حصريا

المنهج النبوي في تعليم التفكير للصحابة د. علياء العظم – الأردن

0 81

بسم الله الرحمن الرحيم

المنهج النبوي في تعليم التفكير للصحابة

د. علياء العظم

يشهد التاريخ أن التربية النبوية للصحابة الكرام أنتجت خير شخصيات؛ نشرت الإسلام، وعملت على بناء الأمة المسلمة، وفق المنهج الرباني، وإذا علمنا أن الشخصية تتكون من جوانب خمسة: العقلية، والوجدان، والجسم، والعلاقات، والمهارات، علمنا أن عناية المصطفى ﷺ ببناء الشخصية المسلمة يعني العناية بكل جانب من تلك الجوانب الخمسة، وسيتم في هذا المقام التطرق لبناء العقلية، وبالتحديد جانب التفكير فيها.

  1. ولا عجب أن يكون اهتمام النبي ﷺ ببناء العقلية المسلمة عظيماً، حيث أن أول كلمة في القرآن الكريم كانت “اقرأ”، وهي تحاكي العقلية، وتعني القراءة الواعية لكتاب الله المسطور وكتابه المنظور، التي تتم باستخدام طريقة التفكير المناسبة في التفاعل مع المرئيات والمسموعات، لذا يحسن البدء بمدخل حول التفكير، ثم بيان المنهج النبوي في تعليم بعض أنواع التفكير من خلال مشاهد تطبيقية من السيرة النبوية العطرة.

أولاَ – مدخل حول التفكير:

1- مفهوم التفكير: (عملية إنتاج الأفكار تبدأ بمثير وتنتهي بمعنى)

وهو سلسلة من النشاطات العقلية التي يقوم بها الدماغ عندما يتعرض لمثير يتم استقباله عن طريق واحدة أو أكثر من الحواس الخمس (البصر، والسمع ، والشم، والذوق، واللمس) (جروان 1999).

2- مفهوم تعليم التفكير: ( يعني ممارسة التفكير بشكل واع)

3- فوائد تعليم التفكير:

  • يجعل نشاط التفكير فعلا واعيا (التعرف على طريقة تفكيره وتفكير الآخرين)
  • يمنع العقل من التعجل في إصدار الأحكام، يحرره من التحيزات المسبقة
  • يوسع إدراك الشخص للمواقف، ويولد مزيدا من البدائل والاحتمالات
  • ينتج أفكارا أكثر وبشكل أيسر وفي وقت أقصر
  • ينتبه للمغالطات العقلية، ويكتشف نقاط القوة والضعف للأفكار المطروحة.

4- أنواع التفكير:

اختلف علماء النفس حول أنواع التفكير، ورآها العالم إدواردديبونو ستة أنواع: التفكير الموضوعي، التفكير العاطفي، التفكير الناقد، التفكير الشمولي، التفكير الإيجابي، التفكير الإبداعي، وغيرها المزيد والعديد… ورأى أنه يمكن اتباع فكرة التفكير الموازي، مما يعني النظر إلى قضية من وجهات نظر مختلفة بطريقة منظمة وخالية من الصراع.

ثانياً- المشاهد التربوية النبوية حول تعليم التفكير وتحليلها

لقد شهدت مواقف السيرة أن الرسول ﷺ كان يعلم الصحابة طرق التفكير المتنوعة، من خلال المواقف، وسيكتفى في هذا المجال بيان المنهج النبوي في تعليم نوعين منهما؛ وهما التفكير الإيجابي والتفكير الموضوعي.

1- تعليم التفكير الإيجابي:

التفكير الإيجابي هو نوع من أنواع التفكير المنطقي، ولكنه يهتم بدراسة الفوائد والنتائج المستقبلية، ويفكر بطريقة تحصيلها، ويستخدم المنطق أكثر من استخدام الانفعالات، ويحرص على الفرص المتاحة.

