعن الإسلام والمسلمين؛ ذلك لأنهم لم يروا من مظاهر الدين عند المسلمين إلا البدع التي اخترعها صغار العقول، وقبِلها منهم العامة وزادوا عليها أشكالا من الأوهام والأضاليل، تنفر منها الطباع البشرية وتنافي أصول المدنية، ولم يكتف فريد وجدي برصد مظاهر التخلف عند المسلمين، ولكنه حاول وضع الحلول الناجعة الكفيلةبأن تنتشل المسلمين من وهدة التخلف والتردي، وتنقلهم إلى مصاف الدولالمتحضرة، ويكمن هذا عنده في أمرين؛ الأول: اتباع السنن واجتناب البدع، والثاني: الأخذ بالأسلوب العلمي في التفكير. (انظر: محمد فريد وجدي: المدنية والإسلام، ص 7)

وربما بسبب هذه النظرة الواقعية وهذه اللغة الهادئة والموضوعية نالت كتابات فريد وجدي استحسان عدد من المستشرقين،وترجمت أعماله للعديد من اللغات الأجنبية، وقد أثنى عليه المستشرق الأمريكي تشارلز آدمس وأبدى إعجابه بمنهجه وطريقة تفكيره، وأشاد بشكل خاصبكتابه (المدنية والإسلام)،الذي عرض فيه الإسلام بصورة حضارية تؤكد أن هذا الدين قابل أن يساير كل تطور وكفيل بأن يحق السعادة لمعتنقيه في الدارين،كما أنه كان يقف بالمرصاد ضدالبدع والجهل وكل مظاهر التخلف،التي كانتتعم أقطار العالم الإسلامي، ويرى آدمس أن معظم كتابات وجدي كانت موجهة بالأساس لغرضين رئيسين هما: شرح وإظهار حقيقة الإسلام للغرب، واعتبار هذا الأمر ضرورة وواجبا في ظل صعود الغرب وتفوقه، وأما الأمر الآخر: فهو الدعوة إلى الإصلاح، وهو في هذا الباب يوظف كل إمكاناته وما تعلمه لإثبات أن الإسلام دين جدير بالاحترام، وأنه يضمن لأتباعه السعادة في الدنيا والآخرة، وأنه لا يُسأَل عن الأحوال المتردية التي وصل إليها المسلمون، ودليله في ذلك تاريخ المسلمين الأوائل الحافل، وسيرة الرسول الكريم الذي جمع القبائل المتناحرة على فكرة واحدة في زمن وجيز، غيرت طريقة تفكيرهم تغييرا شاملا،كان من نتائجه عمارة الأرض وتطوير نظم الحكم والإدارة في كثير من البلدان. (انظر: تشارلز آدمس: الإسلام والتجديد في مصر، ترجمة الأستاذ عباس محمود العقاد، ص 235 – ص 238)

إن الكتابة عند الأستاذ محمد فريد وجدي لم تكن رفاهية ولا بحثا عن شهرة أو مجد زائل، ولكنها ضرورة ومسؤولية وأمانة ونوع من الجهاد فرضها عليه انتماؤه لهذا الدين الحنيف، الذي كان يخوض في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أعتى المعارك ويعاني أعقد الأزمات، كان العالم يتشكل من جديد وكان العالم الإسلامي في القلب يبحث عن هويته وأين يتجه؟ وما المنقذ؟ عندئذ حمل وجدي قلمه وسَخَّر كل إمكاناته دفاعا عن الدين والهوية واللغة والمجتمع، ولم يكن لديه شك أن الإسلام سينتصر في كل ساحات الصراع التي يخوضها أو تفرض عليه،لكن ذلك لا يتم بدون جهود يبذلها أبناؤه وعلماؤه المخلصونحتىيقدموه للعالمبصورة صحيحة،يقول فريد وجدي رحمه الله: وأمثال هذه الحملات على الإسلام من حين لحين، تدل على أن القائمين بنشر بعض الدعوات الدينية يتخيلون أن الإسلام يمكن ملاشاته وصَدُّ الناس عنه، وهذا غرور كبير فإن دينا جعله الله خاتما للأديان، وعاما لجميع بني الإنسان، وباقيا إلى آخر الزمان، لا يُعقـل إلا أن يكون من المناعة بحيث لا يُستطاع هدمه، ومن استيعاب الحجج ومسايرة مذاهب العقول في الاستدلال، بحيث لا تنال منه شبهة ولا تلين قناته لغامز، مهما توسع في الأساليب. فإن كان خارج دائرة المقررات العلمية رجال يبذلون أوقاتهم وأموالهم ليقطعوا الطريق عليه، معتمدين على المغالطات والإرجافات، فهم أهون من أن يُخشى منهم على هذا الدين، فإن الأصول القائمة على الحقائق العلمية الخالدة لا يمكن تقويضها بمثـل هذه المعاول الواهية، وقد أشار الكتاب الكريم إلى ذلك بقوله تعالى في أمثالهم:”ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون”. (انظر: محمد فريد وجدي: الإسلام دين عام خالد، ص 5)

