الحيدة عن الوسطية أ. بن جدّو بلخير
أحقًّا ما قال الشاعر :
وما الحزمُ إلا لمُستأْثِرٍ إذا همَّ بالأمر لم يستشر
أم أن الأمر كما قال الآخر :
و إني لأعتام الرجال بخُلَّتي أولِي الرَّأيِّ في الأحداث حين تَحينُ
…ليس الاعتدال هو منتصف الطريق دوما، ولا التطرُّفُ أن تُناقِض النَّاس كلهم..
أن تكون معتدلا هو أن ترضي ربك ولو ألجأتك المرضاة لسخط الناس، وأن تزِن الأمور بميزان الشرع الحكيم على فهم الأوَّلين من غير خروج على مُتَّفقهم؛ ولا على مُختلِفهم، فلا يجوز لك أن تُحدث قولًا لم يسبقك إليه إمام؛ هنا أنت قد حقَّقْتَ معنى الاعتدال؛ وابتعدت عن التطرُّف .
بُليت أمة الاسلام في كل زمن بثُلَّة من الناس، تُعيقها عن التقدم، فبينما هي تواجه العدوَّ الخارجي؛ إذ يخرج من ضِئْضِئها من يطعن في خاصرتها غِيلَةً !
ولم يخْلُ منهم زمن، فكان المنافقون في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم جاء الخوارج بعدهم، وتفرَّع عن الخوارج طوائفُ شتَّى؛ لا يُعلم لهم عدٌّ ولا حصر، وتنوَّع التطرف طرائق عددا، وفي كل مرَّةٍ يعاني الاسلام من بعض أهله، فمثلهم كمثل العُرّ يَكمُن أحيانا ثم ينتشر، ولو كُوِيَت الأمةُ على داءٍ من العدوِّ ظاهرٍ لم تكره؛ ولكن ..
أعان عليَّ الدَّهر إذ حكّ بَرْكَه / كفى الدَّهرَ لو وَكَّلْتَه بي كافيا
وأصبحت أمَّةُ الاسلام يتجاذبها عدوٌّ خارجيّ، ومتطرِّفٌ داخليّ – والله المستعان- بَيْدَ أن بشائر السُّؤْدَد لا تخبو؛ وما ينبغي لها، ففي كل عصرِ ضَعفٍ تمرّ به، تتمخّض عن رجل يُجدِّدُ لها دينها، أو بكوكبة من العلماء يأخذون بيدها إلى برِّ الأمان .
انتقل الى الرفيق الاعلى نبيُّ الرحمة؛ فجاء أبو بكر رضي الله عنه ليُكمل المسير.
وأضعف ما كنت الأمّة يوم تَخَاطَفَها التَّتار؛ بزغ شيخ الإسلام ابن تيمية
ويوم سُلبت الهوية أو كادت في الجزائر، سطع نجم ابن باديس وصاحبه الإمام الإبراهيمي
ومازال الاسلام يَرْمَضُّ من فِتنٍ وَرّى زِنْدها، واستثمر في نَزيعِها : عقولَ سِفَاهٍ؛ يُعجبهم الرأيُّ على حماسٍ يُعمي ويُصِمّ عن الأخذِ من الذين يعلمون استنباط الأحكام .
فاستباح المسلم دم أخيه باسم الشرع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ الهَرْجَ؛ قالُوا: ومَا الهَرْجُ؟ قالَ: القَتْلُ؛ قالُوا: أكْثرُ مِمَّا نَقْتُلُ، إِنَّا لنَقْتُلُ كُلَّ عَامٍ أَكْثرَ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا، قالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بقَتْلِكُمُ المُشْرِكينَ، ولَكِنْ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، قالُوا: ومَعَنَا عُقُولُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قالَ: إِنَّهُ لَتُنْزَعُ عُقُولُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، ويُخَلَّفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ، يَحْسِبُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، ولَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ».
واعتدَّ الناس بآرائهم، وفُتنوا ببهرجة الغرب، وضعفوا؛ فجاءوا بعلمانية ولائكية واشتراكية ورأسمالية … وما لا أدري من مُسمَّيات ابتدعوها، وقد كفر الغربُ أنفسَهم بها، وفي كل مرَّة يوحي لهم الشيطان بدينٍ؛ ويَغُرَّهُم به الغَرُور.
إن من أعظم مقاصد الإسلام الاجتماع ونبذ الفرقة، قال الله العظيم : (ولا تنازعوا فتفشلوا) . وقد نهي النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجلسوا متفرِّقين في رحلة ! فقال: مالي أراكم عِزِين، إن تفرُّقَكم هذا من الشيطان .
وهذا الإمام مالك بفقهٍ ثاقبٍ يمنع إقامةَ جماعةٍ ثانيةٍ في المسجد بعد الفريضة نفيًا منه لمظاهر التفرُّق !
والشاطبي من أجل مقصد الاجتماع ألَّف “موافقاته”، وأراد ربطَ الناس بالعلماء، واستخفَّ بمن يعتمد على عقله، ولا يعتدّ بالعلماء؛ قائلا في “اعتصامه” : إذا ثبت أنَّ الحقَّ هو المُعتبَر دون الرجال؛ فالحقُّ أيضا لا يُعرَف دون وسائطهم، بل بهم يُتوصَّل إليه، وهم الأدِلَّاءُ عليه.
