حصريا

السَّنَواتُ الخَدَّاعَاتُ . د حفيظة بلميهوب – الجزائر

0 14

بسم الله الرحمن الرحيم

السَّنَواتُ الخَدَّاعَاتُ

أ.د حفيظة بلميهوب

 

روى ابن ماجةبسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ»، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».([1])

أولا: تخريج الحديث:

الحديث ورد عن النّبي صلّى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما، رواية أبي هريرة عند الحاكم وابن ماجة، ورواية أنس عند أحمد، فقدأخرجه الحاكم في المستدرك وأخرجه أيضا ابن ماجة([2]) في باب شدّة الزمان، وأخرجه الإمام أحمد من عدّة طرق،قال ابن حجر:والْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ وَمِثْلِهِ لِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.َ وهذه روايات الحديث الموجودة في كتب السنة ذكرتهاللفائدة

روى الحاكمعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «تَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ جَدِعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهِمُ الرُّوَيْبِضَةُ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ» هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ”([3]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: “وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَظْهَرَ الْفُحْشُ، وَالْبُخْلُ، وَيُخَوَّنَ الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ، وَيَهْلِكَ الْوُعُولُ، وَتَظْهَرَ التَّحُوتُ” قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوُعُولُ وَالتَّحُوتُ؟ قَالَ: “الْوُعُولُ: وجُوهُ النَّاسِ وَأَشْرَافُهُمْ، وَالتَّحُوتُ: الَّذِينَ كَانُوا تَحْتَ أَقْدَامِ النَّاسِ لَا يُعْلَمُ بِهِمْ”.([4])

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَمَامَ الدَّجَّالِ سِنِينَ خَدَّاعَةً يُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيَتَكَلَّمُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ». قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: «الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ» رقمه:13298

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنِينَ فَذَكَرَ الْحَدِيث. رقمه:13299

وأخرجه أيضا في مسنده بسنده عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ” قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: “السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ” (مسند أحمد برقم 7912).

– وبسند آخر عَنْ أَبِي سَبْرَةَ، قَالَ: كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ يَسْأَلُ عَنِ الْحَوْضِ، حَوْضِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يُكَذِّبُ بِهِ، بَعْدَمَا سَأَلَ أَبَا بَرْزَةَ وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ وعَائِذَ بْنَ عَمْرٍو وَرَجُلًا آخَرَ، وَكَانَ يُكَذِّبُ بِهِ، فَقَالَ أَبُو سَبْرَةَ: أَنَا أُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ فِيهِ شِفَاءُ هَذَا، إِنَّ أَبَاكَ بَعَثَ مَعِي بِمَالٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو فَحَدَّثَنِي مِمَّا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمْلَى عَلَيَّ، فَكَتَبْتُ بِيَدِي، فَلَمْ أَزِدْ حَرْفًا، وَلَمْ أَنْقُصْ حَرْفًا، حَدَّثَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ أَوْ يُبْغِضُ الْفَاحِشَ وَالْمُتَفَحِّشَ” قَالَ: “وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَظْهَرَ الْفُحْشُ وَالتَّفَاحُشُ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَسُوءُ الْمُجَاوَرَةِ، وَحَتَّى يُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ وَيُخَوَّنَ الْأَمِينُ” وَقَالَ: “أَلَا إِنَّ مَوْعِدَكُمْ حَوْضِي، عَرْضُهُ وَطُولُهُ وَاحِدٌ، وَهُوَ كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَمَكَّةَ، وَهُوَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، فِيهِ مِثْلُ النُّجُومِ أَبَارِيقُ، شَرَابُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الْفِضَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ مَشْرَبًا، لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا” فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: “مَا سَمِعْتُ فِي الْحَوْضِ حَدِيثًا أَثْبَتَ مِنْ هَذَا فَصَدَّقَ بِهِ، وَأَخَذَ الصَّحِيفَةَ فَحَبَسَهَا عِنْدَهُ” (رقمه:6514).

الغريبة ثانيا: شرح الألفاظ

قوله: سنوات:جاء في اللّسان: سنوات جمع سنة والسَّنةُ مُطْلَقَةً: السنةُ المُجْدِبةُ، أَوْقَعُوا ذَلِكَ عَلَيْهَا إِكباراً لَهَا وَتَشْنِيعًا وَاسْتِطَالَةً. يُقَالُ: أَصابتهم السَّنَةُ، وَالْجَمْعُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ سَنَهاتٌ وسِنُون، كَسَرُوا السِّينَ لِيُعْلَمَ بِذَلِكَ أَنه قَدْ أُخرج عَنْ بَابِهِ إِلَى الْجَمْعِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، وقد قالوا سِنيناً؛ أَنشد الْفَارِسِيُّ: دَعانِيَ مِنْ نَجْدٍ، فإنَّ سِنينَه … لَعِبْنَ بِنَا شِيباً، وشَيَّبْنَنا مُرْدَا “([5])

وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَقُولُ هَذِهِ سِنينٌ، كَمَا تَرَى، ورأَيت سِنيناً فَيُعْرِبُ النُّونَ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهَا نُونَ الْجَمْعِ فَيَقُولُ هَذِهِ سِنُونَ ورأَيت سِنِينَ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَأَي بالقُحُوط.

