ثقافة الابتسام في المدينة المنورة (عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أنموذجا) -د.أحمد عطية السعودي-الأردن-
بين يدي هذه المقالة:
يستشعر ملايينُ المسلمين في العالم حزناً عميقاً مغلّفاً بالأسى على ما يقعُ في غزة العزة من مجازر مروعة، وسفك للدماء شنيع، مما لا نظيرَ في وحشيةِ المستعمرين والمحتلين، والحزنُ مشروع، أمّأ اليأسُ والإحباط والوَهن فمنهي عنها، وتأسيساً على هذا المعنى الشّرعي فلا بدّ من إشاعة التفاؤل، والأمل، وثقافة الابتسام؛ فالنصر قادم لا محالة بإذن الله تعالى.
واقرأوا إنْ شئتم هذه المقالة عن الابتسام في عهد رسول الله ﷺ، وصحابته الكرام، على الرغم من أعبائهم الجسيمة.
○○○
كانت يثرب نقطة باهتة على خريطة الوجود، وبقعة منسية في خاصرة الدّنيا، خاملة الذّكر، قليلة الأثر، كأنّما هي صخرة مُلقاة في مجرى الماء، لا يزيدُها الجريان إلا تآكلاً وتعرية، ولا يمنحُها كرُّ السنين إلا تضاؤلاً وقتامة. وبينا هي غافية في حضن الزمن؛ إذ جاد عليها مُسبلٌ هَطِل؛ فما إنْ وطئت أرضَها قدمُ رسول اللهﷺ حتى دوّى اسمُها في الآفاق، فإذا هي سُرّة الدنيا، ودرّة التيجان بمنزلة الرّبيع من الزّمان، قد غدتْ منزلاً للوحي، وتعطّرتْ بعبق النبوّة، وتشرّفتْ بخير داع، وتاهتْ على البقاع، مُذْ طلع البدر من ثنيّات الوَداع!
وتعلّق رسولُ اللهﷺ بدار الهجرة التي أضحتْ مدينة منوّرة، وحَرَماً آمناً، ومأرزاً للإيمان، فأحبّها، وأحبّ ناسها، وأحبّ جبلها، جبل “أُحد”، وأهدى إليها خُلقه الكريم، ومسلكه القويم، وأنشأ فيها خير أُمّة أُخرجتْ للناس، فصارتْ برسول اللهﷺ وأصحابه الكرام مدينة فاضلة.
وإنّ من أعظم ما يُميّز هذه المدينة الفاضلة أنَّ رسول الله ﷺ أرسى فيها ثقافة الابتسام بأريحيته المُحبّبة، ونفسه السّمحة، ودعاباته اللطيفة، فأودعَ ساكنيها راحة لا تبرحُ الصّدر، وبسمة لا تغادرُ الشّفاه، وبشاشة وجه لا تفارقُ المُحيّا، وظرفا حُلواً، ومَرَحاً مُباحاً!
ولستُ أعني بالثقافة منحاها العلميّ المرتكز على حذق المعارف والفنون، والإلمام من كلّ عِلْم بطرف، بل أعني منحاها الاجتماعيّ الذي يَسِمُها بأنّها مجموعة من أنماط التصرّف والمخالقة التي تميّز فئة من الناس، أو شعباً من الشُّعوب.(1)
وقد اتّضحت معالم تلك الثقافة في المدينة المنورة، وتمثّلت تطبيقاتها في أنشطة حياةٍ هانئة لا تخطئها العين، ولا يُماري فيها ذو لُبّ، فنبتتْ في تربة خصبة قوامها عناصر ثلاثة:
الأول: إفشاء السّلام، وما يقتضي من افترار الثغر بالتحية العذبة، وتلاقي الأيدي بالمصافحة.
الثاني: التحابّ والتوادّ، وما يقتضيان من مشاعر رقيقة، ومعاملة ناعمة.