وهو لا يُحمِّل مسؤولية تدهور أحوال المسلمين وتصدير صورة سلبية ومغلوطة عن الإسلام للمغرضين والكارهين للإسلام وحدهم، فهؤلاء أغراضهم ودوافعهم مفهومة ومعروفة، ولكنه ينحى باللائمة على المسلمين أنفسهم، فهم المسؤولون في المقام الأول عما آل إليه حال الإسلام والمسلمين ” فبإلقاء نظرة على مجموعنا الآن، نرى سوادنا الأعظم لا يفهم من الإسلام إلا أنه محض صلوات للعبادة، ومجرد دعوات يُقصد بها قضاء الحاجات في الدنيا، أو نوال الدرجات في الآخرة، وأما ما فيه من آيات الحكمة، ومعجزات الفضائل، التي بعثت الأمة العربية من جدث خمولهـا الأول إلى ذروة جلالتها التالية، فقد ضربوا عنه صفحاً، مع أنها لباب الدين، وزبدة الإسلام، والغرض الوحيد من تشريعه، إذ جاء الإسلام موفقاً بين مطالب النفوس من الحاجات المعنوية، وبين مطالب الجثمان من الأشياء المادية، ليكون المسلم كاملا متعادلا.(انظر: دكتور محمد رجب البيومي: محمد فريد وجدي الكاتب الإسلامي والباحث الموسوعي، ص 36)

لقد اتسمت ردود فريد وجدي على خصومه ومخالفيه دوما – مهما كانت درجة الاختلاف معهم – بالهدوء والموضوعية والاحترام لشخوصهم وعدم النيل منهم؛ فحين أصدر قاسم أمين كتابيه (تحرير المرأة) و(المرأة الجديدة) ألف فريد وجدي كتابه (المرأة المسلمة)،رافضاتلك الدعاوى التي تريد مساواة المرأة بالرجل في كل شيء دون النظر إلى الفروق البيولوجية والسيكولوجية والوظيفية بين الجنسين، وتلك التي تدعوها لنبذ الحجاب والتخلي عن القيم التي أمرها بها الدين الحنيف،مُذَكِّرابأن الاختلاف القائم بين الثقافات يلزمنا أن نحافظ على هويتنا خشية الذوبان والتلاشي، لأن الأمة المغلوبة والضعيفة التي تلجأ إلى تقليد الغالب ستفقد شخصيتها وهويتها ولن تلحق بالأمة الغالبة مهما قدمت منتنازلات، ويرى فريد وجدي أن الرقي الحقيقي للأمم لا يتأتى من باب التقليد،بل يجب أن يكون نابعا من ذاتها، ولا يرى بأسا باستعارة المناهج العلمية والأمورالمتعلقة بالصناعة، أما انسياق المرأةوراء تلك الأفكار الشاذة فسوف يؤدي بها في النهاية إلى فقدان استقلالها وحريتها، والتضحية بمكانتهاالمميزة في المجتمع كزوجة وأم ومربية للأولاد، مع عدم حرمانها بالطبع من العمل الذي يناسب طبيعتها، معتبرا المرأة المسلمة هي مثال الكمال النسائي ونموذج الرقي الجنسي بشهادة الطبيعة والتاريخ، مما يجب أن تُقَاس بها نساء العالمين.وتلكرؤية إصلاحية محافظة وشاملة تنصف المرأة وتراعي خصوصيتها وطبيعتها،وتضع في الاعتبار الآثار الاجتماعية السلبية التي يمكن أن تترتب على الغلو والتطرف في تمرد المرأة ورفضها القيام بالدور الذي خلقها الله لأجله، والكتاب زاخر بالآراء الجديرة بالمناقشة ويمكن إعادة النظر فيها وإعادة تقييمها، خاصة بعد مرور أكثر من قرن من الزمن على طرح هذه الأفكار، وخوض المرأة معترك الحياة ومعايشتها لتلك المشكلاتبصورة واقعية. (انظر: محمد فريد وجدي: المرأة المسلمة، ص 13)