والسَّنةُ: الأَزْمة،تُجْمَعُ سَنَواتٍ وسَنَهاتٍ، فَإِذَا جَمَعْتَهَا جَمْعَ الصِّحَّةِ كَسَرْتَ السِّينَ فَقُلْتَ سِنينَ وسِنُونَ، وَبَعْضُهُمْ بضمها وَيَقُولُ سُنُونَ، بِالضَّمِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: سِنينٌ…الأَصمعي: أَرضُ بني فلان سَنَةٌ إِذَا كَانَتْ مُجْدِبةً. قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وبُعِثَ رائدٌ إِلَى بَلَدٍ فَوَجَدَهُ مُمْحِلًا فَلَمَّا رَجَعَ سُئلَ عَنْهُ فَقَالَ السَّنَةُ، أَراد الجُدُوبة.والسَّنَةُ مِنَ الزَّمَن مِنَ الْوَاوِ وَمِنَ الْهَاءِ، وَتَصْرِيفُهَا مَذْكُورٌ فِي حَرْفِ الْهَاءِ، وَالْجَمْعُ سَنَواتٌ وسِنُونَ وسَنَهاتٌ، وسِنُونَ مَذْكُورٌ فِي الْهَاءِ، وتعليلُ جمعِها بِالْوَاوِ والنونِ هُنَاكَ. وأَصابتهم السَّنَةُ: يَعْنُونَ بِهِ السَّنَة المُجْدِبة، وَعَلَى هَذَا قَالُوا أَسْنَتُوا فأَبدَلوا التاءَ مِنَ الياءِ الَّتِي أَصلُها الواوُ، وَلَا يُستعمل ذَلِكَ إِلَّا فِي الجَدْبِ وضِدِّ الخِصْب. وأَرضٌ سَنَةٌ: مُجْدِبةٌ، عَلَى التَّشْبِيهِ بالسَّنَةِ مِنَ الزَّمَانِ، وجمعُها سِنُونَ. وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: أَرضٌ سِنُونَ، كأَنهم جَعَلُوا كُلَّ جزءٍ مِنْهَا أَرضاً سَنَةً ثُمَّ جمعُوه عَلَى هَذَا. وأَسْنَى القومُ: أَتَى عَلَيْهِمُ العامُ. وساناهُمُسَانَاةً وسِنَاءً: استأْجَرَه السَّنَة، وعامَلَه مُسَانَاةً، واستأْجره مُسَانَاةً كَقَوْلِهِ مُسانَهَةً.” ([6])

وجاء في تاج العروس: السّنةُ: العامُ كما في المحكم، وقالَ السّهيليّ فِي الرَّوْضِ: السَّنَةُ أَطْولُ من العامِ، والعامُ يُطْلَقُ على الشّهورِ العَربيَّةِ بخِلافِ السَّنَةِ، وَقد تقدَّمَ فِي (ع وم)…(ج سِنُونَ) ، بكسْرِ السِّين، قالَ الجوْهرِيُّ: وبعضُهم يقولُ بضمِّ السِّيْن. ([7])

والسّنة: بفتح السين والنون، جمع سنوات وسنون، العام…والسّنة القمرية هي المعتمدة في التقديرات الشرعية ومقدارها ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وسدس اليوم وتبدأ بشهر المحرّم، أما السنة الشمسية فمقدارها ثلاثمائة وخمسة وستون يوما ” وربع اليوم وتبدأ بشهر كانون الثاني أي شهر جانفي.([8])

قوله: (خدّاعات): جاء في اللّسان”خدع: الخَدْعُ: إِظْهَارُ خِلَافَ مَا تُخْفيه. أَبُو زَيْدٍ: خَدَعَه يَخْدَعُه خِدْعاً، بِالْكَسْرِ، وخَدِيعةً وخُدْعةً أَي: أَراد بِهِ الْمَكْرُوهَ وَخَتَلَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ. وخادَعَه مُخادَعة وخِداعاً وخَدَّعَه واخْتَدَعه: خَدَعه. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُخادِعُونَ اللَّهَ*

قَالَ الْفَارِسِيُّ: قرئَ يُخادِعُونَ اللَّهَ، ويَخْدَعُون اللَّهَ؛ قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ خادَعْت فُلَانًا إِذَا كُنْتَ تَرُوم خَدْعه وَعَلَى هَذَا يُوَجَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ؛ مَعْنَاهُ أَنهم يُقدِّرون فِي أَنفسهم أَنهم يَخْدَعون اللهَ، وَاللَّهُ هُوَ الْخَادِعُ لَهُمْ أَي المُجازي لَهُمْ جَزاءَ خِداعِهم…” ([9])