الثالث: طلاقة الوجه، وما تقتضي من رقة حواشي النفس، والطّفح بالبشر.
- منابع ثقافة الابتسام
ليست ثقافة الابتسام طارئة على الأمّة المسلمة، أو مجتلبة من ثقافات الأمم الأخرى، بل هي ثقافة راسخة تبوّأتْ مكانة رفيعة في حياة المسلمين، وحضارتهم الزّاهرة، وقد استمدّتْ تلك المكانة من منابع الكتاب والسّنة، فتشكّلت لهذه الثقافة هُويّتها، وأصالتها، وضوابطها.
المنبع الأوّل: القرآن الكريم
يجد متدبّر آي الذّكر الحكيم هدايات ومُوجّهات تشي بهذه الثقافة، وتتمثّل في الخطوط العريضة الآتية:
. (النجم، آية 43).[وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى]1- الضّحك والابتسام آية ربّانية تستوجب التفكّر والتدبّر، وخاصية أودعها االله تعالى كينونة الإنسان، فهو يتميّز بها من سائر الحيوان؛ ولذا قيل: “الإنسان حيوان ضاحك”! ذكر القرآن الضّحك في معرض تعداد آلاء الله على البشرية جمعاء، قال الله تعالى:
يقول سيد قطب: “أضحك وأبكى، فأودع هذا الإنسان خاصية الضّحك والبكاء، وهما سرّ من أسرار التكوين البشري، لا يدري أحد كيف هما، ولا كيف تقعان في هذا الجهاز المركّب. أضحك وأبكى، فأنشأ للإنسان دواعي الضّحك ودواعي البكاء، وجعله يضحكُ لهذا، ويبكي لهذا، وقد يضحكُ غداً ممّا أبكاه اليوم، ويبكي اليوم ممّا أضحكه بالأمس في غير جنون ولا ذهول، إنّما هي الحالات النفسية المتقلّبة، والموازين والدواعي والاعتبارات التي لا تثبت في شعوره على حال”!(2)
وقد ذكر القرآنُ الكريم الضَّحك في مواضع متعددة يتصل بعضها بموقف المشركين من آيات الله، ودينه الحنيف، ورسوله الكريم.(3)
2- أريحية النفس مدعاة إلى حسن ظنّها بالله، والثقة بتأييده، والحظوة بمعيته، فالنفس الحزينة عُرضة لليأس والقنوط، فلا تقوى على تحمّل أعباء الدعوة، وتجشّم عناء الطريق الطويل.
. (التوبة، آية 40). [إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]أمّا النفس المنبسطة، المنفرجة الأسارير، فهي القادرة على تحويل المِحْنة إلى مِنْحة، والفلاة المقفرة إلى سهول مُخصبة. ولهذا نهى رسولُ الله ﷺ صاحبه أبا بكر، وهما في الغار، نهاه عن الحزن وقال له ما ذكره القرآن:
وما كان حزن أبي بكر إلا خوفاً على حبيبه محمّد ﷺ وخوفاً على رسالته، لا على نفسه، فطمأنه رسولُ الله، وطيّب نفسه: “يا أبا بكر، ما ظنّك باثنين اللهُ ثالثُهما”!(4)
3- التعبير عن الدهشة والعجب بالضحك والابتسام، ففي خلق الله ما يُعجب، وفي أشكال السّلوك الحشري ما يُدهش، وتلك هي قدرة الله التي أنطقتْ حشرة كالنملة؛ فأدهشتْ سليمان عليه السلام؛ فاستجلبت ابتسامة رضا وسرور، انفرجت لها شفتاه، فكأنّما ابتسامتُه تعجيبة، أو علامة تعجّب، أو كأنّها تسبيحة بحمد الله الذي أسمعه هذه الآية المنطوقة!