التفكير الإيجابي في مشهد مرض الصحابة عند هجرتهم من مكة تجاه المدينة

عندما أصيب الصحابة بحمى شديدة بعدما أُخرجوا من مكة المكرمة إلى أرض الوباء في المدينة، صار بعضهم ينظر إلى الكرب الذي صاروا فيه، بعضهم يستشرف الموت، وبعضهم يلعن من كانوا سبباً في الإخراج، ولكن التوجيه النبوي أرشدهم إلى طريقة تفكير مختلفة، طريقة تدرس الفوائد والنتائج المستقبلية، وتفكر بطريقة تحصيلها، بدل التذمر واللعن، انظروا إلى الموقف التالي:

تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: “لَمَّا قَدِمَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المَدِينَةَ، وُعِكَ أبو بَكْرٍ وبِلَالٌ، فَكانَ أبو بَكْرٍ إذَا أخَذَتْهُ الحُمَّى يقولُ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ في أهْلِهِ … والمَوْتُ أدْنَى مِن شِرَاكِ نَعْلِهِ وكانَ بلَالٌ إذَا أُقْلِعَ عنْه الحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ يقولُ: أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هلْ أبِيتَنَّ لَيْلَةً … بوَادٍ وحَوْلِي إذْخِرٌ وجَلِيلُ وَهلْ أرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ … وهلْ يَبْدُوَنْ لي شَامَةٌ وطَفِيلُ، قالَ: اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيبةَ بنَ رَبِيعَةَ، وعُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وأُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ كما أخْرَجُونَا مِن أرْضِنَا إلى أرْضِ الوَبَاءِ، ثُمَّ قالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في صَاعِنَا وفي مُدِّنَا، وصَحِّحْهَا لَنَا، وانْقُلْ حُمَّاهَا إلى الجُحْفَةِ. قالَتْ: وقَدِمْنَا المَدِينَةَ وهي أوْبَأُ أرْضِ اللَّهِ، قالَتْ: فَكانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا. تَعْنِي مَاءً آجِنًا” (صحيح البخاري، 5677).

التحليل:

يتضح من المشهد السابق التوجيه النبوي في تحويل طريقة التفكير، من التفكير السلبي إلى التفكير الإيجابي، بكل عناصره التي اكتشفها علم النفس الإيجابي فيما بعد، فحين كان الصحابي الشاب بلال رضي الله عنه يدعو على من كان سبباً في هجرتهم من مكة إلى المدينة، وإصابتهم بالحمّى هناك، أرشده النبي ﷺ إلى ما هو خير من ذلك، وهو أن ينظر إلى المدينة نظرة إيجابية، فيرى مستقبلهم فيها خيراً، ويدعو الله أن يحقق ذلك المستقبل المرجو، ويضع لهم اهدافاً واقعية حيال ذلك، ونسنشف ذلك من خلال قوله: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا، وفي مدنا، وصححها، لنا وانقل حماها إلى الجحفة.) حيث نجد في دعائه عدة عناصر:

  • تحويل قلوبهم تجاه المدينة حتى يحبوها.
  • تحويل أنظارهم تجاه العمل في الزراعة فيها، والدعاء ببركة الرزق فيها.
  • الدعاء بسلامتها من الأمراض.
  • الدعوة لتناسي ما كان من أسى في مكة.

التفكير الإيجابي في مشهد من غزوة الأحزاب:

هو مشهد من أشد مشاهد غزوة الأحزاب (الخندق)، التي وصفها القرآن الكريم بقوله: ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا *هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدً﴾] الأحزاب10 – 11. [ كان المسلمون بحالة نفسية شديدة،فالأحزاب يحيطون بهم في خارج المدينة، واليهود يغدرون بهم في الداخل، وهم يحاولون حفر الخندق، ويواجهون الصعوبة في تحطيم الصخر، في تلك اللحظات العصيبة، تجلّت قضية تعليم النبي صلى الله عليه للصحابة الشباب التفكير الإيجابي، لقد بشّرهم بفتح فارس والروم، قال عليه الصلاة والسلام: “ضَرَبْتُ ضَرْبَتِيَ اَلْأُولَى فَبَرَقَ اَلَّذِي رَأَيْتُمْ أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا قُصُورُ اَلْحِيرَةِ وَ مَدَائِنُ كِسْرَى كَأَنَّهَا أَنْيَابُ اَلْكِلاَبِ فَأَخْبَرَنِي جَبْرَئِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا ثُمَّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِيَ اَلثَّانِيَةَ فَبَرَقَ اَلَّذِي رَأَيْتُمْ أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا قُصُورُ الحمر مِنْ أَرْضِ اَلرُّومِ فَكَأَنَّهَا أَنْيَابُ اَلْكِلاَبِ فَأَخْبَرَنِي جَبْرَئِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا ثُمَّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِيَ اَلثَّالِثَةَ فَبَرَقَ لِي مَا رَأَيْتُمْ أَضَاءَتْ لِي مِنْهَا قُصُورُ صَنْعَاءَ كَأَنَّهَا أَنْيَابُ اَلْكِلاَبِ وَ أَخْبَرَنِي جَبْرَئِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةٌ عَلَيْهَا فَأَبْشِرُوا” فاستبشر المسلمون و قالوا الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحصر) ( النسائي، السنن الكبرى، 8858)