الخداع الْمَكْر وَالْحِيلَة وَإِضَافَة الخداع الى السنوات مجازية، وَالْمرَاد أهل السنوات، قَوْله سَيَأْتِي على النَّاس سنوات خداعات أَي: يكثر فِيهَا الامطار ويقل الرّيع فَذَلِك خداعها؛ لِأَنَّهَا تطمعهم فِي الخضب بالمطر ثمَّ تخلف، وَقيل الخدّاعة القليلة الْمَطَر من خدع الرِّيق إِذا جفّ.([10])

قوله:(الرويبضة)جاء في العين:”الرّوَيْبضَةُ: الإنسانُ المجهول، والجمع رُوَيْبِضونورُوَيْبِضات. وفي ذكر الفِتْنِة: ويَتَكَلَّم فيها الرُّوَيْبِضةُ، قيل: فما الرُّوَيْبِضَة؟ قال: الفُوَيْسِقُ يَتكلَّمُ في أمر العامَّةِ…”. ([11])

وفي مقاييس اللغة:”(رَبَضَ) الرَّاءُ وَالْبَاءُ وَالضَّادُ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى سُكُونٍ وَاسْتِقْرَارٍ

مِنْ ذَلِكَ رَبَضَتِ الشَّاةُ وَغَيْرُهَا تَرْبِضُ رَبْضًا. وَالرَّبِيضُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ الْغَنَمِ الرَّابِضَةِ وَرَبَضُ الْبَطْنِ: مَا وَلِيَ الْأَرْضَ مِنَ الْبَعِيرِ وَغَيْرِهِ حِينَ يَرْبِضُ…فَأَمَّا الرُّوَيْبِضَةُ، الَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: ” «وَتَنْطِقُ الرُّوَيْبِضَةُ» ” فَهُوَ الرَّجُلُ التَّافِهُ الْحَقِيرُ. وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَرْبِضُ بِالْأَرْضِ; لِقِلَّتِهِ وَحَقَارَتِهِ، لَا يُؤْبَهُ لَهُ.([12])

وفي الفائق:”ربض كَأَنَّهُ تَصْغِير الرابضة وَهُوَ الْعَاجِز الَّذِي ربض عَن معالي الْأُمُور وجثم عَن طلبَهَا وَزِيَادَة التَّاء للْمُبَالَغَة. والتافه: الخسيس الحقير يُقَال: تفه فَهُوَ نفه وتافه”([13])..

ثالثا: المعنى الإجمالي للحديث

هذا علم من أعلام النبوة، وخبر من الرّحمة المهداة، الصّادق المصدوق عليه الصلاة والسلام بحدوث ووقوع الفتن في آخر الزمان، فقد أخبرنا صلّى الله عليه وسلم بما سيقع من الغيب وأنّهذه الدّنيا بين يدي السّاعة ستتغير أحوالهابحيث تنقلب فيهاالموازين،فيظهر بها الخداع وتزيّف الحقائق وينتشر الكذب والخيانة ويقلّ الصدق والأمانة، فيُصدّقفيها الكاذبويكذّب الصادق،ويؤتمن فيها الخائن ويقدّم في المجالس،ويخون فيها الأمين ويُبعد، ويُعَظَّم أمر الجاهل والسفيه، ويُسْتَهَانُبالصادق الأمين.

وهذا الاختلال في الموازين والانحراف في المفاهيم أدّى إلىتقديمالرويبضة؛ الرّجل التافه والخسيس،وتصدّره المجالس، واعتلائه المناصب، والتَّكلّم في أمر العامّة؛إذ يكون بيده الحلّ والعقد،ولعلّ هذا الزمان هو الذي تكلّم عنه وأخبر به رسول الله صلّى الله عليه وسلم. نسأله تعالى الثبات والحفظ.

رابعا: المعنى التفصيلي للحديث

قَوْلُهُ: (سَنَوَاتٌ)جَمْعُسَنَةٍبَعْدَرَدِّهَاإِلَىالْأَصْلِفَإِنَّأَصْلَهَاسَنَوَبِالْوَاوِ (خَدَّاعَاتٌ) بِتَشْدِيدِالدَّالِلِلْمُبَالَغَةِقَالَالسُّيُوطِيُّ: أَيْتَكْثُرُفِيهَاالْأَمْطَارُوَيَقِلُّالرَّبِيعُفَذَلِكَخَدْعُهَا،أَيْ: لِأَنَّهُمْتُطْمِعُهُمْبِالْخَيْرِ،ثُمَّتَخْتَلِف،وَقِيلَ: الْخُدْعَةُالْقَلِيلَةُالْمَطَرِمِنْخَدَعَالرِّيقَإِذَاجَفَّ (الرُّوَيْبِضَةُ) بِالتَّصْغِيرِ،وَقَوْلُهُ: (فِيأَمْرِالْعَامَّةِ) مُتَعَلِّقٌبِـ ” يَنْطِقُ ” وَالتَّافِهُالْحَقِيرُالْيَسِيرُ،أَيْ: قَلِيلُالْعِلْمِ.([14])

قَوْله:(سَيَأْتِيعلىالنَّاسسنواتخدّاعات)أَي:يكثرفِيهَاالأمطار،ويقلُّالرّيعفَذَلِكخِداعها.

