حصريا

الثقافة العربية الإسلامية ،بين الأصالة والحداثة- كادي قادة عبد الجبار -الجزائر-

0 299

الثقافة العربية الإسلامية ،بين الأصالة والحداثة .

   الدكتور: كادي قادة عبد الجبار.

المقدمة .

في  مقالنا هذا المتواضع ، سوف نتعرض لقضية الثقافة العربية الإسلامية ، والتي تنحل بدورها إلى قضايا أخرى شائكة وعائمة ، كقضية الثقافة  وعلاقة الثقافة بالأصالة وبالوطن والدولة والأمة، وعلاقة الثقافة بالحداثة ، ثم التطرق إلى الثقافة العربية الإسلامية  ، وكيف تأرجحت  بين الأصالة  والتحديث ، و تأثير تلكم الثقافة، على المواطن والمواطنة ، وعلى مفاهيم أخرى كالهوية والتربية والسياسة والدين والاقتصاد…، و كيف خضعت الثقافة العربية الإسلامية  للتكوير الإيديولوجي ، والتأطير المغرض،  علاوة على التزييف والتلميع، إما باسم الثقافة الغربية وقيمها الكونية ، وإما باسم التحضر والتقدم والتحرر، عبر صيرورتهما التاريخية ، خاصة في ظل الفترات، التي يشتد فيها الصراع الحضاري، ويحتد عبرها الغزو الثقافي ، ويخفت فيها صوت المنطق والضمير الإنساني، أو يختفي منها روح احترام الشعوب وتقرير مصيرها الثقافي والسيادي، أوحين تكون تحت رحمة الاستعمار الثقافي و الاستدمار الفكري ، فتكون الثقافة  الأصيلة أحيانا، عرضة لالتهام الروح الإيديولوجية الشمولية التهاما ، كما حدث الأمر، بالنسبة لثقافتنا في عصر النهضة  وما بعده، من بروز قومية عربية ، واتجاه يساري عربي، وجناح حزبي رسمي إصلاحي ، وجناح اليسار العربي الثوري، وظهورالأحزاب التقدمية،  وهو نفس ما ارتبط بالثقافة العربية الإسلامية، في العصر الحديث والمعاصر ، التي تأرجحت بين التأصيل باسم التراث والأصالة ،أو باسم الحداثة والمعاصرة ، والذي فهمه البعض باستراد  الأفكار والمناهج والحلول.

كما سنتطرق إلى مظاهر الصراع  الثقافي، من حروب صليبية ، واستعمار مباشر وغير مباشر ، والتعرض لحملات التبشير المسيحي والغزو الفكري، والإدماج الثقافي  وخطط الاستشراق ، بقصد الاختراق والاحتواء، وتكريس التبعية الفكرية، وكيف يتوجس كل طرف خيفة من الآخر ، ويتحسس مواطن قوته وضعفه ، بقصد احتوائه ثقافيا أوتدجينه فكريا، إضافة إلى التطرق لأبرز الطروحات والفلسفات ، التي كرست منطق الصراع ، وعملت على تأبيده واستمراره ، بدون وضع نصب عين كل طرف ، نقد تراثه وتحديثه بموضوعية ، سواء التراث العربي الإسلامي ، أو التراث الغربي    ، ولا أن يكلف كل طرف نفسه، عناء الانفتاح على الآخر ، والتحاور معه .

لذا حاولنا جهد إيماننا في هذا المقال المتواضع، تناول بكل جرأة قضية الثقافة، ورجحانها بين التأصيل والتحديث، كشكل من أشكال الوعي الفكري و الاجتماعي والإنساني عموما، وهل بإمكان الإصلاح الديني والفكري ،الارتقاء بالفعل الثقافي والمشهد الثقافي؟، وهل هذا الإصلاح موضوعي الوجهة، ومحايد المنحى، والذي يدعي في جوهره إتباع  الثقافة الأصيلة، متجاوزة لكل دعاوي التغريب  والحداثة الغربية والانفتاح على العصر، التي أحالت إلى مظاهر التبعية والتدحين والإقصاء الثقافي للآخر، والنتيجة المؤلمة لهذه المسعى التغريبي أو إدعاء العصرنة والتحديث، هي إيديولوجية غربية قاهرة ومستبدة ، وفكر شمولي متحكم، يديم أشكال التسلط والهيمنة، ويعين على تكريس لغة التدجين والتبعية، والانبطاح الثقافي المذل، بدل من الإنفتاح الايجابي المشرف .

كما ينبغي علينا في الأخير، وضع تصور موضوعي للثقافة والتعدد الثقافي وتنوعه، وما يجب أن يكون عليه التفاعل والتكامل  الحضاري ، والتعايش الثقافي ، من انفتاح وتعددية  وحوار وتعايش  وتقارب وتفاهم، ومن ثم إثرائه واستمراره، وهذا بتعزيز الايجابيات ،وهجران السلبيات ، واستشراف المستقبل الإنساني للبشرية قاطبة ، بشكل أفضل وأنبل ، وهذا بتجاوز الصراع المحتدم ،  وفقه حقيقة الآخر، بفتح أبواب الحوار، والتزام مبدأ التعايش السلمي، عبر طرق واستراتيجيات مثمرة ومزهرة ، نابعة من حب الإنسانية، ومراعاة الكرامة البشرية، ومستمدة من تحقيق المصالح المشتركة بين الثقافات، واحترام روح الاختلاف بينها، في هذه المعمورة الشاسعة ، والمترامية الأطراف .

بداية سنتعرض إلى مفهوم الثقافة، وهل نعتمد الثقافة بكل مكوناتها ومقوماتها ، أم لابد من التحديث من قيمها ومقوماتها ، بما يتماشى مع روح العصر ، ومتطلباته ومستجداته ، ألا يشكل ذلك خطرا على روح الثقافة وجوهرها ، وماهي معايير وشروط الحداثة والتحديث ؟ ، وهل هذه المعايير والشروط واحدة لدى جميع المجتمعات ؟، أم أنها مطلوبة منا نحن فقط ، ومفروضة علينا كأمة مستضعفة ومتخلفة ، عليها بالركوع والخضوع للأقوى في العصر، وأنه هو الذي يفرض علينا معايير وشروط التحديث ، التي يختارها ويرتضيها لنا ، رغم أنها تتعارض مع جوهرثقافتنا ، وتخالف الذوق القيمي والثقافي لحضارتنا المميزة والمستقلة ، لذا يجب أن نستهل هاهنا، بتعريف الثقاقة، مع تحديد مكوناتها ومميزاتها ووظائفها المتنوعة، ومقاصدها المختلفة، وتأثيرها الحضاري.

1 ــ مفهوم الثقافة :

 يعرف إدوارد تايلور (e.b.tylor)الثقافة هي: ” ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف ، وغير ذلك من الإمكانيات أو العادات، التي يكتسبها الإنسان ، باعتباره عضو في المجتمع”(1)، ولعل من أبسط تعريفات الثقافة، وأكثرها وضوحا تعريف أحد علماء الاجتماع المحدثين روبرت بيرستد ، الذي ظهر في أوائل الستينات ، حيث يعرفها بقوله : “إن الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه، أو نقوم بعمله ، أو نتملكه كأعضاء في مجتمع” ، ونظرا لتعدد تعريفات الثقافة بشكل يصعب حصره، فقد آثر بعض المؤلفين أن يركزوا على اتجاهين واضحين في تلك التعريفات ، وإن كان بينهما تنافس ، ينظر أحدهما للثقافة على أنها تتكون من القيم والمعتقدات والمعايير والرموز والأيديولوجيات وغيرها من المنتجات العقلية؛ أما الاتجاه الآخر، فيربط الثقافة بنمط الحياة الكلي لمجتمع ما، والعلاقات التي تربط بين أفراده، وتوجهات هؤلاء الأفراد في حياتهم ،لذا حاول هؤلاء المؤلفون، استمداد منهما ثلاثة مفاهيم تمثل الثقافة وهي :

1ـ التحيزات الثقافية.  ، 2ـ العلاقات الاجتماعية.  ، 3ـ أنماط أو أساليب الحياة.(4) (2)

ــ مميزات الثقافة:

تتميز بأنها متميزة ومستقلة يكتسبها الإنسان بواسطة التعلم من المجتمع الذي يعيش فيه (مكتسبة ) ، وذلك على اعتبار أنها هي ” التراث الاجتماعي ” ، الذي يتراكم على مر العصور، (متراكمة ومتنقلة) ، بحيث يتمثل في شكل تقاليد متوارثة، إضافة إلى أنها ذات طابع إلزامي تتسم بالاستمرارية، كما يرى رالف لنتون ، وأنها نابعة بالضرورة من تصورالثقافة ،على أنها التراث الاجتماعي الذي يرثه أعضاء المجتمع عن الأجيال السابقة ، وعليه، تبقى الثقافة نسبية ، تختلف من مجتمع لآخر، يجدها الإنسان قبله، وتبقى بعده، وأن الثقافة  فوق عضوية لكونها “كامنة في الشعور السيكولوجي للإنسان” ، فقدرة الإنسان على استخدام الرموز يسمح له بالابتكار واكتساب أشكال جديدة للحياة ، دون أن يكون هناك أدنى تغيير أو تحوير لبنائه العضوي، علاوة على اتصافها بالتعقيد والتركيب  من عدة عناصر وأنماط ظاهرة ومستترة للسلوك  المكتسب والمنقول، عن طريق الرموز، فضلا عن التوافق والتكيف و الثبات والانتشار والتكامل بين عناصرها والتنسيق بينها(3).

من هنا نستشف أن الثقافة  تبقى ملامحها ثابتة داخل المجتمع ، وأن عناصرها ومكوناتها مستمرة ومتراكمة ومتوارثة عبر العصور و لدى الأجيال  ، وتمتاز بطابع الإلزام  والإكراه، لأفرادها على إتباعها وتطبيقها في حياتهم الخاصة والعامة  ، كما أن مكوناتها ، من دين ولغة وتاريخ ومنجزات  ومعتقدات وقيم واتجاهات وأذواق…،  تختلف من مجتمع إلى آخر  ومن حق كل مجتمع أن يعتز ويناصر ثقافته، ويدافع عنها ويموت من أجلها ، فهي تراث الأجداد، وميراث نفيس للأمة ، ينتقل و يستمرعبر صيرورتها الاجتماعية والتاريخية ، فهي موجودة في الضمير الجمعي دائما وأبدا ، و تستقرفي الشعور النفسي لكل فرد  من أفراد المجتمع .

ــ مكونات الثقافة : حددها هاري جونسون في ما يلي:

1 ـ العناصرالمعرفية : تحتوي على طائفة كبيرة من المعارف التي تفسر العالم الطبيعي ، والاجتماعي ، ومن ثم فهي معارف لها تطبيقات وأهداف عملية في حياة  الإنسان الاجتماعي ، ،فهي تستهدف بالدرجة الأولى إيجاد توافق بين الإنسان وبيئته ، وتدعيم ،وتدعيم الحياة الجماعية، والمحافظة على بقاء أعضاء الجماعة، واستمرارهم في الوجود ، مثل العناصر المعرفية التي تتعلق بطرق الحصول على الطعام وإعداده وبناء المساكن  وطرق السفر والتنقل من مكان إلى آخر، والطرق التي تتبعها الجماعة في حماية نفسها من قسوة الطبيعة (4) .

2ـ المعتقدات : وهي جوانب من المعرفة لا تخضع للإثبات أو الرفض عن طريق البحث التجريبي ، فمثلا نجد عند الاسكيمو بعض المعتقدات التي من خلالها تتم ممارسة طقوس معينة بواسطة يعض “العرافين” لإخراج الأرواح الشريرة من أبدان المرضى ، لكي يتم شفائهم ، ويمكن تبرير سلوك العرافين هذا أي كانت نتائجه ، ولو توفى المريض ، بضرورة الاستمرار في الاعتقاد بوجود الأرواح الشريرة  [1]، وهذا يعني أن لكل مجتمع معتقداته التي يؤمن بها والتي تختلف عن معتقدات ثقافة مجتمعات أخرى ، كما تتجلى أيضا أن الدين أو المعتقد عموما، جزء من ثقافة مجتمع ما .

