الرعوية في الخطاب السياسي الإسلامي -عمر بن الخطاب- أنموذجاً- د. موفق سالم نوري – العراق
الرعوية في الخطاب السياسي الإسلامي
عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنموذجاً
أ.د. موفق سالم نوري
العراق / جامعة الموصل / كلية الآداب
الملخص
تناول البحث المضامين الفكرية لمفهوم الرعوية الذي ساد استخدامه في الخطاب السياسي الاسلامي المبكر والوسيط, اشتمل البحث على مدخل عام وثلاثة محاور, تناول المدخل العام مفهوم الخطاب السياسي فضلاً نظرة بعض الفئات المعاصرة للخطاب السياسي الاسلامي وحيثيات توجهاتها السالبة نحو هذا الخطاب. ثم تتابع الحديث عن مفاصل الخطاب السياسي فيما يخص الرعوية كما تعاطى معه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ثلاثة مستويات من الخطاب.
جاء الخطاب الأول موجهاً صوب الذات, وفيه أفصح عمر رضي الله عنه عن تصوراته تجاه نفسه وقدراتها الخاصة في الإدارة والحكم, وتصوراته تجاه الأمة وما ينبغي عليه نحوها بصفته خليفة للمسلمين.
أما الخطاب الثاني فتعلق ببنية الحكومة وبرنامجها العملي في القيام بأمر الأمة وشؤونها المختلفة, وفي هذا الخطاب بين عمر رضي الله عنه المبادئ التي بنى عليها حكومته وبرنامجها العملي, مفصلاً نمط العلاقة التي ينبغي أن تقوم بينهما, أي بين الحكومة والأمة.
أما الخطاب الثالث فخص به الكيفية التي يجب على أساسها بناء أمة قادرة على تقرير مصيرها ومراقبة حكامها, أمة ذات فاعلية عالية لا تتردد في تقويم مسيرة الحكومة, ومنع زيغها أو انحرافها عما يجب شرعاً. وفي الخاتمة تم بيان أبرز النتائج التي خرج بها البحث.
Pastoralism in Islamic Political Discourse
Omar ibn al-Khattab, may Allah Al-Mighty bless him, as a model
Prof. Dr. Muwaffaq Salem Nouri
The research dealt with the intellectual implications of the concept of pastoralism, which was prevalent in Islamic political discourse .Early and Middle Ages. The research included a general introduction and three axes. The general introduction dealt with the concept of political discourse. As well as the view of some contemporary groups on Islamic political discourse and the reasons for their negative orientations towards this Discourse. Then the discussion continued about the joints of political discourse regarding pastoralism as Omar ibn al-Khattab, may God be pleased with him, dealt with it in three levels of discourse. The first discourse was directed towards the self, in which Omar, may God be pleased with him, expressed his perceptions of himself .And his special abilities in administration and governance, and his perceptions of the nation and what he should do towards it in his capacity as Caliph of Muslims. The second speech was related to the structure of the government and its practical program in carrying out the affairs of the nation and its various matters. In this speech, Omar, may God be pleased with him, explained the principles on which he built his government and its practical program, detailing the type of relationship that should exist between them, that is, between the government and the nation. As for the third speech, he devoted it to the method on the basis of which a nation capable of determining its destiny and monitoring its rulers should be built, a nation with high effectiveness that does not hesitate to correct the course of the government and prevent its deviation or deviance from what is required by the Sharia. In the conclusion, the most prominent results of the research were stated.
مدخل عام
من المعروف أن الخطاب السياسي تركيب قصدي موجه يتكون من جُمل، يُراد به تحقيق نوع من التأثير في جمهور المتلقين، بغية إقناعهم بأهداف أو برامج أو سياسات أو قرارات أو أفكار يسعى أصحابها إلى تحقيقها، وغالباً ما ينطوي هذا الخطاب على نوع من الشروحات التفصيلية، أو عمليات تحليل أو حتى إثارة. كما لم يعد الخطاب السياسي يقتصر على النصوص – مكتوبة أو شفاهية – فتتداخل الممارسات العملية مع الخطاب النصي لتؤدي جوانب معينة من التدعيم أو البيان. وكل ذلك يشتبك مع بعضه ليصل السياسي عِبره إلى غاياته في تحريك الجماهير أو تسكينها أو كسب تأييدها ودعمها. وذلك ما يتطلب وسائل حِجاج أو إقناع تتوقف على براعة صاحب الخطاب وثقافته ومدى ما ينطوي عليه شخصه من كارزما، التي تعد بحد ذاتها عاملاً مهماً في قبول الخطاب من عدمه.
وثمّ قطاع واسع من المثقفين والمتعلمين يجد صعوبة كبيرة في تقبل مفاهيم الإسلام التي انطوى عليها خطابه السياسي، إما تحت تأثيرات ثقافية وحضارية عصرية أنتجتها بيئات بلغت درجة عالية من الرقي المادي والتقني كالغرب مثلاً، حتى بات متلازماً في أذهان هؤلاء أن ما بلغته تلك البيئات من رقي كان بفضل الفلسفات والرؤى والأفكار الوضعية التي شكلت مرجعياتها في القول والعمل، وإنه إذا ما أردنا بلوغ ما بلغوه وجب علينا الأخذ بمناهجهم وبرامجهم الفكرية تلك في جوانبها كافة، وربما بدت في أذهان هؤلاء أن مفردات الخطاب السياسي الإسلامي باتت عتيقة عفى عليها الزمن. بل إن الخطاب السياسي الإسلامي المعاصر – في نظرهم – لم يتخلص من تلك المفاهيم وبقى قابعاً تحت أسرها. وسوف نرى هنا كم من البهتان وقع على مفاهيم الخطاب السياسي الإسلامي الأول. ذلك البهتان الذي يمكن أن يُقال فيه أن صاحبه لم يكلف نفسه عناء البحث – حقيقة – في مفاهيمه, وهو بذلك ينطوي على جهل، أو ربما عداء لهذا الخطاب أوجبه تبني الخطاب الغربي الحداثوي والتزامه، ولاسيما أنه يصعب إيجاد مشتركات أو حتى مقاربات من نوع ما بين الخطابين الغربي والإسلامي، وتحديداً عند الدخول في التفاصيل. وقد يكون الدافع وراء هذا الموقف ما أحدثته بعض تجارب الإسلام السياسي المعاصرة من ردود أفعال سالبة, وما تركته وراءها من ندوب يصعب تجاوزها على مستوى المفكرين والجماهير على حد سواء, عادّين أن هذه التجارب ما هي إلا صدى للخطاب السياسي الإسلامي الأول, وهو ما اكتنف على حيف كبير.
وربما كان مفهوم الرعوية من أكثر المفاهيم التي وقع عليها هذا الحيف، ولاسيما أن الدلالة الظاهرة التي تتبادر إلى الذهن لأول وهلة توحي بأن المفهوم ينتمي إلى بيئة ( حرفة الرعي ) تلك الحرفة أو البيئة التي تفصلها عن عالم اليوم المتمدين والمتحضر مسافات شاسعة جداً من الزمن أو التبدل الحضاري؛ وهكذا راح هذا المفهوم يتعرض للنقد الشديد واللاذع من لدن كثيرين، منه مثلاً القول: (( لابد أن نُذكِّر هنا بالتشابه بين رعايا الدولة ورعايا أبرشية معينة أو رعايا الكنيسة ليكشف عن الدلالات الأعمق غوراً لمفهوم الرعية. أما في اللغة والتراث العربيين فلابد من الذهاب إلى مفهوم الراعي والرعية، والرعية في جميع الأحوال هو التابع الخاضع الذي لا إرادة له ولا حول ولا طَول، ولا تزال هذه الدلالة تبطن مفهوم المواطن في الفكر الإسلامي وايديولوجية الجماعات الإسلامية والجماعات القومية أيضاً، ولاسيما تلك التي تتماهى لديها العروبة بالإسلام السُنّي خاصة ))([1]). أو القول: (( في الحقيقة ينحدر هذا المفهوم الرعوي من الطابع الأبوي للسلطة، والذي بناءً عليه يُعد الحاكم أباً والشعب مجرد رعايا أو أبناء لهذا الحاكم، ومن يجرؤ على معارضة أبيه أو مخالفته؟! ))([2]). وكلا القولين نبّه من طرف خفي مبطن على أن مفهوم الرعوية غير بعيد عن مفهوم القطيع, فهو تابع خاضع من دون حول ولا قوة، لا يعارض ولا يعترض ولا ينتقد، بل إنه يُساق نحو مصيره سَوقاً مسلوب الإرادة، لأنه لا يعقل ولا يفهم ولا يُدرك أين تكمن المصلحة، وأن الذي يدركها هو الحاكم ( = الراعي ) وحده. وهكذا عاشت الشعوب تحت مفهوم الرعوية مسلوبة الإرادة مهمشة مركونة جانباً. وإذا كان هذا شأن الرعية، فإن شأن الراعي هو أنه الحاكم المستبد المتسلط المتملك لكل شيء في قطيعه أو يعود له!! إنه يملك الرقاب والأموال, بل هو يُحيي ويُميت أيضاً! ولا أنكر أننا قد نجد مثل هذه التصورات فعلاً في ثنايا بعض أوجه الخطاب السياسي الديني أو القومي العربي المعاصر وفي تجارب الأمة التاريخية, لكن الحق أنه ليس لأحد الزعم أن هذا هو مُراد النص أو المرجعيات الشرعية المتمثلة بالكتاب والسُنّة, فليس هذا مُراد الخطاب السياسي الأول قطعاً.
فلنبحث في مدى توافق مثل هذه التصورات مع حقيقة الخطاب السياسي الراشدي، وبالتحديد مع الخطاب السياسي للخليفة عمر بن الخطاب t ولاسيما أنه عُرف بشدته وصرامته وحزمه، التي ربما فهمها بعضهم على أنها مثلت الاستبداد والتجبر، فهل كان الأمر كذلك فعلاً؟ هذا ما سنتبينه في خطابه السياسي على مستوى النص والممارسة؟
وفي كتابي الموسوم ( القول الجلي من كلام عمر وعلي ) أحصيت لعمر t ( 584 ) عبارة قصيرة و ( 136 ) محاورة و ( 90 ) رسالة وكتاباً موجهة إلى عماله وولاته و ( 47 ) خطبة ووصية شفهية. وفي كتابي الموسوم ( أخلاقيات الحكم في الإسلام / عمر بن الخطاب أنموذجاً ) رصدت الأسس التي ارتكزت عليها سياسة عمر t في إدارة شؤون دولته، تلك الدولة التي كانت في سعتها امبراطورية توزعت اليوم على ما يقرب من عشرين دولة صغيرة وكبيرة، وكانت بالأمس – كما هي اليوم – أغنى بقاع العالم في مواردها ومعطياتها المادية. تُرى كيف ساس عمر t رعيته هذه؟! وعلى أية اعتبارات بنى تصوراته عنها؟
في الإطار العام قيل في الخطاب الراشدي السياسي أنه: (( خطاب عقل، وحرية وعدل، وكان امتداداً للخطاب النبوي في السياسة والحركة والعمل للدين ))([3]). و(( إن النموذج الراشدي له بريق وصدى في المخيال الشعبي عند عامة الأمة، فما يزال العدل يُذكر إلا ويُذكر عمر الفاروق، وما زالت الأمة تتوق لعدل الخلفاء الراشدين وسيرتهم وسُنّتهم في سياسة الأمة، وهو ما يجعل النموذج الراشدي أقرب لمخاطبة وجدان الرأي العام الإسلامي من أي نموذج آخر، هذا في الوقت الذي لم يجد النموذج الديمقراطي الأثيني أي صدى في المخيال الشعبي الأوربي، بل ظل محصوراً في دائرة المفكرين والسياسيين في عصر النهضة الأوربية! ))([4]).
