حصريا

صالح بن مهدي بن علي بن عبد الله المقبلي. د. أحمد علي – مصر –

0 248

صالح بن مهدي بن على بن عبد الله المقبلى

د / أحمد عبد الحميد عبد الحق

هو فخر اليمن ومجتهد القرن الحادي عشر صالح بن مهدي بن على بن عبد الله المقبلى .

ميلاده ونشأته :

ولد ـ رحمه الله ـ في سنة 1047 هـ في قرية المقبل (في جهة لاعة، من بلاد كوكبان باليمن، في الشمال الغربي من صنعاء)، ونشأ في “ثلا” نشأة صالحة، فعاش ورعاً تقياً متنسكاً زاهداً متواضعاً، وقد تلقى تعليمه الأولي فيها وفي شبام وكوكبان، متنقلا بينهما، ثم واصل دراسته على يد جماعة من أكابر علماء اليمن، منهم السيد العلامة محمد بن إبراهيم بن المفضل الذي كان ينزل للقراءة عليه من مدينة ثلا إلى شبام كل يوم، حتى برع في علوم القرآن والتفسير والحديث واللغة العربية والفقه، وتحرر من المذهب الزيدي الذي نشأ عليه.

ثم رحل إلى صنعاء بعد ذلك لمواصلة طلب العلم وتحصيل ما لم يجده عند شيوخ البلاد التي تعلم فيها  ..

 

منافرة علماء صنعاء له :

مكث الرجل في صنعاء فترة من الزمن حتى تبحر في العلم، وكرَّس جهده ووقته لمحاربة الجمود والتعصُّب الفكري ..

وكان ذا فطنة شديدة وجرأة عالية واعتداد برأيه جعله يخرج على الوضع العلمي السائد وينفر من الجمود الذي ساد طبقة العلماء والتعصب الذي عم المتدينين، والبدع التي استمرأتها قلوب الغالبية، فلقي من مقلِّدي ومتعصِّبي عصره أذى شديداً، وناصبوه العداء، واتَّهموه بأنه ناصبي، معادٍ لمذهب أهل البيت (المذهب الزيدي)..

ثم جرت بينه وبين علماء صنعاء مناظرات أظهر فيها حدة وتصميم على ما تقتضيه الأدلة وعدم الالتفات إلى التقليد؛ مما أوجب المنافرة بينه وبينهم؛ مما اضطره إلى بيع ممتلكاته والرحيل بأهله إلى مكة (1080هـ)..

يقول الشوكاني : “وقد أكثر الحط على المعتزلة في بعض المسائل الكلامية، وعلى الأشعرية في بعض آخر، وعلى الصوفية في غالب مسائلهم، وعلى المحدثين في بعض غلوهم، ولا يبالي إذا تمسك بالدليل بمن يخالفه، كائنا من كان”. (البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع 1/ 288)

وقال الأرياني : فقام عليه بعض غلاة الزيدية وأوغروا صدر الإمام المتوكل على الله عليه، وكان ذلك سبب مهاجرته إلى حرم الله، معتزلا الأوطان والأوطار، وراغبا في جوار الله تعالى ..

هجرته إلى مكة واستقراره بها :

هاجر الرجل كما قلت من اليمن إلى مكة المكرمة في سنة 1080هـ/ 1669م ليعيش بأسرته مجاورا لبيت الله الحرام، وانقطع فيها للعلم والتأليف والدعوة إلى التجديد وإشاعة روح التسامح ونبذ الفرقة والتقليد والتعصُّب، فعلا ذكره هناك وعظُم صيته بين علماء مكة والقادمين إليها من مختلف بلدان العالم الإسلامي، وتباينت الآراء حوله بين مؤيِّد ومعارض، فنسبه المتعصبة إلى الزندقة لتمرُّده على التقليد وعدم تمسُّكه بمذهب معين، واعتماده على كتاب الله وسنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم فحسب .. فوقع الصدام بينه وبين علمائها كما حصل في صنعاء، ولم يكن حاله مع هؤلاء العلماء في مكة بأحسن من حاله مع علماء صنعاء بسبب الجمود الذي بدأ يعم الأقطار الإسلامية في الفكر الإسلامي،  وخاصة بعد انتشار كتابه “العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشائخ” لما فيه من النقد للمتعصِّبين للأسلاف، والحط من شأن التقليد والمقلِّدين، فقال قولته المشهورة: سبحان الله .. ناصبي في صنعاء وزنديق في مكة! .مرددا قول القائل  :

إذا نحن فضلنا علياً فإننا **    روافض بالتفضيل عند ذوي الجهل

وفضل أبي بكر إذا ما ذكرته ** رُميت بنصب عند ذكري للفضل

فلا زلت ذا رفضٍ ونصب كليهما  **بحبيهما حتى أوسد في الرمل

ثم يقول :

أقول علي حبه حل مهجتي فقال ***               أناس رافضي مبغض الصحب

وقلت: أبا بكر أحب فقال لي أناس **                لقد أصبحت في دارك النصب

فإن كان معنى الرفض والنصب ذلكم **    فوالله ما ديني سوى الرفض والنصب

……..