3 ـ القيم والمعايير : وتمثل كل المبادئ والأحكام  والاختيارات ، التي اكتسبت معاني اجتماعية ،خاصة خلال التجربة الإنسانية ، والقيم في ضوء ذلك بمثابة الموجهات التي تميز بين ماهو مرغوب ، وما هو مرفوض،كما تتميز القيم بأنها نسبية  (5)، بمعنى أن لكل مجتمع قيمه وشيمه ومعاييره، التي توجه سلوك أفراده وعلاقات المختلفة مع بعضهم البعض ، أما المفكر الكبير مولود قاسم ، نايت قاسم رحمه الله ، فيعطينا بكل دقة وشمولية مكونات الثقافة، أو بما أسماه أركان الأصالة  في أنها اللغة والدين ، والتاريخ ، وحب الوطن ، والثقافة المتأصلة ، والتقاليد ، وذكريات الأجداد التي يخلدها التاريخ ، الضارب  بجذوره في أعماق الدهر، والباسقة فروعه إلى عنان السماء … . (6)

هذا الاختلاف والتمايز في مكونات الثقافة، يحيل إلى طرح إشكالية حادة ، وهي كالتالي : هل يكتفي كل مجتمع بثقافته الأصيلة ، أم أنه من الضروري ، الأخذ بثقافة الغرب الغالبة والمسيطرة في العصر، باعتبارها الأكثر حداثة ؟؛ وهل ثقافتنا العربية الإسلامية مثل الثقافات الأخرى المغايرة لها، ومن الذي يميزها عنها جوهريا ويجعلها الأرفع، وهل هناك إمكانية ، لوجود موقف ثالث عملي وموضوعي ، لحل إشكالية الصراع الثقافي  بين العرب والغرب ، أو بوجه آخر بين الأصالة والمعاصرة ، مع الحفاظ على الخصوصية الثقافية والحضارية لامتنا ، والانفتاح الايجابي ، مع ضمان بقاء ورقي أمتنا الإسلامية؟.

2) ــ علاقة الثقافة بالأصالة :

يجب بداية التساؤل عن  ما مفهوم الأصالة ؟، وكيف تطور هذا المفهوم نفسه؟، وما هي إفرازاته وتداعياته المختلفة ؟، وكيف نعتمده كأساس للتطور الحضاري، ولضمان بقائنا كأمة واستمرارها ؟.

ـ تعريف الأصالة:

الأصل في اللغة ، عبارة عما يفتقر إليه ، ولا يفتقر هو إلى غيره ، وفي الشرع عبارة عما يبنى عليه غيره   ، ولا يبنى هو على غيره ، والأصل : ما يثبت حكمه بنفسه ؛ ويبنى على غيره.(7)

والأصل عند المتكلمين: هو الدليل الدال على الحكم المنصوص عليه من نص أو إجماع.(8)

والأصل عند الفلاسفة هو بداية ، فيقال بهذا المعنى نقطة مكانية أو لحظة زمانية، نبدأ منها المقياس.(9)

والأصل واقع  سابق، وقياس يشتق منه شيء ما وقد تفرع منه ، ويقال له أيضا هو علة وجود شيء.(10)

والأصلي : صفة الشيء الأقدم من حيث الزمن ، والذي لم يسبقه آخر من نوعه.(11)

وعلى مقاس التعاريف الفلسفية السابقة  للأصالة، ذهب الأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم ، إلى تعريف الأصالة بأنها :” ليست جمود القابع ، في بالي التقاليد السجين ، ولا أمّساخ التابع ، بكل المستوردات الهجين ، فهي بالصالح من القديم التشبث والتمسك ، لا عن الصالح من الجديد الإعراض أو التنسك، وهي بتراثنا وعلى تراثنا التأصل ، لا من ضرورة الأخذ والسير في الأرض.”(12)، كما يشير الأستاذ مولود قاسم، إلى رأي الفيلسوف فيخته  الذي يجعل أركان شخصية أية أمة من الأمم ثلاثة اللغة والدين والتاريخ ، لغرس حب الوطن(13) هذه الأصالة، أو شخصية الأمة، هي ما يسمى بالأصالة ، فهي اللغة والدين ، والتاريخ ، وحب الوطن، وأمجاد وانجازات الأجداد المادية واللامادية التي يخلدها التاريخ نفسه

ـ إفرازات المفهوم وتداعياته.

ثم تطور هذا مفهوم الأصالة  ذاته ، داخل الثقافة العربية الإسلامية ، وتشعب في الفكرالإسلامي نفسه ، ليتحول إلى أصولية إسلامية ، هذا الأخير الذي أخذ مسارات متعددة ومعاني متنوعة، وإن كانت تتلاقى في نفس الأبعاد، وتتفاعل في ذات الهدف والمغزى، أهمها ما يلي :

أول  من أّصّل مفهوم الأصولية الإسلامية، هو أبو الأعلى المودودي ، في كتابه “الحكومة الإسلامية”، حيث الحاكم هو الله ، والسلطة مختصة بذاته وحده ، ومن ثم فليس لأحد من دون لله حق في التشريع والمسلمون جميعا ليس في إمكانهم تشريع قانون أو تغيير ما شرع الله لهم ، ولهذا فالقانون الذي جاء من الله هو أساس الدولة الإسلامية ، والدولة ، عندئذ دولة ” ثيوقراطية ديمقراطية ” على حد تعبير المودودي.” (14) بمعنى أن الدولة ثيوقراطية في علاقتها مع الله ، وديمقراطية في علاقتها مع الإنسان أو الناس؛ وهذا ما يشكل أصالة الثقافة العربية الإسلامية عبر العصورحسب المودودي.

أما  سيد قطب فقد بلورها في كتابه “معالم في الطريق ” حيث المجتمع عنده إما جاهلي ، وإما إسلامي، الجاهلية هي عبودية الناس للناس، بتشريع بعض الناس للناس، مما لم يأذن به الله ، والإسلام هو عبودية الناس لله وحده بتلقينهم منه وحده تصوراتهم وعقائدهم وشرائعهم. ،ونظّرها على شريعاتي في كتابه ” في سوسيولوجيا الإسلام، “حيث يقرر أن قصة هابيل وقابيل هي قصة التاريخ البشري، أي قصة

الحرب التي اشتعلت منذ بداية الخليقة إلى اليوم، فقد كان الدين هو سلاح كل من هابيل وقابيل ، ولهذا السبب فان حرب دين ضد دين،  هو العامل الثابت  في تاريخ البشرية …،ومن هذه الزاوية، فان الموت لا يختار الشهيد ، وإنما الشهيد هو الذي يختار الموت عن وعي، كما تجسدت الأصولية المسيحية في حركة “الغالبية الأخلاقية”moral majorityالتي أسسها القس جيري فولول عام1979.(15)

من جهة أخرى يشير روجي غارودي إلى أنه لا توجد أصولية واحدة بل أصوليات ، بل إن جميع الأصوليات الأخرى ، من الثورة الثقافية الصينية ، إلى التطرف الإسلامي ، هي ردود أفعال على هذه الأصولية الاستعمارية، لحماية النفس من التبعية ؛ ولإنقاذ الهوية ، ولوكانت هوية قديمة غاية في القدم وأسطورية ، الهوية المعارضة للثقافة المستوردة ، “وللعودة إلى الأصول” ، إلى عصر ذهبي بعيد، واقع في الماضي.(16) ، وهذا التفسيرالذي يدلي به روجي قارودي،  يقر بوجود أصوليات معاصرة، من رأسمالية وشيوعية ، ومسيحية وإسلامية، وهندية وصينية ؛ وهوما يقودنا حتميا  إلى  فكرة “الصراع الفكري أو الثقافي” في الفترة المعاصرة ، عند “مالك بن نبي” أو بما يسمى” بصراع الأديان “،  لدى روجي غارودي” وتارة أخرى يسمى” ، بصراع الحضارات ” ، وهي فكرة ” صموئيل هنتنغتون”.

3) ــ الثقافة الأصيلة، أساس التقدم الحضاري:

هناك من يرى من المفكرين، أن الأصالة أو الثقافة الخاصة، تشكل الميراث الاجتماعي والتاريخي؛ الذي يجب أن تحتفظ به الأمة وتعتز، باعتبار أن لكل أمة من الأمم الموجودة في هذا العالم ، حافظت على بقائها ، وضمنت استمرارها ، حينما جعلت ثقافتها الخاصة أساسا ومنطلقا لها ، إلا إن ما تفعله بعض الأمم القوية اقتصاديا وسياسيا،والمسيطرة عسكريا وعلميا، من محاربة الثقافات الأخرى المخالفة لها ، والعمل على تشويهها وتزييفها، لهو عنف فكري وإقصاء غير إنساني، تمارسه بكل نذالة لإخضاعها وإذلالها، وهنا نقف عند تناقض واضح ؛ يلاحظه كل ذي عقل سليم، وهو كيف أن الأمم القوية اليوم، انطلقت في عملية تطورها الحضاري، من أصالتها الخاصة وثقافتها المميزة ، بينما تحرم البلدان الأخرى من الأسوة بنفس العملية ؟.

ومن جهة أخرى، فإن الأمم التي ارتدت عن ثقافتها الخاصة، واعتنقت ثقافة الآخر الأقوى في العصر باعتبارها الأكثر حداثة وتحديث،وتبنت بذلك لغته الفرنسية أو الانجليزية، وتدينت بدينه النصراني ،وتأثرت بأفكاره وقيمه، لم تتطور في حقيقة الأمر، بل مازالت تصنف لحد الآن ضمن الدول المتخلفة كبعض البلدان الإفريقية، أوفي عداد دول العالم الثالث ، كبعض البلدان العربية ودول أمريكا اللاتينية، وهذا يدل مرة أخرى، على أن التقدم الحضاري لأمتنا العربية الإسلامية ، هو نتيجة صيرورة اجتماعية وتاريخية ، تنبع من أصالتها أو ثقافتها الخاصة ؛ وليس السعي إلى اقتلاع هذا التقدم الحضاري من جذوره ، وأخذ شروط الحداثة بدون وعي، من بيئة اجتماعية أخرى ، مغايرة لبيئتها الاجتماعية الخاصة ، والتي لها مشكلاتها الخاصة؛ وحلولها الخاصة أيضا ، بمعنى آخر كل حداثة  أو عصرنة، لا تخرج عن الحدود، التي سطرتها الثقافة الخاصة لنفسها ، أو ما يسمى بالأصالة ، التي تعبر عن شخصيتها المميزة، وهذا يؤدي بها منطقيا، إلى ضرورة التمسك بثقافتها الأصيلة والحفاظ عليها ، لأن كل ثقافة من الثقافات، تقوم بوظائف هامة داخل المجتمع الواحد، قصد التفاهم والتواصل الاجتماعي ، لإيجاد نمط أو أسلوب حياة، داخل مجتمع ما ، فما هي هذه الوظائف يا ترى؟ .

 

4) ـ وظائف الثقافة:

تعمل الثقافة، على خلق الانسجام الروحي والاجتماعي، بين أفراد المجتمع الواحد، وتجعلهم يشعرون بالاندماج في جماعة واحدة، كما تقدم الثقافة حلولا للمشكلات التي تواجهنا ، وتؤدي بنا إلى التنبؤ بسلوك كل فرد، ونوعية استجابته اتجاه موقف ما، كما تقدم الفرد  طرق ووسائل ، لإشباع حاجاته  ومطالبه  البيولوجية والنفسية والاجتماعية …، كما  تحدد  له الطرق والقواعد، التي تساعده على التوافق مع وسطه الطبيعي والاجتماعي ، وتعمل الثقافة من جهة أخرى، على ضمان وحدة الجماعة  واستمرار وجودها ، ،كما تعطي الثقافة للفرد، القدرة على التصرف في موقف ، كما تهيئ له أسباب التفكير والشعور ، فمنذ الولادة يتعلم الطفل أساليب الثقافة، التي تعيشها أسرته ومدرسته، والجماعة التي ينتمي إليها، (17)فمثلا المجتمعات تختلف اختلافا بينا، في كيفية إعداد وطهي الطعام وتناوله ، وفي كيفية إلقاء تحية السلام والرد عليها ، ونجد ذلك أيضا في كيفية دفن الميت ، وشعائر وعادات التعامل مع هذه الظاهرة ، التي تختلف من المجتمع الإسلامي، إلى المجتمع المسيحي، إلى المجتمع البوذي…  .، يضاف إلى هذا، التفاوت في كيفية إحياء المناسبات، والأعياد الوطنية والدينية ، من حيث اللباس والألوان والأهازيج والحركات، وأخيرا في كيفية إعطاء قيمة للأفعال والأشياء والظواهر(القيم)، كما تعيننا

الثقافة، على التكيف مع المواقف والظروف المختلفة، بشكل متشابه ، وتلهمنا الذوق الجمالي للحضارة ، وهذا كله تحدده الثقافة بشكل مسبق وقبلي، نتعلمه نحن عن طريق التربية ، لكن ما علاقة هذه الأخيرة بالثقافة، وكيف تؤثر في المجتمع الذي يتحلى بها  ويعتز.