. (النمل، آية19). فالضّحك هنا حالة شعورية مارسها نبيّ كريم، ولم يمارسها إنسان عاديّ، لا يعرف قُربه أو بُعده من الله تعالى![فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ]وإلى ذلك أشار القرآن:
. (هود، آية 71)[وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ]وامرأة إبراهيم عليه السلام لمّا سمعت كلام الملائكة الذين تمثّلوا في هيئات البشر، وهم يُخبرون زوجها أنّهم أُرسلوا لإهلاك قوم لوط، وأنّهم يبشّرونها بإسحاق ولداً لها، ويأتيه مولود هو يعقوب، استبشرتْ بهذين الخبرين السّارين، وهزّا كيانها، فعبّرت عن ذلك بالضّحك:
4- الضّحك والسّرور صورة من النعيم الذي يهنأ به أهل الجنّة؛ إذ منّ الله عليهم برحمته، ونجّاهم من عذاب النار، فأعطاهم نضرة في وجوههم، وسروراً في قلوبهم:
. (الإنسان، آية11) وهنالك تُسفر وجوههم وتشرق، بل تضحكُ بهجة وجذَلاًً بما ترى من نعيم مقيم، وما تلتذّ به من قرّة الأعين: [فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلكَ الْيََوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا]
. (عبس، آية39)[ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ#وجوهٌ يومئذ مُسفرة ]
وهنالك يتكئ المؤمنون على أرائك الجنة، ويذكرون ما لاقوا من سخرية الكفّار وضحكهم؛ فيضحكون منهم جزاءً وفاقاً:
. (المطففين، آية34)[فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ]
المنبع الثاني: السُّنة النبوية
احتفت السُّنة النبوية بثقافة الابتسام بصورة لافتة، حتى ليكاد المرء يجزم بأنْ لا مكانة للعبوس في هذا الدين، ولا يُحمد وعظ مُنبجس من نفس كظيمة، ووجه عابس، وإنّما المحمود البِشْر والطلاقة.
وتتجلّى منابع هذه الثقافة في السنة من خلال الخطوط العريضة الآتية:
1- دعوة النبيّ ﷺ إلى الابتسام، وعدّه صدقة من الصّدقات:
فإذا كانت الصدقة من الطعام تغذّي البدن، وتطفئ لهيب الجوع، فإنّ النفس أحوج إلى ما يجلو كآبتها، ويطفئ لهيب معاناتها، وتحطّم آمال من آمالها. وليس شيء يُعيدُ إليها الثقة والسّكينة كالابتسامة المفترّة من ثغر زوج، أو صاحب، أو جار، أو قريب، أو مسؤول. وذلك ما أشار إليه رسولُ الله ﷺ حين قال: “تبسّمُك في وجه أخيك صدقة”.(5)
ولأنّ الوجه هو مرآة النفس، وشاشة الانفعال، رغّب النبيّ ﷺ في أن تظلّ هذه المرآة صافيةً صفاءَ الماء، لا تعكّر نصاعته طحالب، أو طفيليات، ولا تثير سكونه ضفادع تنقّ فيه!
فعدّ من صُور المعروف التي لا ينبغي الاستهانة بها، أو التقليل من شأنها، أن يلقى المرء أخاه بوجه مُنبسط غير عابس، مُستبشر غير يائس، يرسلُ إشارات مسرّة إلى مَنْ يقابل:
“لا تحقرنَّ من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق”.(6)
وقد كان النبيّ ﷺ أطلقَ الناس وجهاً، وبخاصة إذا سُرَّ، فإذا سُرّ استنار وجهه كأنّه قطعة قمر، جاء في حديث كعب بن مالك في قصّة توبته، قال: “فلمّا سلّمتُ على رسول الله ﷺ، وهو يُبرقُ وجهُه من السّرور، ويقول: أبشرْ بخير يومٍ مرَّ عليك منذُ ولدتكَ أُمّك، قال: وكان رسول الله ﷺ إذا سُرَّ استنار وجهه، كأنَّ وجهه قطعةُ قمر، قال: وكنّا نعرف ذلك”.(7)
2- دعوة النبيّ ﷺ إلى إدخال السّرور على قلوب الناس بإفشاء السّلام، والمصافحة، والكلمة الطيبة، والنظرة الحانية، والبسمة الحلوة، والهدية المفرحة، والبشارة السّارة.