هوانا علياً عند قوم هو الرفض ***         وحبي أبا بكر لدى فرقة نصب

ألا إن هذا الرفض في مذهبي فرض ** وإنا إلى ذا النصب يا قومنا نصبو

 

يقول الشوكاني: فقد حصل أن اطلع عالمها البرزنجى محمد بن عبد الرسول المدني على كتابه  العلم الشامخ في الرد على الآباء والمشايخ، فكتب عليه اعتراضات، فرد عليه المقبلي بمؤلف سماه الأرواح النوافخ، فكان ذلك سبب الإنكار عليه من علماء مكة، ونسبوه إلى الزندقة؛ بسبب عدم التقليد والاعتراض على أسلافهم، ثم رفعوا الأمر إلى سلطان الروم ( السلطان العثماني ) فأرسل بعض علماء حضرته لاختباره فلم يُر منه إلا الجميل  ..

يقول الأرياني: وأقام في مكة على خير وفي خير، مقبلا على شأنه في جبل أبي قبيس مدة.. وكان ملازما لإقراء العلم ودرسه، وبيني وبينه مودة أكيدة، وصار له بمكة منزله عند ملوكها الأشراف الحسنيين.

وقد واجهته من العداوات ما تجاوز حدود ما لاقاه في صنعاء، ولكنه  ثبت ودفع الله عنه كيد الكائدين، وذلك بعد أن حاول تغيير المنكرات الشائعة ..

بقاء علمه في صنعاء بعد رحيله منها :

وإذا كان الرجل قد غادر صنعاء بجسمه فقد بقي فيها علمه يستفيد منه تلامذته، حتى من لم يسمعوا برحيله إلى مكة كانوا يشدون الرحال إليها للبحث عن مؤلفاته بها، يقول الشوكاني: وأخذ عنه بعض أهل داغستان ونقلوا بعض مؤلفاته،  وقد وصل بعض العلماء من تلك الجهة إلى صنعاء، وكان له معرفة بأنواع من العلم، فلقيته بمدرسة الإمام شرف الدين بصنعاء فسألته عن سبب ارتحاله من دياره هل هو قضاء فريضة الحج ؟ فقال لي بلسان في غاية الفصاحة والطلاقة: إنه لم يكن مستطيعا وإنما خرج لطلب البحر الزخار للإمام المهدي أحمد بن يحيى لأن لديهم حاشية المنار للمقبلى، وقد ولع بمباحثها أعيان علماء جهاتهم داغستان، وهى خلف الروم بشهر حسبما أخبرنى بذلك، قال : وفى حال مطالعتهم واشتغالهم بتلك الحاشية يلتبس عليهم بعض أبحاثها لكونها معلقة على الكتاب الذي هو حاشية له وهو البحر، فتجرد المذكور لطلب نسخة البحر ووصل إلى مكة فسأل عنه فلم يظفر بخبره عند أحد، فلقي هنالك السيد العلامة إبراهيم بن محمد بن إسماعيل الأمير، فعرفه أن كتاب البحر موجود في صنعاء عند كثير من علمائها، قال : فوصلت إلى هنا لذلك، ورأيته في اليوم الثاني وهو مكب في المدرسة على نسخة من البحر يطالعها مطالعة من له كمال رغبة، وقد سر بذلك غاية السرور، وما رأيت مثله في حسن التعبير واستعمال خالص اللغة وتحاشى اللحن في مخاطبته وحسن النغمة عند الكلام، فإني أدركت لسماع كلامه من الطرب والنشاط ما علانى معه قشعريرة، ولكنه ـ رحمه الله ـ مات بعد وصوله إلى صنعاء بمدة يسيرة، ولم يكتب الله له الرجوع بالكتاب المطلوب إلى وطنه .. (البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع 1/ 276)..

موقفه من البدع السائرة في عصره :

لقد هال الرجل ما وجد في عصره من بدع ومن ضلالات وسيطرة كتب وملفات الغلاة من المتصوفة على أفكار جل الناس حتى إنه اتهم نفسه، فقال : وَقد آن لي أَن أصدع بِالْحَقِّ خوفًا على نَفسِي من الْكفْر فَأَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي الْآن أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأشْهد الله وَكفى بِاللَّه شَهِيدا وَمَلَائِكَته وَالنَّاس أَجْمَعِينَ إِنِّي لَا أرْضى لِابْنِ عَرَبِيّ وَمن نحا نَحوه أَو ألحقهُ الشَّرْع بِحكمِهِ بالرضا أَو التَّسْلِيم لمثل قَوْله تَعَالَى {وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم}..

ثم حمل حملة قاسية على الفكر الصوفي بوجه عام فقال : إن ”  التصوف ليس من مسمى الدين؛ لأن الدين كَمُلَ قبله، أعني دين الإسلام، ولا هو من النعمة؛ لأنها تمت قبله، وليس التصوف داخلاً في مسمى الإسلام؛ لأن الإسلام تم قبله، وهم معترفون بالغيرية؛ فحينئذ هو بدعة ضلال ولم يجئ به النبي صلى الله عليه وسلم لأن كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم داخل في مسمى الشريعة، فالصوفي ليس بمتبع للنبي صلى الله عليه وسلم بل لشيخه المخترع لتلك الوساوس .. (العلم الشامخ ص 250 وما بعدها ).

