حصريا

لماذا هذا التخاذل في نصرة غزة؟ -أ.أيوب نصر-

0 101

لماذا هذا التخاذل في نصرة غزة؟

توطئة بعد أن قضيت نحبي في تحضير المادة العلمية الخاصة بهذا المقال، جهزت فكري وشحذت ذهني وجلست لأترجم هذه الأفكار وتلك المادة في كلمات، لأجد العجز قد قعد بي والحيرة قد ركبتني، فلم أدر من أين أبدأ ولا إلى أين أنتهي، فتزاحمت الكلمات وتشوش الفكر وتبلد الذهن، وما كل هذا إلا لعظم الأمر وخطورته وجلله، خاصة في هذا الوقت الحالك من أيام الأمة العربية الإسلامية، ولكن كان لا بد من أداء أمانة البيان التي أخذ الله ميثاقها على أهل الإسلام من أصحاب الفكر وحملة الأقلام، والبيان هو أعظم ما من الله به على الإنسان وبه فضل على الحيوان، والأمة في هذه الأيام المريرات، التي توالت فيها النوائب وتواترت المدلهمات، أكثر ما تحتاج إليه هو أن يقيض الله لها من يكاشفها حقيقة ما هي مقبلة عليه وينير لها طريقها. هذه هي الحكاية مما عجب له الناس واستغربوه على الأقل أصحاب العقول السليمة والأفهام المستقيمة، ومن لم يلعب في فطرتهم، هو وقوف الكثير من القنوات والإعلاميين وكتاب ومفكرين وقادة سياسيين، ضد حماس في حربها مع إسرائيل وتخاذلهم عن نصرتها، ونصب العداء، لها تحت مبررات لا تقوم لها قائمة ولا حجج شرعية أو عقلية أو تاريخية، والعمل على تشويه وزنها والحط من قيمتها والغض من ذكرها، بل الأدهى والأمر أن يصدر هذا عن الفصائل الفلسطينية التي لم يكن لها بد في طوفان الأقصى. وهذا الموقف العربي هو حقا مثير للعجب والاستغراب، وحتى نفهم ونعي أسبابه ونعلقه بعلله، فإنه جدير بنا أن نصل الماضي القريب بأحداث يومنا الجديد. هذا تاريخها في سنة 1992 صدر كتاب الشرق الأوسط الجديد لرئيس الوزراء والرئيس السابق “شمعون بيريز” تكلم فيه عن نظرته الاستراتيجية للشرق الأوسط وكيف يجب أن يكون حتى تضمن الأمة أمنها واستقرارها، وهذا حقه فهو رجل يعمل لصالح وطنه ومصلحة قومه. ومما قعده الرجل في كتابه، أن أمن إسرائيل واستقرارها وتحقيق نموها وازدهارها، لا يمكن بحال من الأحوال أن يتم كماله ويبلغ كماله إلا بالسلام مع الدول العربية، وأن هذا السلام الذي يحلم به بيريز وينشد تحقيقه ويصبو بلوغه، لا يجب أن يكون مقتصرا على اتفاقيات مع كل دولة لوحدها، وإنما يجب أن يكون عبارة عن اتفاق جماعي يجمع الدول العربية جميعها مع إسرائيل. لكن هذا الحلم الذي اعترى شمعون بيري، وطاف في فكره ودار دورته العقلية في عقله، يستحيل تحقيقه ويصعب إنجازه، وعلة ذلك هو وجود الأصولية والأصوليين في الدول العربية، ففكر الرجل ونظر ثم قدر، وقدم الحل الوحيد الذي يمكنه أن يجعل إسرائيل في أمن وأمان ويضمن لها التقدم والاستقرار، وهذا الحل هو القضاء على الأصوليين، فبعد كلام طويل في بيان خطر الأصوليين على أمن إسرائيل واستقرارها وبيان ضرورة القضاء عليها، يرمي بالكرة إلى ملعب الحكام العرب ويحملهم مسؤولية القضاء عليها في بلدانهم، فيقول: “إن ما يصلح لبقية العالم يصلح لإسرائيل والعالم العربي، فالقدر نقلنا من عالم تسوده الصراعات الإقليمية إلى عالم تحكمه التحديات الاقتصادية والفرص الجديدة التي وفرها التقدم الفكري والإنساني، وإذا كان التاريخ وكما يقول البروفيسور بوول كندي يخلق رابحين وخاسرين جدد، فإن الشرق الأوسط يعتبر الآن نفسه من الرابحين، والكرة الآن ليست في ملاعبنا”1 وبهذه الفوقية والتعالي المنطويتان داخل كلامه يوجه كلامه إلى صناع القرار في الدول العربية، وأنهم إذا ارادوا اللحاق بركب التقدم وتقحم قرى التطور الذي تقدمه لهم دولة الاحتلال فعليهم القضاء على أصوليتهم وإعلان البراء من تاريخهم وقطع الروابط مع ثقافتهم، مع أن الدولة الوطنية التي يغريهم بها ويوهمهم أن الأصوليين يعادونها، قدمتها الأصولية قبل قرون طويلة متطاولة، حين جعلت حب الأوطان والدفع عنها والدفاع عليها أصل أصيل من أصول الإسلام. ثم مرت السنون والأيام، وظننا أن الرجل وكتابه غاصا في لجج النسيان، حتى جاءت سنة 2013، وما كان قبلها وما أتى بعدها من أحداث وتغيرات، وبدأت تشن حرب ممنهجة على الأصوليين، تحمل في طياتها حربا على الإسلام، فجندت القنوات، ونبتت بين ظهرانيها نابتة تذيل أسمائها بألقاب مثل: “متخصص في الإسلام السياسي” و” مختص في الجماعات الإسلامية”، فملؤوا القنوات والصحف بكلامهم وكتاباتهم وتحليلاتهم وتأصيلاتهم وأحقادهم و ما تنطوي عليه قلوبهم من ذخائن الإحن، ولم يكن كلامهم يزيد عن ترديد لشبهات، لا تقوم لها قائمة وتسقط مع أول نظر وأول نقد، يضحكون بها على ضعاف العقول، ممن يشكلون القاعدة الشعبية، من العوام وأشباه العوام وأنصاف العوام. فكان كلام هذه النابتة كأنه منقول مما جاد به خبث بيريز عن ظهر كتاب، من أن الأصوليين ضد الدولة الوطنية، وأنهم وصوليون انتهازيون كل ما يهمهم هو الكرسي والحكم، وغيرها من التهم التي لا يخلو منها ممتهن للسياسة على وجه الأرض. وهذا كله كان ممنهجا، تقف من خلفه آلة إعلامية ضخمة، ممولة من مال سياسي، فلم يترك للأصوليين( على رأي بيريز) نقيصة إلا أشاعوها ولا معيبة إلا أظهروها ولا صغيرة إلا عظموها ولا شبهة عليهم إلا أقروها. واستمر الأمر على هذا النحو حتى انتهينا إلى سنة 2020، وبدأت التطبيع الجماعي، وكأن الوضع هيأ له عبر السنوات السبع الماضيات، ودلس على الناس أن هذه الاتفاقيات ستورث الخير الاقتصادي على الدول العربية وتحقق التقدم لشعوبها، وبدأت القطيعة مع كل ما هو إسلامي وأصولي تصل مبلغا كبيرا، ولاحت في الآفاق دعاوى المحبة والعواطف والحنان، وأن الصهيونية أحن علينا من الأصولية الإسلامية، كما ادعى شمعون بيريز. ونتيجة لهذا العمل الجبار، الذي حركته الأيادي الخفية من وراء الستر المسدلة، ولهذا التشوية الممنهج لكل ما هو إسلامي وأصولي، بدأت الروابط تتقطع بين الشعب العربي وأصوليته. ولأجل هذا الذي حدثك به، لم يتم دعم حماس وانتظر الجميع إبادتها والقضاء عليها، وذلك