الخطاب الأول: خطاب الذات
جاء الخطاب الأول لعمر t موجهاً إلى نفسه مُعرفاً إياها ومُعرفاً بها فيما هي عليه وفيما ينبغي أن تكون, فمعرفة الذات وما تنطوي عليه من خصائص شأن مهم للغاية لكي يأخذ منهاج الحكم الشرعي سبيله الصحيح في الأمة واقعاً حقيقياً وليس تصورياً وحسب. وهو ما أفصح عنه عمر في مناسبات عدة.
ولعل أول ما يطالعنا في هذا الجانب تلك الثقة الكبيرة التي وجدها عمر t في نفسه في أنه الأقوى والأقدر على إدارة شؤون الدولة وبما يحقق مصلحة الأمة، غير إننا سنجد أن هذه الثقة العالية بالنفس لم تكن غروراً, ولم تبعث فيه الإحساس بالنرجسية والتفوق الذي يجعله يجاوز طوره؛ إنه فرد من هذه الأمة لا أكثر, ابتلاه الله تعالى بأن شاءت الأقدار لتضعه على رأس هرم السلطة فيها, ولكنه وجد نفسه أهلاً لذلك.
وفوق ذلك – وربما أهم منه – فإن هذه الثقة بالنفس لم تكن حائلة دون مشاركة الأمة حقيقة في إدارة شؤون الدولة، فكونه الأقدر والأقوى وربما الأعلم كلها ليست مسوغاً للتفرد بالقرار والاستبداد به, فقال في شأن هذه الثقة والقوة في خطبة له: (( يا أيها الناس! إني قد وُلّيت عليكم، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم، وأقواكم عليكم، وأشدكم استصلاحاً بما ينوب من مهم أموركم، ما توليت ذلك منكم ))([5]). غير أن عمر أدرك في الوقت نفسه أن هذه الميزة ليست سوى واحدة من أدوات الحكم ولوازمه، وليست باباً للعظمة والتجبر والتفرد, كما أدرك أنه ليس سوى امرؤ ضعيف أمام جبروت الله تعالى: (( وإني امرؤ مسلم وعبد ضعيف إلا ما أعان الله عز وجل، ولن يغير الذي وُلّيت من خلافتكم من خُلقي شيئاً إن شاء الله، إنما العظمة لله عز وجل وليس للعباد منها شيء ))([6]).
وهنا نجد إدراك عمر t لمواطن الحاجة إلى القوة, ومنها أن أي حاكم ستحيطه بطانة أو حزب أو قرابة أو أعوان يسعون لأن يجعلوا منه وسيلة إلى مكاسب غير مشروعة ما استطاعوا إلى ذلك من سبيل، وأحب أيضاً أن ينبه على ذلك من سيلي الحكم من بعده بعدما علّمته الخبرة والفراسة والتجربة هذه الحقيقة (( ليعلم من ولي هذا الأمر من بعدي أن سيريده عنه القريب والبعيد، إني لأقاتل عن نفسي قتالاً، ولو علمت أن أحداً من الناس أقوى عليه مني، لكنت أقدم فتُضرب عنقي أحب إليّ من أن أليه ))([7]).
وموطن القوة الآخر الذي وجده في نفسه هو عند إحقاق الحق (( وأعطوا الحق من أنفسكم، ولا يحمل بعضكم بعضاً على أن تحاكموا إليّ، فإنه ليس بيني وبين أحد من الناس هوادة ))([8]), فهو ينصح رعيته بأن لا يتعادون في الحقوق فيشتكون إليه, فإنه سيكون عندها حازماً وشديداً في الحق, وفي ذلك تنبيه على أنه لن يجامل أحداً ممن حوله – أياً كانت صفته – في إحقاق الحق, ولهذا شاع القول: (( ما ترك الحق صديقاً لعمر )).
ومن هنا فإن ما استشعره عمر في نفسه من قوة لم يجعل منه جباراً متسلطاً، بل هو رجل مؤتمن على أن يحقق للناس حقوقهم (( إني والله! ما أنا بالملك فاستعبدكم، وإنما أنا عبد الله عرض عليّ الأمانة، فإن أديتها ورددتها عليكم واتبعتكم حتى تشبعوا في بيوتكم وترووا سَعدت، وإن أنا حملتها واستتبعتكم إلى بيتي شَقيت، ففرحت قليلاً وحزنت طويلاً، وبقيت لا أقال، ولا أرد فاستعتب ))([9]). وقوله أيضاً: (( وألا يبقى أحد من المسلمين – وإن كان في بيته – إلا أتاه حقه ونصيبه من مال الله ))([10]), فهو لا ينتظر حتى يأتيه أصحاب الحقوق يطرقون بابه يستجدون حقوقهم، بل يسعى بنفسه حتى يؤديها إلى أصحابها، وقد حفظوا ماء وجوههم, وهذا بحق من أعظم ما يمكن أن يحققه حاكم لرعيته فيحفظ به حقوقهم وهم مكرمون وليسوا مهانين المهانة التي عليها المواطن اليوم في معظم الدول الشرق أوسطية , إنه بسياسته هذه يحفظ الكرامة التي أكرم الله تعالى به بني آدم جميعاً, فكثيراً ما كان يباشر أداء الحقوق إلى أصحابها بنفسه فعلاً، فقد حمل دواوين العطاء إلى مضارب القبائل مؤدياً إليهم نصيبهم من عطاء بيت المال(([11]. ولم يغب عنه أهل الأمصار البعيدة، فحرص على أن يولي عليهم من يؤدي حقوقهم أيضاً بالسياقات نفسها (( فمن كان بحضرتنا باشرناه بأنفسنا، ومهما غاب عنا وليناه أهل القوة والأمانة، فمن يُحسن نزده حسناً، ومَن يُسيء نعاقبه ))([12]). ويشير هنا من طرف خفي إلى قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ﴾([13]), فالقوة ضرورة لازمة لإحقاق الحقوق عندما تتلازم هذه القوة مع الأمانة, ولا يخفى أن معنى القوة هنا لا يشير إلى القدرة والاستطاعة وحدهما, بل يعني بها الكفاءة أيضاً التي تنطوي على المعرفة والخبرة في العمل على الوجه الأمثل. وفي غالب الأحيان لم يكن عمر يشير إلى النص القرآني أو الحديثي مباشرة، بل يعكس معانيهما في سياسته العملية, فهو يستلهم معاني الكتاب والسُنة ويتشربهما في قوله وعمله, فيجعل من فعله وعمله دليلاً إليهما.
أما مسألة الاستعباد التي أشار إليها عمر t في قوله : (( ما أنا بالملك فاستعبدكم )) فقد عززتها قولته المشهورة التي خاطب بها بعض عماله لما وجد منهم زيغاً في السياسة والإدارة بقوله: (( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ))([14]). حتى كانت هذه المقولة على مدار التاريخ شعاراً لحقوق الإنسان وحريته وكرامته. فهو ينفي عن منهجيته السياسية أسلوب الغطرسة والتجبر والتعالي ولا يريد التجاوز على فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها بأن خلقهم أحراراً, وينبغي احترام هذه الحرية وعدم التجاوز عليها بأي قدر مهما كان يسيراً, ووجدناه يدفع مَن وقع الاعتداء على حريته ليقتص بنفسه ممن تجاوز عليها, تأكيداً للأمة بأن حريتها وحرمتها مصانتان في دولة يحكمها عمر بن الخطاب على وفق شرع الله تعالى.
كما إن من أبرز ما يطالعنا في الخطاب السياسي لعمر t إنه وضع نفسه – بعد أن نفى عنها التجبر والتسلط والتفرد – في منزلة لا تعلو عن منزلة مواطنيه في شيء، ومما قاله في ذلك: (( إذا كنتُ في منزلة تسعني وتعجز عن الناس، فوالله ما تلك لي بمنزلة حتى أكون أسوة للناس ))([15])، وقال أيضاً: (( بئس الوالي أنا إن شبعت والناس جياع ))([16])، فهو يشبع إن شبعت الأمة ويجوع إذا جاعت, ومنصبه لا يمنحه استثناءً من ذلك, فلا يؤثر نفسه ولا يستأثر على الأمة بذريعة مستلزمات المنصب والوظيفة. ولما كانت له حاجة عند زيد بن ثابت ذهب إليه في بيته، فقال له: يا أمير المؤمنين! لو أرسلت إلي جئتك! فرد عليه بقوله: إنما الحاجة لي([17])، ولكان شرفاً عظيماً لأي شخص يرسل في طلبه رئيس الدولة! لكن ليس مثل عمر مَن يستغل موقعه ليؤسس لنفسه مجداً شخصياً وأبهة عظيمة وعلواً يتجبر به على الناس, إنه من سلالة البشر الطينية عينها وليس من سلالة ترتقي فوقهم. وفي علم الاجتماع السياسي فإن أصحاب السلطة والحكم إذا طال بهم المقام على كرسي السلطة انتهوا إلى أنهم يرون أنفسهم من طينة أخرى غير طينة سائر البشر ولاسيما الذين يتوارثون الحكم بينهم, بل أن منهم من أشار إلى نسب من نوع ما يربطه مع الآلهة, بيد أن عمر لم يقع في هذا الشَرَك, فلم يطرأ على تصوراته أي تغير بخصوص طبيعته البشرية, وقياساً على ذلك فإنه لم يضع نفسه فوق الشريعة وأحكامها، فهو في الأحوال كلها ليس سوى رجل من المسلمين يشاطرهم تكاليفهم الشرعية، وليس له امتياز يعلو به فوقهم، فلما بحث عنه الهرمزان وجده يتفيأ جدار المسجد متوسداً شيئاً ما ليغفو بهدوء([18]), وليس مثل عمر يجهل أن بوسعه اتخاذ الأبهة والرياش والطنافس والسجاجيد الفاخرة ليتنعم بنعيم المُلك مما كان عليه الملوك, ولم يكن ليعجزه إيجاد المسوغ الذي يسوغ له لذك, وقد فعلها معاوية في الشام في أيام عمر بالذات وكانت له مسوغات تركت عمر ساكتاً عنه, ولكنه آثر أن لا يفعل, ووجد أن اقتفاء أثر ما سار عليه سلفيه – النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه – أسلم له في دنياه وآخرته فاختار منهجهما.