ثم يزيد من تعريته لهم بقوله :

واعلم أن من أشد الخلاف ظلالا وأعمه بلاء وأدقه ممسكا وأكثره هلكه ومعتركا أنه تزهد جماعة من الصحابة –رضي الله عنهم – برفض الدنيا فقط تابعين لنصيحة الله  وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،مع كونهم من آحاد عصابة المسلمين وماتوا  طيبين،ثم نشأ بعدهم زهاد كذلك لكنهم قالوا :لا سلامة إلا بالعزلة عن الناس،هربا  من الفتن وصيانة للقلوب من العوارض ،ومضوا لسبيلهم،وقد صوروا صورة العزلة وليست  مطلق العزلة ببدعة إن لم تشابه الرهبانية المنهي عنها،ولكن  ما جاوز حده جانس ضده،ثم صار مسلكا متميزا،حتى قيل :صوفية، وصار اسم مدح قد تقصده  بعض النفوس ،ثم أثارت لهم تلك الخلوات مواعظ وكلمات أسرع في جذب القلوب من خطاطيف  الحديد،ثم اخترعت طرائق السلوك،واصطلحت اصطلاحات،وابتدعت رموزا وإشارات،ثم  قالوا :هاهنا شريعة وطريقة،ورسوم وحقيقة،وتفسير وتأويل،وظاهر وباطن،ثم ترأس قوم  في هذا المعنى وابتلوا بحظ في الوعظ شهرهم، ثم ظهر منهم كلمات ودعاوى قال قائلهم:

خضت بحرا وقف الأنبياء بساحله.

أسرجت وألجمت.

وطفت في أقطار البسيطة  ثم ناديت،هل من مبارز؟! فلم يخرج إلي أحد.

رجلي على رقبة كل ولي.

لو  تحركت نملة سوداء فوق صخرة صماء في ليلة ظلماء في أقصى الصين،ولم أسمعها لقلت: إني  مخدوع.

ما  الجنة هل هي إلا لعبة صبيان ؟

سبحاني.

إلى طامات لا تحصى،الأخرى أكبر من الأولى ،يزداد الهول في كل قرن إلى أن  انتهى الشأن إلى ابن الفارض وابن سبعين وأضرا بهم لم يقنعوا بتلك الدعاوى الشنيعة.

ولا ساغ لهم احترام الشريعة وهذه كتبهم (الفتوحات) و(الإنسان الكامل ) و(الفصوص ) وأشعار ابن الفارض التائية والخمريات وغير ذلك ( العلم الشامخ ص  456) .

ثم  يقول –رحمه الله-:وهب أنك رجل حسن الظن بهم أو تظن أنك متورع،زن حال هؤلاء بميزان الصحابة –رضي  الله عنهم- فما وجدته من أخلاق الصحابة فأبقه عليهم،وما لم يكن من أخلاقهم فاعلم  أنه ضلالة إن كنت قد استيقنت إصابة الصحابة،وإلا فقد زللت بأول قدم وجف في شقاوتك  القلم ( العلم الشامخ ص457) ..

ثم  يقول -رحمه الله-: ولما من الله علينا بالمجاورة في مكة  المشرفة وجدنا الأمر فيها  هو شطر الدين،بل هو الدين كله،فإنك إنما ترى وتسمع الرقص والتغريد بالأصوات في  الصوامع وجوانب المسجد،وأما رباط عبد القادر ومشهد العيدروس واجتماع الإخوان فأمر  عجيب،ولقد مكثت مدة أظن أن الذي أسمع في هذه المواطن لهو لكثر اللهو وعمومه  للأحوال والأشخاص حلاله وحرامه عند علمائهم وجهالهم، فصبيانهم في العقل مثل شيوخهم  حتى نبهتني بعض الجواري وقالوا ما تفرق بين الذكر واللعب..

وذلك أنهم يسيرون جماعة  بالطار والغناء في المسجد الحرام إلى مولد النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المولد  الذي جعله عيدا أعم من البدع فشوا،وكان الصحابة –رضي الله عنهم- أشد فرحا بما من  ألله عليهم من وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم،ولم يجعلوا ذلك عيدا لأنه لم  يشرعه لهم وهم واقفون على الحد  ..

ثم يتابع هجومه على باقي المبتدعة فيقول :

إن الناس عامة وخاصة، فالعامة آخرهم كأولهم مثل النساء والعبيد والفلاحين والسوقة ونحوهم ممن ليسوا من أمر الخاصة في شيء، فلا شك في براءة هؤلاء من الابتداع.

وأما الخاصة فمنهم مبتدع أحدث البدعة واتخذها ديناً وبلغ في تقويتها كل مبلغ وجعلها أصلاً يرد إليه نصوص الكتاب والسنة، ثم تبعه قوم من نمطه في الفقه والتعصب وربما جددوا بدعته وفرعوا عليها ولكنه إمامهم المقدم. وهؤلاء هم المبتدعة حقاً.

ومن الناس من تبع هؤلاء وناصرهم وقوى سوادهم بالتدريس والتصنيف، ولكنه في نفسه راجع إلى الحق، وقد دس تلك الأبحاث نقوضها في مواضع على وجه خفي، ولعل هذا تخيل مصلحة دنيئة أو عظم عليه انحطاط نفسه وإيذاؤهم له في عرضه وربما بلغت الأذية نفسه، فهذا عرف الحق من الباطل وتخبط في تصرفاته وحسابه على الله، إما أن يحشره مع من أحب بظاهره أو يقبل عذره.

وما تكاد تجد أحداً من هؤلاء النظار وأهل الكلام إلا وقد فعل ذلك.

ومن الناس من ليس من أهل التحقيق ولا هيئ للهجوم على الحقائق، وقد تدرب في كلام الناس وعرف أوائل الأبحاث وحفظ كثيراً من غثاء ما حصلوه، ولكن أرواح الأبحاث بينه وبينها حجاب.