وقد أعدّ الله لِمَنْ يمنح نفوس الناس أنسام مسرّته، وأنداء مودّته، ويشيع فيهم أجواء الفرح والابتهاج أعدّ له سروراً عظيماً يوم القيامة: “مَنْ لَقيَ أخاه المسلمَ بما يُحبُّ اللهُ؛ ليسرّه بذلك، سرّهُ الله يوم القيامة”.(8)
3- دعوة النبيّ ﷺ إلى إراحة الأعصاب، وتهدئة النفس، وذلك بتجنّب الغضب؛ لأنّ الغضب ثوران في النفس يحملها على الرغبة في البطش والانتقام، والانقياد له عنوان ضعف الإنسان، ولو ملك السّواعد القوية، والجسم الصحيح.(9)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رجلاً قال للنبيّ ﷺ: أوصني، قال: لا تغضبْ، فردّد مراراً، قال: لا تغضبْ”.(10)
أمّا ضبط النفس فعنوان قوّة، وسبيل إلى التحكّم في القول والفعل، وتجنّب غضب الله تعالى: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنّه سأل النبيّ ﷺ ماذا يُباعدني من غضب الله؟ قال: لا تغضب”.(11)
4- ممارسة النبيّ ﷺ الابتسام كحالة طبيعية تفيض بها نفسُه السّمحة التي لا تحمل في طيّاتها إلا الصفاء والإشراق، فتشعّ أنوار حُبّه وصفائه على الصّحب والأهل والأحبة.
عن أنس رضي الله عنه قال: “كان رسول الله ﷺ إذا دخل المسجد لم يرفع أحدٌ منّا إليه رأسه غير أبي بكر وعُمر، رضي الله عنهما؛ فإنّهما كانا يبتسمان إليه، ويبتسمُ إليهما”.(12)
وكان النبيّ ﷺ يبتسم أثناء التكلّم، ممّا يعطي الكلام حلاوة، ويجتذب الجليس له، قال أبو الدرداء رضي الله عنه:”كان رسول الله ﷺ إذا حدّث بحديث تبسّم في حديثه”.(13)
فكان دائم البشر، سهل الخُلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ، ولا غليظ، ولا صخّاب، ولا فحّاش، ولا عتّاب، إذا فرح غضّ طرفه، جلّ ضحكه التبسّم، ويفترّ عن مثل حبّ الغمام. (14) وكان يبتسم إذا رأى أصحابه، أو لقيهم، روى جرير بن عبد الله رضي الله عنه أنّه قال: “ما رآني رسول الله ﷺ منذ أسلمتُ إلا تبسّم في وجهي”.(15)
والابتسامة تعبير خاصّ بالوجه يتميّز بجذب جانبي هذا الوجه إلى أعلى، وإلى الخلف، وبرفع الوجنتين، مع حدوث افتراق بين الشفتين، وإنقاص المساحة الخاصة بالأجفان، وهي مشروع ضحكة، أو ضوء يخفت ويشي بنهاية الضحك، وقد تتصاعد وتتحوّل إلى ضحكة.(16). وقد تمتزج الابتسامة بالضحكة، وقد ورد في الأحاديث الشريفة أنَّ النبيّ ﷺ ضحك حتى بدتْ نواجذه، “وكان جلّ ضحكه التبسّم، بل كلّه التبسّم، فكان نهاية ضحكه أن تبدو نواجذه، وكان يضحك ممّا يضحك منه، وهو مما يتعجّب من مثله، ويستغرب وقوعه، ويستندر”.(17)
مظاهر ثقافة الابتسام لدى النبيّ ﷺ