وفي حاشيةالسّنديعلىسننابنماجه (2/ 494((سنواتخدّاعات) الخداعالمكروالحيلة. وإضافةالخدّاعاتإلىالسنواتمجازية. والمرادأهلالسنوات. وقالفيالنّهاية:سنونخداعةأي:تكثرفيهاالأمطارويقلّالرّيع،فذلكخداعها؛لأنّهاتطمعهمفيالخصببالمطرثمتخلف. وقيل:الخدّاعةالقليلةالمطرمنخدعالرّيقإذاجفّ.

قال ابن بطال: “وقد رأينا أكثر هذه العلامات وما بقى منها فغير بعيد، روى ابن عيينة عن شداد بن معقل قال: سمعت ابن مسعود يقول: أوّل ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة. وروى يونس بن زيد بسنده عن حذيفة قال: لتنقضن عُرى الإسلام عروة عروة، ويكون أول نقضه الخشوع.([15])

وَخَرَّجَالطَّبَرَانِيُّ بسنده عَنِالنَّبِيِّصَلَّىاللَّهُعَلَيْهِوَسَلَّمَ،قَالَ: «لَاتَقُومُالسَّاعَةُحَتَّىيَغْلِبَعَلَىالدُّنْيَالُكَعُ([16])بْنُلُكَعٍ». وَخَرَّجَالْإِمَامُأَحْمَدُوَالطَّبَرَانِيُّمِنْحَدِيثِأَنَسٍعَنِالنَّبِيِّصَلَّىاللَّهُعَلَيْهِوَسَلَّمَ،قَالَ: «بَيْنَيَدَيِالسَّاعَةِسُنُونَخَدَّاعَةٌ،يُتَّهَمُفِيهَاالْأَمِينُ،وَيُؤْتَمَنُفِيهَاالْمُتَّهَمُ،وَيَنْطِقُفِيهَاالرُّوَيْبِضَةُ،قَالُوا: وَمَاالرُّوَيْبِضَةُ؟قَالَ: السَّفِيهُيَنْطِقُفِيأَمْرِالْعَامَّةِ». وَفِيرِوَايَةٍ: «الْفَاسِقُيَتَكَلَّمُفِيأَمْرِالْعَامَّةِ»وَفِيرِوَايَةِالْإِمَامِأَحْمَدَ «إِنَّبَيْنَيَدَيِالدَّجَّالِسِنِينَخَدَّاعَةً،يُصَدَّقُفِيهَاالْكَاذِبُ،وَيُكَذَّبُفِيهَاالصَّادِقُ،وَيُخَوَّنُفِيهَاالْأَمِينُ،وَيُؤْتَمَنُفِيهَاالْخَائِنُ»،وَذَكَرَبَاقِيَهُ.