ثم يتابع هجومه عليهم فيقول: وَأَقُول قد أسلفت لَك أَيهَا النَّاظر فِي هَذَا الْمُخْتَصر مَا صدر عَن هَؤُلَاءِ المخذولين من المقالات الَّتِي كل وَاحِدَة مِنْهَا من أكفر الْكفْر كَقَوْلِهِم الِاتِّحَاد وتخطئة الْأَنْبِيَاء وتصويب الْكفَّار وَرفع أنفسهم على الْأَنْبِيَاء، وَكَلَامهم على الْقُرْآن فَلَا أزيدك على ذَلِك، فَإِن كنت لَا تحكم بِوَاحِدَة من هَذِه المقالات على صَاحبهَا بالْكفْر فَمَا فِرْعَوْن وهامان ونمرود لديك فِي عدد الْكَفَرَة وَالله الْمُسْتَعَان والموعد يَوْم الْجمع، ولنقتصر على هَذَا الْمِقْدَار فَإِن دَاء لَا يشفيه هَذَا الدَّوَاء لداء عضال وسما لَا يبرء من تلهبه هَذَا الترياق لسم قتال وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسلم..

تحذيره من الاختلاف :

وكان يحذر من الفرقة والاختلاف ذالكم الداء الذي طالما فتك بالأمة، واستشهد بمدى حرص الصحابة على جمع الكلمة، واحتواء الخلاف وتجاوزه بقوله : “أن أكثر إغضائهم كان لصيانة أخوة الإسلام وحرمة أهله، لا لتساهل في الخلاف، حتى ربما يقضي أحدهم ويترك رأيه خشية شيوع الخلاف” كقول علي ـ رضي الله عنهـ : “اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف، حتى تكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي” .ونقم ابن مسعود على عثمان رضي الله عنهما ترك القصر وتابعه في الصلاة، فقيل له، فقال: “الخلاف كله شر”. فتركوا التنويه بالخلاف محاذرة لتفاقم الشر، لا لأنه مرضي عندهم، بل مراد الله تعالى كما شاع في المتأخرين وانتشر، إنما كان المهم المقدم عند أحدهم أن يكون الناس جماعة أو يموت سالما من الفتنة كما قال علي ـ رضي الله عنه ـ .

وقد أنحى على من قال: الخلاف في الفروع سهلٌ، وما جرى مجرى ذلك. مما تجده منتشراً اليوم.

وتعرض لحديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، فقال : رواياته كثيرة يشد بعضها بعضاً بحيث لا يبقى ريبة في حاصل معناها. ثم قال: والإشكال في قوله: “كلها في النار إلا ملة”، فمن المعلوم أنهم خير الأمم، وأن المرجو أن يكونوا نصف أهل الجنة، مع إنهم في سائر الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود حسبما صرحت به الأحاديث، فكيف يتمشى هذا؟ فبعض الناس تكلم في ضعف هذه الجملة، وقال: هي زيادة غير ثابتة. وبعضهم تأول الكلام. قال: ومن المعلوم أنه ليس المراد من الفرقة الناجية أن لا يقع منها أدنى اختلاف، فإن ذلك قد كان في فضلاء الصحابة. إنما الكلام في مخالفة تصيِّر صاحبها فرقة مستقلة ابتدعها. وإذا حققت ذلك فهذه البدع الواقعة في مهمات المسائل، وفيما يترتب عليه عظائم المفاسد لا تكاد تنحصر، ولكنها لم تخص معيناً من هذه الفرق التي قد تحزبت والتأم بعضهم إلى قوم وخالف آخرون بحسب مسائل عديدة.

… ثم أجاب عن الإشكال بما خلاصته:

إن الناس عامة وخاصة، فالعامة آخرهم كأولهم، كالنساء والعبيد والفلاحين والسوقة ونحوهم ممن ليس من أمر الخاصة في شيء، فلا شك في براءة آخرهم من الابتداع كأولهم.

وأما الخاصة، فمنهم مبتدع اخترع البدعة وجعلها نصب عينيه، وبلغ في تقويتها كل مبلغ، وجعلها أصلا يرد إليها صرائح الكتاب والسنة، ثم تبعه أقوام من نمطه في الفقه والتعصب، وربما جددوا بدعته وفرعوا عليها وحملوه ما لم يتحمله، ولكنه إمامهم المقدم وهؤلاء هم المبتدعة حقاًّ، وهو شيء كبير {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} (مريم:90)، كنفي حكمة الله تعالى، ونفي إقداره المكلف، وككونه يكلف ما لا يطاق، ويفعل سائر القبائح ولا تقبح منه، وأخواتهن! ومنها ما هو دون ذلك، وحقائقها جميعها عند الله تعالى، ولا ندري بأيها يصير صاحبها من إحدى الثلاث وسبعين فرقة.

ومن الناس من تبع هؤلاء وناصرهم وقوى سوادهم بالتدريس والتصنيف، ولكنه عند نفسه راجع إلى الحق، وقد دس في تلك الأبحاث نقوضها في مواضع لكن على وجه خفي، ولعله تخيل مصلحة دنيئة، أو عظم عليه انحطاط نفسه وإيذاؤهم له في عرضه وربما بلغت الأذية إلى نفسه.

وعلى الجملة فالرجل قد عرف الحق من الباطل، وتخبط في تصرفاته، وحسابه على الله سبحانه، إما أن يحشره مع من أحب بظاهر حاله، أو يقبل عذره، وما تكاد تجد أحدا من هؤلاء النظار إلا قد فعل ذلك، لكن شرهم والله كثير، فلربما لم يقع خبرهم بمكان، وذلك لأنه لا يفطن لتلك اللمحة الخفية التي دسوها إلا الأذكياء المحيطون بالبحث، وقد أغناهم الله بعلمهم عن تلك اللمحة، وليس بكبير فائدة أن يعلموا أن الرجل كان يعلم الحق ويخفيه. والله المستعان.

