حصريا

الحتمية القيمية: هل هي النظرية الإسلامية المنشودة في الإعلام؟-د.سهام داوي

0 1٬841

الحتمية القيمية: هل هي النظرية الإسلامية المنشودة في الإعلام؟

سهام داوي

أستاذة بجامعة الجزائر ــ 1 ــ

 ملخص الدراسة:

    في مقابلِ نظرياتِ الإعلامِ المختلفةِ التي استقبلَها العالمُ من الغربِ، وتأسَّست عليها الدراساتُ الحديثةُ في مجالِ الإعلامِ، برزت نظريةٌ عربيةُ المنشأ، عريقةُ المنبت، مُتفتِّحةُ الطَّرح، هي “نظرية الحتمية القيمية في الإعلام” للدكتور الجزائري عبد الرحمن عزي، حيث تعتبر هذه النظرية أنّ القيمة هي الرسالة، مؤكدةً على نجاحِ وإيجابية الرسالةِ الإعلامية المُرتكِزة على تراثِ أمَّتها، وموروثِها الحضاري والأخلاقي، ونائيةً عن التقيُّد بطابَع الأسلمةِ، أو التموقُع في مواجهة النِتاج المعرفي الغربي في مجالِ الإعلام، الأمر الذي أثار إشكالية نسبتِها إلى جهود أسلمة الإعلام، ليقودنا إلى البحث في جذورها، وملامحها، ومدى جدارتها بتمثيل النظرية الإسلامية الموعودة في ضوء الهدي القرآني، والتراث الفكري الأصيل.

In exchange for various media theories that the world was received from the West, and was founded by recent studies in the field of media, emerged as an Arab origin theory, ancient descent, open subtraction, is “the theory of the inevitable value in the media,” Dr. Algerian Abdel-Rahman azzi, as is the theory that the value is the message, emphasizing the success and positive media message based on the heritage of its nation, and heritage cultural and moral, and remote abide by the nature of Islamization, or positioning in the face of Western production of knowledge in the field of media, which raised the rate of problematic E. Z efforts of the Islamization of the media, to lead us to look at their roots, and their features, and their worthiness to represent the Islamic theory promised in the light of guidance is the Qur’an and the authentic heritage of intellectual.

تقديم:

     شغلت علوم الإعلام والاتصال حيزا شاسعا من الدراسات والمقاربات النظرية التأصيلية بالنظر إلى الأبعاد النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية للممارسة الإعلامية، فتشعّبت بها السبل بالنظر إلى تشعّب الزوايا المنظور من خلالها إلى العملية التواصلية، بداية من حقيقة الإعلام والاتصال، مرورا بطبيعة الرسالة الإعلامية، وتصنيف أوعيتها، ووصولا إلى التأثير الملموس في الجمهور.

    ومنذ التفات الباحثين المسلمين إلى مجال الإعلام، وانشغالهم بتدارس واقعه، ونظرياته حفّتهم الرغبة في وضع اللمسة الإسلامية فتحدث الكثير منهم عن الإعلام الإسلامي وخصوصيته، كما تناولوه في إطار أسلمة المعرفة، لكن بمعزل عن كل التراكم المعرفي الغربي، وبمعاداة واضحة لكل ما يأتي من الغرب، وبمعرفة سطحية في غالب الأحيان بمبادئ الإسلام الخفية فيما يتعلق بالعملية الإعلامية، مما جعل النظرية تراوح مكانها، عاجزة عن الغوص في أعماق الهدي القرآني، ومكتفية عن التأصيل النظري العلمي بتوجيهات أخلاقية، وإرشادات دينية، مما لم يتقدم بها خطوة نحو الأمام، ولم يتح لها الوصول إلى العالم الخارجي إقناعا وتأثيرا.