5) ـ الثقافة والتربية الاجتماعية: 

إن كل ما قلناه في السابق، من مكونات وظائف متعددة للثقافة، التي توفرها للفرد بشكل مسبق وقبلي     ، وتلزمنا على  النهل منه وإتباعه بحيث يبقى راسخا في الشعور النفسي للجماعة الواحدة، لذا يرى دافيد بيدني (d.bidney) العالم الأنثروبولوجي أن الثقافة تبدو فوق عضوية ؛ من حيث كونها كامنة في الشعور السيكولوجي للإنسان.(18) ، بمعنى أن الثقافة كظاهرة اجتماعية مكتسبة ومتراكمة عبر تاريخ الأمة، تظل مستمرة حتى بعد موت الأعضاء وزوالها ، فالثقافة وجدت قبل الإنسان وتبقى بعده ، ومهمة المؤسسات الاجتماعية هنا، من أسرة ومسجد ومدرسة ورياض الأطفال، ومعاهد وجامعات، و دورالعلم والفكر، والنوادي الثقافية وأحيانا الأدبية والفنية… .

وأن دورالمؤسسات العقابية والتأديبية، والمراكز والأجهزة الخاصة بالدولة…،هي غرس هذه الثقافة الاجـتماعية ، ونقلها عن طريق التربية الاجتماعية الإلزامية، من جيل إلى جيل، ومن عصر إلى عصر، لضمان عدم التمرد عن القيم ، والتقاليد والعادات والدين والتراث واللّغة والقوانين والأعراف، الخاصة بهذا المجتمع المميّزعن غيره، ليس هذا فحسب، بل كل أفراد المجتمع الواحد، يسعون بصرامة نابعة من وحي الثقافة الخاصة أو الأصالة ، على غرس قيم وأنماط السلوك المختلفة ؛ عن طريق التعليم والتربية ، لإيجاد التوافق الاجتماعي بين أفراد هذا المجتمع، ومحاربة، كل أنواع الشذوذ والانحراف، عن هذه الثقافة الاجتماعية الموروثة والمتأصلّة فينا، والتي تمارس علينا القهر والإلزام .

والتربية بهذا معناها، حسب الدكتور محمد لبيب  النجيحي ، ” العملية التي تكسب الفرد الإنساني، طابعا اجتماعيا من الشخصية، يميزه في مجتمع معين، عن بقية المجتمعات الإنسانية الأخرى، (…)، يدل على وحدة المجتمع، ويتغير مضمونه ، وتتضح معالمه بتغيرالنظم الداخلية للمجتمع ، درجة ووضوحا ؛ ولاشك أن التربية هي عملية استقرار، هذا الطراز وتطوره ووضوحه “، (19) ،

يقول الفيلسوف الألماني الكبيرغوتليب فيخته ، في كتابه الكبير:” نداء إلى الأمة الألمانية ” ، ما يأتي      : ” إن وجود أمة من الأمم بوجود إنيتها التي هي شخصيتها ، والتي تتكون من عناصر ثلاثة : الدين واللغة ، وحب الوطن” ، إن تربية الشعب على التمسك بالدين والأخلاق هي أساس كل حكومة ، وعلى الحكومة أن تؤسس معهدا دائما لهذه التربية الدينية ، كجزء لا يتجزأ ، من مؤسسات كل دولة حكيمة طيلة دوامها ، وإن ظن الدولة الألمانية ، بأنها في استطاعتها تسييرلشعب، بدون هذه التربية الدينية والأخلاقية، وتهاونها في هذه المسألة، أديا بها إلى الحالة التي تتخبط بها اليوم ، على أن هذه التربية ، لا ينبغي أن يكون هدفها العالم السماوي غير الحسي فحسب ، إذ أن الحياة أرضية وسماوية ، والذي لا يؤمن بالحياة الأرضية ، مصيره إلى الزوال السريع” (20).

ويقول أيضا :” إن اللغة هي رمز وجود الأمة ، وبقدر أصالة اللغة والمحافظة على اللغة الأصلية ، أو فقدانها تكون المجموعة البشرية أمة وشعبا أصيلا ، أو مجرد أشتات فحسب، واللغة أو المحافظة على الأصل، تؤثرعلى التراب أو الوطن الجديد” (21)، وعليه فالثقافة حسب مولود قاسم نايت بلقاسم  تشترط التربية، وتتوقف عليها ونجد أداة هذه التربية، وحاملتها وقناتها وحافظتها ، التي تلونها بلونها، وتكيفها  بطبيعتها ، هي اللغة  ومن هنا نرى فيخته يصف اللغة بأنها : القوة الطبيعية الأولى في الأمة .(22)

وهكذا نستشف من قول فيخته، أن التربية الأخلاقية والاجتماعية، هي صمّام الأمان، بالنسبة للثقافة الأصيلة، والدرع الواقي لها، عند الشدائد والمحن التي تحل بها، نتيجة الغزو الثقافي والفكري، المباشر والغير مباشر؛ وأيضا في حالة الإستدمار، وما يرمي إليه من تخريب ودمار للأصالة، وكذا ما يسعى إليه من تمويه وتشويه، لمعالم الثقافة العربية الإسلامية ،ولأنها العنصر الضروري والواقي، لحماية الأمة وصون الوطن ، وضمان بقائها واستمرارهما، هما اللغة كوعاء ثقافي يحمل الأفكار والقيم والميادئ، ويتضمن المعايير وتوجهات الأمة ،ويحدد كيانها  الخاص .

إن التربية ،التي من شأنها أن تعمل مواطنين صالحين ، لها شكلان مختلفان ، حسبما تكون موجهة لدعم ، أو للقضاء على النظام القائم ، ومن الممكن الافتراض ، نظرا لأهمية الدولة في التربية ، إن تلك التربية ، ستكون على الأغلب ، موجهة دائما، لدعم نظام الدولة ، للظروف الراهنة ، وهذا مهما ليس هو الحال. (23) ، ونفهم من ذلك أن جهاز الدولة يمثل واجهة الثقافة ،أو بمعنى آخر، أن الدولة ظاهرة ثقافية ،واجبها إيجاد إستراتيجية أو منظومة تربوية، تتضمن مختلف الوسائل والطرق والإمكانات والمشاريع ،بقصد صون الثقافة الوطنية، أو ثقافة الأمة ككل ، وتكريسها والدفاع عنها ، باعتبارها تشكل ثوابت الأمة، التي لا تتغير بتغير الزمن وأجداثه ، ولا تموت بموت الإنسان ، بل هي في الأصل، توجد قبله وتبقى بعده ، وهي تلزم جميع أفراد المجتمع الواحد، على إتباعها وتطبيقها كسلوك، وأن تظهر في مواقفهم وعلاقاتهم مع بعضهم البعض، وأن السبيل إلى ذلك، هو اكتساب الثقافة الأصيلة، من قبل أبنائنا وتعليمها لهم ،وتربيتهم عليها ، حتى يشبون عليها ، وتصبح تسري في دمائهم، ومقدسة في حياتهم .

ــ علاقة الوطن، بالثقافة الأصيلة :

لقد سبق وأن مر بنا بأن الثقافة لها علاقة بالوطن وأنه حسب الفيلسوف فيخته ، فان الثقافة هي شخصية الأمة ، التي تتجلى ملامحها الأساسية والهامة في اللغة والدين  واللغة وحب الوطن وأن تربية الشعب وأفراده على اللغة والدين والأخلاق وحب الوطن، هي أساس كل حكومة وواجب كل دولة ، وهو جزء لا يتجزء من عمل ومهمة مؤسسات الدولة  ، وما الوطن إلا شعور ثقافي مجتمعي راسخ لدى المنتميين إليه ،

مفهوم الوطن :

.يعرفه الجرجاني بأنه: “مولد الرجل والبلد الذي هو فيه “(24،)وجاء في موسوعة ويكيبيديا أن الوطنية هي الفخر القومي كذلك  في التعلق العاطفي والولاء لأمة مجددة خاصة واستثنائية  عن البلدان الأخرى ، والوطني هو شخص يحب بلاده ،ويدعم سلطتها ، ويصون مصالحها ، وقد اعتبر هيغل تضحية المرء  بفرديته لصالح الدولة أعظم اختبار للوطنية ، ولم تنفصل الوطنية عن الحرية بالنسبة لجان جاك روسو …، كما عبرعن ارتيابه ممن يظهرون انتمائهم للإنسانية ، دون التزام لأقوامهم(25)، ونستشف من ذلك أن الوطن هي هو أفكار وقيم نؤمن بها وهي مظاهر  وبيئة ثقافية محدودة جغرافيا نحبها ونعتز بها ، والتي هي أساس الحياة الاجتماعية والسياسية ، وجوهر كل تنظير تعليمي وتربوي وقيمي ، لذا يمنع خرقها أو تجاوزها ، من قبل كل فرد سواء أكان  حاكما أو محكوما ، حزبا أمحكومة أو معارضة ، بعيدا عن التسلط المالي أو المادي أو الدولي أو الإداري أو المعنوي أو الفئوي أو القبلي أو الجهوي ، لذا فالحكومات التي تحترم نفسها ، هي التي تحترم وطنها ومواطنيها ، وتكرس روح المواطنة داخل النظام الجمهوري ، وترتقي بمواطنيها على اختلاف جهاتهم وتوجهاتهم ،دون مراعاة المصالح الضيقة والمآرب الدنيوية .

ــ مفهوم الوطن، عند ابن باديس :

برى ابن باديس أن معنى الوطنية المتميزة ،هي فكرة يبجلها الوطنيون، ويخشى منها فرنسيو الجزائر  والمعمرين ودعاة الإدماج ، ولقد ذكر ابن باديس، بأن الأمة الجزائرية تكونت ووجدت ككل أمم الدنيا ، ولهذه الأمة تاريخها الحافل  بجلائل الأعمال  ، ولها وحدتها الدينية واللغوية ، ولها ثقافتها الخاصة ،وعوائدها وأخلاقها ؛ بما فيها من حسن وقبح ، شأن كل أمم الدنيا ، كما أن هذه الأمة الجزائرية ، ليست هي فرنسا ، ولا يمكن أن تكون فرنسا ، بل هي أمة بعيدة كل البعد في لغتها  وأخلاقها وفي مصيرها وفي دينها ، ولا تريد أن تندمج ، ولها وطن محدود  بحدوده الحالية المعروفة (26).

وعليه، فالوطن حسب ابن باديس ، ليس هو قطعة أرض، أو مجرد سماء بلا عماد أو هواه نتنسمه أو ماء عذب نشربه ، بل هو مجموعة من الأفكار والقيم والمبادئ والعادات والمعتقدات الواحدة والموحدة ، التي يشترك فيها المواطنون، داخل أمة بعينها، ونتيجة صيرورتها  الاجتماعية والتاريخية والفكرية ، تصبح متميزة عن بقية الأمم والشعوب الأخرى، فلكل أمة وطنها ووعيها الوطني  انطلاقا من ثقافتها الخاصة ،التي تشكل تراثها وأصالتها المميزة ، فلماذا يريد منا الغرب الرأسمالي التخلي عن أصلتنا وهويتنا الثقافية، وإتباع نسقه الثقافي الغريب على صيرورتنا التاريخية والاجتماعية       ، والبعيد عن قيمنا ومبادئنا الموروثة .

7) ـ التقليد الأعمى للآخر، علامة تخلف حضاري:

أما بالنسبة لأولئك، الذين يريدون السير في فلك الثقافة الأخرى القوية في العصر باعتبارها الأكثر حداثة، ويبحثون عن حل لمشكلاتهم المختلفة التي تعترضهم في الحاضر من خلالها،بهدف التقدم والتطور لهم واهمون، لان ذلك يؤدي إلى التبعية الفكرية والثقافية، التي تعني تقليد الآخر في قيمه وأفكاره و تصوراته المعتمدة في حل مشكلات واقعه التي تختلف عن أفكار ومشكلات واقعنا الاجتماعي والتاريخي ،لان الثقافة في حقيقة الأمر هي أسلوب الحياة الذي تتباين صورته من مجتمع لآخر،ومن ثم تتفاوت الحلول وكيفية علاج المشكلات والتعامل مع الحياة، فمثلا: سلوك العربي المسلم يختلف عن سلوك الأمريكي أو الياباني، وذلك راجع لاختلافهم في أسلوب الحياة ، أي في كيفية إشباع الحاجات البيولوجية من مأكل ومشرب وملبس وتناسل ، وأيضا في كيفية التمييز بين الخير والشر، وبين الخطأ الصواب، وبين الجميل والقبيح.