ومن الناس من ليس من أهل التحقيق، ولا هيئ للهجوم على الحقائق، وقد تدرب في كلام الناس، وعرف أوائل الأبحاث، وحفظ كثيراً من غثاء ما حصلوه ولكن أرواح الأبحاث بينه وبينها حائل، وقد يكون ذلك لقصور الهمة والاكتفاء والرضا عن السلف لوقعهم في النفوس.

وهؤلاء هم الأكثرون عدداً، والأرذلون قدراً، فإنهم لم يحظوا بخصيصة الخاصة، ولا أدركوا سلامة العامة، فالقسم الأول من الخاصة مبتدعة قطعاً، والثاني ظاهره الابتداع، والثالث له حكم الابتداع.

كراهيته للجدال في أمور العقيدة :

وكان شديد الكراهية للجدال في أمور العقيدة، ويقول : وما أحسن جواب بعض المحدِّثين وقد سُئل عن أحاديث الصفات، فقال: رواها لنا الذين رووا لنا الصلاة والزكاة وسائر الشريعة.

تحذيره من تكفير المخالفين حسب الهوى :

وكان يحذر من تكفير الناس لمجرد مخالفتهم لنا أو إساءتهم إلينا، هذا الأمر الذي شاع في عصره، ويروي من النوادر في ذلك أن بعض الناس منع أحد هؤلاء المتفقهة نعله، فقال ذاك الفقيه:  كفرت ؛ لأنك هونت العلماء، وهو تهوين للشريعة، ثم للرسول، ثم المرسل .

وفعل بعضهم شيئاً من منكرات الدولة، فقال المظلوم:  هذا ظلم وحاشا السلطان من الأمر والرضا به، فقال:  أنا خادم الدولة المنتمية إلى السلطان، فقد نسبت الظلم إلى السلطان، فهونت ما عظمت الشريعة من أمر السلطان فكفرت، فأخذوه وجاءوا به إلى القاضي، وحكم عليه بالردة، ثم جدد إسلامه وفعل ما يترتب على ذلك !! .

رأيه في أن العلم والفهم ليس قصرا على السابقين :

وكان يرى أن الفهم والعلم ليس قاصرا على السابقين، وهذا ما دعاه لنبذ التقليد فيما لا دليل عليه، وأن الفهم والحكمة يؤتيها الله بفضله لمن يشاء في كل عصر قائلا: ما زال الله يكرم كل متأخر بفضيلة يتضح نفعها في الدين، ويرتفق بها من وفق من المهتدين، وكنت أتمنى وأستغرب أنه لم يتصد لجمع الأحاديث النبوية على الوجه المقرب، لعلها مكرمة ادخرها الله لبعض المتأخرين، وإذا الله قد أكرم بذلك وأهل له من لم يكد يرى مثله في مثل ذلك الإمام السيوطي في كتابه المسمى بالجامع الكبير .

رأيه في عدم قصر الخلافة أو الإمامة على قريش :

وذهب إلى أن السعي لنصب الإمام أو الخليفة كسائر التكاليف الشرعية المأمور بها، ورفض كثيراً من الشروط التي اشترطت في الإمام أو الخليفة؛ وكان يرى أن الخلافة أو الإمامة شائعة في عموم المسلمين يختار صحابها بالصلاح والشورى، وأن حديث الأئمة من قريش خبر محض عن الواقع. وقال: إن الحاصل أن الصحابة فعلوا فعلاً وجدوه أقرب شيء في تلك الحادثة إلى تحصيل المقصود فأخذ الناس الواقعات شروطاً ولا يلزم من الوقوع الوجوب.

وأن العبرة فيه بما يقوم به المقصود وهو تقويم أمر العامة ..

كراهيته للمبالغة في الدعاء للسلاطين :

وكان يكره التكلف في الدعوة للسلاطين، ويقول : وأما ذكر الخلفاء عدلهم وجائرهم فما هو إلا بدعة، والتعلق بالعوائد الذي لا شاهد لأهلها، ولا صدرت عن محلها، إنما هي من أرباب الملوك وخطباء السوء، وعلماء الحطام، فليس فيها متشبث للمتقي، كيف وأكثر ما يجري منها الكذب والزور … (المنار في المختار  1 / 235 ) .

ثورته على التمذهب :

وكان الرجل كسائر العظماء من علماء اليمن في عصره شديد الحملة على التقليد، رافضا لتقديس الأشخاص مهما كانت مكانتهم، رافضا التقيد بمذهب واحد مكتفيا بكتاب الله وسنة رسوله ليكونا عمدته في أحكامه, وفي ذلك يقول :

ألم تعلما أني تركت التمذهبا **       وجانبت أن أعزا إليه وأنسبا

فلا شافعي لا مالكي لا حنبلي ولا **حنفي دع عنك ما كان أغربا

وقال أيضا:

برئت من التمذهب طول عمري ** وآثرت الكتاب على الصحاب

وما لي والتمذهب وهو شيء ***  يروح لدى المماري والمحابي

وكان يرى أن التقليد لا يأتي إلا بسبب الهوى وغلبة شهوة النفس، فيقول : فإن قلت : كيف وقع إيثار الآباء على العقل ممن لا يحصى كثرة ؟!قلت : هو من إيثار الهوى على العقل كسائر المعاصي التي عم نوعها فلا يستغرب أحدهم دون الآخر.