باعتبارها حركة أصولية تشكل خطرا على الدول العربية أكثر من الصهيونية. وما أدراك ماهي؟؟.. نار حامية والآن بعد أن قضيت وطري في بيان العلة الكامنة وراء ما عجب له الناس وأستغربوه من وقوف الكثيرين من قنوات وإعلاميبن وكتاب وقادة سباسيين، ضد حماس في حربها مع الكيان، بعد كل هذا فإنه حقيق بي أن أبين خطورة هذه الدعوة التي جاء بها شمعون بيريز وأثرها على الدول العربية وعلى أمنها ووجودها. جرى بيني وبين أحدهم حوارا أيام الدراسة الجامعية، وكنت أنا وهو على غير سواء، فقال لي بعد أن طال النقاش بيننا وتشنجت العقول، تعالى نوحد الكلمة، فقلت له: رأيك سديد، إذن أترك كلمتك ولنتوحد على كلمتي. وجوابي هذا هو نفسه الذي جاء به بيريز، فهو دعى العرب إلى التخلص من أصوليتهم وهي أساس هويتهم وثقافتهم، مقابل مصالح وهمية يمكن للعرب بلوغها دون إسرائيل، وفي المقابل لا يرغب هو ودولته في التخلي عن أصوليتهم، فإسرائيل تقوم على فكرة أصولية، بل تخليها عن أصوليتها يعني فنائها، وإسرائيل هي القلة القليلة داخل هذه البقعة الأرضية الممتدة من المحيط إلى الخليج، وكان أولى بالقلة أن تترك أصوليتها وتندمج داخل هذا المجتمع العربي العريض، كما كان اليهود من قبل، فاليهود لم يعاملوا على مر التاريخ معاملة حسنة ولم تحفظ لهم حقوقهم ومعابدهم إلا داخل الدولة الإسلامية، وأما في غيرها فكانوا منبوذين. إن القضاء على الأصولية هو القضاء على الحبل الذي يربط الأمة بتاريخها وثفافتها وعلومها، وإيقاف ذلك السيل المتدفق عبر قرون طويلة قديمة غاية في القدم والذي يشكل هوية المنطقة ويربط بين أطرافها مما يجعلها أمة واحدة موحدة لا أمما متباينة متفرقة، ولا توجد أمة عاقلة تقطع الصلة بثقافتها وتاريخها وهويتها، ولهذا نجد المحافظين في أمريكا والغرب، ونجد رجال الدين داخل مراكز صناعة القرار. فالدعوة البيريزية ليست صدفة أو فكرة لتحت في عقل صاحبها فألقى بها إلينا، من غير دراسة أو تحقق، بل لها أهدافها، فحين تتخلى عن أصوليتك تتخلى عن هويتك وثقافتك، فتصبح خلوا، ليبدأ ملؤك من جديد والسيطرة على عقلك وفكرك، لينتهي بك المطاف خاضعا تابعا لا حول لك ولا قوة، وليس لك من أسباب النهوض والعودة شيئا، فلا تجد إلا الدولة الأصولية الوحيدة في المنطقة لتتبعها وتخضع لها طائعا. ودعنا نعود إلى الحرب الباردة وكيف حسمها الغرب، فقد كان للحرب الباردة ثلاثة ميادين: حرب الجواسيس والسباق نحو التسلح والتوسع، وميدان التوسع لعبت فيه الآلة الإعلامية الغربية دورا كبيرا، إذا كان الإتحاد السوفياتي قد تفوق إلى حد ما عسكريا و استخباراتيا، لكنه خسر ميدان التوسع، وما ذلك إلا لما كان يفتقده من سلاح في هذا الميدان، وهو سلاح الدعاية والإعلام، وذلك في الوقت الذي كانت فيه الآلة الإعلامية الأمريكية والصناعة السينمائية تعمل عملها في حشد الجماهير وتكوين الرأي العام والترويج للنمط الأمريكي والثقافة الغربية، فأصبحت الشعوب تأبى على حكوماتها