وهذا يعني أن الأمم، تختلف في معايير ومبادئ، الذوق الجمالي والأخلاقي والمنطقي ، بحيث أن سلوك الإنسان الأمريكي ، يظهر غريبا وشاذا ، بالنسبة لأسلوب الحياة، المعروف عند الأمة العربية الإسلامية   ، والعكس صحيح ؛مما يجعل الإنسان الأمريكي، يختلف عن الإنسان العربي المسلم في الشخصية ، وفي طريقة التفكير والتدبير، لذا يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي، أن الثقافة هي:” مجموعة الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية ، التي تؤثر في الفرد منذ ولادته ، وتصبح لاشعوريا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه” (27) ، ومن هنا نفهم بان سلوك الإنسان ينطبع بالأسلوب الذي يحياه في بيئته الاجتماعية التي ولد فيها ، وأن الثقافة كأسلوب حياة، تمارس الإلزام والقهر على أفرادها ،الذين ينتمون إلى فلكها ، لذلك نرى من الناحية الأنثروبولوجية ضرورة ، أن تكون النظرة إلى المشكلات والقضايا المطروحة، والبحث عن علاجها، من داخل دائرة الثقافة الخاصة بمجتمعنا ، وليس من خارجها ، لأن التسليم بالأمر الثاني ،تكون عاقبته المؤلمة ، هي فقدان لأصالتنا الخاصة من جهة ؛ والفشل في الأخذ بشروط التقدم والتحضر من جهة أخرى ، وهذا ما يعمل على إدامة التخلف والركود ،في جميع المجالات إن لم نقل زوالها وتلاشيها.، ويؤكد محمد عبده خطر التقليد الأعمى بقوله : ” إننا نخشى لو تمادينا في هذا التقليد الأعمى ، واستمر بنا الأخذ بالنهايات الزائدة، قبل البدايات الواجبة ، أن تموت فينا أخلاقنا وعاداتنا ، وأن يكون انتقالنا عنها على وجه تقليدي أيضا ، فلا يفيد…”.(28) .

بناءا على ما سبق ، نخلص إلى حقيقة معينة لا محيد عنها ، وهي أن المجتمع الذي يبتغي غير ثقافته أسلوبا لحياته ، فلن يكتب له إلا التخلف  الحضاري ،و مآله  الحتمي الانهيار والاندثار.

ثانيا : ثقافتنا  الإسلامية الأصيلة، في مواجهة الثقافة الغربية : 

إن عدم احترام الاختلاف الثقافي بين الأمم أدى إلى صراع فكري وحضاري مرير، وهذا ما بينه التاريخ نفسه، الذي ينقل لنا كل مرة بوضوح وبأمانة صور عن الصراع الثقافي والحضاري مع الغرب .

 

 

  • ـ الغرب المسيحي ، و محاربة الدين الإسلامي :

ويتجلى دلك في إيمان المسيحيين  بالمنطق الأرسطي، الذي كان يقول بثبات العالم وبفكرة التجانس، التي جعلت منها الكنيسة، غنيمة فكرية كبرى ، لتبرير نظرتها المغلقة والمتزمتة تجاه الآخر، وهي أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، حيث كان من جراء هذا الأسلوب الكنيسي المظلم والمتمركز؛ أن استبعد الحوار بين الأديان ، بقتل وتعذيب ومحاربة، كل من سولت له نفسه المروق عن سلطان الكنيسة المقدسة، فقد عمل الغرب تاريخيا ومن خلال الحروب الصليبية على نشر ثقافته والانتصار لها بالعنف ، يقول محمد عبده ” وفي فبراير 1502نشر الأمر بطرد أعداء الله المغاربة “المسلمين”من اشبيلية وما حولها من لم يقبل المعمودية منهم ترك اسبانيا قبل شهر ابريل، وأبيح لهم أن يبيعوا إما يملكون على الشرط الذي وضع لليهود ، لكن وضع للمسلمين شرط آخر، وهو أن لا يذهبوا إلى بلاد إسلامية ، ومن خالف ذلك جزاءه القتل ؛ هؤلاء المساكين نفروا إلى القتل ، إن لم يكن قتل الجزاء عند الرجوع ، فالموت ملاقيهم مع العري والجوع”(29)

 

لقد تعاقبت على المشرق الإسلامي، ثمانية حملات صليبية، كانت تتوالى عليه بعد الحين و الحين…، طمعا في مغانم جديدة ، أو رغبة في تحقيق ما عجزت عنه الحملات الأخرى ، أو استجابة لتحديات ومخاطر جديدة ، برزت من جانب المسلمين أنفسهم ، لقد تمكنت الحملة الصليبية الأولى التي انساحت إلى الأرض الإسلامية في أواخر القرن الخامس الهجري من التمركز هناك ؛ وإنشاء مملكة وثلاث إمارات كانت أولاها في (الرها)، في الجزيرة الفراتية ، وثانيتها في أنطاكية على البحر المتوسط، وثالثتها، في طرابلس اللبنانية ، أما المملكة فكانت في بيت المقدس ، وانطلقت الحملة الصليبية الثانية بعد حوالي نصف القرن ، لكي ما تلبث أن تعقبها حملة ثالثة بعد مرورعقود ثلاثة فحسب ، ومن ثم راحت الحمالات التالية تثرى ،حتى أذن الله بانقضاء دولة الغزاة الصليبيين في الأرض الإسلامية(30)، وهكذا دامت الحركة الصليبية ، في أرض المشرق العربي ، زهاء قرنين كاملين عانى فيها المسلمون من ويلات الظلم والكيد والقهر؛ علاوة على ما تلقوه من عنف وهمجية؛ وتنكيل وتقتيل ؛ عندما هجموا على بلدان المسلمين، والذي كان هدفهم الأول والأخير، هو تهديم الصرح العلمي والحضاري ، الذي شيدته الثقافة العربية الإسلامية لعدة قرون خلت ، لكن الغرب المسيحي اشتهى إلغاء هذا الدور الريادي ، وأراد إحكام قبضته على المشرق الإسلامي؛ بجعله تابعا عقائديا ، وخاضعا ثقافيا، لكن تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن .

 

  • ـ من الحركة الصليبية، إلى الاستعمار المباشر:

 

وهكذا  كان أسلوب الغرب المسيحي، هو نشر الثقافة الغربية النصرانية، بالقوة والعنف منذ عهد صلاح الدين الأيوبي في القرن 11الميلادي، مرورا بسقوط غرناطة سنة 1492م ؛ وانتهاء بحادثة سقوط الأسطول العثماني بمعركة نافرين ،سنة 1827م ، والتي منها ازدادت أطماع الحركة الاستعمارية ، لاقتسام العالم العربي المهزوم والمندحر آنذاك، كما حرص على فرض وتثبيت المسيحية بالقوة في هاته المناطق، لتواجه الإسلام ، من خلال سياسة التبشير الديني المسيحي، ولا أدل على ذلك ما فعله الاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا ، ولاسيما الجزائر، ومحاولته تشويه ملامح هويتها العربية الإسلامية، وقد دام هذا الصراع زهاء132 سنة ، بهدف إخضاع الجزائر ثقافيا وحضاريا، وهذا بفرض التعلم والتعامل باللغة الفرنسية،لتحل محل اللغة العربية، وبتحويل المساجد إلى كنائس، وبعرقلة كل نشاط ديني أو سياسي يخدم الثقافة الأصيلة، وحتى دعاة الإدماج، الذين أرادوا جعل الجزائر جزء من فرنسا ثقافيا وفكريا وحضاريا ، لم ينجحوا في دعواهم هاته ، لأن الشعب الجزائري المسلم؛ رفض هذا المطلب بقوة ، وثار عليه (الثورة الجزائرية الكبرى)، بسبب التمايز الكبير بين ثقافتين مختلفتين ، وهذا الصراع بين ثقافتين مختلفتين ومتعاكستين ، وجد ليس فقط في الجزائر أو المغرب العربي الكبير، التي تعتبر الجزائر جزء منه ، ولم  ينحصر كذلك في بعض بلدان المشرق العربي، بل في كامل الوطن العربي الذي كان مسرحا له ، والذي إقتسمته كل من فرنسا وبريطانيا آنذاك ؛ لكن التفاف العالم العربي الإسلامي حول ثقافته العربية الإسلامية ، وإيمانه بها ، وضع حد لهذا الجبروت والطغيان الاستعماري، كما حررته من قيود الظلم والاستعباد ، لكن كان ذلك  بتأثيرمن مجموعة من المفكرين والمصلحين.

 

  • ـ الظاهرة الإصلاحية، في العالم العربي الإسلامي :

 

أ) ـ الاتجاه القومي:

 

يعود تاريخ نشأة الفكرة القومية العربية ، إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، لذا بدأت اليقظة القومية عند العرب، مع بداية النهضة الفكرية العامة، وكانت وليدة عصر النهضة، وقد سبق المسيحيون العرب المسلمين منهم، إلى التحسس بالشعور القومي ، ففي بداية القرن التاسع عشردخل المذهب البروتستانتي إلى البلاد العربية، وترجم الإنجيل إلى اللغة العربية وأخذت طوائف الروم الأرثوذكس في بلاد الشام تطالب بتعريب كنيستها، وكانت الكنائس الكاثوليكية ، بما فيها الموارنة ، قد استقلت عن روما وصار لها بطاركة ومطارنة من العرب، وغدت لها مدارسها ومنذ عام 1870تساؤل سليم البستاني : “هل يصطلح العرب ؟ ، هل يرد الزمان إليهم الاتحاد؟؛هل يقيم لهم الدهرعزا؟…،وعلى يد العرب المسيحيين تشكلت أولى الجمعيات السرية العربية ، التي نددت بالحكم التركي ،وطالبت باستقلال الولايات العربية عن الدولة العثمانية، إلا أن هذه الحركة اقتصرت على آسيا العربية دون غيرها من البلاد العربية، كما تأسست “جمعية بيروت السرية”عام 1875م، على يد بعض الطلاب في الكلية الأمريكية السورية البروتستانتية، والتي من أهم مطالبها  منح سوريا الاستقلال ، والاعتراف باللغة العربية لغة رسمية في البلاد، الغتء الرقابة والقيود المفروضة على حرية التعبير، ونشر المعرفة  وجعل الخدمة الوطنية محلية.(31).

 

وكان نمر فارس الذي هاجر إلى مصر عام 1883م، وأنشأ هناك جريدة “المقطم” اليومية،ومجلة “المقطف”الشهرية،أحد أعضاء هذه الجمعية، كما كان يعقوب صروف والشاعر إبراهيم اليازجي أحد أعضائها أيضا، كم أنشئت عام 1881 جمعية سرية أخرى هي “جمعية حقوق الملة العربية “من المثقفين العرب في بيروت ودمشق وطرابلس وصيدا، وكانت تنادي بالوحدة الإسلامية المسيحية ضمن الإطار القومي العربي، ، والتمرد على الاستبداد الحميدي، وفي الفترة نفسها ظهرت دعوة جديدة تقول بإقامة خلافة عربية مقام الخلافة العثمانية ، على يد عبد الرحمن الكواكبي (1854/1902)، في كتابه “أم القرى”الذي صدر في مصر سنة 1316هـ، كما كانت دعوة الكواكبي وحلقة الشيخ طه الجزائري قد مهدتا الطريق لتشكيل الجمعيات والمنظمات السرية ، لمقاومة الاستبداد التركي ، ومنهم عارف النكدي وعبد الغني العريسي ومحمد المحمصاني والأمير عادل أرسلان ، في عام 1905م انتقل بعض أعضائها إلى الآستانة، واتصلوا هناك بالطلبة العرب(32).

 

وبعد ذلك بعام أسس محب الدين الخطيب وعارف الشهابي مع عبد الكريم الخليل وشكري الجندي “جمعية النهضة العربية “ن في الآستانة ، وأنشأ نجيب عازوري”عصبة الوطن العربي”، في باريس بهدف تحرير الولايات العربية من الحكم التركي، وغيرها من الجمعيات الأخرى(33) .