ومن عجيب منهجية عمر أنه يسعى بنفسه لكي ينبه الأمة على ما عليه من خصائص يجب أن يتمثلها في سياسته, وهو ما نجده في مناسبات عدة, منها – فيما يتعلق في كونه واحداً من هذه الأمة وليس أكثر – حواره مع عبد الرحمن بن عوف, قال عمر: أرأيتَ لو رأيتُ رجلاً يقتل أو يسرق أو يزني؟ فقال عبدالرحمن: أرى شهادتك شهادة رجل من المسلمين – يعني رجلاً واحداً – فقال عمر: أصبت([19]) , فموقعه على رأس السلطة لا يمنحه استثناءات غير التي حددتها تكاليف الشريعة الإسلامية, فشهادته لا تنوب عن شاهد آخر يقتضيه الشرع الحنيف, فمنصبه لا يخوله القفز من فوق هذا الشرع. بل هو تابع خاضع له كبيقة المسلمين لا غير.
إن هذه المنهجية في التعاطي السياسي هي عينها ما مكنته من تحسس أوضاع رعيته وما ينوبها أو ينقصها، وعبر عمر عن دقة تحسسه لأوضاع المسلمين بقوله: (( إذا أنا لم أعلم ما لم أرَ، فلا علمت ما رأيت ))([20])، وذلك ما يؤهله لأن يكون المسؤول المباشر عن كل أمر في حياة رعيته حتى وإن تعلق الأمر بشاة عثرت في أي أرض من بلاد المسلمين, ثم ليشكل ذلك عاملاً مهماً من عوامل تصويب أي خلل في حياة الناس. فهو كله يقع تحت مسؤوليته، لا يعفيه منه وجود مسؤولين آخرين في الأمصار والأقاليم، فلهؤلاء سطوة على الناس، وهو صاحب السطوة عليهم، فإن لم يتتبع عملهم، كان ذلك مصدر قلق على أوضاع الأمة, فالولاة والعمال هم أرفاد لا يزكيهم إلا الله تعالى, ومن ثم قد يقع منهم الخطأ والظلم والتعدي, وموقعهم الوظيفي لا ينفي مسؤولية الخليفة عن ثمار سياساتهم, وعليه فهو ليس بمنأى عن المسؤولية بذريعة: لم أكم أدري ولم أكن أعلم! بل هو يجب أن يعلم, وإلا فعليه أن يتنحى ليحل محله من عليه أن يعلم ولا يغيب عنه شيء من أمر الأمة, قريبها وبعيدها, صغيراً كان أو كبيراً هذا الأمر.
ثم لننظر كيف نبه عمر t الأمة على ضرورة مراقبته ومتابعته على حقيقة مسؤوليته، فقال مخاطباً الأمة يوم توليه الخلافة: (( أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ))([21]), فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم قواعد العمل الإسلامي, وليس الحاكم بمستثنى من الخضوع لها بحال, وإذا كان ثمّ احتمال أن تغفل عنها الأمة, أو لا تجرؤ على استخدامها مع عمر هيبة منه, فإنه يحض على استخدامها معه ضرورة للحفاظ على خصائص الأمة الإسلامية, إنه يؤكد لأمته أنه واحد من المسلمين لا غير, يخضع لما يخضعون له, لا تعصمه من ذلك أية استثناءات. ولو كانت الأمة في نظره قطيعاً فحسب ما عمد إلى مثل هذا التنبيه, لأن من برى رعيته قطيعاً وحسب فإنه لا يراها أهلاً للأمر والنهي.
وفي مناسبة تحريضية أخرى وفي سياق مماثل قال عمر لمن حوله: أرأيتم إن استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل، أقضيت ما عليّ؟ قالوا: نعم، قال: لا، حتى أنظر في عمله، أعمِل بما أمرته أم لا؟!([22])، فإن لم يفعل عمر ذلك، ماذا قال عن نفسه؟ قال: (( أيما عامل من عمالي ظلم أحداً، ثم بلغتني مظلمته، فلم أغيرها، فأنا الذي ظلمته ))([23]). وإنه لمن الصعوبة بمكان أن تجد اليوم حاكماً يقر لنفسه بمثل هذه المسؤولية الثقيلة التي أقلقته حتى بات النوم عزيزاً عليه (( لئن نمت بالنهار لأضيعن رعيتي، ولئن نمت بالليل لأضيعن نفسي، فكيف النوم مع هذين !؟ ))([24])، وليس النوم وحده الذي وجب عليه مغالبته حتى ينجز كامل ما عليه من مسؤوليات وأعباء، بل عليه مغالبة الغفلة أيضاً وهي بحق أخطر من النوم, فمن هذا الذي يستطيع أن لا يغفل أبداً؟! لذا توجب عليه أن يكون حذراً متيقظاً (( لست بخب، ولا يخدعني الخب ))([25])، وهذه موازنة رائعة أدركها عمر t بما امتلكه من بصيرة نافذة، فهو ليس بمخادع ولا مراوغ، وهو في الوقت نفسه يُدرك جيداً أساليب الخداع والمراوغة والاحتيال، ولا يفوته او يغلبه منها شيء, وامتلك من الخبرة والفراسة وعمق البصيرة ما منع أن تنطلي عليه مثل هذه الأساليب، وهو ما أعانه فعلاً على إدراك عمق مسؤوليته والأمانة التي يتحملها, ومن ثم القيام بها على خير وجه. وكل ذلك يؤكد ما تقدم أن ولي الأمر يتحمل كامل مسؤولية الأمة, مهما قام معه من وكلاء وأعوان وولاة وعمال, إذ لا ينبغي أن يغيب عنه شيء من أرهم, في سرهم وجهرهم.
غير أن عمر t ليس بالرجل المعصوم، ولا هو بالرجل الذي يمتلك قدرات فوق بشرية تمكنه من الإحاطة بكل شيء، فهو – مهما بلغت قدراته الذهنية – واحد من الناس، يمكن أن يصيب في رأيه ويمكن أن لا يصيب، وحقوق الأمة ومصالحها لا تحتمل رهانات الخطأ والصواب، من هنا بدا له أن لا يكون منفرداً مستبداً بقراراته، إنفاذاً لأحكام الكتاب والسُنّة في هذا الشأن، ثم لماذا هذا التفرد بالمسؤولية؟ فالإنسان – مهما بلغت قدراته الخاصة – ليصيبه العجز أحياناً، وحقوق الأمة ومصالحها لا تحتمل أيضاً السقوط في العجز تحت وهم التفوق المطلق والقدرات الاستثنائية، فلم يكن من سبيل لتلافي كل هذه الاحتمالات سوى اللجوء إلى الشورى, فكانت الشورى ديدن عمر في سياسته، حتى شكلت الركيزة الأكثر أهمية في برنامج عمله، إذ إن ممارسة هذه القاعدة امتدت إلى الجوانب الخطيرة والمصيرية في حياة الأمة، كما شملت الجزئيات اليسيرة في الوقت نفسه. وهو ما سنتبينه في الخطاب الثالث. إذن فإحساسه بالتفوق والقدرة على القيام بأعباء المسؤولية لم يمنعه من الاستعانة بالآخرين في قراراته.
ثمة مسألة أخرى في سياسة عمر t تتعلق بموقفه من المال العام، فما أن تولى عمر الخلافة حتى توالت الفتوحات في كل الجبهات، وكان من أبرز معطياتها حصول المسلمين على مقادير هائلة من الغنائم من كل شيء، حتى إن خُمسها الذي هو نصيب بيت المال كان هائلاً، هذه الأموال الطائلة التي تكدست في بيت المال لم يكن لها سجل يضبطها أو قوائم تحصيها، وتلك – ولا ريب – فرصة لمن يريد أن يغتني أن لا يفوتها, فلا وثائق تدين ولا محاسبة عامة تتابع أوجه الصرف؛ أما اليوم فإن وسائل الضبط المالي والمتابعة والملاحقة من الدقة والتعقيد والتشابك ما يصعب معه – افتراضاً – الانتفاع من المال العام انتفاعاً غير مشروع، ومع ذلك فإنه تتكشف في كل يوم عمليات فساد ينتفع منها رجالات الحكومة في مستوياتهم المختلفة بما هو فادح جداً. غير أن عمر لم يفعل مثل هؤلاء، فلما تكدست أمامه الأموال بكى وقال: إن الذين أدوا هذه الأموال لذوو أمانة، فقال له علي t: (( إنك عففت فعفت الرعية ))([26]), فعمر إذن لم يرتع في مال رعيته, ولم يزعم أنه يملك الرعية وحقوقها. بل إنه مؤتمن على هذا المال، مؤتمن على الأمة ومصالحها، وليس له في ذلك سوى أجرة الأجير. فخاطب عمر رعيته في هذا الشأن بقوله: (( ألا أخبركم بما أستحِل من مال الله تعالى؟ حُلتان لشتائي وقيضي، وما يسعني من الظهر لحَجي وعُمرتي، وقُوتي بعد ذلك كقُوت رجل من قريش، لست بأرفعهم، ولا بأوضعهم، فوالله ما أدري أيحل ذلك أم لا؟ ))([27]). وقال في خطبة أخرى: (( والله الذي لا إله إلا هو، ما أحد إلا وله في هذا المال حق – أعطيه أو مُنعه – وما أحد أحق به من أحد إلا عبد مملوك، وما أنا فيه إلا كأحدكم ))([28]), فليس ثمة امتيازات ولا تخصيصات ولا اختلاس ممنهج ولا أية أعمال تقود إلى انتفاع غير مشروع. وقد يضطر عمر – مع محدودية موارده هذه – إلى الاستعانة ببيت المال لسد بعض حاجاته الشخصية، فماذا قال في ذلك؟ قال: (( إني أنزلت نفسي من هذا المال منزلة ولي اليتيم، إذا استغنيت استعففت، وإن احتجت استقرضت، فإذا أيسرت قضيت ))([29]). وفعلاً فقد اقترض أحياناً من بيت المال، وكان عامل بيت المال لا يتوانى ولا يتردد في مطالبته ومتابعته بسداد ما عليه من دين([30]).
وكان إذا احتاج إلى شيء من بيت المال استشار المسلمين، فقد ارتقى المنبر وسأل المسلمين أن يعذروه في شيء من العسل احتاجه للتداوي، ولم يكن موجوداً في السوق، وكان ثمّ شيء منه في بيت المال، فأذنوا له في الانتفاع منه([31]), ألا يثير هذا السلوك الإعجاب والدهشة, ربما يجد فيه بعضهم نوعاً من المثالية غير الواقعية وأنه نوعاً من اليوتوبيا, ولكن الأمر ليس كذلك قطعاً, فقد استمد عمر منهجه من القرآن الكريم, فعلم أن الله تعالى يحاسب على مثاقيل الذر, فهو والحال هذه مسؤول تماماً عن أي تصرف تجاه بيت المال مهما بدا يسيراً فالله تعالى سائله عنه، فهو واقع تحت مراقبته ومحاسبته، فنمى في أعماقه وازع حقيقي وصادق كان هو الموجه لسلوكه السياسي.