    وإن التنظير وفق التصور الإسلامي لا ينبغي أن يهمل بحال العوامل المشتركة بين الإيديولوجيات، والقواعد النظرية التي جاءت بها مختلف المدارس على سبيل الاستفادة من الإيجابي منها، والصدّ عن السّلبي الذي لا يتوافق مع قيمنا وخصوصيتنا الدينية والثقافية، فنحن في مرحلة البديل الحضاري الذي لا يخرج عن هدي القرآن، وحاجتنا ماسة إلى الاستفادة من النص القرآني بتوجيهاته الأخلاقية، والحديث النبوي بإسقاطاته البشرية، مع كل ما حفظ لعصرنا من تراثنا الإسلامي المتداول عبر القرون، الأمر الذي لمسناه في نظرية الحتمية القيمية[1] المنسوبة إلى الدكتور الجزائري عبد الرحمن عزي[2].

   وكما أشرنا في عنوان هذه الدراسة فإنّ الذي نريد الوصول إليه هو التصنيف الحقيقي لهذه النظرية، والبحث فيما إذا كانت تعبر عن النظرية الإسلامية في مجال الإعلام بغض النظر عن التسمية والطابع، إلى جانب إسقاطها على الواقع، وبحث نجاعتها في حفظ المجتمعات من الانزلاق الأخلاقي، مادامت تدعو إلى جعل وسائل الإعلام وعاء للحفاظ على القيم، والترويج لها.

    فهل نظرية الحتمية القيمية للدكتور عبد الرحمن عزي هي النظرية الإسلامية المنشودة في مجال الإعلام؟ وما حدود الاستفادة منها على الصعيد العالمي؟

   يمكننا الإجابة على هذه التساؤلات المؤسسة للدراسة من خلال عرض أبرز النظريات التي وضعت في مجال الإعلام استنادا إلى عنصر التأثير المتعلق بالوسيلة، والمنعكس على الجماهير، ومن ثم تسليط الضوء على “الحتمية القيمية” وروافدها، ومراميها، ثم رصد مدى تعلقها بالقرآن الكريم، وما جادت به عقول مفكري الإسلام الباحثين في العلاقات والروابط الاجتماعية، وسبُل التغيير من خلال الإعلام.

    ولقد وضعت نظريات كثيرة في مجال الإعلام كان مصدرها الأول هو المدرسة الغربية، لكنها طُبعت بالنظرة التجزيئية للظاهرة، وحملت إلى جاب إيجابياته جملة من السلبيات على ما نوضحه في العرض الآتي:

  • نظريات الإعلام واتجاهاتها :

تتنوع النظريات الإعلامية وتتعدّد، وتسير في اتجاهات مختلفة بالنظر إلى القائم بالاتصال، والوسيلة المستعملة، والتأثير المرجو على النحو الآتي:

أولا: النظريات المتعلقة بالقائم بالاتصال: وتأتي من زاوية الاهتمام بالمرسل، وأبرزها:

*نظرية حارس البوابة: ظهرت على يد عالم النفس النمساوي الأصل، الأمريكي الجنسية (كيرت ليون) عام 1977م، وترى أنّ المادة الإعلامية تمرّ بعدّة نقاد في رحلتها تسمى بوابات يتمّ فيها اتخاذ قرارات بما يدخل ويخرج، ويبرز في كل حلقة من هذه السلسلة فرد له سلطة التدخل في الرسالة حذفا وزيادة بما يراه ملائما لمتلقين.

وتؤثر على حارس البوابة الإعلامية عدّة عوامل متعلقة بسياسة الوسيلة الإعلامية، ومؤهلاته الشخصية، وتوقعاته عن ردود الجمهور، إلى جانب مراعاة قيم المجتمع الذي ينتمي إليه وتقاليده العريقة، مما يجعل هذه النظرية على رأس النظريات التي لقيت قبولا واعتمادا عالميا، بالنظر إلى فاعليتها، ومناسبتها لكل المجتمعات التي تضع ثقتها في القائم بالإعلام حارسا على قيمها وتقاليدها، لكنها تتوقف على وعي هذا الحارس بحجم المسؤولية الإعلامية، وقدرته على (فلترة) المادة الإعلامية بما يتناغم مع الثقافة المجتمعية، ويحقق التأثير المنشود في الجمهور المستهدف، حيث قد تقلب إلى الاتجاه السلبي إذا ما سار القائم بالإعلام وفق أجندة شخصية أو أجنبية مسيئة للمجتمع، أو طوّع (البوابة) لتتسلل من خلالها الأفكار الهدّامة.