وهو يرى أن التقليد أشد من المعصية؛ لأن العاصي يعترف بأنه عاصي ومتبعو الآباء لا يعترفون  .. لا يعترفون بألسنتهم وقلوبهم تدرك ذلك،  كما قال تعالى فيهم: “بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ”  (الأنعام/28) .

ولقد شهدت عدة من الأذكياء يدركون الحقائق ثم يدعونها على علم بها حتى إن أحدهم يقول: إي والله ويسود وجهه ويضطرب لأنه أدرك الحقيقة وصارت منه بمشهد ثم ينكص على عقبيه منشداً لسان حاله :

وما أنا إلا من غزية إن غوت **** غويت وإن ترشد غزية أرشد

(الأبحاث المسددة ص61_62)

وهو يرى أن الخلاف ما قوي واشتد بين أفراد الأمة إلا بسبب التعصب للمذاهب،ويقول: واعلم أن الخلاف والتعصب والتحزب هو الذي حمل سيوف بعض المسلمين على بعض، وحلل دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وحرف الكتاب والسنة، ثم صيَّرهما كالعدم بسد باب الاجتهاد اهـ .

وتقريب مسافة الخلف بين الفريقين كان يمكن بمثل هذين التقريبين وغيرهما، لولا  تعصب الحزبين كما سنبينه في آفة التعصب .

وقال أيضًا: ثم ترتب على الافتراق تقويم كل لعمود الشقاق، وصار كل منهم إنما يعتز بمن مال إليه من الملوك على خصمه . اهـ .

وكان يرى أن الحق عند فرقة معينة, أو مذهب معين, والباطل عند الباقين، بل عندَ كلٍ حق وباطل، وصواب وخطأ، وسنة وبدعة، وإن اختلف ذلك قلة وكثرة وصغراً وكبراً، ولكن الحق لم يخرج عن مجموعهم – والحمد لله – فعند كلهم كل الحق، وهم – إن شاء الله – إلى خير، إذا حسنت نياتهم وسلمت مقاصدهم.

تبرؤه من الفرق الإسلامية المختلفة :

وكان يتبرأ من الانتساب إلى الفرق ويقول :” إني لست بمعتزلي ولا أشعري، ولا أرضى بغير الانتساب إلى الإسلام، وصاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام، وأعد الجميع إخوانًا،وأحسبهم على الحق أعوانًا” .

إباحته التقليد لغير المجتهد :

ورغم حملته الشديدة على المقلدين المتعصبين لمن يقلدونهم إلا أنه أباح لغير المجتهد أن يقلد غيره شريطة أن يجتهد في طلب العلم وتحري الصواب: إن المقلد مكلف بحسب الاستطاعة، وقد انحصرت حالته في الحالة الراهنة في الرجوع إلى العالم، لأنه أمارة على الحق لم يستطع الجاهل تحصيل غيرها، فلو لم يقلد الجاهل في ذلك الأمر الضروري في كل حادثة لترك ما علم وجوبه كالصلاة مثلا، ولا يجوز التقليد الكلي .. انتهى ..

رأيه في الأخذ بأحاديث الآحاد :

وكان يرى أن أحاديث الآحاد حجَّةٌ في العقائد وغيرها، وأنَّ التفريقَ بينها إنَّما جاء من قبَل المتكلمين،  … فهم خاطروا في النظر في ماهية الصفات في حقِّ الله تعالى، وتكلَّفوا ما لا يعنيهم من عدم الاقتصار على المدلول اللغوي العربي الذي يُحمل عليه كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنَّهم قد اقتحموا أطمَّ من ذلك، وسلكوا أصعبَ المسالك، واقتصروا على إثبات قليل من الصفات، كقادر وعالم ونحوهما، ونفوا سائر الصفات وجعلوها مجازات كصفة الرِّضا والغضب والمحبَّة والرحمة والحلم، وغير ذلك مِمَّا وصف به تعالى نفسه، وكرَّر التمدُّح به، ومِمَّا صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم .

وكان يرى أن تلك الأحاديث وإن كانت أحادية اللفظ فهي متواترة المعنى ..

دفاعه عن الصحابة وحثه على الاقتداء بهم :

كان ـ رحمه الله ـ من أشهر علماء الزيدية دفاعا عن حرمة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاجم من يسيئون عليهم من الزيدية هجوما عنيفا، فقال عنهم: وقدحوا في أفاضل الصحابة كجرير البجلي بل أم المؤمنين أم حبيبة ـ رضي الله عنها ـ ولا حجة لهم فيها على أصولهم اللهم إلا بالعدوى ولا عدوى في الإسلام، بل قدحوا في حافظ الصحابة على الإطلاق أبي هريرة) “العلم الشامخ” (451-452)..

وقال أيضا:  اللهم إننا نبرأ إليك من صنيع هؤلاء مع ذرية نبيك، ونبرأ إليك مما عمل الشيعة في جانب أصحابه مقابلة من كل منهم بخصمه بما يكره وأشكرك على ما أكرمتني به من الجمع بين حبهم كما ينبغي.