ما كانت الأعباء القيادية الجسام تشغل النبيّ ﷺ عن مؤانسة أهل بيته، ومداعبة أصحابه؛ وما تستجلب تلك المؤانسة والمداعبة من مزاح ومرح، وابتسام وضحك؛ إذ هي جزء من تأليف القلوب، وكسبها، وهو إمام المسلمين وقائدهم ومُعلّمهم، وهو الذي يتلقّى الوحي، ويعمل ليل نهار لإنشاء الأمة، وإقامة الدولة، وتوجيه كتائب الجهاد، ورعاية الناس.(١٨)
وإنَّ “من سعة النفس أن ينهض الرّجل بعظائم الأمور، بل بأعظمها جداً ووقاراً، وهو إقامة الأديان، وإصلاح الأمم، وتحويل مجرى التاريخ، ثمّ يطيب نفساً للفكاهة، ويطيب عطفاً على المتفكّهين، ويشركهم فيما يشغلهم من طرائف الفراغ، فاستراحة محمّد إلى الفكاهة هي مقياس تلك الآفاق النفسية الواسعة التي شملت كلَّ ناحية من نواحي العاطفة الإنسانية، وهي المقياس الذي يُبدي من العظمة ما يبديه الجدّ في أعظم الأعمال”.(١٩)
وقد ساسَ النبيّ ﷺ العرب برجاحة عقله، وحسن خلقه، وطلاقة وجهه، وكانوا كالوحوش الشاردة، وأصحاب طباع متنافرة متباعدة، واتسعتْ لهم أخلاق نفسه الكريمة اتساعاً لا يضيق عنه شيء، إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه، وهجروا في رضاه أوطانهم وأحبابهم. (٢٠)
تتجلّى مظاهر الممارسة العملية للابتسام لدى النبيّ ﷺ في الصّور الآتية:
1- مداعبة النبيّ ﷺ أهل بيته.
2- مداعبة النبيّ ﷺ الأطفال.
3- مداعبة النبيّ ﷺ الكبار والعجائز.
مظاهر ثقافة الابتسام في حياة الصّحابة
فاز الصّحابة الكرام بالسّبق والفضل على الأمّة جمعاء، وارتقوا مكانة متفرّدة في التاريخ الحضاريّ، وذلك من وجوه هي: (٢١)، وقد ساروا على خُطى النبيَّ ﷺ في الإقبال على الحياة بالأمل والتفاؤل، والطلاقة والاستبشار، فأخذوا حظوظهم من المرح والمزاح، ولم يجدوا حرجاً في ذلك.
روى بكر بن عبد الله قال: كان أصحاب النبيَّ ﷺ يتبادحون بالبِطّيخ، (أي يترامون به)، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرّجال”!(٢٢). وعن قرّة قال: قلت لابن سيرين: هل كانوا يتمازحون؟
قال: ما كانوا إلا كالناس! وسُئل النخعي: هل كان أصحابُ رسول الله ﷺ يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم مثل الجبال الرّواسي!
ولثقافة الابتسام روافد غذّاها الصّحابة الكرام، وتعاهدوها بما أوتوا من أخلاق حميدة، وآداب جمّة، ومن أهمّ تلك الروافد:
1- الحِلْم وسَعة الصدر:
الحِلْم يحمل في مضامينه هدوء النفس وانضباطها، وانشراح الصدر، وتحمّل الناس، وعدم التبرّم بالحياة، ومعالجة المشكلات بروية وحكمة، فالحِلْم بذلك هو التربة الخصبة للتبسُّط والسماحة، والمرح والبشاشة.