*نظرية الرصاصة أو الحقنة تحت الجلد: هي نظرية وليدة القرن العشرين تعبّر عن التأثير القوي لوسائل الإعلام، تبلورت فكرتها عن نظريات عديدة في مجالات اجتماعية متنوعة، وتقوم فكرتها على اعتبار الوصول السريع إلى الجمهور، مع سرعة الاستجابة دون التعرض لمؤثرات خارجية، فاستقبال الرسالة هو تجربة فردية وليست جماعية، وفي ظل إيمائها إلى الاستجابة اللاواعية من الجمهور، وخاصة فيما يتعلّق بالإعلانات والدعاية السياسية والحربية بالنظر إلى تزامنها مع الحربين العالميتين فإنها قد تركت المجال للانتقادات التي طالتها، وعلى رأسها ما عيب عليها من الاعتماد الكلي على علم النفس والجانب النفسي في التأثير، متجاهلة العوامل السياسية والثقافية والاقتصادية التي يمكن أن تؤثر على العملية الاتصالية.

*نظرية الغرس الثقافي: نبعت هذه النظرية من قلق الجمهور الأمريكي من تزايد موجة العنف في الستينات والسبعينات، وتنظر إلى تأثير وسائل الإعلام من خلال رصد إدراك المتلقي للعالم الخارجي، وزيادة معارفه، خاصة الأفراد الذين يتعرضون بكثافة لوسائل الإعلام”[3]، فالمهمة الأولى والأساسية لوسائل الإعلام هي غرس القيم الثقافية الإيجابية في المتلقين، حفاظا على استقرار المجتمع، وتوجيها له نحو الأفضل، وذلك طبعا بفعل التأثير التراكمي الطويل المدى، فعملية الغرس الثقافي ليست تدفقا عبر موجة من التأثيرات على الجمهور المتلقي، ولكنها جزء من عملية مستمرة، وديناميكية للتفاعل بين الرسائل والسياقات.

   ولقد لقيت هذه النظرية انتقادات عديدة تنفي ما أقرّته من ربط كثافة المشاهدة بالتأثير، والتدليل على ذلك من الواقع، فالتأثير قد يحدث من الوهلة الأولى، كما أن المتابعة المكثفة للبرامج قد تكون تمضية للوقت وقضاء على الملل.

ثانيا: النظريات المتعلقة بالجمهور، وأبرزها:

*نظرية الاستخدام والإشباع: وتحصر إقبال الجمهور على وسائل الإعلام في إشباع الرغبة الكامنة فيه، وتلبية حاجاته، رغم ما نعاينه من أسباب أخرى مختلفة تماما.

*نظرية الاعتماد على وسائل الإعلام: تقوم فكرتها على أن استخدامنا لوسائل الإعلام لا يتم بمعزل عن تأثير المجتمع، حيث يزداد التأثير بارتفاع قدرة هذه الوسائل على نقل المعلومات بشكل مميز ومكثّف[4].

*نظرية ترتيب الأولويات: ولا تخرج بدورها عن نطاق تأثير وسائل الإعلام في الجمهور، حيث تفترض أن وسائل الإعلام هي التي ترتب أولويات اهتماماته من خلال إبراز قضايا على حساب أخرى.

ثالثا: النظريات المتعلقة بنوع التأثير: وهي على ثلاثة أنواع:

1 ــ نظريات التأثير المباشر (قصير المدى): ومنها نظرية الرصاصة الإعلامية التي عرضناها.