الإنضمام إلى المعسكر الشرقي، لما تأثرت به تلكم الشعوب من مظاهر الحياة والثقافة الغربية ونمط العيش الأمريكي، والذي ساهمت في انتشاره وإذاعته بين الناس الآلة الإعلامية الغربية والصناعة الهوليودية، ليبدأ الإتحاد السوفياتي كل حين يخسر شيئا من مواليه وقسطا من أراضيه إلى أن انهار مع توالي الأيام وتعاقب الليل والنهار، وبقي على هذا الحال إلى ان تفكك وانهار. فنشر الثقافة الغربية وأسلوب الحياة والعيش الأمريكي في الوسط السوفياتي كان له الأثر البالغ في إنهيار الإتحاد السوفياتي، وتبعية دول الإتحاد إلى الغرب بعد ذلك. وهذا ما أكده بريجنسكي في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى” فقال: ” كانت السبطرة الثقافية، ولا زالت إحدى سمات القوة العالمية الأمريكية التي لم تقدر حق قدرها، ومهما فكر المرء في القيم الجمالية، فإن الثقافة الشاملة في أمريكان تمارس إغراء مغناطيسيا، وخاصة بالنسبة لشبان العالم”2 هذا نفسه هو ما عبر عنه “أود آرن وستاد” في كتابه “الحرب الباردة الكونية” بقوله: “بالحس التاريخي، وخاصة بزاوية رؤية من الجنوب، كانت الحرب الباردة استمرارا للاستعمار، ولكن بأساليب ووسائل مختلفة قليلا. كعملية صراع، تركزت حول السيطرة والهيمنة، وخاصة من حيث الأيديولوجية. كانت أساليب القوتين العظمتين وحلفائهما المحليين قريبة الشبه بالأساليب التي عمل بها في الحقبة الأخيرة من الاستعمار الأوروبي: مشاريع اجتماعية واقتصادية عملاقة ووعود بالحداثة لمسانديهم”3 وهذه الثقافة الغربية الامريكية التي كان لها دور كبير في السيطرة الأمريكية على العالم، يرى بيريز أن الأصولية في العالم العربي هي التي تمنع إنتشارها، أو على الأقل تقف دون سرعة تأثيرها في شبان العالم العربي، وهذا ما عبر عنه بقوله: ” أما الآن وفي ظل لجوء العديدين إلى الأصولية نشهد خركة إسلامية تسعى إلى مناهضة الفتح والثقافة الغربية وتعمل على التراجع عن التحديث والعصرنة”4. فالتحديث والعصرنة وقبول الفتح الغربي والثقافة الغربية هو الذي يضمن لإسرائيل الأصولية استمرارها وأمنها. والأمم لها أصول تبنى عليها، وتشكل بها تاريخها وحاضرها ومستقبلها، وهذه الأصول هي اللغة والثقافة والدين، والدين هو أساس الثقافة والذي يشكل منهجها، فإذا ذهب الدين وتخلت عن أصوليتها ذهبت ثقافتها، وهكذا سقطت الأسس التي تقوم عليها الأمم وانقضت إلى غير رجعة، وصارت تائهة تابعة تأخذها الريح في كل جانب وتطير لها في كل فضاء.

*****

(1) شمعون بيريز/ الشرق الأوسط الجديد/ الفصل الثاني ص38 ترجمة محمد حلمي عبد الحافظ

(2) زبغنيو بريحينسكي/ رقعة الشطرنج الكبرى/ ص27/ الطبعة الثانية/ مركز الدراسات العسكرية

(3) كتاب “الحرب الباردة الكونية” /المؤلف: أود آرن وستاد/ ترجمة: مي مقلد / المركز القومي للترجمة. طبعة 2014.

(4) شمعون بيريز/ الشرق الأوسط الجديد/ ص36

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.