وَمَضْمُونُمَاذُكِرَمِنْأَشْرَاطِالسَّاعَةِفِيهَذَاالْحَدِيثِيَرْجِعُإِلَىأَنَّالْأُمُورَتَوَسَّدُإِلَىغَيْرِأَهْلِهَا،كَمَاقَالَالنَّبِيُّصَلَّىاللَّهُعَلَيْهِوَسَلَّمَ: لِمَنْسَأَلَهُ،عَنِالسَّاعَةِ: ” «إِذَاوُسِّدَالْأَمْرُإِلَىغَيْرِأَهْلِهِفَانْتَظِرِالسَّاعَةَ» “،فَإِنَّهُإِذَاصَارَالْحُفَاةُالْعُرَاةُرِعَاءُالشَّاءِ – وَهُمْأَهْلُالْجَهْلِوَالْجَفَاءِ – رُؤُوسَالنَّاسِ،وَأَصْحَابَالثَّرْوَةِوَالْأَمْوَالِ،حَتَّىيَتَطَاوَلُوافِيالْبُنْيَانِ،فَإِنَّهُيَفْسَدُبِذَلِكَنِظَامُالدِّينِوَالدُّنْيَافَإِنَّهُإِذَاكَانَرَأْسُالنَّاسِمَنْكَانَفَقِيرًاعَائِلًا،فَصَارَمَلِكًاعَلَىالنَّاسِ،سَوَاءًكَانَمُلْكُهُعَامًّاأَوْخَاصًّافِيبَعْضِالْأَشْيَاءِ،فَإِنَّهُلَايَكَادُيُعْطِيالنَّاسَحُقُوقَهُمْ،بَلْيَسْتَأْثِرُعَلَيْهِمْبِمَااسْتَوْلَىعَلَيْهِمِنَالْمَالِ([17])،فَقَدْقَالَبَعْضُالسَّلَفِ: لِأَنْتَمُدَّيَدَكَإِلَىفَمِالتِّنِّينِ،فَيَقْضِمُهَا،خَيْرٌلَكَمِنْأَنْتَمُدَّهَاإِلَىيَدِغَنِيٍّقَدْعَالَجَالْفَقْرَ. وَإِذَاكَانَمَعَهَذَاجَاهِلًاجَافِيًا،فَسَدَبِذَلِكَالدِّينُ؛لِأَنَّهُلَايَكُونُلَهُهِمَّةٌفِيإِصْلَاحِدِينِالنَّاسِوَلَاتَعْلِيمِهِمْ،بَلْهِمَّتُهُفِيجِبَايَةِالْمَالِوَاكْتِنَازِهِوَلَايُبَالِيبِمَافَسَدَمِنْدِينِالنَّاسِوَلَابِمَنْضَاعَمِنْأَهْلِحَاجَاتِهِمْ. وَقَالَفِيحَدِيثٍآخَرَ ” «لَاتَقُومُالسَّاعَةُحَتَّىيَسُودَكُلَّقَبِيلَةٍمُنَافِقُوهَا» “. وَإِذَاصَارَمُلُوكُالنَّاسِوَرُؤُوسُهُمْعَلَىهَذِهِالْحَالِانْعَكَسَتْسَائِرُالْأَحْوَالِ،فَصُدِّقَالْكَاذِبُ،وَكُذِّبَالصَّادِقُ،وَائْتُمِنَالْخَائِنُ،وَخُوِّنَالْأَمِينُ،وَتَكَلَّمَالْجَاهِلُ،وَسَكَتَالْعَالِمُ،أَوْعَدِمَبِالْكُلِّيَّةِ،كَمَاصَحَّعَنِالنَّبِيِّصَلَّىاللَّهُعَلَيْهِوَسَلَّمَأَنَّهُقَالَ: «إِنَّمِنْأَشْرَاطِالسَّاعَةِأَنْيُرْفَعَالْعِلْمُ،وَيَظْهَرَالْجَهْلُ،وَأَخْبَرَ: أَنَّهُيُقْبَضُالْعِلْمُبِقَبْضِالْعُلَمَاءِحَتَّىإِذَالَمْيُبْقَعَالِمٌ،اتَّخَذَالنَّاسُرُؤُوسًاجُهَّالًا،فَسُئِلُوافَأَفْتَوْابِغَيْرِعِلْمٍ،فَضَّلُّواوَأَضَلُّوا.» وَقَالَالشَّعْبِيُّ: لَاتَقُومُالسَّاعَةُحَتَّىيَصِيرَالْعِلْمُجَهْلًا،وَالْجَهْلُعِلْمًا. وَهَذَاكُلُّهُمِنِانْقِلَابِالْحَقَائِقِفِيآخِرِالزَّمَانِوَانْعِكَاسِالْأُمُورِ. ([18])

وقال ابن حجر في الفتح:”وَرَدَ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَحَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ أَمَامَ الدَّجَّالِ سُنُونَ خَدَّاعَاتٌ يُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيَتَكَلَّمُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ وَمِثْلِهِ لِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة…”([19])

قوله: (ُيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ)، فالصدق نقيض الكذب.وصدقه الحديث: أنبأه بالصدق.قالتَعَالَى: (والَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدّق بِهِ) يرْوى عَن عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه أَنه قَالَ: ” الَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي صدّق بِهِ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ “، وَرجل صدق: نقيض رجل سوء.وَكَذَلِكَ: ثوب صدقوخمار صدق. كل ذَلِك حَكَاهُ سِيبَوَيْهٍ.وَصدقه النَّصِيحَة والإخاء: أمحضه لَهُ.([20])

(ص د ق) : صَدَقَ صِدْقًا خِلَافُ كَذَبَ فَهُوَ صَادِقٌ وَصَدُوقٌ مُبَالَغَةٌ([21])

و(ص د ق) : وَإِذَا تَصَادَقَ الشَّرِيكَانِ أَيْ صَدَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرِيكَهُ فِيمَا ادَّعَى.([22])

وفي المشارق: قَوْله:”حَتَّى يكون عِنْد الله صديقا” مُبَالغَة من الصدْق فِي القَوْل وَالْفِعْل وَهُوَ أَعلَى مَرَاتِب الْعباد عِنْد الله بعد الْأَنْبِيَاء([23])

وفي الموطأ: عن ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ. وَالْبِرُّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ. فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ. وَالْفُجُورُ يَهْدِي إِلَى النَّارِ. أَلاَ تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: صَدَقَ وَبَرَّ. وَكَذَبَ وَفَجَرَ.([24])

وفي مسلم: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا».([25])

ففي الحديث الترغيب في الصدق والتحذير من الكذب، فالصّدق من أعلى الأخلاق قدرا ومن أعظم أسباب الفلاح والنّجاح والفوز بالجنّة والنّجاة من النّار، فالصّدق سبيل وطريق يوصل إلى الخيرات ورفيع الدرجات في الدنيا والآخرة كما أنّ الكذب من أسوأ الأخلاق التي توصل إلى الفجور الذي هو ضد البر، والفجور ــــ الذي هو الانبعاث في المعاصي ـــــ يوصل إلى النّار، نجّانا الله منها، وإنّ المرء الذي يَكذب ويتكرّر صدوره منه يكتب عند الله كذّابا.