وقد استوقفني نقد الأستاذ فريد وجديالمميز لكتاب الدكتور طه حسين (في الشعر الجاهلي)، وأعُدُّه نموذجا يُحتذى في النقد الموضوعي والحوار الهادف والبناء، الذي لا يهتم صاحبه بالأشخاص، ولا يتأثر بالدعاية والإعلام، أو صخبالعوام، وإنما ينصب اهتمامه بالأساس على نقد الأفكار والآراء،وفق منهج ورؤية واضحة ومحددة،وحين نقارن أسلوبه بأساليب معظم الكُتَّاب،والضجة التي أثاروها آنذاك حول طه حسين وكتابه، لوجدنا الفرق شاسعا؛ ففريد وجدي عَفُّالقلم، موضوعي، منصف، هادئ، يتحرى الدقة،ويعطي للمنقود حقه من التجلة والتكريم،قبل أن يُفَنِّد ادعاءاتهبالأدلة والبراهين،وبإمكان القارئ أن يراجع هذا السفر النفيس ليتعلم منه أدب الحوار وفن النقد، وليطلع على منهجية فريد وجدي وطريقته العلمية التي لم يحِدْ عنها قط،ومَرَدُّ أخطاء طه حسينفي نظر فريد وجديترجع في المقام الأول إلى اعتماده على كتب المرويات دون تمحيص، وغلوه في تحري أسباب اختلاق الشعر عند الجاهليين،ولم يتفق وجدي مع الطاعنين على طه حسينالذين اتهموه بتعمد تشويه جمال هذه اللغة وتراثها، والبحث عن الشهرة وغير ذلك من الادعاءات الكثيرة، التي طالت طه حسين ولا تزال تطاله حتى يومنا هذا، وهذه مسألة مهمة للغاية تعلمنامناقشة الحجة بالحجة،ونبذ التطرف والغلو في إصدار مثل هذه الأحكام، خاصة أنها تصدر عن رجل عُرف بغَيْرته الشديدة على دينه ولغته،وقد عاش حياته بالكامل مدافعا عن الإسلام ومثله العليا. (انظر: محمد فريد وجدي: نقد كتاب الشعر الجاهلي، ص 8)