*نظريات التأثير التراكمي (طويل المدى): وحسبها فإن تأثير وسائل الإعلام على الجمهور لا يظهر مباشرة، وإنما من خلال تراكم المتابعة الإعلامية، وأبرز هذه النظريات نظرية دوامة الصمت القائمة على فرضية أن قيام وسائل الإعلام بعرض رأي الأغلبية يقلل من أفراد الرأي المعارض”[5]

* نظريات التأثير المعتدل: ترى على العموم أن وسائل الإعلام تعمل في نطاق اجتماعي يراعي خصائص الجمهور الاجتماعية والنفسية

وعلى العموم فإنّ هذه النظريات قد جاءت في مجملها من باب وصف الظاهرة الإعلامية والتواصلية في المجتمع، وإصدار الأحكام على ما تعتبره واقعا أوحدا، دون بحث سُبل توجيه هذه الوسائل، وتكييفها بما يقود المجتمعات إلى التعايش المستقر، والمستقبل الآمن.

  • مقاربة مفهومية للحتمية القيمية في الإعلام:

    تمثّل هذه النظرية خطوة علاجية للانفلات الأخلاقي، والتدفق الإعلامي العالمي بين الشعوب وتحت سيطرة الأفراد، كما أنها تتدارك على النظريات الغربية اهتمامها بالجانب المحسوس، حيث جعلت الأساس في دراسة الرسالة الإعلامية هو رصد ارتباطها بالقيم، فالرسالة تكون هادفة ونافعة كلما ارتبطت بتصور وفكر وانتماء المجتمع.

   ويقوم تعبير الحتمية القيميّة في الإعلام على مصطلحات ثلاثة يوضحها الدكتور عزي على النحو الآتي[6]:

ــ الحتمية: يقصد منها اعتبار متغير واحد هو المحرك الأساس في تفسير أو فهم أي ظاهرة، والمغير الرئيس والأساس في هذه النظرية هو القيمة، أما الظاهرة فتخص الإعلام والاتصال، فالرسالة هي القيمة.

ــ القيمية: هي القيمة المعنوية المنطلقة من هدي القرآن الكريم كمرجعية، مما يساهم في الارتقاء بالرسالة الإعلامية، يقول الدكتور عزي:”إنّ التأثير يكون إيجابيا إذا كانت محتويات وسائل الإعلام وثيقة الصلة بالقيمة، وكلما كانت الوثائق أشدّ كان التأثير إيجابيا، وبالمقابل، يكون التأثير سلبيا إذا كانت محتويات وسائل الإعلام لا تتقيد بأية قيمة، أو تتناقض مع القيمة، وكلما كان الابتعاد عن القيمة أكبر كان التأثير السلبي أكبر”[7]

ــ الإعلام: يقصد به في هذه النظرية الاتصال بوسائله المختلفة المكتوبة والمسموعة والمرئية بما فيها شبكات التواصل الاجتماعي الحديثة.