 

ب) ـ الاتجاه الوطني الإقليمي :

 النظرة الإقليمية تعبرعن الوطنية بمعنى حب الوطن ، والولاء له،وهو مفهوم حديث عند العرب، جاءهم مع الغزو الثقافي الغربي في القرن التاسع عشر وكان أول من دعا إلى الوطنية بهذا المفهوم الشيخ رفاعة الطهطاوي (1801/1873م) ، فقد أبرز أمجاد مصر القديمة، في كتابه”مناهج الألباب المصرية، في مباهج الآداب العصرية” ، الذي صدر عام 1869م  ، والوطنية في رأيه تعني التخلص من التعصب الديني والتسامح بين أبناء الشعب المصري من مسلمين وأقباط ، وقد تطورت فكرة الطهطاوي هذه ، حتى أصبحت دعوة شعبية شعارها :”مصر للمصريين”،وقد نادى بها الصحفيان أديب اسحق ،وسليم النقاش ،وكتب عنها أديب إسحاق في جريدة “مصر الفتاة” الصادرة في الإسكندرية عام 1879م ، وفي عام1879انشأت مجموعة من المصريين”الحزب الوطني” ، فكان أول حزب سياسي مصري(34)  ولم يقتصر هذا الاتجاه الإقليمي على مصر فقط ، بل عرفته الجزائر ، بعد أن وقعت تحت الاحتلال الفرنسي ، وكان رائد هذا الاتجاه حمدان خوجة ، فالوطنية في رأي خوجة :” علاقة شهامة لحركة عندما أصبحت الجزائر تشعر بالاستبداد من أمة أجنبية، وقد رفض خوجة فكرة الاندماج الفرنسي ، وأثبت أن الكيان الجزائري يختلف عن الكيان الفرنسي في الدين واللغة والعادات والتقاليد ، ويذهب أبوالقاسم سعد الله إلى القول أن حمدان خوجة أول جزائري عربي مسلم آمن بالمفهوم الحديث للوطنية، أما في البلاد العربية الأخرى فلم يظهرهذا الاتجاه الإقليمي ، إلا بعد الحرب العالمية الأولى (35).

 

ج) ـ اتجاه الجامعة الإسلامية:

ظهرهذا الاتجاه، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كرد فعل للغزو العسكري والثقافي الغربي ،للعالمين العربي والإسلامي، ونتيجة لعجز الدول الإسلامية، عن إيقاف هذا الغزو أو رده ،وذلك بعد أن تيقن عدد من المفكرين المسلمين، أن النضال المحلي في كل قطر إسلامي ،ضد الغرب ، لن تكون له جدوى؛مادام الغرب متفوقا من الناحية العسكرية ،(…)، فعمدوا إلى العمل السياسي المنظم الشامل، وسعوا إلى الوحدة العامة بين الأقطار الإسلامية…، وكان من أشهر دعاة هذا التيار وقادته، الشيخ جمال الدين الأفغاني، فقد بدأ الدعوة إلى فكرة الجامعة الإسلامية، منذ حجه إلى مكة عام 1857م، وأنشأ فيها جمعية “أم القرى”، التي ضمت أعضاء من مختلف الأقطار الإسلامية ، وأصدر مجلة تحمل اسمها، وتابع الدعوة للفكرة، في الهند ومصر وتركيا وفرنسا ، حيث انشأ مع الشيخ محمد عبده، جمعية العروة الوثقى في باريس، (36)وأصدر مجلة بهذا الاسم، وقد وجدت هذه الدعوة، صدى في مصر والأقطار الإسلامية ، بسبب الصعوبات التي واجهتها السياسة الخارجية العثمانية ، وعداء الدول الأوروبية وشعوبها لها، ، ووجدت أيضا ارتياحا لدى رجال الحكم العثمانيون، لذا حاولوا احتضان جمال الدين الأفغاني ، ودعم تلاميذه وأتباعه، مثل الشيخ محمد عبده وعبد الله النديم،وغيرهما أما المبادئ التي تقوم عليها هذه الدعوة  فهي :

1) ـ اعتبار الوازع الديني عند المسلمين ، الأساس في معركتهم ضد الاستعمار الغربي .

2) ـ الوحدة الإسلامية، هي الطريق الوحيد لمقاومة الغزو الغربي ، فالدول الغربية تقيم التحالفات فيما بينها ؛ لاقتسام أوطان المسلمين، وتدمير عقيدتهم، وهذا يستدعي تحالف دفاعي، بين مسلمي العالم، من أجل حماية استقلالهم، والحفاظ على أنفسهم من الفناء  (37).

3) ـ بعث الهمة في نفوس المسلمين،  لدفعهم إلى مقاوم الاحتلال الأجنبي، والثورة على الاضطهاد      ، وذلك بإعادة الثقة إلى نفوسهم أولا ، بعد أن أصابها الضعف والتخاذل .

4) ــ إدخال الإصلاحات إلى الدول الإسلامية ، في جميع الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، واتخاذ وسائل الثورة السياسية ، لتحقيق غاياته ، لاعتقاده بأنها أسرع الطرق للوصول إلى ما يبتغيه ، من تحرير الشعوب الإسلامية، من نير المستعمرين . (38).

د) ـ  اتجاه الرابطة العثمانية :                                                                  كانت الدولة العثمانية ، دولة إسلامية بكل معنى الكلمة ، وكان العرب المسلمون التابعون لها ينظرون إليها كتتمة للخلافة الإسلامية ، وحلقة متصلة بالتاريخ الإسلامي ، لذا تمسك معظم المفكرين العرب في القرن التاسع عشر بالرابطة العثمانية ، ولم يفكروا في الاستقلال التام عن الدولة العثمانية إلا في بداية القرن العشرين ، ونتيجة لحركة التتريك التي قامت بها جمعية الاتحاد والترقي التي استولت على السلطة بعد انقلاب عام 1908م ، وظهر تيار الرابطة العثمانية بشكل جلي في مصر، بعد الاحتلال البريطاني لها عام 1882م ، وكان على رأس هذا التيار مصطفى كامل والحزب الوطني ، إذ دعا إلى ضرورة التمسك بالرابطة العثمانية ؛ والدفاع عن الدولة العثمانية في صراعها مع الدول الأوروبية الطامعة فيها ، والراغبة في القضاء التام عليها.(39) .

هـ) ـ جمعية العلماء المسلمين بالجزائر:

خرجت هذه الجمعية إلى الوجود في الخامس من مايو عام 1931م، وكان مركز نشاطها الأول،  نادي الترقي بالجزائر العاصمة، وقد تولى رئاستها منذ تأسيسها،الشيخ عبد الحميد بن باديس،  وبعد وفاته خلفه الشيخ البشير الإبراهيمي،  إلى غاية تاريخ حلها سنة 1956، أي بعد اندلاع الثورة الجزائرية، ومن مؤسسي الجمعية أيضا ، إضافة الى ابن باديس والبشير الإبراهيمي، نذكر الشيخ الطيب العقبي،  والشيخ العربي التبسي، والشيخ مبارك الميلي ،  الشيخ الطيب العقبي ، والشيخ العربي التبسي، والشيخ المبارك الميلي ، وبهذا كان نادي الترقي ، الدافع الأول لتحقيق وحدة الفكر الجزائري ، وبالتالي النهضة الجزائرية.

وأوضح نص حول أهداف هذه الجمعية ، هو ما كتبه الشيخ البشير الإبراهيمي، في جريدة البصائر  (العدد 3 سنة 1947) ، والذي قال فيه : ” يا حضرة الاستعمار، إن جمعية العلماء  تعمل للإسلام، بإصلاح عقائده ؛ وتفهم حقائقه ، وإحياء آدابه وتاريخه ، وتطالبك بتسليم مساجده وأوقافه إلى أهلها، وتطالبك باستقلال قضائه ، وتسمي عدوانك على الإسلام ، ولسانه ومعابده وقضائه ، عدوانا بصريح اللفظ ” .(40) .

ـ وتطالبك بحرية التعليم العربي .

ـ وتدافع عن الذاتية الجزائرية التي هي عبارة عن العروبة والإسلام مجتمعة في الوطن .

ـ تعمل لإحياء اللغة العربية ،وآدابها،وتاريخها ، في الوطن العربي .

ـ وتعمل لتوحيد المسلمين في الدين والدنيا ـ وتعمل لتمكين أخوة الإسلام العامة بين المسلمين كلهم.

ـ وتذكر المسلمين الذين يبلغه صوتها بحقائق دينهم ، وسير أعمالهم ,أمجاد تاريخهم.

ـ وتعمل لتقوية رابطة العروبة،بين العربي والعربي، لأن ذلك طريق لخدمة اللغة والأدب(41).

ويقول البشير الإبراهيمي عن الاستعمار: ” الاستعمار الغربي وكل استعمار في الوجود غربي ـ يزيد على مقاصده الجوهرية وهي الاستئثار والاستعلاء والاستغلال ، مقصدا آخر أصيلا وهو محو الإسلام من الكرة الأرضية خوفا من قوته الكامنة ، وخشية منه أن يعيد سيرته الأولى كرة أخرى(42)

وهكذا كان هناك فضل وأثر قوي لجهود جمعية العلماء المسلمين ، على توعية الشعب الجزائري المسلم برسالته ، وبضرورة ثورته على المستعمر الغاشم، وعلى ما حمله من روح صليبية استدمارية ، فكان النجاح حليفها ، والانتصار قرينها، حيث وضع حد لبراثن الاستعمار، في الأرض الجزائرية المسلمة ، كما أمتد صيتها ولهيبها، إلى مختلف الأقطار العربية المسلمة المجاورة، (المغرب العربي) والبعيدة ، (المشرق العربي) ، وبقيت كنموذج حي، في الدفاع عن أصالتها المميزة ، يقول الأستاذ العقاد : ” إن هذه الثورة لدرس رادع للمستعمرين ، وعبرة نافعة للمعتبرين ، ورجاء صادق لليائسين”(43) .

وابن باديس صريح في أن عملية التغيير الاجتماعي ينبغي أن تنطلق من داخل الذات أو الضمير الإنساني والإسلام الذي يحقق هذا التغيير ليس الإسلام الوراثي التقليدي يؤخذ بدون نظر ولا تفكير ولا يمكن أن ينهض بالأمم لأنه مبني على الجمود والتقاليد، فلا فكر فيه، أما الإسلام “الذاتي”أو العقلي فمبدؤه الفكر والنظر ولحمته البرهان وبناء العمل على العلم.(…) إن بناء المجتمع ـ الدولة يقوم عنده على الوطن والدين والقاعدة الشعبية الواسعة، فالوطنية بدون عقيدة دينية تنظم حياة الشعب،هي وطنية عاجزة فقدت أبعادها الحضارية والدين الذي لا يخدم هذه القاعدة الشعبية نفسها بالتربية العلمية، هو دين محكوم عليه بالانعزال ، لأنه لا يعيش سلوكات الناس و أفهامهم ، ومن الدين والوطنية وجماهير الشعب تتألف القومية العربية ، وهي بدون الدين الإسلامي قومية مبتورة من أبعادها الإنسانية ومن عظمتها السياسية يقول ابن باديس في : ” إن الدين قوة عظيمة، والحكومة التي تتجاهل دين الشعب تسيء في سياسته ، وتجلب عليه وعليها الأضرار والأتعاب” .(44).

 

ومنه نستنتج بعد عرضنا التاريخي لظهور هاته الاتجاهات الإصلاحية والإطلاع على مضمونها الفكري والديني ، أنها نابعة من  الذات الحضارية للأمة العربية الإسلامية ، فهي تتفق على هدف واحد وهو الرد على الموجة الصليبية والاستعمارية ، التي اجتاحت العالم العربي الإسلامي، والتصدي لها عبر مكوّنات ثقافتنا العربية الإسلامية الضاربة الجذور في أعماق ماضينا ، من دين و لغة ، وتراث وتاريخ خاص، ومعتقدات…، فروح هذه الثقافة شكلت ، ومازالت تشكل جهاز المناعة ضد السموم التي تبثها الثقافة الغربية المتمركزة ، وضد المكائد والدسائس، التي تتوخى من خلالها، محوهذه الثقافة الأصيلة لامتنا ، لذلك كانت الدرع الواقي في الحروب الصليبية ، والحصن الحصين ضد الغزو الاستعماري والفكري فيما بعد ، وان الانفتاح على الثقافة الغربية ، والتأثر بها لا يكون منحصرا في الجانب الثقافي والفكري ، بل يجب آن يكون متعلقا بالجانب العلمي والتقني فقط ، حتى لا تتلاشى ملامح هويتنا المميزة لذلك كان هم الإصلاح في العالم العربي هو العودة إلى الأصول الأولى ، والينابيع الصافية ، التي تعبر عن كياننا الخاص والمميز؛ وجعلها أساسا ومنطلقا في عملية التطور الحضاري ، رغم تلونه بألوان سياسية وإيديولوجية مختلفة ، حرصا منه على إيجاد فكر سياسي ثوري .