وألزم بعض علماء الأصول المجتهدين بالنَّظر في المرجوح فقالوا: على المجتهد أن يبحث عن مُعارِض الدليل الذي لاح له، لكي لا يستأثر بقول الرَّاجح من دون تصوُّرٍ صحيح!
وهذا ما ينبغي أن يكون عليه السبيل
لِأُورِثَ بَعْديَ سُنَّةً يُهْتَدَى بها = وأجْلوَ عنْ ذي شُبْهَةٍ أَنْ يُفَهَّمَا
إن الفتنة إنْ طلع قرنها؛ فلن تَذَرَ ساريًا ولا ساربًا؛ إلا قطعت عنه رقاب النَّجائب فتضيع عنه سُبُلَ النَّجاء.
وأشرُّ ما في الأمر أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ويذهبون بالقوة مذهبًا سقيما في تقرير حقٍّ مزعوم، ويفخرون أنهم بقوّتهم قاهرين، قل نارُ خُزاعةَ أذَلّ !
وبسببهم أُلصِق بأمة الاسلام كل عنيف، ونسبوا إليه كل خفيفِ عقلٍ وسفيه؛ كأنك أيها الاسلام خُلقت في كَبَدٍ، كالثور يُضرب لما عافَت البقرُ !
الوسطية التي يتنادَوْن بها : مصطلحٌ خطير! لا ينبغي قَبُوله مُرسلا بلا إعرابٍ من المتكلم؛ وبيانٍ عن مُراده، وهو مصطلحٌ مُستفِزّ! فالكلّ يدّعيه ويتبنّاه؛ وإن كان الأولى ألّا يكون الإسلام ظرفًا للوسطية، فالإسلام كله وسطية إن فُهم حقا، وما نتج من آراء متطرِّفة، فذلك مردُّه لمن أنشأ الرأيَّ لا إلى الإسلام، فلا ينبغي أن يُقاد الاسلام مُتَّهمًا بجريرة من أساء فهمه، فإذن لن يسلمَ أبدا، وينطلق بعض أهل الإسلام يدافعون عنه -وهو شيءٌ حسن مُضطرٌون إليه ولكنه عجيب – ينفُون عنه الغلوَّ، فالإسلام كله سماحة؛ ومبنيٌّ على سماحة؛ ويدعو إلى السماحة، وتجدهم يستدلون بقوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) وهذا دليلٌ بعيد لا يَحسُن الاستدلال به، فلا يتحقَّقُ به المناط، إذ الوسطية في الآية هي وسطيةٌ بين الرسالات والشرائع، فليس في الإسلام آصار، ولا رهبانية، وقد استجاب الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم حين دعا (ولا تحمل علينا إصرا) فقال الله: قد فعلت. كما في الصحيح.
فشريعتنا وسطٌ بين الشرائع ليس فيها من غلوٍّ ولا تميّع، وإسلامنا وسطٌ بين تطرُّف اليهود وضلال النصارى، والتطرف داخل دائرة الإسلام مذموم، فلا يُقبل تشدد الخوارج، ولا تميّع المرجئة .وفي الاسلام شدّةٌ محمودةٌ تحفظ حدود الإسلام، وفي الإسلام سماحةٌ تمنع سآمة النفس ومللها .
تنّكر الناس لأصلهم، فهجموا على صحيح أمير المؤمنين في الحديث : محمد بن إسماعيل البخاري، ورسالة الشافعي، وكتاب سيبويه، ومن في درجتهم، وهذا الكتب كتَب الله لها القَبول فصارت من : الدَّين!
وبعدُ:
ففي الصَّدر حزاز من الوَجْدِ حامزُ، ونياط القلب تتمزَّق؛ وحال الأمة يتفرّق لا يكاد يجتمع، وصرنا غرضَ التَّشَفِي، ولولا بقيةٌ من دعاةٍ العلم يدعون الي الخير؛ يُبصِّرون أفئدةَ الناس؛ لصرنا علامةً على الساعة.
وهذا الداء والعَرَضْ؛ وأمتنا قد تمرض، ولكن لا ينبغي لها أن تموت؛ حتى لو أرادت ذلك، إلا إذا اكتملت مهمتها التي من أجلها كانت خير أمة أخرجت للناس، ونحن من شرائطها؛ فإن عقم الشرط أن ينتج المشروط، فلا ضير أن يستبدلنا الله بآخرين ثم لا يكونوا أمثالنا.
والعلم نورٌ؛ بل ضياء، وكل الناس تخطئ ، وهذا باب التوبة مفتوح، لا يوصد مادام الشرق يجود بالشمس، وأيُّ عبدٍ لك لا أَلَمَّا..
وشريعةُ ربنا يسيرةٌ مُفصّلة، يتولّى في كل زمن علماءٌ ارتضاهم الله لأن يكونوا مُوَقِّعين عنه، وكلُّ الصَّيد في جوف الفرا.
والسَّلام
وكتب
المُتَحنِّنُ إليهم : بن جدو بلخير