    ومن ثمّ فنظرية الحتمية القيمية للدكتور (عبد الرحمن عزي) تركز على الدور السوسيولوجي لوسائل الإعلام، وما ينبغي أن تتقيد به الممارسة من أخلاقيات وقيم تقف حاجزا في وجه التأثير السلبي للرسائل الإعلامية، وخاصة في جيل الرقمنة والتكنولوجيا، حيث جاءت تتويجا لدراسات معمقة، وبحوث دقيقة أنجزها الدكتور عزي في مجال الإعلام والاتصال، وعكست إلى حد بعيد ثقافته العربية الإسلامية المفعمة بالتعاليم الدينية، والتدبر القرآني، والتأثر برموز الفكر الإسلامي على غرار ابن خلدون ومالك بن نبي، مستفيدا من مناهجهم العقلية، وهو ما اعترف به قائلا:” في الواقع إنّ عودتي المؤقتة إلى الجزائر (أستاذا بجامعة الجزائر ورئيسا لمجلسها العلمي ومحررا لجريدة الشعب لسنتين) جعلتني أستقل تدريجيا عن البنية النظرية الاجتماعية الغربية، ولكن أدواتها ظلت حاضرة في مقاربتي لهذا المحيط المستجد رغما عني، ولقد مكنتني تلك الأدوات من أن أنظر الى الذات و الثقافة من زاوية خارجـــــــــية و كأنني اكتشفت هذه الذات من جديد ، فكان ذلك حافزا أساسيا في النبش في التراث ، فكتبت عن النظرية الاجتماعية الغربية الحديثة و ابن خلدون كما استوقفتني إسهامات مالك بن نبي في دراسته ” مشكلة الحضارة ” و إبراز الترابط البنـــــيوي بين الإنسان و التراب و الزمان .. فأضــــــــــــــفتُ في دراسة أخرى عامل الإعلامِ في نظريته و بيّنـــــتُ مفهوم الأهلية القيميّة في دراسة مجتمع عصر المعلومات”[8].

      وقد صرّح الدكتور عزي أن التحديد الفعلي لمسار نظريته قد بدأ من خلال تقديم النظرية الاجتماعية الغربية الحديثة، وتكييفها مع الواقع الجديد، وعلاقاتها بالاتصال في كتابه:” الفكر الاجتماعي المعاصر والظاهرة الإعلامية الاتصالية: بعض الأبعاد الحضارية”، ويعود فضل تسميتها بنظرية الحتمية القيمية في الإعلام إلى طالبه وزميله حاليا في جامعة الشارقة الدكتور نصير بوعلي إثر إنجازه لدراسة مقارنة بينها وبين نظرية الحتمية التكنولوجية لمارشال ماكلوهان.

    أما عن روافد هذه النظرية الفتية فقد قدم الدكتور نصير في إحدى دراساته[9] ما أطلق عليها “مفاتيح النظرية” التي تتمثل استنادا على المقاربة البنيوية في:

ــ علوم الإعلام والاتصال كمادة خام.

ــ الفكر الاجتماعي المعاصر في القرن العشرين كمادة مستوردة متمثلا في المدرسة البنيوية، المدرسة الظاهراتية، ومدرسة التفاعلات الرمزية، والمدرسة التأويلية النقدية.

ــ التراث العربي الإسلامي على سبيل الاجتهاد وليس النقل كمادة محلية وبالخصوص فكر مالك بن نبي، والتواصل القيمي في مذكرات سيدي الحسين الورتلاني، والأخلاقيات الإعلامية في الرؤية النورانية النورسية.

ــ القرآن الكريم بمثابة الإسمنت الذي يمسك النظرية بإحكام .

    ففي مواجهة شعار ماكلوهان الوسيلة هي الرسالة تقودنا هذه النظرية إلى الوصول إلى القناعة بكون القيمة هي الرسالة، والتي تقود إلى التأثير الإيجابي في الجمهور متجسدا في تعزيز القيم، والمساهمة في التنشئة الاجتماعية السوية، وتوسيع دائرة الاستفادة من الثقافة، والوعي بالعالم الخارجي، ونقد الذات وتغييرها مع إشباع جانب الترويح عن النفس والترفيه الذي لا يصطدم بهذه القيم، فلا تنظر الحتمية القيمية في الإعلام إلى النظريات الإعلامية الغربية كمصدر لها، وإنما كموضوع له خصوصية، وله بداية ونهاية، لذا يؤمن أصحاب هذه النظرية بإنتاج المعرفة في إطار قيم معينة، لا استهلاكها كما هي مستوردة”[10] .

    وفي المقابل فإن التأثير السلبي للإعلام الذي لا يلتزم بقيم مجتمعه يتبدى من خلال تحييد القيم، وتبسيط وتشويه الثقافة، وتقليص المحلي وتوسيع العالمي، مع إضعاف دور قادة الرأي والفكر في المجتمع على اختلاف مواقعهم، وتخصصاتهم.