وهو في كل ذلك يُدرك أنه القدوة المنظورة لأمته، فإن عمل خيراً عملوا مثله، والعكس صحيح، حتى قيل في مثل هذه الصلة بين الحاكم والمحكوم: (( الناس على دين ملوكها )) وهو ما لفت نظر مؤرخ مثل اليعقوبي ( ت 276 ه ) فوضع كتاباً موجزاً وسمه ب( مشاكلة الناس لزمانهم ) حكى فيه كيفية محاكاة الناس لما يجدوه في الخلفاء والملوك من مظاهر يمكن تقليدها. الأمر الذي يُحمّل الحاكم مسؤولية عظيمة، فبناءً على سلوكه يتحدد سلوك الأمة في الإطار العام, لذلك قال عمر في هذا الشأن: (( إن الناس لن يزالوا مستقيمين، ما استقامت لهم أئمتهم وهُداتهم ))([32]), وهي مسؤولية عظيمة حقاً, ومسؤولية القدوة أمام الله تعالى ليس كمسؤولية آحاد الناس.
من هنا أدرك عمر t أن وجوده على رأس السلطة لا يعني سوى الأمانة، فهو رجل مؤتمن على مصالح الأمة وحقوقها، وضمّن ذلك خطابه السياسي فقال: (( إني والله ما أنا بالملك فاستعبدكم، وإنما أنا عبد الله عرض عليّ الأمانة … ))([33])، وقال في مرة أخرى: (( وأنا مسؤول عن أمانتي وما أنا فيه ))([34])، والمؤتمن مطالب بأن يؤدي الأمانة من دون التلاعب بها على غير وجهها الشرعي, بل يؤديها كما هي وبأسسها ومبادئها التي نص عليها شرع الله تعالى, الأمر الذي يضمن سلامة العمل من الزيغ والانحراف, وهو الضامن لحقوق الأمة من هدرها وضياعها.
أما قوله: (( إن الله عز وجل قد ولاني أمركم ))([35]), فلا يعني ادعاءه أنه يملك حقًا أو نصاً إلهياً في توليه السلطة يمنحه موقعاً يُبعده عن المساءلة البشرية، بل إنه أراد بذلك أن مشيئة الله هي التي قضت بوصوله إلى السلطة في إطار المفهوم الإسلامي الذي يرى أن لا شيء يخرج عن مشيئة الله وقضائه وقدره, ولا يجري في هذا الكون الفسيح أي أمر إلا بإذن الله تعالى. ومن هذا المنظور فإن أي حاكم على مدار التاريخ – بغض النظر عن معتقده – إنما تسنم منصبه في الحكم بمشيئة الله تعالى واذنه, وعمر واحد منهم. ولا ننسى أن ثمّ فرق واضح بين مشيئة الله الكونية وإرادته أو مشيئته الشرعية, فالحكام جميعاً يتولون الحكم بمشيئة الله الكونية, التي تعني السنن والنواميس التي يدير الله تعالى بها الكون بأسره, بما في ذلك الحياة الإنسانية وكيفية تصريفها. أما إرادته أو مشيئته الشرعية فهي أوامره ونواهيه التي نص عليها شرعه الحكيم. فلو نص الله تعالى على الحاكم باسمه لكان توليه للحكم بموجب الإرادة أو المشيئة الإلهية, وهو ما يؤهله أن يتكلم ويحكم باسمه تعالى, وهذا ما يُعرف بنظرية الحق الإلهي في الحكم. إلا أن توليه الحكم بموجب المشيئة الكونية لا يمنحه حق الحكم باسم الله تعالى. ونظرية الحق الإلهي تعني أن وظيفة الحاكم دينية, أما توله الحكم بموجب المشيئة الكونية فتعني ان وظيفة الحاكم مدنية وليست دينية, فلا يملك صلاحية التبديل والتغيير في شرع الله, فهول لا يمتلك صلاحية تشريعية, بل ينحصر عمله في إقامة شرع الله تعالى وإنفاذه, وهو مؤتمن على ذلك.
ومن هنا لم يُعلن عمر t أنه يحكم باسم الله تعالى أو وكيلاً عنه او أنه نائبه في الأرض , كما إنه لم يحكم بصفته رجل دين أو فقيه يقف على رأس كهنوت يحتكر فهم الدين ليكون واسطة بين الناس والله تعالى مستغلاً ذلك كما تفعل سائر النظم الكهنوتية, ولم يزعم لنفسه العصمة, بل إن عمر حكم بوصفه صاحب الخبرة والكفاءة والمقدرة السياسية والادارية على تحقيق مصالح الأمة, فضلاً عما تمتع به من معرفة فقهية جاءت من ملازمته – كما سائر قدامى الصحابة – للنبي صلى الله عليه وسلم, وهو ما أعانه على إنفاذ شرع الله تعالى وإقامة مصالح الأمة والمحافظة عليها.
الخطاب الثاني : برنامج حكومي
لم تكن لعمر t حكومة كما هي حكومات اليوم ولا حتى كما كان عليه الحال في الدولة العباسية مثلاً, فلا وزراء ولا أصحاب دواوين, بل كان له ولاة في الولايات يباشرون الجوانب الإدارية والعسكرية ومعهم عمال يتولون الشؤون المالية في جوانبها المختلفة, فضلاً عن قادة الجند الذين توزعوا في أطراف الدولة المختلفة, ولأن هؤلاء جميعاً جزءاً مهماً في بنية الحكم، ويعكسون في الوقت نفسه طبيعة تعاطي عمر t مع السلطة، عليه كان لابد من تقصي موقعهم في ذهن عمر وسياسته. فقد خاطبهم بقوله: (( اتقوا الله فإنا لا نؤمّركم على دماء المسلمين، ولا على أموالهم، ولا على أبشارهم، ولا على أعراضهم ))([36]). فهو على كل واحدة من هذه الجوانب يكرر مؤكداً نفي هيمنة ولاة الأقاليم عليها، تنبيهاً على خطورة الأمر وأهميته، ومعبراً عن مدى اهتمامه بحرمات المسلمين ووجوب صيانتها واحدة واحدة . ثم يواصل عمر خطابه لهم بقوله في الخطبة نفسها: (( ولكن نؤمّركم لتُصلّوا بهم، الصلاة لوقتها، وتجاهدوا بهم عدوهم، وتقضوا بينهم بالحق، وتقسموا بينهم بالعدل )) ويواصل تأكيد عدد من النواهي التي ينبغي على الولاة تجنبها: (( ولا تضربوا العرب فتذلوهم، ولا تمنعوهم حقهم فتحرموهم، ولا تُجمّروهم فتعنتوهم ))([37]). ومن هنا فإنهم مؤتمنون – كما هو مؤتمن – على حقوق الناس وحرماتهم والعمل على صيانتها, بعيداً عن الاستبداد والتجبر في الإدارة. أما لماذا الإشارة هنا إلى العرب تحديداً فلأنهم مادة الإسلام وحاملو رسالته, فإهانتهم أو إذلالهم ينعكس بقدر ما على الرسالة التي يحملونها, من دون أن يعني ذلك جواز إذلال غيرهم أو إهانتهم, سواء اكانوا من المسلمين أم من غيرهم, وهو ما سيتبين تباعاً.
ووجه عمر t هذا الخطاب على مسامع الأمة أيضاً, فخطب في يوم جمعة فقال: (( أللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار أني إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم وسُنّة نبيهم، وأن يقسموا فيهم فيئهم، وأن يعدلوا، فمن أشكل عليه شيء، رفعوه إليّ ))([38])، وأعاد هذه المعاني في خطبة أخرى مضيفاً إليها قوله فيما إذا وقع منهم ظلم أو تقصير: (( فوالذي نفس عمر بيده لأقصنّه منه ))([39])، فمن وقع عليه ظلم أو هضم في حقوقه، فقد توعد بالاقتصاص له من أميره.
ومن أجل تحقيق مثل هذه التصورات والمهام الجسيمة والدقيقة، كان يجدّ في البحث عمن يستطيع إنفاذها والقيام بها معه، لهذا كان يشاور أصحابه في الأمر، شاورهم أحياناً بشأن أشخاص بعينهم وقع اختياره عليهم، أو أن يدلوه على شخص يتوافر على مواصفات معينة حددها لهم، فقد سألهم مثلاً أن يدلوه على (( رجل إذا كان أميرهم، كان كأنه رجل منهم، وإذا لم يكن أميرهم، كان كأنه أميرهم ))([40])، فمهام الحكومة من الخطورة بمكان بحيث تحتاج إلى أفضل الكفاءات بعيداً عن الاختيار العشوائي أو المتأتي من اعتبارات شخصية بحتة. ف (( من أستعمل رجلاً لمروءة أو قرابة لا يستعمله إلا لذلك، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين )) ([41]، وقال أيضاً: (( إني لأتحرج أن أستعمل الرجل، وأنا أجد أقوى منه ))([42]), كما أكد أن: (( من استعمل فاجراً، وهو يعلم أنه فاجر، فهو مثله ))([43]), عاملاً بمبدأ من أهم المبادئ وأبرزها في اختيار رجال الحكومة ألا وهو مبدأ: الرجل المناسب في المكان المناسب. فنراه يتحرى أن تكون حكومته فنية ( = تكنوقراط ) وليست سياسية. وواضح أن غرضه من ذلك أن تكون الحكومة قادرة تماماً على القيام بمصالح الأمة وليس غيرها, لأنها إن كانت سياسية فستنصرف اهتماماتها – غالباً – صوب الفئة أو الشريحة التي تمثلها سياسياً, وهذا عين ما نلمسه اليوم في كثير من الحكومات المعاصرة.
وفي التفاتة من عمر t أنه صرف زياد بن أبيه عن بعض الأعمال، فسأله إن كان ذلك لذنب اقترفه؟ فقال: (( لا، ولكني كرهت أن أحمل فضل عقلك على العامة ))([44]). بمعنى أنه وجد فيه من الدهاء ما قد يدفعه إلى استغلال الناس من موقع عمله الرسمي، ووجد أنه من الأفضل أن لا يستخدم مَن قد يكون فيه من الدهاء ما يُخشى معه استخدام هذا الدهاء لمصالح شخصية، وهذا يُذكّرنا بقوله عن نفسه: ( لست بالخب )، فهو بالتالي لم يكن يرغب في تولية من قد يكون فيه خب.
وكان عمر t يسأل مَن يفد عليه من أمراء الأقاليم عمن ناب عنهم في ولاياتهم؟ فكان الجواب في مرتين إنهم تركوا فلاناً المولى، فاستنكر عمر مثل ذلك. بوصف أن العرب كانوا قريبي عهد بجاهلية، وقد تأخذهم نخوة العصبية فلا ينقادون لمولى، لكن لما قيل أن فلاناً المولى من أصحاب العلم، أجاز لهم ذلك لفضيلة العلم([45]). وفي مرة أخرى سأل عامله عمن استخلف على الولاية ؟ فذكر له اسم أحدهم، فدهش عمر t وقال: فلاناً الأعرابي؟! واستنكر كيف يُولى أهل الوبر – أي البدو – على أهل المدر- أي الحضر –([46]), بوصف أن أهل البادية أقل تحضراً من سكان المدن، فكيف يجوز توليتهم مثل هذه المناصب، إذ لا يتناسب أن يتولى شخص منصباً سياسيا وإدارياً مُهماً في مكان يكون فيه أقل تحضراً وتمدناً, فمثله سوف يعمل على وفق القياسات والمفاهيم التي يحملها في ذهنه, فهو يعمل من حيث لا يدري على سحب الناس صوب مفاهيمه ولا يرتقي هو صوب مفاهيمهم, ولاسيما أنه صاحب سلطة ونفوذ, وهو ما يحقق تراجعاً في طبيعة العمل والانجاز. وكانت هذه من عمر التفاتة ذكية أيضاً دلت على إدراكه لسنن الحياة والعمل والادارة, وهو ما نبه عليه علم الاجتماع السياسي المعاصر.
