حرّاقة ….. أحرقتم قلوب أمهاتكم-أ.الزهرة هراوة

حرّاقة[1]….. أحرقتم قلوب أمهاتكم.
تأتي كل صباح ترنو إلى الأفق البعيد: تتأمل، تناجي البحر، تهمس له حينا، تصرخ فيه أحيانا أخرى، تبكي بحرقة، وما جفت دموعها لحظة.
كان الكل يعلم مصابها، ويشفق على حالها: صيادو السمك، عمال الميناء، وحتى المارة مثلي.
اقتربتُ منها علِّي أواسيها عما ألمَّ بها.
لأجدني أسمعها تقول: أيها اليمّ! ما كنتُ أنا كأمّ موسى، ولا أنت كاليمِّ الذي حمل موسى ، فقد رحل صغيري بغير إرادتي، وما وضعته في التابوت، فقد تم حشره في زورق متهالك.
وفي ضفتك الأخرى قد يتلقفه عدو لي وله. وما يكون مصيره هناك؟
أيها اليمّ هلا أخبرته عني؟ هلّا أوصلته رسائلي ؟ أما ذكرت له أن الحياة قد غادرت منزلنا مذ غادرنا؟
أما بلَّغته سلامي؟
أما قلت له ـولو كاذبًاـ : أن أباه قد شفي، والدّين قد سددناه، والحياة قد صارت هينة رغيدة؟!
أيُّها اليمّ الفرق بين اسمينا حرف واحد بالعربية والفرنسية؛ فهل أنت رؤوم مثلي، هل سهرت لأجله، هل تأكدت أنه قد نام جيدا، هل أمرت أمواجك أن تكون هادئة فلا تتلاطم حتى يعبرك ابني بسلام.
أم أن ذاك الحرف قد فعل فعلته فيك وجعلك قاسيا لا ترحم؛ تبتلع من لجؤوا إليك ليكونوا طعامًا لحيتانك؛ وإن لم تستسغ ما ابتلعته تلفظه ليطفو على سطحك وترميه أشلاءً متناثرة على الشواطئ؛ غير آبه لأمثالي أن يرووا فلذات أكبادهم على نحو لا يسرّ.
أتلك قسوة منك أم شفقة عليهم فتكون سببا في نهاية رحيمة لحياتهم الشقية لكيلا ترهقهم حياة أخرى أشقى من التي فروا منها؟
أيها اليمّ ترفق بحالي، وأعد إليّ صغيري!…
توسلاتها لم تنته، ولا أعتقد أنها ستنتهي يوما إلا إذا اكتحلت عيناها بعودة غائبها ورؤيته.
بادرتها بالتحية، فما ردت عليّ ولا انتبهت إليّ؛ لأدرك أنها بعالم آخر غير عالمنا.
اتخذتُ من صخرة قريبة منها مقعدًا لي وجلست أراقبها عن كثب: سيدة في منتصف العقد السادس من عمرها؛ من ينظر إليها: يرى وجهًا شاحبًا قد هجرته الحياة إلى غير رجعة، ومن عينيها تذرف دموعا حارة لو سقطت على قلب متحجر لأذابته.
رقَّ قلبي لحالها فما كان إلا أن قلت لها: هوِّني عليك يا أمَّاه؛ الغائب سيعود، والطير المهاجر سيرجع لموطنه مهما ابتعد. حينها التفتت اليّ قائلة: ياه! كم اشتقت إلى تلك الكلمة هلا أعدتها رجاءً.
إنَّ صوتك أشبه بصوته، وكأنه هو يخاطبني، ثم استدارت نحوي وتفرّستني جيدا لتستطرد قائلة: أما والله، لو كان لك بعض من ملامحه لحسبتك هو يريد إغاظتي كما كان يفعل صغيرا حتى ألبِّي طلباته. ثم أضافت والدموع تكاد تخنقها: لكن طلباته لا أقدر على تلبيتها هذه المرة فهي تفوق قدراتي.
قلت لها مواسيا ـ وأنا على يقين أنني مهما تكلمت فلن أتمكن من مسح دمعة من دموعها ولا من أن أخفف عنها بعض مما ألمّها من حزن ولوعةـ : أماه الطيور حين تكبر تغادر الأعشاش التي تربت فيها تسعى لأن تستقل لأن تحظى بحياة كريمة فهي نراها تهاجر جنوبا في الشتاء بحثا عن الدفء لتعود في الربيع إلى موطنها وتبني أعشاشها الخاصة بها.
قاطعتني قائلة: وهل يعود من رحل مجبرًا؟
ثم أردفت قائلة: كان فرحتي التي لم تكتملْ، وسعادتي التي ما إن أينعت حتى تم قطافها.
فرحنا بنجاحه وبحصوله على الشهادة الجامعية التي تلتها شهادات أخرى فما شفعت له أي منها بوظيفة. فكم تلقى من صدود وإعراض، وتهكم وسخرية، حتى يئس وكره حياته وصار شديد الانفعال كئيبا حزينا.
لكن قبل رحيله بفترة أدركت أنَّ أمرًا غريبا يخطط له؛ إذ توقف عن البحث عن العمل، وعن الشكوى والتذمر، وصار يغيب عن المنزل معظم الوقت، لا يدخل إلا بعد منتصف الليل.
ازداد غموضا مع الوقت، لتأتي الليلة المشؤومة التي حمل فيها أغراضه ورحل دون رجعة تاركا خلفه رسالة وداع مبررا فعلته تلك واصفا طريقة جمعه للملايين العشرة[2] التي كانت بمثابة تأشيرة الذهاب، وحشره مع المئات على متن زورق صغير، طالبا منا السماح لأن ما بيده حيلة غير الحرقة. مؤكدا أنه سيرسل لنا ما إن يصل وما أرسل!
أتُراه نسيَ ؟ مؤكد أنه نسي؛ فباريس تغري وتنسي المرء أهله وأحبابه.
كنت أصغي إليها ولم أُحِرْ جوابًا لتساؤلاتها تلك.
فقد كتمت الخبر عنها مثلي مثل البقية الذين تركوها تتدثر بالأمل الكاذب.
ترى لِمَ لَمْ أقل لها أن أمنيته التي ذيَّل بها رسالته تلك وتتجاهل ذكرها دائما خوفا من أن تتحقق: “يأكلني سمك البحر ولا يأكلني دود القبر” قد تحققت.
لِمَ لَمْ أخبرها بأن بعضًا من جثته قد انتشلناه من على الشاطئ بعد أيام على رحيله؟
لم كنت قاسيا عليها أنا أيضا؟
لم أتمالك نفسي أمامها، فاستأذنت منها بالانصراف ولما ابتعدت عنها قليلا رفعت يدي داعيا المولى عز وجل أن يربط على قلبها ويلهمها الصبر، ويعوضها عن مصابها خيرا، ويرحم فقيدها.
قفلت راجعا إلى المنزل وأنا أردد عبارة لمحمود درويش:
وأعشق عمري لأني إذا متّ أخجل من دمع أمي!
———————-
[1] حَرَّاقة: كلمة متداولة لدى المغاربة بصفة عامة والجزائريين بصفة خاصة تعني الذين يهاجرون بطرق غير شرعية والقاف تنطق بـ G .
[2] المبلغ بالسنتيم المتداول وبالدينار مئة ألف دينار وهو تقريبا الثمن الذي يدفعه الحراقة للشبكات التي تهربهم
حسبنا الله ونعم الوكيل