وهي نظرية استغنت عن الانزواء تحت مصطلح الأسلمة الذي يعزلها عن العالم الخارجي تحت تأثير الأفكار المسبقة، والحاجز النفسي ضد كل ما له صلة بالإسلام، فجاءت بلغة يفهمها كل المهتمين بالدراسات الإعلامية مهما كانت إيديولوجياتهم، لتؤسس لمرحلة جديدة في التنظير المعرفي في إطار موجة متجددة للبديل الحضاري الذي يليق بالأمة الإسلامية، ويمكننا تعليل ذلك برغبة صاحبها في إيصالها إلى أبعد مدى من الانتشار في العالم بأسره مادامت مجتمعاته لا تخلو من القيم التي يسعى العقلاء للحفاظ عليها ولو لم تكن قيما إسلامية تخص العالم الإسلامي فقط.

ونرى في ذلك ضرورة تسويقية للنظرية التي ينأى بها صاحبها عن الجمود المعهود، ويفتح في وجهها أُفق التأثير، فقد تجاوزت ناريْن اكتوت بهما محاولات استثمار الهدي الإسلامي في مجال الإعلام، فلا هي وقعت وقوعا أعمى على النظريات الغربية بإسقاطات غير واعية، ولا هي أعطت الفرصة للغربيين للرفض غي المبرر لكل ما له علاقة بالإسلام، خاصة وأنه يرى أن الدعوة إلى إضفاء الأسلمة على المعرفة الموجودة تدخل في نطاق الكسل الفكري، والخوف من الاندماج في الآخر، ولذلك فقد كان الدكتور عبد الرحمن عزي مفكرا إعلاميا واجتماعيا ليس مبتورا عن أصوله، ولا متروكا على هامش التقدم العلمي والمعرفي”[11]

وانطلقت النظرية من اعتبار الإعلام رسالة أهم معيار في تقييمها هو القيمة التي تنبع من المعتقد، فكلما كانت الرسالة وثيقة الصلة بالقيم المتأصلة بالمجتمع كان التأثير أكثر إيجابية، وبالمقابل تتزايد السلبية بالبعد عن القيم والتخلي عنها في الرسالة الإعلامية، ولذلك تعتمد في تجسيدها على جملة من الالتزامات، أبرزها:

ــ أن يكون الاتصال نابعا من الأبعاد الثقافية الحضارية للمجتمع، فيحمل القيم الثقافية الروحية النابعة من الدين، والدافعة إلى الارتقاء والسمو، فالقيمة تُعتمد في هذه النظرية كمرجعية ومرتكز ومركز رؤية، وفي منظور الدكتور عزي تعتبر الثقافة سلما أعلى درجاته القيم، والتي مصدرها الأساسي هو الدين، وليس الإنسان مصدرها، بل هو الأداة التي يمكن أن تتجسد فيها..

ــ أن يكون تكامليا فيستوعب كل وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية.

ــ أن يتميز الاتصال بالتفاعل مع الجمهور ولا يتم في اتجاه واحد.

 ــ الاهتمام بالتراث العربي الإسلامي على سبيل الاجتهاد لا النقل

ـــ معرفة الآخر ــ الغرب عموما ــ فكرا ولغة ومنهجا.

ــ معرفة معطيات العصر وخاصة في مجال الاتصال والمعلوماتية.