 

. 4 ـ من الاستعمار المباشر ،إلى الاستعمار الغير مباشر:

بعد الاستقلال الشكلي، لمعظم بلدان العالم العربي ، أدركت فيما بعد هذه البلدان ، أن هذا الاستقلال لم يتم على حقيقته ، وأنها مازالت ترزح تحت نير العبودية والاستغلال، من قبل الغرب، وأن لغة المستعمر وأساليبه ، قد تغيرت شكلا لا مضمونا وقالبا لا قلبا ؛ وهي مازالت تؤثر إلى حد الآن بصورة غير مباشرة في كيانها وتهدد ثقافتها الأصيلة، وبالتالي فهو استقلال غير ثقافي ، وتحرر غير فكري من قيود المستعمر الغاشم  والظالم ، وعليه تبقى تحيا في تبعية غير واعية للعواقب و غير مدركة للنتائج، وتعيش في محيط  غير محيطها النفسي والاجتماعي الذي ألفته واعتادت عليه ،  وهو الأمر الذي وقف عنده المفكر الكبير مالك بن نبي مليا ، وأفرد له كتابا خاصا سماه “الصراع الفكري في البلاد المستعمرة”، يبين فيه حقيقة الصراع بين ثقافة المستعمر وثقافة المستعمر، حيث يقول في أحد صفحاته : ” إن البلاد المستعمرة تعيش الصراع الفكري ، وتسجل نتائجه السلبية في حياتها أو ميزانيتها، وفي أخلاقها، دون أن تعلم عن حقيقته شيئا،بمعنى أن الصراع الفكري في البلاد المستعمرة إلى غاية يومنا هذا ، أصبح أكثر تأثيرا من لغة الرصاص والمدافع، لأنه يلحق أضرارا بليغة بتقدمها واقتصادها وعلاقاتها الاجتماعية والنفسية والفكرية ، دون شعور منها، وبدون أن يظهر وجه المستعمر في هذا الصراع” (45).

 

ونفهم من ذلك ، أن مالك بن نبي، ينبه من جهة البلاد المستعمرة ، إلى ضرورة اتقاء شر خطط المستعمر و وسائله الخبيثة ، (أي بما يسمى الاستعمار الجديد) ؛ في الحد من فاعلية الأفكار، وتأثيرها على المستوى الاجتماعي ، كتشجيعه للصراع القبلي والطبقي والسياسي ، واستغلاله لتناقضات المجتمع الفكرية والأخلاقية والاقتصادية واللغوية والدينية…،وانتهازه لحالة عدم الإقبال على العلم والعمل والإبداع ، كل ذلك كان داعيا لتدخل الاستعمار، بكيفيات مختلفة ، وأزياء متنوعة في هذه البلاد (القابلية للاستعمار)، إضافة إلى ضرورة منح أفكارها الخاصة بها الفعالية المفقودة ، حتى توجه بعقلانية مثلى، الأشياء والأشخاص ، وهذا لا يتحقق إلا بإتباع شروط ومقاييس نفسية واجتماعية،  لكي تميز بين الأفكار المزيفة والأفكار الأصيلة ، من جهة أخرى .

5 ـ من الاستعمار الغير مباشر، إلى الاستشراق :

لقد تحولت تلكم الوسائل والأدوات والخطط لاحقا ، وتطورت روح السيطرة ، والاستعباد فيما بعد عبر جهاز مؤسساتي آخر، و هو ما يسمى بالإستشراق ، بحيث يستجمع كل القوى والسياسية، والإعلامية والعلمية الانثروبولوجية  والتاريخية والمعرفية ، لأجل إحكام سيطرته على الشرق ذي الثقافة الروحية الكامنة والعظيمة والمؤثرة .

وهذا يعني، الانتقال إلى مرحلة تاريخية أخرى، والبدء بمعاينة الاستشراف والمستشرقين، خلال القرن التاسع عشر والعشرين، نراه أصبح نمطا من الإسقاط الغربي، على الشرق وإرادة السيطرة عليه،ففي خلال هذين القرنين، أصبح المستشرقون جماعة أكثر جدية ، وتقلصت آماد الجغرافية التخيلية والواقعية، فدخول الشرق لسيطرة أوروبا عليه ، بحثا عن أسواق لسلعها وعن منابع طبيعية ومستعمرات جعل الاستشراق ، ينجز تحوله وتقمصه من إنشاء بحثي إلى مؤسسة امبريالية، وتحت عنوان ” التعرف على الشرق” يشير إدوارد إلى العلاقة التي تربط بين موضوعين عظيمين ، بين المعرفة والقوة، فالمعرفة الفعالة، التي توضع موضع التنفيذ ، تصبح قوة وسلطة ، ويسوق إدوارد أمثلة على استعمالات هذه الفكرة لدى المستشرقين، فآرثر جيمس فور، حين يلقي محاضرة على مجلس العموم البريطاني ، يرتبط في ذهنه ضرورة الاحتلال البريطاني لمصر، والسيطرة عليها بفوقية، ب” معرفتنا لمصر، لا بالقوة العسكرية أو الاقتصادية بالدرجة الأولى ، فأن نمتلك معرفة كاملة بالحضارة المصرية ، أصولها الأولى ذروتها ، ثم انحطاطها يعني القدرة على القيام بهذا المسح المعرفي الشامل ، وأن نمتلك معرفة كهذه بموضوع كهذا ، هو أن نسيطر عليه ، وأن نمتلك السلطة عليه (46) .

ونستشف من ذلك، أن الإستراق  كفكرة أو عمل مؤسساتي، يسعى إلى طمس معالم الهوية العربية الإسلامية و القضاء على وهجها المستمر،وعطائها الأخلاقي المتواصل، وتعطيل ديمومتها الخلاقة، بحيث لم يبقى بعد ذلك إلا تأطير هذا الشرق حسب ما تهوى الثقافة الغربية المستعلية لمتمركزة، بجعله تابعا وخاضعا،ونجد أبرز من قام بفضح أساليب ونوايا المستشرقين، وكشف أهداف و أبعاد علم الاستشراق بدقة ،هو الدكتور ادوارد سعيد ، في كتابه “الاستشراق” ، فهو أول محاولة علمية متكاملة لدراسة بنية المعرفة الاستشراقية ، وكيف يتصور الغرب الشرق، ويعيد إنتاجه سياسيا واجتماعيا وعسكريا وعقائديا وعلميا وتخيليا ، ليكتسب الغرب مزيدا من القوة والهوية ، عندما يضع نفسه موضع التضاد مع الشرق باعتباره ذاتا بديلة (47) .

 

وفي واقع الأمر، فإن طبيعة الصراع اليوم ، بين الثقافات أو الحضارات، يأخذ لونا فكريا أو دينيا في جميع أنحاء العالم، وتسنده في ذلك وسائل الإعلام ، وتزكيه مراكز الإستقواء الغربي المسيحي، مثل مؤسسة راند للأبحاث الأمريكية، التي يعتبر فرانسيس فوكوياما (48) ، أحد أعضائها البارزين، ودور مركز البحث القومي الأمريكي، ومسعى الوصول إلى رسم خريطة حضارية وتاريخية جديدة للأمم، يسودها الغرب وتؤيده وتنظمه ، وتكرّسه أجهزة ومؤسسات الاستخبارات الغربية والصهيونية، والمنظمات والقوى الاستشراقية العلنية والسرية، التي تبغي من وراء هذا الصراع والكيد المبيّت، الانتصار للحضارة الغربية، ذات البعد المسيحي الصهيوني ، وإقصاء الحضارة العربية الإسلامية بمختلف الوسائل والخطط .

6 ـ من علم الإستشراق، إلى علم الاستغراب :

يعرف الدكتور حسن حنفي علم الاستغراب: “بأنه الوجه الآخر والمقابل والنقيض من “الاستشراق”، فإذا كان الاستشراق هو رؤية الأنا(الشرق)، من خلال الآخر (الغرب) ، يهدف “علم الاستغراب” إذن     ، إلى فك العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر، والجدل بين مركب النقص عند الأنا ومركب العظمة عند الآخر” (49).

ويقول أيضا في موضع آخر وعلم “الاستغراب” في مقابل الاستشراق ضرورة ملحة في عصر الثورة المضادة،بعد أن عاد الغرب بهجمته الاستعمارية الثانية ، بعد هجمته الاستعمارية الأولى ، أثر حركات التحرر الوطني ، كان السؤال :  لماذا نجحت حركات التحرر الوطني في التخلص من الاستعمار العسكري ، ثم تم إجهاض نتائجها في الاستقلال الوطني اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وحضاريا؟ ، لماذا زادت معظم البلاد المتحررة حديثا بعد الاستقلال تبعية في الغذاء والتسليح والتعليم ، وتحديث المجتمعات، كان الصراع بين الأنا والآخر في المواجهة الأولى بين حركات التحرر و الاستعمار صراع وجود ، صراعا عضليا يعتمد على الغلبة المادية ، أيهما أقوى ، لكن ظل اقتداء المستعمر بالمستعمر قائما، ثم جاءت الردة الحالية ،وانقلبت الثورات الحديثة، إلى ثورات مضادة من داخلها ، فلا ثقافات ثارت ولا شعوب تحركت ، لأن علاقة الأنا بالآخر ، بالرغم من الاستقلال الظاهري مازالت علاقة تبعية ، وليست علاقة استقلال، ولأن عقدة النقص التاريخية أمام الآخر، مازالت قابعة في الشعور(…) ، يهدف علم الاستغراب إذن، إلى إقالة الثورات الحديثة من عثراتها، واستكمال عصر التحرر من الاستعمار، والانتقال من التحرر العسكري، إلى التحرر الاقتصادي والسياسي والثقافي، وقبل كل شيء التحرر الحضاري…”(50).

إن الاستغراب، يعني تحديد الموقف من التراث الغربي، وكيف صاغ هذا التراث الوعي الأوروبي، وبيان

جذور العنصرية والاستعلاء ، بالعودة إلى أصول هذا الوعي الثلاثة وهي :

أ ـ المصدر اليوناني الروماني .

ب) ـ المصدر اليهودي المسيحي .

ج) ـ البيئة الأوروبية بما فيها من أساطير وأمزجة وعقليات وطبائع شعوب.(51) .

ثالثا) ـ من الفكر الأصولي، إلى الفكر الحداثي التنويري:

لكن هل الأصالة مقدسة  ومنزهة عن التشكيك والنقد ، في ما تنطوي عليه من مكوّنات، ولاسيما فيما يتعلق بالعادات والأعراف ، وبعض الجوانب من التراث ؟، وهل ندير ظهرنا لعملية الحداثة والتحديث التي فرضتها مستجدات وتطورات عصر النهضة؟ ، ومن هم أبرز من يمثل الفكر الحداثي .التنويري ، خلال عصر النهضة؟،وكيف وظفوه في خدمة الثقافة العربية الإسلامية آنذاك ، ؟؛ كيف تعامل هؤلاء مع مسألة الأصالة الخاصة بأمتنا العربية الإسلامية؟ ، وهل فعلا توصلوا إلى حل مقبول ومعقول، لمعادلة الأصالة والتحديث المعاصرللمناهج والأساليب والرؤى، في زمن الترهيب الغربي والتغريب الفكري؟ ، أم أنهم أخفقوا في تحقيق حلم الحداثة  ؛ والتنوير في الواقع العربي؟.

1) ـ مفهوم الحداثة:

قال جيلسون : ” إن الوعي بالحداثة، نشأ في العصر الوسيط، وكان المصطلح اللاتينيmodernorum أما الصفة modernus فقد ظهرت في القرن السادس عشر وترد إلى لفظ modoأي المعيار أو المقياس،وفي القرن السابع عشر قامت مشاجرة بين السلفيين والمحدثين،وقد نشأ اللفظ الفرنسي في القرن التاسع عشر عند شاتوبريان”.(52)

وتفيد كلمة “حديث ” اللاتينية، الحاضر والآن والحالي، وجذرها الهندوـ أوروبي، يفيد القياس أو المعيار الذي يقس به شيء من الأشياء ، ولقد استعمل لفظ “الحديث ” للتحقيب لما هو حاضروآني ومعاصر     ، ومقارنة بالماضي والقديم،وأصبح للكلمة في عصرالنهضة، معنى معياري وتقييمي يفيد تجاوز الماضي ، وفي القرن 19، ارتبطت بالرومانسية والتصنيع، واكتسبت معناها الحديث والمعاصر(53).