ولكن هل يكفي وضع الرجل المناسب في المكان المناسب حتى تمضي الأمور على خير وجه؟ ذلك ما كان يقلق عمر t وتساءل عنه فيما سبق ذكره، فكان جوابه أن ذلك لا يكفي حتى يتابع عليهم عملهم، ويتحرى ما يصنعون في إداراتهم، فتلك مسؤوليته المباشرة. وهو في ذلك سار في اتجاهين؛ الاتجاه الأول متابعة عماله ومحاسبتهم على واقع عملهم، وله في ذلك إجراءات معروفة اشتهرت بالعبارة الموجزة: ( من أين لك هذا؟ ) فكتب مثلاً إلى عمرو بن العاص بعدما فاضت ثروته واستفاضت: (( فقد ظهر لي من مالك ما لم يكن في رزقك، ولا كان لك مال قبل أن استعملك، فأنى لك هذا ؟! ))([47]), فمرتبه الشهري لا يكفي لتكوين مثل هذه الثروة, ولم يكن له أصلاً قبل ذلك مال وثروة, فمن أين جاء كل هذا!! ولما اتاه جوابه وفيه تملص عن الحقيقة، كتب إليه مرة أخرى: (( إني قد خَبِرتُ من عمال السوء ما كفى، وكتابك إليّ كتاب من قد أقلقه الأخذ بالحق، وقد سؤت بك ظناً، وقد وجهت إليك محمد بن مسلمة ليقاسمك مالك ))([48]). ونجد في خطاب عمر في مثل هذه الحالات خشونة وفضاضة تردع من تسول له نفسه خداعه.
وهكذا مارس عمر t عملية مراقبة ومحاسبة على عماله وولاته عبر عملية ( كشف حساب ) يكشف فيه عما يملك مَن يقوم بتعيينه من مال ساعة توليه عمله، فإذا انتهت أعماله ومسؤولياته قام بمحاسبته على ما حصل له من ثروة([49]). وهكذا شاطر عدد من عماله وولاته أموالهم بعد انتهاء خدماتهم([50]). فإن مثل هذه الممارسة العمرية تقطع دابر الفساد الإداري والمالي، الذي يُعد من أهم أسباب عجز الإدارة عن القيام بوظيفتها في تحقيق مصالح الأمة، فضلاً عن أن مثل هذا الفساد يقود إلى الاستحواذ غير المشروع على المال العام, بما يعنيه ذلك من هضم لحقوق الناس.
أما الاتجاه الثاني الذي سار فيه عمر t فهو العمل على إذكاء الضمير والوازع الداخلي لدى عماله وولاته، بما يَعُدّهم لممارسة أعمالهم على أسس سليمة ووجدان نظيف يحفظ الأمانة الموكلة إليهم، لذا نجده يكتب باستمرار إلى عماله واعظاً ومذكراً ومحذراً، فقد كتب إلى أبي موسى الأشعري: (( وكن من خشية الله على وجل ))([51]). وكتب إلى غيره من عماله: (( اكتبوا عن الزاهدين في الدنيا ما يقولون، فإن الله عز وجل وكّل بهم ملائكة واضعة أيديهم على أفواههم ولا يتكلمون إلا بما هيأه الله عز وجل )) ([52]، فإن الأخذ عن الزاهدين يبعث في نفوس العمال والولاة روح العفة والنزاهة وحفظ الأمانة، لأن ما سيحوزونه بصورة غير مشروعة لا يستحق منهم مثل هذا الانزلاق .
وكتب إلى أحد عماله: (( … فإنك أصبحت أميراً تقول فتُطاع، وتأمر فيُتبع أمرك، فيا لها من نعمة إن لم ترفعك فوق قدرك، أو تًطغِك على مَن دونك! احترس من النعمة أشد من احتراسك من الخطيئة، وهي – والله – أخوفهما عندي عليك! ))([53]). وهي رسالة واضحة مفهومة بأن السلطة ليست امتيازاً للإنتفاع والاستعلاء، بل هي في الحقيقة ابتلاء لابد من الحذر منه.
ثم كتب إلى بعض عماله: (( أن حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإنه من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد مرجعه إلى الرضا والغبطة ))([54])، فقد يغفل المسؤول عن محاسبة مَن هو دونه، غير أن النفس إذا كانت حية مًدركة لعبء المسؤولية فإنها هي التي ستحاسب نفسها، وحتى لا يعتقد أحد من الولاة أن الولاية إنما هي مرتع خصب كتب: (( أما بعد! فإن أسعد الرعاة عند الله مَن سعدت به رعيته، وأن أشقى الرعاة مَن شقيت به رعيته، وإياك أن تزيغ، فتزيغ عمالك، فيكون مثلك عند الله مثل بهيمة نظرت إلى خضرة من الأرض فرتعت فيها، تبغي بذلك السمن، وإنما حتفها في سمنها ))([55]). ومثل هذا الطَرق المستمر على مسامع الولاة والأمراء في الأقاليم – مع المحاسبة والمراقبة المستمرة – لابد من أن يثمر حكومة قادرة على تحقيق مصالح الأمة بعيداً عن أي وجه من أوجه الفساد, معززاً ذلك في كونه هو شخصياً القدوة الصالحة لهم في العفة والنزاهة.
ثم إن عمر t كتب إلى عماله على الدوام مبيناً لهم نوع المعادلة التي تحكم طبيعة موقف الأمة من حكامها، فمما كتبه إلى بعض عماله: (( كن لرعيتك كما تحب أن يكون لك أميرك ))([56])، فكما يسعى الوالي إلى إرضاء الخليفة، فبالطريقة نفسها عليه أن يسعى إلى أرضاء رعيته؛ وجاءت هذه المعادلة بصيغة أخرى في قوله: (( الوالي إذا طلب العافية ممن هو دونه، أعطاه الله العافية ممن هو فوقه ))([57])، بمعنى أن على الأمير ان يحوز على رضى رعيته قبل أن يفكر بمرضاة الخليفة, فحق الأمة يتقدم على حق الخليفة , وهو تصور راقِ جداً. وقال في مثل هذا الشأن أيضاً: (( الرعية مؤدية إلى الإمام، ما أدى الإمام إلى الله، فإذا رتع رتعوا ))([58]). وقد نبه عمر عماله إلى ما قد يقع مما لا يُحمد عقباه إذا لم تُراعَ مصالح الرعية، وكل هذا لا يتحقق إلا بإقامة الحق والعدل في الناس من دون ظلم أو هضم للحقوق, وأن يحفظ الولاة عفتهم ونزاهتهم من أن يدنسوها بشيء من الفساد المالي, ولاسيما أن الناس ينفرون بالفطرة ممن يقوم على رؤوسهم حاكماً, وهو ما نبه عليه ولاته فكتب يقول: (( إن للناس نفرة من سلطانهم، فأعوذ بالله أن تدركني )) ([59], لذلك حري بمن يتولى السلطة أن يدرك هذه الحقيقة بأن يتجنب ما يسخط الرعية منه فعلاً. ومن مجمل ما تقدم فالعامل في الحكومة أياً كان موقعه ومنصبه فإنه مؤتمن في عمله على مصالح الأمة وحقوقها, لا يحق له استغلال منصبه لكسب خاص يستغفل فيه الأمة, فهو خادم مستأجر لها, يعمل بأجره لا غير, وأن من سنن السلطة أن الناس بعامة تنفر من أصحاب السلطان والمناصب, فإذا ما ظهر من هؤلاء ما يمس حقوق الأمة وقعت النفرة عملياً, ما قد يؤدي إلى اضطراب العلاقة بين الطرفين فيما لا يحمد عقباه. فالأمة كائن حي يحس ويشعر ويدرك ويراقب, وليست كماً مهملاً ينقاد لأصحاب السلطة انقياً أعمى.
الخطاب الثالث: صناعة أمة
كيف يتم التعاطي مع الرعية؟ هذه المسألة كانت حاضرة في خطاب عمر t يوصي بها نفسه وعماله وولاته في الأقاليم، ويبدو أن بعض الصحابة y وجدوا في عمر شدة فأرادوا منه أن يخفف منها بعض الشيء، فقد اجتمعوا وتحدثوا وناقشوا الأمر ثم أوفدوا عبد الرحمن بن عوف لإبلاغه في أن هيبته تحول دون اتصال أصحاب الحاجات به، فقال عمر: (( يا عبد الرحمن! والله لقد لنت للناس حتى خشيت الله في اللين، ثم اشتدت حتى خشيت الله في الشدة، فأين المخرج؟! ))([60])، وقال مرة أخرى: (( والله لقد لان قلبي في الله حتى لَهُوَ ألين من الزبد، ولقد اشتد قلبي في الله حتى لَهُوَ أشد من الحجر ))([61])، فالأمر يحتاج إلى أمور أساسية: أن يقوم الأمر على التوازن، من غير إفراط ولا تفريط، فلا يغلب اللين على سياسة الحاكم، ولا أن تغلب عليه الشدة، ثم أن توضع الشدة في موضعها، وأن يوضع اللين في موضعه، وهذا هو الرفق بعينه، وليكون ذلك الأخذ باللين والشدة في الله وحسب، وليس تبعاً للأهواء أو النوازع الذاتية. وربما كان في عثمان رضي الله عنه مثالاً حياً على ذلك, فلم يكن على الشدة والصرامة التي كان عليهما عمر, فهاجت عليه الفتن من كل مكان.
ثم إن عمر t ضرب مثالاً على هذه الموازنة فقال: (( ينبغي أن يكون في الوالي من الشدة ما يكون ضرب الرقاب في الحق عنده كقتل العصفور، ويكون فيه من الرقة والعفو والحنو والرحمة والرأفة ما يجزع من قتل العصفور! ))([62]), ذلك لأن بين الناس أفراد يشكلون خطراً حقيقياً على الأمة ودينها، الأمر الذي يحتاج معه إلى أشد صور الحزم، ولاسيما إذا أدين أشخاص بمثل هذه المخاطر، فلابد من إنفاذ الشرع لحماية الأمة من خطرهم، وهنا يُظهر الحاكم حازماً صارماً وكأنه مستبد وهو ليس بمستبد, وإن في الناس مَن يحتاج إلى رقة في التعامل ومواساة له على حاله, وهنا يظهر الحاكم وكأنه أب وأخ كريم في تعاطيه مع هؤلاء. وقال في هذا المعنى أيضاً: (( إن هذا الأمر – أي الحكم – لا يُصلحه إلا لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف ))([63]), فالذي تحتاجه السياسة لين القوي وليس لين الضعيف، إذ يقود لين الضعيف إلى التهاون في حقوق الأمة وعدم القدرة على مواجهة المخاطر بالحزم المطلوب، كما إن الشدة المطلوبة هي شدة الحازم وليست قسوة العنيف، إذ تقود القسوة إلى العدوان على أصحاب الحقوق وسحق الضعفاء من حيث لا يدري المعني ولا يعي ذلك. وهذا المعنى ما أوصى به عمر عامله أبا موسى الأشعري فكتب إليه: (( يا أبا موسى! إياك والسوط والعصى فاجتنبهما, حتى يقال: لين في غير ضعف، واستعملهما حتى يقال: شديد في غير عنف ))([64])، وتكرار مثل هذه العبارات يعكس مدى انشغال عمر t بهذه المسألة من أجل أن تكون الأمة وحقوقها في مأمن وفي سلامة, وأن تكون كرامة الرعية مصانة على أتم وجه, من دون أن تكون هناك مؤشرات على خلل في سلوك الأمة يستدعي تقويمها بالقوة.