  • حدود العلاقة بين النظرية والإعلام الإسلامي:

يجيب الدكتور عزي عن هذه العلاقة من خلال حوار معه على الموقع الالكتروني الخاص به، فيقول أنّ الفرق بين الاتجاهين يكمن في:

ــ أولا: المنهجية: فالإعلام الإسلامي يقوم على سرد النصوص بذاتها دون اتّباع منهجية محددة في قراءة النص، أو ربطه بواقع الظاهرة الإعلامية المعاصرة، وكان ذلك عاملا في وصول هذا الطرح إلى طريق شبه مسدود، حيث لم ينتج نصا معرفيا بارزا، وإنما توقف عند باب الوعي بالمشكلة، أما الحتمية القيمية فتوظف عددا من الأدوات المنهجية التي ولدتها النظريات الاجتماعية والاتصالية الحديثة في الغرب، فهي تسعى إلى التجديد في قراءة النصوص وربط ذلك بواقع الظاهرة الإعلامية القائمة في المنطقة العربية والإسلامية.

تعقيب: الخلل فيما طرحه الدكتور ليس في صلاحية القرآن وتراث الإسلام في التأسيس للنظرية الإسلامية، بل في سوء استثمار الباحثين للنصوص القرآنية، وجمودهم عليها دون انفتاح على الأدوات المنهجية العصرية، وبالتالي فما قام به الدكتور عزي في الحتمية القيمية هو عين ما يتطلبه الواقع في مختلف المجالات للاستفادة من هدي القرآن الكريم، وهذا في نظرنا يُعدّ إسهاما تجديديا منه في التأسيس للإعلام الإسلامي الذي يقف في هذا المقام في مواجهته.

ثانيا: أنّ تقليد الإعلام الإسلامي يكاد يقصي التجربة الغربية (الأكاديمية أو الممارسة في الميدان) أما الحتمية القيمية فهي تتفاعل مع المعرفة الإعلامية الغربية بشقيها، وتحاول أن تطرح نفسها بوصفها صوت آخر يتعايش وينافس النظريات القائمة، أي أنها تسعى إلى تجاوز صفة المحلية إلى إيجاد مكان لها في التراث المعرفي الأكاديمي السائد لدينا وفي الغرب.

تعقيب: وهذا التعليل بدوره لا يخرج نظرية الحتمية عن نطاق التأسيس لإعلام إسلامي، فصاحب النظرية مهما استفاد من النظريات الغربية، ومهما تعايش معها، لن يتنازل بحال عن القيم المجتمعية التي تعكس تشربه بالثقافة الإسلامية، والعبرة بالمضمون وليس بالتصنيف في هذه الحالة.

ثالثا: بالنسبة للتسمية ذاتها، فالاستخدام اللفظي المباشر في القول “الإعلام الإسلامي” قد يوحي أن الأمر:

ــ خطاب أكثر منه علم.

ــ أنه محلي ديني بحت كالقول (الإعلام المسيحي) مثلا.

ــ أنه مطلق ليس فيه مجال كبير للجدل والنقاش.

أما تعبير (الحتمية القيمية) فيحل هذه المعضلة إلى حد كبير، لأنه يجعلها جزء من اللغة العلمية الأكاديمية، وهي ليست محلية إذ ترى أن القيمة هي المحرك في التطور الحضاري لأي مجتمع، بضاف إلى ذلك أن الاستخدام اللفظي غير المباشر في الإشارة إلى القيمة يترك بعض المجال للخطأ المحتمل الذي ينسب في هذه الحالة إلى النظرية وليس إلى مصدر النظرية.

تعقيب: يقودنا هذا التدقيق من صاحب النظرية إلى التسليم مجددا بأنها تحمل روح الإسلام التي تخدم رسالة الإعلام، ويُحسب له تورعه بتسميتها عن نسبة الخطأ الوارد إلى المصدر الذي هو القرآن الكريم في حالة أفصح عن إسلاميتها، وجهده في المسألة يشبه جهود الأصوليين الذين وضعوا الآليات المتيحة لاستنباط الأحكام الشرعية، وأبدعوا في الأدوات المنهجية.

رابعا: أنّ تقليد الإعلام الإسلامي وبفعل التركيز على السرد النصي فحسب لم يحدث حالة من البحث العلمي التطبيقي المعتبر، ولعل نظرية الحتمية القيمية في الإعلام تدفع إلى هذا الاتجاه بالاستعانة بالأدوات المنهجية التي تطورت لظروف تاريخية في الغرب.