 

 

 

2) ـ تداعيات المفهوم عبر التاريخ:

يعود استعمال مصطلح الحداثة، إلى القرن التاسع عشر ، وتعود صفة “الحديث”إلى القرن الخامس  الميلادي ، حيث تم استعمالها ضمن صراع القدماء والمحدثين ، في التاريخ الثقافي الروماني ، الذي تمثل في صورة صراع بين الماضي الوثني ، و الحاضر الديني المسيحي .

إذا كان لفظ “الحداثة” لم يأخذ معناه ودلالته ، إلا في القرن التاسع عشر، حيث ارتبط بأعمال الشاعر الفرنسي شارل بودليرcharles boudelaire(1821ـ 1867)، إلا انه من الضروري الإشارة إلى أن أول من استعملها كان الكاتب البريطاني هوراس والبول،في القرن الثامن عشر،كما ظهرت عند الكاتب الفرنسي بلزاك سنة1823، ثم استخدمها بودلير في مقالته عن قسطنطين جوين التي كتبها عام 1859 ونشرت عام1863 .

ولقد ثبتها قاموس ليتري الفرنسي، في طبعته الصادرة عام 1867،وذلك من خلال المادة التي كتبها الأديب تيوفيل جوتيبه عام 1867، أما قاموس روبير الفرنسي أيضا، فقد ذكرها لأول مرة عام 1849، بعد أن اكتشفها في كتاب شاتوبريان مذكرات ما وراء القبر، وحاليا عرف هابرماس habermas الحداثة:”بأنها الوعي بالمرحلة التاريخية،التي تقيم علاقة مع الماضي ،من أجل أن تفهم ذاتها ،باعتبارها نتيجة لنوع من الانتقال أو العبور من الماضي إلى الحاضر” (54).

أما في الفكر العربي الإسلامي ، فقد أخذ مفهوم الحداثة يتلون بتلون المشارب والاتجاهات ،

فهي في الفكرالعلماني هي صورة طبق الأصل للنموذج السائد في البلدان المتقدمة صناعيا

وهناك من يعرفها ، بأنها الحداثة الاجتماعية والسياسية ، وهي منهج في التعامل يراعي ظروف إشكالية ناشئة في المجتمع ، ومعالجتها بما يتلائم مع المعطيات النفسية ، آخذا بعين الاعتبار الذهنية والمسالك السائدة في المجتمع ، ومحيطه الدولي.(55).

وهناك من يعني بالحداثة الفكرية، عائلة الخطابات وأساليب التفكير، التي انبثقت في عصر النهضة، (في القرن السادس عشر تحديدا) ، في أوروبا الغربية نقيضا لعائلة الخطابات، وأساليب التفكير التقليدية ، التي كانت سائدة في العصور الوسطى ، وقد صاحبت الحداثة الفكرية سيرورة تحديث المجتمع الأوربي وانتقاله من مجتمع زراعي إقطاعي، إلى مجتمع صناعي رأسمالي تقاني متطور ، وتصاعد نفوذ الحداثة الفكرية، في المجتمع الأوروبي ، فالمجتمع العالمي ، وتطورت واتضحت معالمها، مع تنامي الرأسمالية الأوروبية وانحسار الإقطاع ، حتى وصلت أوجها في عقيدة التنوير (56).

3) ـ دورالحداثة في ثقافتنا العربية الإسلامية، خلال عصر النهضة:

هناك من يرى من المفكرين العرب ، أمثال رفاعة الطهطاوي وصادق جلال العظم ، وطه حسين ،وقاسم أمين، وأحمد فارس الشدياق، و شبلي شميل وسليم البستاني، وخير الدين التونسي.، وفرح انطوان، ولطفي السيد، ويعقوب صروف ، أن التشبث بالأصالة أو الثقافة الخاصة فيه مجانبة للصواب ،لأنه يؤدي إلى التقوقع على الماضي والاكتفاء بمدحه، وإكبار أنجزه العرب والمسلمين تاريخيا فقط،في حين يجب أن تأخذ بما يجري في العصر من  مستجدات وتطور فكري وعلمي ،فمثلا التاريخ يثبت أن الأمة العربية الإسلامية تطورت حضاريا ، لما تفاعلت مع الثقافات الأخرى، أهمها الهندية واليونانية والفارسية ،وخاصة علوم الحساب الهندي والأدب الفارسي والطب والمنطق اليونانيين، ،لذا فان سنة التقدم الحضاري ،تقتضي من الثقافات الضعيفة ، المغلوب على أمرها،الأخذ بما توصلت إليه الثقافة القوية الغالبة في العصر، وهذا بتحديث نفسها بما يوافق هذه الثقافة الغالبة والمهيمنة ، وبما ينسجم مع روحها علميا وفكريا واقتصاديا وسياسيا وحضاريا،وهذا بالسير في دائرتها الحداثية الراهنة،خاصة وان فكرة الأصالة العربية الإسلامية ، لم تعد تقو على مواجهة تحديات العصر، ومشكلاته ، مثلما هو الحال بالنسبة لدول العالم الثالث والمتخلف ، لغياب بدائل فعالة على المستوى المحلي ، ومن ثم تجد نفسها منبهرة ومنساقة إلى الاقتداء بها في كيفية التعامل مع القضايا وعلاج المشكلات ، إضافة إلى تقليدها في أسلوب حياتها، وفي الأخذ بنمط تسييرها وتفكيرها ،بهدف الخروج من حالة التخلف المزمن ، إلى مرحلة التطورالحضاري ، ومن ثمة استحالة عيش هذه الأمم الضعيفة والمنهزمة حضاريا بعيدا عن ما يجري في العصر من حداثة وتحديث.

ــ البلد المتخلف، مولع بتقليد البلد المتقدم حضاريا:

لذا لابد أن تسير الدول المتخلفة ودول العام الثالث ، بما فيها البلدان العربية الإسلامية ، في فلك الثقافة الأكثر حداثة في العصر، مادامت مقوماتها ومكوناتها الثقافية ، أثبتت عدم ونجاحها في التحديث و في مواكبة العصر، من دين ولغة وتاريخ وعادات وتقاليد وأعراف ومعارف، وفنون…، وهذا الوضع الذي تعيشه الأمة العربية الإسلامية ، من شلل مكوناتها وتعطل طاقاتها وتقصير أفرادها وجهل أبنائها ،كان سببا لجعل ابن خلدون يقول في مقدمته : ” إن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إله ، إما لنظره بالكمال ؛بما وقر عندها من تعظيمه ، أو لما تغلط به من أن انقيادها ليست لغلب طبيعي(أي عصبية، ولا قوة بأس)، إنما لكمال الغالب ، فإذا غالطت بذلك واتصل لها اعتقادا ، فانتحلت جميع مذاهب الغالب،وتشبهت به ، وذلك هو الاقتداء” ، ويقول في موضع آخر:”ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه وفي اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله” (57) ، و يعني ابن خلدون بذلك أن الأمم المغلوب على أمرها ، والتي تعاني حالة التخلف والركوض، والتي لم ترق إلى قمة الحضارة والتقدم ، تختارعن طواعية طريقا آخر، وهو الأخذ بأسلوب حياة الأمة القوية حداثيا ، والأسمى حضاريا  والأرقى ثقافيا في العصر، وهذا بتحويلها إلى عقيدة راسخة في شعورها الجمعي.

وعليه ، فالتطبيق الفعلي لمقومات الثقافة الغالبة والمتقدمة حضاريا، في جميع جوانب حياتها ، وفي شتى أنشطتها ، وعلى سائر أجيالها ، كفيل بتحقيق الوثبة نحو التقدم الحضاري المنشود،  لأمتنا الإسلامية ، وضمن هذا المنظور، وعلى أساس هذه الرؤية، ذهب الكثير من المفكرين العرب ، مدفوعين بحالة الجمود والتردي، الذي أصاب الأمة العربية الإسلامية ، وحالة اليأس العام، الذي عم الحياة العربية ، نتيجة لفقدان البدائل على المستوى المحلي .

لذا نجد  رؤية أغلب هؤلاء،  لعملية النهوض الحضاري، مستمدة من ذات الرؤية الحداثية الغربية       ، حيث يقررخير الدين التونسي : ” إن التمدن الأوروباوي يتدفق سيله في الأرض فلا يعارضه شيء ، إلا ما استأصلته قوة تياره المتتابع، فيخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار، إلا حذو حذوه ، وجروا مجراه في التنظيمات ، فيمكن نجاتهم من الغرق” (58) ، وعليه نجد تصور خير الدين متأثرا بوضوح بالحضارة الغربية ، وجعلها مقياسا للأمة العربية في عملية التحديث، أي تحديث الفكر أولا من حيث وسائله ومناهجه وآلياته، لتحقيق النهوض العلمي والتقني ؛ ومن ثم التطور الاجتماعي والحضاري للأمة العربية .

ــ تأثر مصر بحملة نابليون، والتي كانت بوابة تحديث العالم العربي الإسلامي .

ومن جهة أخرى ، نلاحظ أن تأثر مصر بحملة نابليون بونابرت ، تعتبر عاملا أساسيا في اليقظة الحضارية للأمة العربية الإسلامية اليوم ومظهرا من مظاهر الحداثة والتحديث ، الذي يتجلى في معاصرتها للثقافة الأقوى آنذاك ، فالتاريخ يسجل وبوضوح أن مصر لما كانت في حالة جمود وتخلف، ولم تكن لها المقدرة الكافية على حل مشكلاته ، فقد أدى ذلك إلى فسح المجال لحملة نابليون سنة1789م ، فكانت بذلك بوابة لتحديث وتحضر العالم العربي الإسلامي في القرن 19م .

فقد اصحب نابليون، عدد من العلماء في مختلف التخصصات ، وأذهلت تجاربهم مؤرخ العصر الشيخ عبد الرحمان الجبرتي ، الذي وصف العديد منها في كتابه المشهور ” عجائب الآثار في التراجم والأخبار”، خاصة مع المخبر الكيميائي، الذي أنشأه الفرنسيون في القاهرة ، إضافة إلى إعجابه بالتجارب العلمية التي أجراها العلماء أمامه ، كما انشأ نابليون الجمعية العلمية المصرية في 22اوت 1789م،فيها عدد من هؤلاء العلماء، التي صدر عنها كتاب “وصف مصر”عام1809م ، وهو عبارة عن مجلدات تضمنت آثار مصر في المعارف والفنون والصناعة والزراعة والهندسة والآداب والتاريخ والسياسة، كما صدر كتابان طبيان، في نفس الفترة وهما ” وصف الرمد في مصر و طرق معالجته ” للطبيب سا فا ريزي و”إعلان عن الجذري” ، من تأليف ديزينت حكيمبا شي ديوان القاهرة .(59) .

كما لا ننسى، جهود محمد على في هذا المجال ، وإفادته للبعثات العلمية، إلى العواصم الأوروبية ،خاصة فرنسا وايطاليا، وكان لهؤلاء دور، في إنشاء المعاهد والمدارس العلمية في مصر والشام ،تضم جميع التخصصات،وترجمة المؤلفات، وإصدار المجلات، في ميادين الزراعة والصناعة والهندسة والطب والرياضيات والسياسة والقانون ، وسنذكر واحد من أبرز الذين كانوا ضمن البعثات العلمية المصرية إلى باريس ، وهو رفاعة رافع الطهطاوي (1801م ـ 1873م) ، الذي لما عاد إلى مصر ألف كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” في عام 1834م.،كما له كتاب آخر أبرز فيه أمجاد مصر القديمة في كتابه ” مناهج الألباب المصرية ، في مباهج الآداب العصرية ” الذي صدر عام 1869م.(60)

حيث أعجب في كتاب “تخليص الإبريز، في تلخيص باريز”، بالثورة على شارل العاشر، وبالدستور الفرنسي، والقانون الذي يخضع له الفرنسيين وما يتضمنه من أحكام فقال : ” وفيه أمور لاينكر ذووا العقول أنها من باب العدل ، والكتاب المذكور الذي فيه  هذا القانون يسمى “الشرطة” ومعناه في اللغة اللاتينية ورقة ، ثم تسومح فيها فأطلقت على السجل المكتوب فيه الأحكام المقيدة فلنذكره لك  ،وإن كان غالب ما فيه ليس من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لتعرف كيف حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير المماليك ، وراحة العباد ، وكيف انقادت الحكام والرعايا لذلك ، حتى عمرت بلادهم ، وكثرت معارفهم ، وتراكم غناهم ؛ وارتاحت قلوبهم ، فلا تسمع فيهم من يشكو ظلما أبدا ، والعدل أساس العمران” (61) ، ونستشف من ذلك أن الحداثة، لا تنطلق من الأصالة والتراث ومصادر التشريع الإسلامي الأصيل ، بل من القوانين والتشريعات الفرنسية الغربية ، وأن التأثر بالغرب، لا يكون في الجانب العلمي والتقني فقط، بل أيضا في الجانب الثقافي ، والاجتماعي و القيمي .