ومن صور حزم عمر قوله إن أهل صنعاء لو تمالؤا على قتل رجل واحد لقتلهم جميعاً به([65]). أما صور الحنو والرأفة إنه كان إذا حل الشتاء كتب إلى عماله يوصيهم: (( إن الشتاء قد حضر وهو عدو، فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعاراً، فإن البرد عدو، سريع دخوله بعيد خروجه )) ([66], وفي أحد أسفاره مرّ بقوم قد أقيموا في الشمس يُعذبون، فسأل: ما بال هؤلاء يُعذبون؟! قيل: لا يدفعون ما عليهم من خراج، فسأل: وما يقولون؟ قيل: يقولون لا نجد ما نؤدي، فقال عمر: دعوهم ولا تكلفوهم ما لا يطيقون ([67]. ولما وجد يهودياً يتسول، أمر بمساعدته من بيت المال، وقال له! أخذناها منك في شبابك وتركناك في شيبتك!([68]) وهذان المشهدان الأخيران ينمان عن حنو كبير من عمر على رعيته ومن دون تمييز على أي أساس من الأسس كالعرق أو اللون أو الطبقة أو الدين أو الطائفة , فذلك الحنو استحقاق إنساني للناس جميعاً على مَن يتولى حكم الأمة وإدارة مصالحها, أوجبه أن الله تعالى كرّم خلقه من بني آدم جميعاً من دون تمييز, وأما حسابهم فعلى الله, وهكذا توجب حفظ كرامة الجميع وصيانتها وعدم إذلال أي من الرعية من دون مسوغ شرعي. ومن مشاهد حنوه وتحسسه لأحوال أمته أنه كتب إلى عتبة بن فرقد: (( يا عتبة بن فرقد! إنه ليس من كدك، ولا من كد أبيك، ولا كد أمك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحالك ))([69])، فالراعي لا يتميز من رعيته بامتياز من نوع ما. بل إنه يشاركهم ويواسيهم في حالهم وأحوالهم، وفي حلهم وترحالهم, فهو واحد منهم ومؤتمن على حقوقهم.
وهذ الحنو من عمر يكشف المعاني العميقة لمهنة الرعي – وقد امتهنها عمر – فالراعي يحرس رعيته من المخاطر, ويحرص على أن تأخذ حاجتها من الطعام بما يكفيها, ويجبر الكسير منها ويعالج مريضها, فالراعي مؤتمن على رعيته أمانة كبيرة يسأله الله تعالى عنها. وهذا ما استشعره عمر تجاه رعيته حقاً. وفي الحقيقة فإن ذلك ليس تعبيراً عن مشاعر وعواطف إنسانية – على الرغم من أهميتها – بل هو تجسيد عميق لمعنى الأمانة بك حيثياتها, فالراعي يقوم بعمل ووظيفة هو مؤتمن عليها بكل تفاصيلها ونتائجها, وعليه واجب أداء الأمانة إل أهلها بأفضل وجه, كذلك هو الحاكم فهو في عمله مؤتمن على الأمة ومصالحها, يسوسها بما هو أنفع لها في حالها وعاقبة أمرها, فحنوه عليها ورفقه بها ليس تمنناً وتفضلاً عليها, بل واجب مؤتمن عليه بلا حيف ولا بخس ولا استغلال.
هذا النوع من الخطاب السياسي غالباً ما نجده اليوم في أوقات الثورات العنيفة حين يعتلي الثوار سدة الحكم، فيكون خطابهم في أول أمره خطاب الأسوة والمواساة والرعاية، لكنه يتحول بعد ذلك إلى معاني أخرى بعيدة عنها. وربما كان جورج أورويل أروع من مثل ذلك في روايته الشهيرة ( حقل الحيوان ) فقد كانت شعارات الثوار رائعة براقة تخطف الألباب وتسحر العقول, فتفاعل معها الجميع, ولكن ما أن تولى قادتهم السلطة, حتى بدأت الشعارات تتراجع تدريجياً, وأخذت مقاصدها بالتغير تبعاً لذلك, وما برح القادة وخواصهم يرتعون في الامتيازات والمكاسب ما أن رسخت أقدامهم في السلطة فانقلبوا على مبادئهم وجماهيرهم, في حالة من النكوص اللاأخلاقي. كما إن مثل هذا الخطاب يتكرر ظهوره أيضاً في أثناء الحملات الدعائية للانتخابات، إذ تعلوا الأصوات الواعدة بكل أشكال المواساة والمساواة بين الحاكم والمحكوم، غير أن هذه الوعود – بحسب ما أثبتته التجارب – غالباً ما تذهب أدراج الرياح ما أن ينقضي الموسم الانتخابي، في حين نجد أن عمر t لم يَعِد بذلك، بل طبقه على نفسه أولاً، ثم أمر به عماله وولاته، هذا هو معنى الرعوية الذي مارسه عمر بن الخطاب، فهو يسمو فوق كل المفاهيم السائدة اليوم، التي هي في عمومها فارغة من أية مضامين حقيقية، لأنها لم تصدر عن إرادات صادقة.
مسألة أخرى نجدها تظهر بوضوح في خطاب عمر t هي إقامة الحق والعمل بالعدل، ولعل القرينة بين عمر والعدل واضحة للجميع، فهي ليست محل خلاف، خطب مرة فقال: (( إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله r، وأن الوحي قد انقطع، إنما نأخذكم الآن بما ظهر من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسب في سريرته، ومن أظهر لنا شراً لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة ))([70])، وهذا ما يمكن أن نسميه حكم القانون، فالقانون لا يحاسب على السرائر والظنون والنيات ولا يؤاخذ بها، بل يحاسب على الأعمال الظاهرة ويؤاخذ بها، فالسرائر والنيات ليست براهين وأدلة – سلبية أو إيجابية – بل إن الأعمال الملموسة هي التي تنطوي على الأدلة، إذ بوسع المرء أن يدافع عن نفسه أو أن يقدمها بالشكل الذي يحفظ حقوقه؛ وهذه خطوات أساسية لتحقيق العدل، أما أخذ الناس بالظنون والشبهات فهو أبعد ما يكون عن الحق والعدل, وقد أكد عمر t أن السلطان لا يصلحه إلا العدل([71]), وهنا ينبه رعيته على ضرورة مراعاة القواعد المنصوص عليها في القوانين والشرائع توخياً من الوقوع في أية مخالفة تجر العقاب على صاحبها, فإذا وقعت المخالفة وجبت العقوبة, إذ تردع العقوبة أصحاب النيات السيئة الذين يبيتون للإضرار بالمصالح العامة والشخصية لأسباب تختلف وتتنوع, مما يوجب الحزم والصرامة إقامة للعدل وإحقاقاً للحق. ولا تمنع الصرامة والحزم من العفو والمسامحة عندما لا يسببان الضرر, ومن لطيف ما قاله عمر في هذا الشأن: (( لأن يُخطئ الإمام في العفو، خير له من أن يصيب في العقوبة ))([72]), فالعفو الناجم عن أدلة خاطئة أفضل من العقوبة وإن كانت بأدلة صحيحة.
ومما كتب به إلى بعض عماله: (( أما بعد فإن الله جل وعلا أنزل في كل شيء رخصة في بعض الحالات إلا في أمرين: العدل في السيرة والذِكر… وأما العدل فلا رخصة فيه في قريب ولا بعيد، ولا في شدة ولا في رخاء، والعدل – وإن رُؤي ليناً – فهو أقوى وأطفأ للجور وأقمع للباطل من الجور وإن رُؤي شديداً ))([73])، وهذه معادلة مهمة يكشف عنها عمر t تضمن سلامة الأمة والدولة معاً من التعرض لمخاطر السقوط والتردي إذ نقل ابن تيمية قول سلف الأمة: (( إن الله لَيُقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يُقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة ))([74]), وكما قيل فالعدل أساس المُلك وبه يقوم, وبه تزدهر الأمم والحضارات, فلا ينفع إيمان مع ظلم, فعندما يطمئن كل إنسان إلى أن حقوقه كافة مصانة, وأنه في مأمن من العدوان والظلم تتفتح قريحته , ويجدّ ويجتهد في العمل والنشاط, لثقته أن مكاسبه في مأمن, ومن هنا يبدأ النشاط الحضاري بالازدهار والرقي, ولهذا كتب عمر إلى معاوية: (( أما بعد! فالزم الحق يبن لك الحق منال أهل الحق، يوم لا يُقضى إلا بالحق ))([75]), إذ إن الحق ضرورة لازمة للعدل، ولا يقوم إلا به.
ومما يتعلق بالعدل أيضاً أنه قد لا يسع كل مظلوم أن يصل بشكايته إلى مَن يُنصفه، وربما دفعه هذا إلى التشبث بوجوه القوم، لذا أوصى عمر عماله بمراعاة هؤلاء الوجوه، فهم شريحة لها أهميتها، لأنها تعمل عِبر هيكلية اجتماعية على ضبط المجتمع والحفاظ على قيمه، وهم يسهمون – بشكل أو بآخر – في تحقيق برامج الحكومة لكونهم حلقة مهمة بينها وبين المجتمع, فكتب إلى بعض عماله بضرورة مراعاة هؤلاء: (( فإنه لم يزل للناس وجوه يُذّكرون بحوائج الناس، فأكرم وجوه الناس قِبَلك، فحسب المرء الضعيف أن يُنصف في العدل والقسم ))([76]), ويشير عمر بذلك إلى تحسسه الدقيق والمستمر لكل ما يحقق مصالح الأمة ويحفظها, أفراداً أو جماعات.
وكان الظلم في العقوبة من الهواجس التي يبدو أنها أقلقت عمر كثيراً، حتى أنه يتخوف منها على مستقبل هذه الأمة, فالظلم في العقوبة يهدم أسس العدل، وقد صدقت هواجسه، ووقع حدسه، إذ قال: (( إن أخوف ما أتخوف عليكم بعدي، أن يؤخذ منكم الرجل البريء فيؤشر كما يؤشر الجزور، ويشاط دمه كما يشاط لحمها، ويقال: عاصٍ، وليس بعاصٍ ))([77]), فقد ظهر الخوارج، غير بعيد عن زمنه، فكفّروا الناس بالمعاصي، واستحلوا دماءهم بها.