وقد تميّز الصّحابة الكرام بهذه الصفة التي أخذوها عن رسول الله ﷺ من سيرته العملية التي رأوها رأي العين. (٢٣)
عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله ﷺ لأشَجِّ عبدِ القيس: إنَّ فيكَ خَصْلَتين يُحبّهما اللهُ: الحِلْم والأناة”.(٢٤)
جاء غلام للصحابي الجليل أبي ذر رضي الله عنه وقد كسرَ رِجْل شاة له. فقال له أبو ذر: مَنْ كسرَ رِجْل هذه الشاة؟ قال الغلام: أنا. قال أبو ذر: ولِمَ فعلتَ ذلك؟ قال الغلام لأغيظك؛ فتضربني؛ فتأثم! قال أبو ذر: والله لأغيظنَّ مَنْ حرّضك على غيظي، اذهبْ فأنت حُرّ!
2- الذوق الرّفيع:
ليس شيء من آداب المرء أرقى من الذوق الرفيع؛ ذلك لدلالته على اتزان النفس، وانضباط الكلمة، ورهافة الشعور، فهو آية اللطف والرّقة، ولك أن تتصوّر روعة الدُّعابة حين تصدر من صاحب ذوق رفيع. وقد كان الصّحابة الكرام يتربّعون على قمّة الذوق الإنساني، ولا عجب؛ فأستاذهم محمّد ﷺ هو مُؤسّس هذه المدرسة الراقية التي تعلّموا فيها!
– قيل للعبّاس بن عبد المطلب رضي الله عنه: أنت أكبر أم رسولُ الله ﷺ؟ قال: رسولُ الله أكبرُ منّي، وأنا ولدتُ قبله!
دُعابات الصَّحابة وابتساماتهم:
ثمّة أمثلة متعدّدة على إرسال الصّحابة نفوسهم على السَّجية، وطبعها بطابع الابتسام، وصبغها باللطف والتهذيب ذلك؛ لأنّ بعضاً من مرحهم إنّما هو عند رسول الله الذي يقدّرونه، ويعظّمونه، ويهابونه:
عن عمرو بن العاص رضي الله قال: “ما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله ﷺ، ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنتُ أطيقُ أن أملأ عيني منه، إجلالاً له، ول سُئلتُ أن أصفه ما أطقتُ؛ لأنّي لم أكن أملأ عيني منه”!(٢٥)
ومن أطرف دُعابات الصّحابة الكرام هذه الحكايات الممتعة:
عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: أتيتُ رسول الله ﷺ في غزوة تبوك، وهو في قُبّة من أدم، فسلّمتُ فردّ وقال: ادخلْ. فقلت: أكلّي يا رسول الله؟ فقال: كلُّك، فدخلت”!(٢٦)
يبدو أن القُبّة كانت صغيرة، ولذا مازح النبيّ ﷺ بقوله: أكُلّي يا رسول الله؟!
أستاذ الفكاهة والابتسام!
ولعلّ أبرع الفكهين في عهد النبيّ ﷺ، وأكثرهم مزاحاً، وأقدرهم على الإضحاك، وصناعة “المقالب”، هو نُعيمان بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه، وقد شهد غزوة بدر وأحد والخندق والمشاهد كلّها، قال البخاري وأبو حاتم وغيرهما: له صُحبة. وتوفي في خلافة معاوية رضي الله عنه.
وله نوادر كثيرة، ودُعابات طريفة، منها:
كان نُعيمان الأنصاريّ رضي الله عنه لا يدخلُ سوق المدينة إلا اشترى منها شيئاً، وجاء به إلى النبيّ ﷺ، ويقدّمه له هدية، فإذا جاء صاحبُ الحقّ يطلبُ الثمن أحضره إلى النبيّ ﷺ، وقال له: أعطِ هذا ثمنَ متاعه! فيقول له النبيّ ﷺ: أو لم تَعُدّه هدية لي؟! فيقول نعيمان: نعم، وإنّه لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببتُ أن تأكله! فيضحك النبيّ ﷺ، ويأمرُ لصاحبه بالثمن! (55)
خاتمة المطاف
وإذا كانت ثمّة كلمة أخيرة فهي أن لا يتبادر إلى ذهن القارئ أنَّ الصّحابة الكرام كانوا يقضون جلّ أوقاتهم في المرح والمزاح، لما يرى من كثرة الشواهد، بل كانوا يأخذون حظّاً مباحاً منه، لا يشغلهم عن العمل بكتاب ربّهم، وتلقّي سنّة نبيّهم، وتبليغ رسالته.