وقال في موطن آخر: بل نقول : هم من خيار الأمة وأعدلها مدى الدهر سيرة، وإن كان العدل لم يبق اليوم إلا اسمه، ثم نبرأ إلى الله من ابتداعهم – يعني الرافضة – سيما ثلب أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – بمجرد التخطئة كما قال الزهري: من رأى أن عليا كان أحق بالإمامة من أبي بكر وعمر وعثمان فقد خطأ أبا بكر وعمر وعثمان والمهاجرين والأنصار. فلله در الزهري، ولكن المخالفين اعتدوا عليهم كما اعتدوا هم على المخالفين، فالحمد لله الذي نجانا من شرهم أجمعينا.هـ.

ثم يزيد من وطأته عليهم فيقول :

قبح الإله مفرقــــــــا * بين الصحابـــة والقرابة

من كان ذلك دينــــــه * فهو السفيه بلا استرابة

الجمع بين ولائهــــــم * يا طالبـــاً عين الإصـابة

ما إن قرنت به الدعــا * إلا تـــــــوقعت الإجابة

وللأسف تلسط عليه الشيطان عباد أنفسهم بالإيذاء والسب والشتم، وهداه أحدهم فه هجاء مرا قال فيه :

أطرق كرا يا مقبلى *** فلأنت أحقر من ذبابة

المقبلى ناصبى *** أعمى الشقاء بصره

وبعده بيت أقذع فيه وهكذا شأن غالب أهل اليمن مع علمائهم، ولعل ذلك لما يريده الله لهم من توفير الأجر الأخروي ..

رأيه في الزيدية :

وهو يرى أن الزيدية ليسوا من الرافضة بل ولا من غلاة الشيعة في عرف المتأخرين، ولا في عرف السلف، فإنهم الآن مستقر مذهبهم الترضي على عثمان وطلحة والزبير وعائشة – رضي الله عنهم – فضلاً عن الشيخين  .

ولكن البعض منهم تأثر بالإمامية فقال: إن الزيدية ليس لهم قاعدة محددة، فإنهم أحياناً يطعنون في بعض خيار الصحابة؛ كأبي هريرة، وجرير بن عبد الله البجلي، وأم المؤمنين حبيبة رضي الله عنهم؛ لأن هؤلاء رووا ما يخالف هواهم، وإذا جاءهم الحديث على ما يوافق هواهم؛ قبلوه من طريق ذلك الصحابي، وإن كان أقل فضلاً ورتبة ممن طعنوا فيه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

ويقول في موطن آخر: ولكن في الزيدية من هو رافضي ومذهبه في الصحابة كمذهب الرافضة كطائفة الجارودية، ولهذا رأينا شيخ الرافضة في القرن الرابع “المفيد” ينظمهم في سلك التشيع (بمعنى الرفض) ويخرج ما عداهم .

ويقول في موطن ثالث : إنه قد سرى داء الإمامية في الزيدية في هذه الأعصار، وهو تكفير الصحابة ومن والاهم، صانهم الله تعالى، ولعل هذه الظاهرة – اعتناق الزيدية لمذهب الرفض- هي التي جعلت بعضهم يقول: جئني بزيدي صغير؛ أخرج لك منه رافضياً كبيراً.

يريد أن مذهب الزيدية يجر إلى الرفض، والرفض يجر إلى الزندقة.

حرصه على العمل بالحديث الشريف :

وكان يحرص على الالتزام بنص الحديث إن ثبت لديه ويقول: فإن صح الحديث لزمنا تصديقه، فإن فهمنا معناه وإلا رددنا علمه إلى الله سبحانه ..

رأيه فيمن يتلفظ بكلام الكفر :

وكان يرى أن من يتلفظ بكلام الكفر فهو كافر ولو على سبيل المزاح، فهو يقول في حاشيته على “البحر الزخار”: ” وظاهر قوله تعالى ” من كفر بالله من بعد إيمانه”  يدلُّ على كفر المتلفِّظ وإِنْ لم يعتقد معناه، لأَنَّه لم يستَثْنِ إلاَّ المُكْرَه، والإكراه لا يكون على الأفعال القلبيَّة، فمن كفر قلبه – مُكْرَهاً كان أو غيرَ مكرهٍ – فهو كافرٌ، ومن كفر لسانه فقط، فإِنْ كان مُكْرَهاً لم يكفر، وهو المستثنى في الآية، وإِنْ لم يكن مُكْرهاً، لزم أنْ يكفر، لأَنَّه الباقي بعد الاستثناء، وبعد بيان حال من كفر قلبه، وهو أعظمُ الكفر، ولذا استأنف ذكرَه للتَّأكيد، كأَنَّه قال: ولكنَّ الكفرَ الكامل كفرُ القلب، فتبيَّن أَنَّه لو لم يكن النُّطق بمجرَّدِه كفراً، لما كان للاستثناء معنىً، لأَنَّه لا يصحُّ استثناء الإكراه من كُفْر القلب لعدم إِمْكان الإكراه عليه، وبهذا يظهر وَهْمَ من قال: إذا كفرت المرأة لتَبِيْنَ من زوجها، لم تكُنْ مرتدَّةً، لأَنَّها لم تشرحْ بالكفر صدراً.

أقوال العلماء وثناؤهم عليه :

وقد أثنى عليه كثير من العلماء الأفاضل مثل الإمام الشوكاني الذي قال عنه : ” وهو ممن برع في جميع علوم الكتاب والسنة وحقق الأصولين والعربية والمعانى والبيان والحديث والتفسير، وفاق في جميع ذلك، وله مؤلفات مقبولة كلها عند العلماء، محبوبة إليهم، متنافسون فيها، ويحتجون بترجيحاته، وهو حقيق بذلك، وفي عباراته قوة وفصاحة وسلاسة تعشقها الأسماع وتلتذ بها القلوب، ولكلامه وقع في الأذهان قل أن يمعن في مطالعته من له فهم فيبقى على التقليد بعد ذلك، وإذا رأى كلاما متهافتا زيفه ومزقه بعبارة عذبة حلوة  ..