تعقيب: هذه هي الخطوة المطلوبة والمنتظرة في مجال الإعلام الإسلامي، عرفت النظرية جيدا كيف تحقق لنفسها المرونة المطلوبة، وتفتح لنفسها طريقا نحو العالمية.

    لقد تشبّع الدكتور عبد الرحمن عزي بالثقافة الإسلامية، واحتكّ بالثقافة الغربية، فكانت نظريته نتاجل لملاحظاته، ومعايشته لواقع المجتمعات في القرية العالمية، وحجم تأثير التدفق الإعلامي على القيم، كما كانت ثورة على المحاولات العربية التي اقتصرت على إسقاط النظريات الغربية على الواقع العربي الإسلامي، أو استلال بعض نصوص التراث تدليلا على خصوصيات إسلامية في ممارسة الإعلام دون الغوص في حقيقة الهدي القرآني والتوجيهات النبوية، فقد استند في إرساء نظريته إلى القيم التي مصدرها الدين، ولكنه استثمر الرصيد العلمي، والتطور العالمي في مجال دراسته ليؤقلمها مع الواقع، ويطبقها عليه، وهذا ما تفادى به المزالق التي تعصف بالدراسات الجادة المستندة على القرآن الكريم، والثقافة الإسلامية، وصدق الله القائل في محكم التنزيل: (ولا يُنبّئك مثلُ خبير) سورة فاطر.

 

هوامش الدراسة:

[1] – تعتبر هذه النظرية ضمن قائمة الأفكار الكبيرة في نشرة الجمعية الأمريكية لأساتذة الصحافة والاتصال الجماهيري، يُنظر: نشرة الجمعية الأمريكية لأساتذة الصحافة والاتصال الجماهيري (يوليو 2012) ص5.

[2] – عبد الرحمن عزي هو أكاديمي وباحث إعلامي جزائري من مواليد 1954م بقرية بني ورتيلان ، تحصل على الليسانس في الصحافة من جامعة الجزائر عام 1977م، وعلى شهادة الماجستير في الصحافة عام 1980م، ثم الدكتوراه في سوسيولوجيا الإعلام عام 1985م من جامعة نورث تكساس بأمريكا، تتجاوز خبرته في التدريس والبحث والإشراف 24 سنة متنقلا بين تكساس والجزائر وماليزيا والسعودية والإمارات العربية المتحدة.

[3] ــ محمد عبد الحميد، بحوث الاتصال واتجاهات التأثير، عالم الكتب، القاهرة، 1997م، ص30.

[4] ــ المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[5] ــ المرجع نفسه، ص32.

[6] – يُنظر: عبد الرحمن عزي، نظرية الحتمية القيمية في الإعلام، الدار المتوسطية للنشر، تونس، 2011م، ص09.

[7] – عبد الرحمن عزي، دراسات في نظرية الاتصال: حو فكر إعلامي متميز، سلسلة كتب المستقبل العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2003م، ص112.

[8] ــ عبد الرحمن عزي ، دراسات في نظرية الاتصال: نحو فكر اعلامي متميز ( لبنان : بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، السلسلة رقم 28 ، 2003 ) ، ص 9 ـ 11.

[9] – بوعلي، نصير، مفاهيم نظرية الحتمية القيمية في الإعلام عند عبد الرحمن عزي: مقاربة نقدية، سلسلة كتب المستقبل العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2010، ص87.

[10] – نصير بوعلي، مفاهيم نظرية الحتمية القيمية في الإعلام عند عبد الرحمن عزي: مقاربة نقدية، ص91.

[11] ــ نصير بوعلي، الإعلام والقيم: قراءة في نظرية المفكر الجزائري عبد الرحمن عزي، دار الهدى، الجزائر، 2005م، ص5.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.