ولا نريد هنا أن نعيد ما قيل حول هذه القضية، فهو مبسوط في معظم المراجع الحديثة التي تتناول الشعر الجاهلي، وقد كتبت فصلا مطولا في كتابي: من قضايا الشعر الجاهلي حول هذه القضية بسطت في رأيي بما يشبه رأي العلامة محمد فريد وجدي،لكني سأكتفي بإيراد بعض الأمثلة التي تظهر طريقة فريد وجدي في نقده الهادئ والرزين والموضوعي،وتؤكد على ما ذهبنا إليه؛ فهو يعيب على طه حسين مبالغته في تقدير بحثه، وزعمه أنه اهتدى إلى طريقة جديدة من الدراسة لم يألفها الناس،وتحامله بقوة علىمن نعتهم بأنهم أنصار القديم،حيث لميألفوا هذا النوع من الدراسات بسبب اطمئنانهم ويقينهم الذي لا يقبل الشك في المرويات، ويرفض فريد وجدي هذه المزاعم ويرى أن العلماء والباحثين القدماء كانوا أسبقإلى تمحيص القول والتشكيك في صحةعددغير قليل من الأشعار الجاهلية، ولكن تشكيكهم كان وفق ضوابط وفهم وتحليل، وليس تشكيكا عاما ولا عشوائيا؛ فقد شككوا في رواية حماد الراوية وخلف الأحمر وغيرهما، وكان من المشككين في رواياتهم الجاحظ والمفضل الضبي وابن سلام الجمحي والأصمعي وغيرهم،يقول الجاحظ في هذا السياق: إن خلفا هذا أورد على الناس نسيب الأعراب وهو من أرق الأشعار وما أحراه أن يكون مصنوعا!

ولا يعنينا هنا أن نناقش مدى صحة هذاالاتهام أو خطئه، فهناك دراسات مطولة ومستفيضة قامت بذلك، من أبرزهادراسة الدكتور ناصر الدين الأسد (مصادر الشعر الجاهلي)دافع فيها عن حماد وخلف، وأرجع الهجوم عليهما واتهامهما بالكذب إلى الصراعالسياسي والفكري بين المدرستين الكبيرتين: الكوفة والبصرة،كما عزاه إلى الحسد والتنافس الذي يقع بين الأفراد، لكن الذي يعنينا هومنهجية فريد وجدي؛ فهويفند مزاعم طه حسين ويظهر مغالطاته بصورة علمية دقيقة، ويصف أحكامهبالتعميم؛حيث اتهم طه حسين أنصار القديم بالاطمئنان لتلك المرويات وإغلاقهم باب الاجتهاد في الأدب، وضرب وجدي المثل بالرافعي– وهو أحد أنصار القديم -حيث سبق طه حسين بسنوات وأنكر كثيرا من الشعر الجاهلي،حيث يقول:  لما جاء الإسلام واندفع به العرب إلى الفتوح اشتغلوا عن الشعر بالجهاد والغزو حينا من الزمن، فلما راجعوا روايته بعد ذلك وقد أخذ منهم السيف والحيف، وذهب كثير من الشعر وتاريخ الوقائع بذهاب رواته، صنعت القبائل الأشعار ونسبتها إلى غير أهلها تتكثر بها وتعتاض مما فقدته، وأخذه عنهم الرواة، وأول القبائل التي وضعت الشعر في الإسلام قريش، وكانت أقل العربشعرا وشعراء، ووضعوا على حسان بن ثابت أشعارا كثيرة، ولما شمر الرواة في طلب الشعر للشاهد والمثل، استفاض الوضع في العرب وتفرغ قوم منهم لذلك. وعلى هذا فإنه لا معنى لمزاعم طه حسين وادعائه بالسبق، واتهامه للأدباء والباحثين من أنصار القديم بالجمود ورفض التجديد، وكلام الرافعي هو نفس كلام محمد بن سلام الجمحي بالمناسبة. (السابق: ص 19)

وعلى هذا النحو يمضي فريد وجدي في مناقشة سائر القضايا التي أثارها طه حسين في كتابه المثير للجدل، حيث يعرض آراءه عرضا أمينا ثم يفندها بالأسانيد العلمية والتاريخية الصحيحة، ويبين وجه الصواب والخطأ فيها، دون أن يخرج عن حياده العلمي أو الهدف الجوهري الذي ألف من أجله الكتاب ودون أن ينال من شخص طه حسين أو يغمزه من قريب أو بعيد، وكان هذا دأبه رحمه الله في كل مؤلفاته، مما يجعله نموذجا يحتذى في التأليف والدفاع المستنير والواعي عن الدين والفكر واللغة والأدب.

 

 

 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.