وقتها قال نفر من الناس: “كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط” حيث فضحهم القرآن وبيّن أنهم منافقون.

التحليل:

يظهر من المشهد السابق أن النبي ﷺ كان يستثمر الواقع ليعلم الصحابة التفكير الإيجابي،ففي أحلك المواقف وجه الصحابة لتحديد هدف عظيم، وهو (الظهور على الدول العظمى)، ثم علمهم التفكير بطريقة تحقيق الهدف، وحرضهم عليه، بالعمل على تكسير الصخر لإتمام حفر الخندق، وكذلك يظهر توجيهم لمعالجة المعيقات، والإعراض عن الرسائل السلبية، التي كان يبثها المنافقون.

2- التفكير الموضوعي:

هو التفكير المبني على مجموعة من المعلومات، والحقائق، والأرقام، والتساؤلات، والمعطيات، ولا تعتمد هذه الطريقة على أي رأي، لأنها حيادية، تحدد احتياجاتها من المعلومات الخام التي سوف يتخذ بها الرأي، وتبنى عليها القرارات

المشهد النبوي:

الشاهد الأول هو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “بعثني رسول اللهِ ﷺ، إلى اليمن قاضيا،فقلت: يا رسول اللهِ! ترسلني وأنا حديث السن، ولا علم لي بًالقضاء؟فقال: إن الله سيهدي قلبك،ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين، حتى تسمع من الآخر، كما سمعت من الأول؛ فإنهأحرى أن يتبين لك القضاء قال: فما زلت قاضيا، أو ما شككت في قضاء بعد.

والشاهد الثاني هو ما روي عن رسول الله ﷺأنه لما أراد أن يبعث معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن قال: ” كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟  قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال” فبسنة رسول الله ﷺ، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ﷺولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله ﷺصدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله” (سنن الترمذي 1327، وفيه كلام حول السند)

التحليل:

يظهر من المشهد الأول تكليف النبي ﷺ لعلي ابن أبي طالب بالقضاء لمعرفته بمواهبه المناسبة لذلك التكليف، ثم تعليمه خطوات التفكير الموضوعي، التي تعتمد على جمع البيانات من كل الأطراف، والتريث حتى تتبين كل الحقائق، وبعدها إطلاق الحكم .

ويظهر من المشهد الثاني تكليف النبي ﷺ لمعاذ بن جبل بالقضاء أيضاً، لمعرفته بقدرته على ذلك، وتوجيهه إلى مصادر معرفة الأحكام (البيانات)، بالتدريج: كتاب الله ثم سنة نبيه ﷺ، ثم الاجتهاد بالرأي، يعني في رد القضية من طريق القياس إلى معنى الكتاب والسنة، وذلك كله من متطلبات التفكير الموضوعي الذي يعتمد على تقصي المعلومات، والحقائق، للوصول إلى الحكم السليم.

وختاماً فإن المنهج النبوي  في صياغة الشخصية المسلمة عموماً، وفي توجيه تفكيرها خصوصاً، والذي كان له الأثر الكبير في صناعة خير أمة أخرجت للناس، يمكن استلهامه لصناعة شخصيات فاعلة في زمننا الحاضر، بأمل إحياء الجدية في شباب المسلم، وإعادة الخيرية لأمة الإسلام.

 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.