أمّا الابتسام فكان فيهم ثقافة مُتحضّرة، وطريقة حياة متأصّلة، وحسّاً إنسانياً، وحُسناً طبيعياً غير مُتصنّع ولا مجلوب.
وفي كتب الحديث والسِّيَر ألوان كثيرة من مُداعبات النبيّ ﷺ، ومزاح أصحابه، وهي براهين دامغة على إنسانية النبيّ ﷺ، ونفسه المَرِحة، وتفاؤله بالحياة، على الرّغم من أعباء الرسالة، وقيادة الأمة.
وهي أيضاً براهين دامغة على إنسانية أصحابه، ونفوسهم المهذّبة، ومنطقهم العذب، على الرّغم من مسؤولياتهم الجسيمة في الدعوة والجهاد.
والعجب أنّك تجد بعض المشائخ المتشدّدين، قد رسموا على وجوههم أخاديد للعبوس، وخُطوط طُولٍ وعرض لتقطيب الجبين، وتضاريس للكشرة، مع فظاظة قول، وعُنف في الرّد.
هوامش: ——————-
(1) المعجم الأدبي، جبور عبد النور، دار العلم للملايين بيروت، ط1، 1979م، ص 81.
(2) في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، بيروت، القاهرة، ط 34، 1425هـ2004م، ج6، ص 3415/3416.
(3) انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ط2، دار الفكر، بيروت 1401هـ 1981م. مادة “ضحك”.
(4) صفوة التفاسير، محمد على الصابوني، دار الفكر، بيروت، ط2، 1419هـ 1998م. ج1، ص 498.
(5) رواه الترمذي.
(6) رواه مسلم.
(7) رواه مسلم.
(8) رواه الطبراني في الصغير، وإسناده حسن.
(9) الوافي في شرح الأربعين النوويّة، د. مصطفى البغا، ومحيي الدين مستو، دار ابن كثير، دمشق- بيروت، ط 12، 1422هـ 2001م. ص 110.
(10) رواه البخاري.
(11) رواه أحمد.
(12) رواه الترمذي.
(13) رواه الطبراني.
(14) الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، رابطة العالم الإسلامي، ط 7، 1426هـ 2005م، ص 616، 617.
(15) رواه البخاري ومسلم.
(16) الفكاهة والضحك، د. شاكر عبد الحميد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1423هـ2003م، ص 28.
(17) زاد المعاد، ابن قيم الجوزية، راجعه طه عبد الرؤوف طه، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، 1390هـ 1970م، ج1، ص64.
(١٨) شخصية المرأة المسلمة، د. محمد علي الهاشمي، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط1، 1415هـ1994م، ص 374.
(١٩) عبقرية محمّد، عبّاس محمود العقّاد، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ص 145/146.
(٢٠) انظر: سيدنا محمد رسول الله، اسعد محمد الصاغرجي، دار الكلم الطيب، دمشق، ط2، 1418هـ1998م، ج2، ص 415/416.
(٢١) رواه البخاري في الأدب.
(٢٢) انظر: حياة الصحابة، الكاندهلوي، ج2، ص 441-446.
(٢٣) رواه مسلم.
(٢٤) رواه مسلم.
(٢٥) رواه أبو داود.
(٢٦) انظر: الإصابة في تمييز الصَّحابة، ابن حَجر العسقلاني، (852هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، ج 6، ص250-251.