وفي آخر الزمان أخبر الصّادق المصدوق أنّالذي يُصَدَّق ويُقدّم ويرفع إنّما هو الكاذب، أما الرّجل الصّادق فيكذّب ويؤخر ويهان، والله المستعان ولعلّ الذي تنبأ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم في هذا الحديث إنما هو هذا الزمان الذي نعيش فيه، حيث انقلبت فيه الموازين وفسدت الأخلاق.

قوله: ( يُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ) جاء في الصحاح [خون] خانَهُ في كذا يَخونُه خَوْناً وخِيانَةً ومَخانَةً، واخْتانَهُ. قال الله تعالى: (تَخْتانونَ أَنْفُسَكُمْ) أي: يخونُ بعضُكم بعضاً. ورجلٌ خائِنٌ وخائِنَةٌ أيضاً، والهاء للمبالغة.([26])

قال تعالى{يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}[الأنفال 27] فمن ضيّع شيئاً ممّا أمر الله أو ارتكب شيئاً ممّا نهاه الله عنه فليس بعدل؛ لأنّه قد لزمه اسم الخيانة([27]).

وفي اللّسان: الخون أن يؤتمن الإنسان فلا ينصح.

قال القرطبي: الخيانة: الغدر وإخفاء الشيء، ومنه: “يعلم خائنة الأعين“[غافر19].

وعن مقاتل بن حيان، أنّه سأل سعيد ابن جبير عن قوله، (صلّى الله عليه وسلم): تمت ثلاث من كنّ فيه فهو منافق، وإن صام وصلّى، وزعم أنّه مؤمن: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، ومن كانت فيه خصلة واحدة ففيه ثلث النّفاق حتّى يدعها -. قال مقاتل: وهذه مسألة قد أفسدت علىّ معيشتى، لأنّى أظن أنّى لا أسلم من هذه الثلاث، أو من بعضهن، ولن يسلم منهن كثير منالنّاس، فضحك سعيد بن جبير، ثم قال: أَهَمَّنِى من هذا الحديث مثل الذى أهمك، فأتيت ابن عمر وابن عباس فقصصت عليهما فضحكا وقالا: أهمّنا والله يا ابن أخي من هذا الحديث مثل الذى أهمك، فأتينا النّبى (صلّى الله عليه وسلم)، فسألناه عنه فضحك (صلّى الله عليه وسلم)، وقال: تمت ما لكم ولهن، إنّما خصصت بهن المنافقين. أما قولي: إذا حدَّث كذب فذلك فيما أنزل الله عَلىَّ:(إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون: 1] لا يستيقنون نبوتك في قلوبهم، فأنتم كذلك؟ قلنا: لا، قال: لا عليكم، أنتم من ذلك برآء. أما قولي: إذا وعد أخلف، فذلك فيما أنزل الله عليّ:(وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ (إلى: (يَكْذِبُونَ) [التوبة: 75 – 77]، أفأنتم كذلك؟ قلنا: لا، قال: فلا عليكم، أنتم من ذلك برآء. أما قولي: إذا اؤتمن خان، فذلك فيما أنزل الله عَليّ: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ (إلى: (جَهُولاً) [الأحزاب: 72]، فكلّ مؤتمن على دينه، فالمؤمن يغتسل من الجنابة في السّر والعلانية، ويصوم ويصلّي في السّر والعلانية، والمنافق لا يفعل ذلك إلا في العلانية، أفأنتم كذلك؟ قلنا: لا، قال: لا عليكم، أنتم من ذلك برآء -.([28])

إنّ الخيانة والكذب حرام،وهي من صفات أهل النّفاق والفسق، والمؤمن من صفاته الأمانة والصِّدق، وقد أمر الله عز وجل بحفظ الأمانة وأدائها إلى أهلها وحرّم الخيانة.

قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ” وَهَذَا مَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ بَعْدَ أَنِ انْتَصَرْتَ مِنْهُ فِي خِيَانَتِهِ لَكَ، وَالنَّهْيُ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَوْ مَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الِابْتِدَاءِ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَيْسَ لَكَ أَنْ تخونه، وإن كان قد خانك كما من لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخُونَكَ أَوَّلًا ، وَأَمَّا مَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ وَأَخَذَ حَقَّهُ فَلَيْسَ بِخَائِنٍ وَإِنَّمَا الْخَائِنُ مَنْ أَخْذٍ مَا لَيْسَ لَهُ أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا لَهُ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الَّذِي يَجْحَدُ حَقًّا عَلَيْهِ لِأَحَدٍ وَيَمْنَعُهُ مِنْهُ ثُمَّ يَظْفَرُ الْمَجْحُودُ بِمَالِ الْجَاحِدِ قَدِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَجْحَدَهُ إِيَّاهُ، وَاحْتَجُّوا بظاهر قوله:” أدّ الأمانة إلى من ائمتنك،وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ”، وَقَالَ آخَرُونَ: لَهُ أَنْ يَنْتَصِفَ مِنْهُ، وَيَأْخُذَ حَقَّهُ “.([29])

وقد رتب الشارع الحكيم عقابا شديدا لهما في الدنيا والآخرة، قال صلّى الله عليه وسلم: “المكر والخديعة والخيانة في النّار”([30])

قَوْله:(وينطقفِيهَاالرويبضة): (الرويبضة) تصغيررابضة،وهوالعَاجزالذيربضعنمعاليالأُمور،وقعدعنطلبها. وتاؤهللمبالغة.  وتَفْسِيرهمَامرّمنحَدِيثأنس،قُلْنَايَارَسُولاللهمَاظهرفِيالْأُمَمقبلنَا؟قَالَ:الْملكفِيصغاركموالفاحشةفِيكباركموَالْعلمفِيرذالتكموَالرَّجلالتَّافهالرّذيلوالحقير.([31])

عن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ، جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ وَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ، قَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟ » قَالَ: هَا أَنَا ذَا، قَالَ:  «إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ، فَانْتَظِر السَّاعَةَ»، قَالَ: فَمَا إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَ اشْتَدَّ الْأَمْرُ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»([32])

وفي رواية البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»([33])

وَمَضْمُونُ مَا ذُكِرَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْأُمُورَ توكل إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَنْ سَأَلَهُ، عَنِ السَّاعَةِ:” «إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» “، فَإِنَّهُ إِذَا صَارَ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ رِعَاءُ الشَّاءِ – وَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ وَالْجَفَاءِ – رُؤُوسَ النَّاسِ، وَأَصْحَابَ الثَّرْوَةِ وَالمال، فَإِنَّهُ يَفْسَدُ بِذَلِكَ نِظَامُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وتضيع الحقوق، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُعْطِي النَّاسَ حُقُوقَهُمْ، بَلْ يَسْتَأْثِرُ عَلَيْهِمْ بِمَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لِأَنْ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى فَمِ التِّنِّينِ، فَيَقْضِمُهَا،خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَمُدَّهَا إِلَى يَدِ غَنِيٍّ قَدْ عَالَجَ الْفَقْرَ. وَإِذَا كَانَ مَعَ هَذَا جَاهِلًا جَافِيًا، فَسَدَ بِذَلِكَ الدِّينُ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ هِمَّةٌ فِي إِصْلَاحِ دِينِ النَّاسِ وَلَا تَعْلِيمِهِمْ، بَلْ هِمَّتُهُ فِي جِبَايَةِ الْمَالِ وَاكْتِنَازِهِ، وَلَا يُبَالِي بِمَا فَسَدَ مِنْ دِينِ النَّاسِ، وَلَا بِمَنْ ضَاعَ مِنْ أَهْلِ حَاجَاتِهِمْ. ([34])

وخلاصة القول: لقدتنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم بما يقع من فتن آخر الزمان، حيث اختلت الموازين وشاعت الخيانة والكذب في أغلب النّاس بعد أن كانت منحصرة في المنافقين، فالكاذب يُصدّق والصّادق يُكذَّب، والخَائِن يُؤتمَن والمؤتمن يُخوَّن، وتَصَدَّرَ المجالس والوظائف السُّفهاء والسَّفَلَة، وتغيرت الأحوال وكثرت المظالم وانتشرت في المجتمع، وضاعت الأمانة، وطال الفساد جميع فئات المجتمع.

خامسا: الفوائد والأحكام المستنبطة من الحديث:

-في الحديث الإخبار بأنّه سيأتي على النّاس زمان تفسد فيه أخلاق النّاس.

– في الحديث من علامات الساعة: تكذَّيب الصادق وتصديق الكاذب.

– وفيه أيضا أنّمِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ الصُّغْرَى تَخْوِينُ الْأمِينِ وَتَأْمِينُ الْخَائِن.

– تضمّن الحديث صور وأحوال فساد الزمان، ولعلَّه هذا الزّمان نسأل الله العافية وحسن الأحوال.

-الرُّوَيْبِضَةُهو الرَّجُلُ التَّافِهُ والخسيس،يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ.

-وفيه تولّي الرويبضة أمر العامة والتكلّم في أمرهم.

 

-دلّ الحديث على أنّ الأمور توسد إلى غير أهلها بين يدي الساعة،وقد قال صلّى الله عليه وسلم:”إذا وسّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة”.