أمر آخر أراده عمر t أن يكون السمة الغالبة لهذه الأمة ولدولتها الحاكمة، بأن يتمحور سلوك الحاكمين على وفق المعادلة التي أوصى بها المغيرة بن شعبة حين ولاه الكوفة: (( يا مغيرة! ليأمنك الأبرار، وليخفك الفجار ))([78])، ولا يكون ذلك إلا بالعمل بالقاعدة الشرعية التي تشكل أحد أعمدة العمل الإسلامي وهي قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعمل الحكام بهذه القاعدة يجعل أهل الصلاح في مأمن واطمئنان، ويدفع أهل الفساد إلى قمع فسادهم خوفاً من أن يؤخذوا بفسادهم، وفي ذلك ضمانة لسلامة الرعية وسلامة مصالحها وحقوقها، وحفظ دين الأمة من أن يصيبه الوهن والضعف.
ومن أهم المسائل التي ميزت خطاب عمر t تحريض الأمة على ممارسة النقد السياسي لأعلى سلطة سياسية في البلاد، فتمارس الأمة دورها المسؤول والواجب – على وفق هذه القاعدة – في مراقبة الحاكم ومحاسبته, فنراه يهيئ الأذهان ويدرب الأمة على ممارسة هذا النقد، ولعل أبرز ما جاء في ذلك قوله آنف الذكر: (( أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )), ثم مقولته الشهيرة: (( رحم الله امرءاً أهدى إليّ عيوبي ))([79])، وهو في هذه المقولة يحدد نفسه شخصياً موضوعاً للنقد والمحاسبة والمراقبة، وعَدّ ذلك هدية تقدم إليه، لأنه بهذا النقد يسمو فوق الأخطاء, ولهذا فإنه لما قال له أحدهم: (( اتق الله ياعمر! )) وأكثر عليه في الكلام، زجره أحد الأشخاص قائلاً له: (( أسكت! لقد أكثرت على أمير المؤمنين )) فرد عمر: (( دعه، لا خير فيهم إن لم يقولوها لنا، ولا خير لنا إن لم نقبل ))([80])، وتعرض عمر t بنفسه لمحمد بن مسلمة يحاوره ويستخرج من داخله قوة النقد، فقال له عمر: كيف تراني؟ فقال: أراك والله كما أحب، وكما يحب من يحب لك الخير، أراك قوياً على جمع المال – أي مال الأمة – عفيفاً عنه، عدلاً في قسمه، ولو ملت عدلناك كما يُعدل السهم في الثقاب، فقال عمر: (( الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني ))([81]).
وحتى تشيع في الأمة حاسة المراقبة والمحاسبة والنقد، لابد من أن يكون هذا المنهج ذاتياً في البدء، أي أن يعكف المرء على محاسبة نفسه ونقدها ومراقبتها، لذلك كان عمر t يردد: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تُحاسِبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾([82]) ([83]) , هنا نجد عمر رضي الله عنه يؤسس لحالة الوعي اللازمة والضرورية لحفظ مسيرة الأمة من الزيغ والانحراف, ولاسيما عندما يكون هذا الوعي مترافقاً مع قوة الإرادة والإقدام على إنفاذ ما يقتضيه الوعي.
وقد يكون الخوف واحداً من أهم العوامل التي تحول دون توجيه النقد، الخوف من العقوبة الشديدة، والخوف من انقطاع الرزق، فالحاكم يملك من السلطة والقوة ما يمكنه من فعل ذلك إزاء من يمارس النقد والمحاسبة تجاهه. هنا اجتهد عمر t في تبديد هذه المخاوف على أساس عَقَدي سليم، فقال في خطبة له في أثناء زيارته للشام: (( ألا إنه لن يُبعد عن رزق الله، ولن يُقرب من أجل أن يقول المرء حقاً، وأن يُذكّر بعظيم ))([84]), فالمؤمن المتيقن من إيمانه يعلم جيداً أن الآجال والأرزاق بيد الله تعالى, لا أحد من خلقه له سلطان عليهما, وهذا ما يدفعه ليكون جريئاً وشجاعاً فيأمر الحاكم بالمعروف وينهاه عن المنكر, ولعل ما يمكن قوله في هذا المقام أنه بوسع واحد من زعماء المعارضة أن يقول مثل هذه العبارة وهو يشجع جماهيره على ممارسة النقد إزاء الحاكم، لكن أن يقولها الحاكم نفسه فهذا أمر غير متوقع, إلا أن عمر فعلها صادقاً وجاداً وليس مُدّعياً. لقد ادرك عمر بحسه المتقد وبصيرته النافذة وإيمانه الراسخ أنه لا تقوم للأمة قائمة حقيقية ما لم تتم تربيتها على أساس امتلاكها للعقل الناقد الذي يمكنها من تفهم حقوقها ومصالحها والعمل لأجلها بمثابرة وشجاعة حقيقيتين, وهو ما عزّ على الأمة اليوم وافتقدته فحل بها التردي والانحلال.
أما الجانب الأكثر أهمية في خطاب عمر تجاه رعيته فيتعلق بالشورى, تلك الممارسة التي كانت الأبرز في سياسته, ومما قاله بشأنها: (( ما تشاور قوم قط إلا هُدوا إلى أرشد أمورهم ))([85])، وقال أيضاً: (( الرأي الفرد كالخيط السجيل، والرأيان كالخيطان المبرمان، والثلاثة الآراء لا تكاد تنقطع ))([86])، ولعل أهم ما يُشترط في الشورى أن تكون في أهل الثقة، وليس الثقة إلا الذي يخاف الله تعالى, فقال: (( شاور في أمرك من يخاف الله عز وجل ))([87]). كما إن من أهم ميادين الشورى هو تداول السلطة. إذ ليس لها من سبيل سوى الشورى، وهو ما نبه عليه بقوله: (( ثم إنه قد بلغني أن فلاناً قال: والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلاناً، فلا يغرن امرأً أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت، وإنها كانت كذلك، إلا أن الله قد وقى شرها، وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، فمن بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا ))([88]), وقال أيضاً: (( من دعا إلى إمارة نفسه أو غيره من غير مشورة من المسلمين، فلا يحل لكم أن لا تقتلوه ))([89]).
فقوله عن بيعة أبي بكر أنها كانت فلتة بمعنى أنها لم تكن مبنية على ترتيب مسبق وتخطيط مُعَد، وجاءت تحت ظرف خاص, وهو ما لا يمكن، ولا هناك ما يوجب تكرارها. لذا لم يبق سوى منهج الشورى والانتخاب في تداول السلطة. وهكذا فإن عمر t لما حضرته الوفاة إثر اغتياله الغادر قرر أن يكون الأمر من بعده شورى، وشكل لإنفاذ قراره هيئة تتشاور في شأن خلافة المسلمين على أن تنتخب واحداً منها تحديداً.
وعند مراجعة سيرة عمر في إدارته لشؤون الدولة نجده لا تفارقه الشورى في أية جزئية من جزئيات العمل، حتى إنه ليمكن القول أن سر نجاح عمر وروعة ما حققه من انجازات إنما كان مبنياً على تبنيه قاعدة الشورى وعلى أوسع نطاق ممكن.
ومن هنا وعلى وفق هذه المعطيات فلا يمكن لأحد الزعم أن مفهوم الرعوية ينطوي على دلالات تهميشية تجعل من الأمة قطيعاً مقوداً, أو كماً مهملاً لا دور لها في صناعة مصيرها, كانت الأمة في قلب الحدث تسهم في صناعة القرار وتتحمل مع الحاكم مسؤولية إنفاذه. وهذا من أعظم التحولات التي حققها الإسلام في واقع الأمة الفكري والسياسي والحضاري.
وآخر ما يمكن التنبيه عليه هنا هو تصورات عمر t تجاه الحكم بالشريعة فقال في خطبة له: (( ألا إنه أحق ما تعاهد الراعي رعيته أن يتعاهدهم بالذي لله عز وجل عليهم من وظائف دينهم الذي هداهم به، وإنما علينا أن نأمركم بالذي أمركم الله من طاعته، وأن ننهاكم عما نهاكم الله عنه من معصيته، وأن نقيم أمر الله في قريب الناس وبعيدهم، لا نبالي على من مال الحق، ليتعلم الجاهل، ويتعظ المفرط، وليقتدي المقتدي ))([90]). وقال في خطبة أخرى له في الشام: (( ألا وإني ما وجدت صلاح ما ولاني الله إلا بثلاث: أداء الأمانة، والأخذ بالقوة، والحكم بما أنزل الله ))([91])، إذن فمصلحة الأمة / الرعية تكمن في إقامة شريعة الله تعالى؛ فإن الله تعالى يعرف ما ينصلح به حال الأمة، فشرع لها شرعة حكيمة، ومصلحة الأمة تدور مع هذا الشرع، وليس بالعكس.
الخاتمة
إن أهم ما ماز الخطاب السياسي لعمر t تجاه رعيته أنه لم يسعَ إلى إقناع رعيته بسياسته أو بما يريد عمله أو يخطط له، كما هو حال الخطاب السياسي المعاصر، وذلك ما يجعل من هذا الخطاب – في كثير من الأحيان تضليلياً – بل كان خطابه من نوع آخر؛ إنه خطاب من يحرك الأمة ويدفعها إلى التفاعل في صناعة سياستها ومصيرها، بكل ما يعنيه ذلك على وجه الحقيقة عن طريق الشورى والمراقبة والمحاسبة مثلاً، وذلك ما يدحض كل الافتراءات التي قيلت بشأن مفهوم الرعوية, فالقطيع لا يصنع شيئا من تلقاء نفسه,ً في حين أراد عمر من الأمة أن تصنع كل شيء بنفسها, فهي صاحبة السلطة الحقيقة, وهي صاحبة الحقوق, وهي التي تقرر مصيرها.
لقد ترك خطاب عمر t وراءه مقولات مهمة وخطيرة دلت على عمق هذا الخطاب ونظرته الإيجابية الفاعلة إلى الأمة، ومن هذه المقولات:
* متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!
* رحم الله من أهدى إليّ عيوبي.
* من أين لك هذا؟
* حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا.
وقد شكلت هذه المقولات إرثاً إنسانياً مهما يتطلع دعاة الحرية ودعاة حقوق الإنسان إلى تمثلها والعمل بها اليوم, إذ شكلت إضاءات مهمة جداً في تاريخ الوعي الإنساني بعامة.
وفضلاً عن ذلك التزام عمر رضي الله عنه العميق بالعمل بقاعدة الشورى، كل ذلك يجعل من الأمة قوة فاعلة تدير مصيرها بنفسها بمشاركة حقيقية في السلطة، ومن ثم فالأمة ليست ذلك ألكم المهمل والمهمش القابع بعيداً عن مراكز القرار كما صورها من انتقد مفهوم الرعوية ببعده الإسلامي, بل هي التي تقرر مصيرها بعيداً عن المثالية الطوباوية التي لا نجدها سوى في الخطابات السياسية التضليلية, والحاكم في ظل الشورى لا يملك أن يكون مستبداً ولا متجبراً, بل هو أجير ومؤتمن على القيام بمصالح الأمة على خير وجه.