وقال : وكتبه في غاية الضبط ، لا يضبط إلا عن بصيرة، حتى صارت مرجعا بعد موته.

وقد كان ألزم نفسه السلوك مسلك الصحابة وعدم التعويل على تقليد أهل العلم في جميع الفنون.

وقال عنه الشيخ محمد رشيد رضا: كان في الأصل على مذهب الزيدية ولكنه قرأ كتب الكلام والأصول وعرف مذاهب الفرق كلها وكتب التفسير والحديث وسائر العلوم ، وطلب بذلك الحق ومرضاة الله تعالى .

وقال عنه مصطفى فتح الله الحموي المعاصر له : “… طود علم راسخ وأمير معارف تسير أمراء المعارف تحت علمه الشامخ، قرأ ببلاده على أفاضل عصره كالسيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير وبه تخرج، وأخذ عن القاضي حسن بن أحمد الحيمي وكثير، ثم درس الإمام المتوكل على الله إسماعيل واشتهر ذكره بين الفضلاء .

مصنفاته العلمية :

وقد ترك العديد من المؤلفات الفائقة، كمها: حاشية البحر الزخار للإمام المهدى المسماة بالمنار ، سلك فيها مسلك الإنصاف .

والعلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ، وهو الكتاب الذي أثار ضجة كبيرة في عصره وما بعد عصره، وتسبب في أن حمل عليه العلماء التقليديون حملة شعواء، واتهموه بما هو منه براء، وقد قال عنه الشيخ محمد رشيد رضا:  في هذا الكتاب أمهات المسائل التي وقع الخلاف فيها بين المذاهب الشهيرة كالأشعرية و المعتزلة وأهل السنة والشيعة الزيدية والإمامية وكذا الصوفية . ويبين ما يظهر له أنه هو الحق ولا يتعصب لمذهب على مذهب، وهذا هو مراده الذي يدل عليه اسم كتابه .

وقد توسع في الكلام على مسائل التحسين والتقبيح العقليين، والكسب والاختيار والجبر، وأفعال الباري تعالى وأفعال العباد، ورواية الحديث ونقدها، والجزاء والتوبة، وافتراق المسلمين والفرقة الناجية المشار إليها في الحديث، والطائفة التي تبقى ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها فيه، وعنده أن أهل الحق يكونون من مجموع المسلمين لا من أهل مذهب معين ، وبيَّن في هذا المقام مفاسد الخلاف بين المسلمين ومضاره، ومسألة وحدة الوجود وحقيقة حالة أهلها، ولا تكاد تجد كتابًا منشورًا تعرف منه حقيقة مذهب المعتزلة والزيدية غير هذا الكتاب، ومنه تعلم أن أكثر ما تجده في كتب العقائد المتداولة من مذهب المعتزلة خطأ؛ لأنه مِن نقل المخالفين لهم نظروا إليه بعين السخط، ونقلوه بالمعنى لا بالنص، وتصرفوا فيه كما فهموا، وبهذا يتجلى لك صدق قول العلماء من أن نقل المخالف لا يعتد به . كان هذا الكتاب من الأسرار والمخبآت يكتمه كل من يظفر بنسخة منه إعجابًا به وخوفًا من الناس أن يشنعوا عليه؛ لأنه يخالف كل مذهب من المذاهب في بعض المسائل، وإن لم يخرج عن مجموعها في شيء، وهو شديد الحملة على ما يعتقد بطلانه، قوي الإنكار لا يتحامى التشنيع والنبذ بالألقاب المنكرة “. مجلة المنار (16/ 65)

وفاته :

ثم كانت وفاته ـ رحمه الله  ـ بمكة في 2 ربيع الأول  سنة  1108 هـ بعد حياة حافلة بالعطاء، تعرض فيها من أجل نصرة الحق لإيذاء وكيد شديدين من المقلدين والمتعصبين، فصبر واحتسب، وواصل جهاده في الإصلاح والتغيير بحسب استطاعته دون أن يعبأ بما لحق به.

وقد دعا إلى فتح باب الاجتهاد، وترك التقليد إلا فيما دعت الضرورة إليه، ونبذ الجمود، ووأد التعصب المذهبي، والتسليم للدليل، فإن لم يستبن لزم الرجوع إلى أهل العلم ووضعهم موضع الأمارة على الحق، والأخذ من كل قول أحسنه، واقتفاء ما يعتقد أنه الأقرب إلى الصواب دون انتساب إلى عالم معين.

ودعا أيضا إلى الفهم الحيوي والواقعي للإسلام، وترك الإفراط والتفريط في قصد الأمور، وتمثل مفهوم الوسطية واليسر في الدين، والاهتمام بما تعبدنا الشارع وكلفنا به وترك ما لا يعنينا.

وكان شعاره: إن طلب الحق والهداية إلى الصراط المستقيم أجلى وأحلى في النفوس الأبية من الشمس في رابعة النهار، ومحورٌ تدور عليه همم الأخيار، وعباب تنصب منه جداول شمائل الأطهار، ومتى علت الهمة في طلب الحق والهدى، حملت صاحبها على مفارقة العوائد وطلب الأوابد، فإن الحق في مثل هذه الأعصار قلًّ ما يعرفه إلا واحد، وإذا عظم المطلوب قلًّ المساعد.

 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.