ــــــ ودلّ أيضاعلى قيمة العلم الشرعي، فمن أعظم أسباب الفتن الجهل؛ لأنّ الجاهل بأمر دينه لا يستطيع أن يفرّق بين الحق والباطل والحلال والحرام ممّا يوقعه في الإثم والفتن من حيث لا يدري، قال تعالى:“وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً “([35])

فهذا الحديث تحصين للمسلم في زمن شاعت فيه الفتن واختلّت الموازين، فلا ينخدع المؤمن ويسأل الله تعالى دائما أن يريه الحقّ حقّا ويرزقه اتباعه ويريه الباطل باطلا ويرزقه اجتنابه.ويحرص على التثبت في ذلك،فلا يأْتَمِن إلا الأمين ولا يُخَوِّن إلا الخائن ولا يُصَدِّق إلا الصَّادق ولا يُكَذِّب إلا الكَاذب.

كما أنّه دعوة إلى حفاظ الأسرة على فطرة الإنسان التي فطر النّاس عليها، ودعوة إلى حرص الدعاة على إصلاح القلوب قبل العقول لحديث” ألاَوَإِنَّفِيالجَسَدِمُضْغَةً: إِذَاصَلَحَتْصَلَحَالجَسَدُكُلُّهُ،وَإِذَافَسَدَتْفَسَدَالجَسَدُكُلُّهُ،أَلاَوَهِيَالقَلْبُ”، ودعوة إلى الحرص على حسن الخلق وتنشئة النّشء عليه.” اللّهم إنّا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحُبّ المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون”.([36])

 

 

([1])سنن ابن ماجه تحقيقالأرنؤوط (5/ 162)، قال الألباني: صحيح.

([2])أخرجه ابن ماجة في باب شدة الزمان عن أبي هريرة، برقم: 4036)وقالالشيخ الألباني: صحيح. وأخرجه أحمد برقم (7912).

 

([3])المستدرك على الصحيحين للحاكم (4/ 512)  [التعليق – من تلخيص الذهبي] 8439 – صحيح.

([4])المسند الموضوعي الجامع للكتب العشرة (2/ 199)، قال الألباني: صحيح لغيره – “الصحيحة” (3211).

([5]) لسان العرب: 13/ 405_501.

([6]) لسان العرب: 13/501.

([7])تاج العروس:36/407.

([8])معجم لغة الفقهاء لمحمد رواس قلعجي(ص: 250).

([9])معجم لغة الفقهاء لمحمد رواس قلعجي(ص: 250).

([10])العين للخليل بن أحمد الفراهيدي، تـ  مهدي المخزومي :7/37.

([11])لسان العرب، 3/68.

([12])معجم مقاييس اللغة لابن فارس، تحقيق عبد السلام هارون، طبعة دار الفكر: 2/477.

([13])الفائق في غريب الحديثللزمخشري:  2/27.

([14])حاشية السندي على سنن ابن ماجة باب شدّة الزمان(2/494).

([15])كتابالفتن من شرحصحيحالبخارىلابنبطال (10/207).

([16]) لكع بمعنى الخسيس، اللئيم، الوضيع والدنيء.

([17])جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم لابن رجب البغدادي، (ص139) تحقيق الأرنؤوط.

([18])جامع العلوم والحكم  (ص143) ، تحقيق محمد الأحمدي.

([19])فتح الباري لابن حجر العسقلاني (13/84).

([20])المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده (6/ 189)

([21])المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 335)

([22])طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية لعمر نجم الدين النسفي (ص: 64)، نشر 1311ه.

([23])مشارق الأنوار على صحاح الآثار (2/ 40).

([24])موطأ مالك تحقيق الأعظمي (5/ 1440)

([25])صحيح مسلم (4/ 2013).

([26])الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (5/ 2109).

([27])معالم السنن باب من ترد شهادته (4/ 168).

 

([28])شرح صحيح البخارى لابن بطال، باب علامة المنافق (1/ 93).

([29])التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (20/ 159).

([30])قال الحافظ في “التغليق” 3/ 246، وفي “الفتح” 4/ 356: في إسناده مقال. لكن قال الألباني في “الصحيحة” 3/ 47: إسناده حسن، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير سنان بن سعد. والحديث بمجموع طرقه السالفة صححه الألباني في “الصحيحة” (1057) قاطعًا بذلك.

 

 

 

([31])شرحسننابنماجهللسيوطيوغيره (ص: 292).

([32])صحيح ابن حبان – مخرجا (1/ 307)، قال الألباني:صحيح.

([33]) صحيح البخاري (8/104).

([34])جامع العلوم والحكم تحقيقالأرنؤوط (1/ 139).

([35])النساء الآية 83.

([36])هذا من الدعوات المأثورة عنه صلّى الله عليه وسلم في هذا الزّمان، صحيح.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.