([1]) جاد الكريم الجباعي ، من الرعوية إلى المواطنة ، على الموقع :
http;// www. Assuaal.net
([2]) أحمد عقلة العنزي ، مفهوم الحق في الفكر الرعوي ، على الموقع :
http;// www.alkuwaitiah.com
([3]) عبد الرحمن الجميعان ، من الخطاب السياسي النبوي إلى الخطاب الراشدي ، على الموقع :
http;//www. annaharkw.com
([4]) حاكم المطيري ، من الحكومات الراشدة إلى الخلافة الراشدة ، على الموقع :
http;// www.dr.hakem.com
([5]) الطبري ، تأريخ الرسل والملوك ، تحقيق : محمد أبي الفضل أبراهيم (القاهرة : د/ت) 4 / 214 – 215 .
([6]) الطبري , تاريخ الرسل والملوك ، 4 / 215 .
([7]) ابن سعد ، كتاب الطبقات الكبير ، تحقيق : ادوارد سخو (طهران : د/ت) 3 / 197 .
([8]) الطبري ، تأريخ الرسل والملوك ، 4 / 215 .
([9]) الطبري ، تأريخ الرسل والملوك , 3 / 584 .
([10]) الطبري ، تأريخ الرسل والملوك , 4 / 216 .
([11]) الطبري ، تأريخ الرسل والملوك ، 4 / 230 .
([12]) ابن سعد ، الطبقات ، 3 / 196 .
([13]) سورة القصص ، الآية 26 .
([14]) ابن الجوزي ، سيرة ومناقب عمر ، 81 ؛ الأبشيهي ، المستطرف (بيروت : 1419 هـ) 1 / 118 .
([15]) الطبري ، تاريخ الرسل والملوك ، 4 / 201 .
([16]) ابن كثير ، البداية والنهاية ، 7 / 132-133 .
([17]) ابن الجوزي ، سيرة ومناقب عمر ، 153 .
([18]) الطبري ، تاريخ الرسل والملوك ، 4 / 87 .
([19]) ابن القيم ، الطرق الحكمية ، 2 / 531
([20]) العسكري ، جمهرة الأمثال ، تحقيق : محمد أبي الفضل ابراهيم وعبد المجيد قطامش (بيروت : 1988) 1 / 145 .
([21]) المتقي الهندي , كنز العمال ، تحقيق : محمود عمر الدمياطي (بيروت : 1998) 5 / 683 .
([22]) المتقي الهندي ، كنز العمال ، 5 / 306 ؛ كذلك : عبد الرزاق ، المصنف ، 1 / 326 .
([23]) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة (بيروت : د/ت) 3 / 767 ؛ كذلك: ابن سعد ، الطبقات ، 3 / 220.
([24]) الفاريابي ، تهذيب خالصة الحقائق ، تحقيق : محمد خير رمضان يوسف (بيروت : 2000) 1 / 508.
([25]) ابن تيمية ، مجموع الفتاوى ، تحقيق: عبد الرحمن اللاذقي وحياة شيحا (بيروت : 2001) 10 / 160.
([26]) الطبري ، تأريخ الرسل والملوك ، 4 / 20 ؛ ابن أبي حديد ، شرح نهج البلاغة ، 3 / 760 .
([27]) الغزالي ، مكاشفة القلوب ، تحقيق : أحمد حجازي (بيروت : د/ت) 184.
([28]) الطبري ، تأريخ الرسل والملوك ، 4 / 221.
([29]) ابن الجوزي ، سيرة ومناقب عمر ، 84
([30]) ابن سعد ، الطبقات ، 3 / 260 .
([31]) ابن سعد , الطبقات ، 3 / 198 ؛ الطبري ، تاريخ الرسل والملوك ، 4 / 208 .
([32]) المتقي الهندي ، كنز العمال ، 5 / 305 ؛ ابن الجوزي ، سيرة ومناقب عمر ، 152.
([33]) الطبري ، تاريخ الرسل والملوك ، 3 / 584.
([34]) الطبري , تاريخ الرسل والملوك ، 4 / 215.
([35]) الطبري , تاريخ الرسل والملوك , 4 / 215.
([36]) الماوردي ، الأحكام السلطانية (بغداد : 1989) 353 .
([37]) الماوردي , الأحكام السلطانية , 353 . والتجمير يعني إبقاء المقاتلين في مواقعهم القتالية لمدة طويلة من دون إجازة, مما يحول دون تواصلهم مع عوائلهم والقيام بما يتطلبه ذلك .
([38]) الطبري ، تاريخ الرسل والملوك ، 4 / 204 ؛ الرحبي ، الرتاج ، تحقيق : أحمد عبيد الكبيسي (بغداد : 1973) 1 / 122 .
([39]) الطبري ، تاريخ الرسل والملوك ، 4 / 204 ؛ ابن تيمية ، السياسة الشرعية (بغداد : د/ت) 152 .
([40]) القرطبي ، بهجة المجالس ، تحقيق : محمد مرسي الخولي (القاهرة : د/ت) 1 / 336 ؛ كذلك : البيهقي ، المحاسن والمساوئ ، 2 / 77 .
([41]) المتقي الهندي ، كنز العمال ، 5 / 303 ؛ ابن تيمية ، السياسة الشرعية ، 10 .
([42]) ابن سعد ، الطبقات ، 3 / 220 .
([43]) المتقي الهندي ، كنز العمال ، 5 / 303 ؛ كذلك : وكيع ، أخبار القضاة (بيروت : د/ت) 1 / 69.
([44]) ابن وهب الكاتب ، البرهان في وجوه البيان ، 262 – 263 .
([45]) البيهقي ، شُعب الإيمان (بيروت : 2000) 2 / 594 ؛ المتقي الهندي ، كنز العمال ، 10 / 111.
([46]) البلاذري ، فتوح البلدان ، تحقيق : صلاح الدين المنجد (القاهرة : 1956) 421 – 422 ؛ الطبري ، تاريخ الرسل والملوك ، 3 / 595 .
([47]) ابن عبد ربه ، العقد الفريد ، تحقيق : أحمد أمين وآخرين (القاهرة : 1965) 1 / 46 .
([48]) البلاذري ، فتوح البلدان ، 257 .
([49]) الطبري ، تاريخ الرسل والملوك ، 4 / 67 .
([50]) للتفاصيل ينظر : موفق سالم نوري ، أخلاقيات الحكم في الإسلام / عمر بن الخطاب (t) أنموذجاً (بغداد : 2012م) ، 437 وما بعدها .
([51]) ابن عبد ربه ، العقد الفريد ، 1 /28 ؛ كذلك : الجاحظ ، البيان والتبيين ، تحقيق : عبد السلام محمد هارون (القاهرة : د/ت) 2 / 155 .
([52]) ابن الجوزي ، سيرة ومناقب عمر ، 104 .
([53]) الزمخشري ، ربيع الأبرار ، تحقيق : سليم النعيمي (بغداد : 1984) 4 / 220 .
([54]) البيهقي ، كتاب الزهد الكبير ، 222 .
([55]) أبو يوسف ، الخراج (بيروت : 1979) 14 – 15 .
([56]) المتقي الهندي ، كنز العمال ، 4 / 406 .
([57]) المتقي الهندي ، كنز العمال ، 5 / 307.
([58]) المتقي الهندي , كنز العمال ، 5 / 305 ؛ كذلك : ابن سلام ، الأموال ، تحقيق : محمد عمارة (القاهرة : 1989) 73.
([59]) ابن سلام ، الأموال ، 73.
([60]) ابن سعد ، الطبقات ، 3 / 206 – 207.
([61]) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، 3 / 765.
([62]) ابن الأزرق ، بدائع السلك في طبائع الملك ، تحقيق : محمد عبد الكريم (ليبيا / تونس : د/ت) 1 / 324 – 325.
([63]) الجاحظ ، البيان والتبيين ، 3 / 255 ؛ ابن قتيبة ، عيون الأخبار ، تحقيق : مجموعة من المحققين (بيروت : د/ت) 1 / 62 .
([64]) وكيع ، أخبار القضاة ، 1 / 285 .
([65]) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، تحقيق : هشام سليم البخاري (بيروت : 1995) 2 / 251 .
([66]) ابن رجب الحنبلي ، لطائف المعارف ، تحقيق : ياسين محمد السواس (دمشق / بيروت : 2001) 564 .
([67]) الواقدي ، فتوح الشام ، باعتناء : عبد اللطيف عبد الرحمن (بيروت : 1997) 1 / 237 ؛ الرحبي ، الرتاج ، 2 / 117 .
([68]) أبو يوسف ، الخراج ، 126 ؛ القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ، 8 / 174 .
([69]) المنذري ، الترغيب والترهيب ، 3 / 458 .
([70]) المتقي الهندي ، كنز العمال ، 3 / 147 .
([71]) ابن حجر ، الاستعداد ليوم المعاد (بيروت : 1985) 95 .
([72]) الراغب الأصبهاني , محاضرات الأدباء (بيروت : 1961) 1 / 226 .
([73]) الطبري ، تاريخ الرسل والملوك ، 3 / 585 .
([74]) ابن تيمية ، السياسة الشرعية ، 35 .
([75]) ابن الجوزي ، سيرة ومناقب عمر ، 104 ؛ القرطبي ، بهجة المجالس ، 1 / 581 .
([76]) الماوردي ، نصيحة الملوك ، تحقيق : محمد جاسم الحديثي (بغداد : 1986) 375 – 376 .
([77]) عبد الرزاق ، المصنف ، 11 / 360 .
([78]) الطبري ، تاريخ الرسل والملوك ، 4 / 165 .
([79]) الفاريابي ، تهذيب خالصة الحقائق ، 1 / 449؛ السهروردي ، عوارف المعارف (بيروت : 1961) 437.
([80]) أبو يوسف ، الخراج ، 12؛ التوحيدي ، البصائر والذخائر ، تحقيق : ابراهيم الكيلاني (دمشق : د/ت) 1 / 20.
([81]) المتقي الهندي ، كنز العمال ، 12 / 252 .
([82]) سورة الحاقة ، الآية 18 .
([83]) ابن الجوزي ، صفة الصفوة ، 1 / 127 ؛ المحاسبي ، رسالة المسترشدين ، تحقيق : عبد الفتاح أبو غدة (حلب : د/ت) 37 ؛ الغزالي ، مكاشفة القلوب ، 407 ؛ المقدسي ، مختصر منهج القاصدين ، خرج أحاديثه : عبد القادر الأرناؤوط (دمشق : 1999) 397 .
([84]) ابن قتيبة ، عيون الأخبار ، 1 / 117 ؛ الماوردي ، الأحكام السلطانية ، 273 .
([85]) الزمخشري ، ربيع الأبرار ، 3 / 151 .
([86]) الزمخشري ، ربيع الأبرار ، 3 / 151 .
([87]) ابن مفلح ، الآداب الشرعية ، تحقيق : شعيب الآرناؤوط وعمر القيام (بيروت : 2000) 1 / 420 .
([88]) ابن هشام ، السيرة النبوية ، 4 / 239. يريد عمر بقوله أن بيعة أبي بكر كانت فلتة أي من دون تخطيط وإعداد مسبق .
([89]) المتقي الهندي ، كنز العمال ، 5 / 309 ؛ كذلك : عبد الرزاق ، المصنف ، 5 / 445 .
([90]) ابن الجوزي ، سيرة ومناقب عمر ، 138 .
([91]) ابن قتيبه ، عيون الأخبار ، 1 / 117 ؛ الماوردي ، الأحكام السلطانية ، 273 .