وفي هذا التفسير، دعوة صريحة ومباشرة ، إلى معاصرة الثقافة القوية في العصر، وأخذ بشروط التحديث والتقدم الحضاري قلبا وقالبا ، وهذا باغتراف من معين، ما توصلت إليه من حداثة علمية وسياسية واجتماعية وفكرية واقتصادية ، ومن ثمة تقليد ما أنجزته من منظومة قانونية وتشريعية ، لتحقيق الحداثة والتحضر، على أرض مصر والدول العربية الأخرى، إن شاءت ذلك وأحببته .

ومن هذا المنظور أيضا ، نجد هناك تيارا علمانيا متطرفا ، يضم قادة الصحفيين السوريين في مصر، أمثال يعقوب صروف ، و فارس نمر، و جرجي زيدان  ، وحركة الفلسفة العلمية ، بزعامة الدكتور شبلي الشميل، وفرح أنطوان ، وقد أكد هذا التيار ، على اعتبار العلم هو الأساس ، و التقليل من أهمية الدين ، و برزت الدعوة العلمانية ، على يد شبلي شميل (1860ـ 1918) ، فكان أول من أدخل مذهب النشوء والارتقاء ، إلى العالم العربي ، عن طريق الترجمات والمقالات ، التي كان ينشرها في مجلة       ” المقتطف ” .(62)

أما طه حسين، فيذهب نفس ما يتصوره رفاعة الطهطاوي، اتجاه الحضارة الغربية، حيث نجد في كتابه “تقليد وتجديد”،معجب بحملة نابليون بونابرت على مصر، و بالثورة الفرنسية وما جلبته من علم وتطوير وتنوير،على مصر والعرب عامة حيث يقول : ” جددنا صلتنا بالغرب، فأخذنا نعرف شيئا فشيئا، ما عند الغربيين ، ثم قويت حاجتنا إلى هذه المعرفة ، فأخذنا نبعث البعوث إلى أوروبا، ونتعلم من الأوروبيين بطريقة مفصلة وواضحة ، ونختار مما عند الأوروبيين، ما نحتاج إليه ، في تجديد حياتنا، وتمكينها من أن تنهض وتستأنف نشاطها القديم” (63) ، وهكذا نجد رؤية طه حسين، فيها الكثير من الإعجاب والافتتان بروح الثقافة الغربية ، واتخاذها نموذج للحداثة والتحديث، مهما استهجنا الثورة الفرنسية على مصر.

ـ دور الاتجاه اليساري العربي، في عصر النهضة:

رغم تعدد المدارس اليسارية العربية ، إلا أنه يمكن تقسيمها إلى جناحين رئيسيين في ما يتعلق بموقفها من مسألة الثورة الوطنية الديمقراطية ، وهما على التوالي :

  • ـ الجناح الحزبي الرسمي، الإصلاحي الطابع :

 

 

وهو الجناح الذي سيطر على الحركة اليسارية العربية، منذ منتصف الثلاثينات، وحتى يومنا هذا

، وقد تأثر هذا الجناح بصورة جوهرية ، بالموقف السوفييتي الرسمي، وخطاب السلطة السوفييتية والدبلوماسية السوفييتية ، وبعد إلغاء الاتحاد السوفييتي، والمنظومة الاشتراكية الأوروبية ، تبنى معظم هذا الجناح، ضربا ساذجا من الليبرالية الاجتماعية ، لذلك مال هذا الجناح، إلى اعتبار النظام القطري العربي، نظاما تاريخيا طبيعيا، واعتبار شعوب الأقطار العربية، أمما في طورالتكوين ،…، ومن ثم ، فإن طريق التحرر الوطني والتنمية ، في نظر هذا الجناح ، هو طريق التحالف، مع ما يسمى البورجوازية الوطنية، ودعمها من أجل التحرر السياسي من الاستعمار، و التحرر الاجتماعي من الإقطاع ، وعندما فشل في جمع الأقطار العربية ، حول اليسار الرسمي العربي ،وجه دعمه صوب شرائح البورجوازية الصغيرة، القوموية والتنموية الطابع، والتي اعتلت سدة الحكم، في سوريا والعراق ومصر وليبيا والجزائر، معتبرا إياها البديل، كما كان مسؤولا عن الأخطاء الكبرى، التي وقع فيها، ومنها اعتبار بعضهم الكيان الصهيوني، كيانا طبيعيا، واعتبار التسوية معه، أمرا ممكنا ، والتقاعس عن قيادة الجماهير، صوب السلطة السياسية في اللحظات الحاسمة، (مثلا: عام 1958 في العراق) ، وإغفال أهمية الوحدة الثقافية، للمنطقة العربية، التي تشكلت عبر الآلاف من السنين، من التطورات الدسمة.(64) .ب)ـ الجناح الرئيسي الثاني، لليسار العربي الماركسي الثوري: 

ويسمى تيارالتحررالقومي، الذي ظل مهمشا على الصعيد السياسي، وقد نشأ هذا الجناح في مطلع الثلاثينيات، من القرن العشرين بفعل ثلاثة عوامل رئيسية هي: حركة التنوير العربية، حركة المقاومة الوطنية في الأقطار العربية ، ثورة أكتوبرالبلشفية ، وكان توجه هذا الجناح منذ البدء ثوريا ووحدويا ، لكن القيادات الشيوعية الرسمية عمدت إلى تصفية هذا الجناح أو إضعافه وتهميشه ، وبالفعل ، ظل كذلك لعقود حتى تم إحياؤه من جديد عقب حرب جوان1967م، بفعل عوامل متنوعة ، وفي مقدمتها : تصاعد حركات التحررالوطني، في جنوب شرقي آسيا، وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، والثورة الفلسطينية ، والحركة الطلابية و في أوروبا، وبروز تيارات ماركسية بديلة للشيوعية السوفييتية، كالتيارات المتأثرة بماو،وتشي ، وتروتسكي، وتيارات اليسارالجديد ، وغيرها ، في مقدمة رموز هذا الجناح لليسارالعربي: سمير أمين، مهدي عامل ، إلياس مرقص، ياسين الحافظ، صادق جلال العظم ، فوزي منصور.(65)

 

كما دخل الفكرالماركسي وتسرب إلى مصر، بعد اشتراك الاتحاد السوفيتي ، في الحرب  العالمية الثانية،  وموقف الشعب السوفيتي البطولي في الدفاع عن الدولة الاشتراكية دليل واضح على عدم صحة المزاعم التي ظلت تروجها الأبواق الاستعمارية والرجعية ، نتيجة لتزايد الوعي الطبقي في ظروف الحرب وفي أعقابها ، حيث قامت عدة تنظيمات سرية ذات ميول ماركسية ، منها مثلا الحركة الديمقراطية للتحرير الوطني ، تشكل منها جناح عسكري ، بلغ عدد أعضائه مائة عضو ، والذين استقالوا فيما بعد، وانظموا إلى حركة الضباط الأحرار، تأكيدا على انتمائهم العربي (66)، والتي كان من ابرز مؤسسيها جمال عبد الناصر، ونفهم من ذلك، أن الفكر اليساري الماركسي الثوري ، يهدف إلى الوحدة العربية ، لأن التجزئة لا تخدم سوى الغرب الامبريالي ، إضافة إلى التحررالوطني سياسيا واجتماعيا ، والاهتمام بعملية التنمية الشاملة ، نظرا لعدم ملائمة النماذج الغربية الليبرالية المستوردة ؛ مع الظروف الواقعية والاجتماعية للوطن العربي ، ومن أبرز و أشهر، من طبق هذا المسعى الأيديولوجي الحداثي بالدول العربية ،  نجد جمال عبد الناصر بمصر ، هواري بومدين بالجزائر، وصدام حسين بالعراق، و معمر القذافي بليبيا .

4 ــ  نقد الفكر الحداثي، في عصر النهضة :.

غير أن ما قيل عن الحداثة، وعن ضرورة معاصرة الثقافة، الأقوى تحديثا وتنويرا ، إلا إنها تبقى كلمة حق أريد بها باطل ، فالحداثة ليس معناها، أخذ روح الحضارة الغربية، والنهل من ثقافتها ، وعدم احترام الاختلاف في الثقافات؛ والتمايز الفكري  بين المجتمعات ، بل يجب أن يقتصر فعل التحديث على الاستفادة من جانبه العلمي والتكنولوجي عامة ، كما أن الغرب الذي يدعي السيادة في كل شيء، يحرص دوما على جعل الأمة العربية الإسلامية، تابعة له فكريا واقتصاديا وسياسيا وحضاريا، على الرغم من أن الغرب نفسه، انطلق في عملية تطوره الحضاري، من ثقافته الخاصة والمميزة(اليونانية والإغريقية)، وأخذ من الحضارة الإسلامية آنذاك، التي كانت متقدمة عليه حضاريا، في القرن الثاني عشر ، النظام الرقمي والمعرفة الجغرافية والطب والعلوم والفلك ، فلماذا يتعامل معها اليوم بمنطق القوة والإقصاء ؟ ، ومن ناحية أخرى نجد أن حملة نابليون كانت غزوا أريد به تقتيل السكان ، ونهب كل ما بمصر من  كنوز نادرة وتراث متنوع وكائنات جيولوجية وأسرار عامة ، وأيضا جمع المعارف والمصالح لفائدة المخبر والمفكرين الفرنسيين ، وليس لبلاد مصر .

وهكذا يتبن لنا أن الحملة الفرنسية، كان لها هدفا تدميريا ،على التراث والثقافة عامة، وليس هدف نهضوي ، ومازال الغرب إلى يومنا هذا، يمارس القوة والقهر، ضد الثقافات المختلفة، لتطبيق مبادئ النظام الدولي الجديد،الذي يعبر عن مصلحة الطرف الأقوى، أو المجموعة القوية سياسيا واقتصاديا وعسكريا، بالرغم من أن هناك طرق أخرى للحداثة وللمعاصرة ، غير الطريق الذي اتبعه الغرب وارتضاه لنفسه، وان الحداثة نفسها ليست مقصورة على فترة زمنية معينة، ولاهي محصورة على جنس معين ،بل هي ضرورة فنية واستجابة ، للمجتمعات التي  تخطت حواجز الثابت من الموروث، إلى آفاق أكثر رحابة…، سعيا وراء تأكيد استقلالية العقل الإنساني؛ تجاه التجارب الفنية السابقة .(67)

كما أن تلك النماذج المختلفة السابقة، من الحركة التنويرية ، (والتي مثلت الفكر الحداثي) ، كانت بعيدة عن التعبير، عن عمق واقع الإنسان العربي ، وعدم التصوير الصادق لمعاناته وطموحاته وآماله ، مما نتج عنه مقت هذه النماذج الحداثية ، حيث يرى كمال عبد اللطيف ، أن المنظومات الفكرية العربية ، تعبرعن : ” حالات تمزق الوعي العربي أمام واقعه ، وأمام تاريخ الفكر الإنساني ، وفي إطار زمنية أوسع ، تتسم بالهيمنة الغربية ، كما تعبر عن  جهود الفكر العربي ، في مقاربة واقعه التاريخي ، بأساليب النظر الفلسفي”. (68) ؛ وهذا يعني أن تعدد أقطاب الحركة الحداثية التنويرية ، وتضارب رؤاهم ومناهجهم ، وما يتوخونه من أهداف وأبعاد ، للخروج من التخلف الحضاري للأمة أدى إلى فكر حداثي هجين ؛ ووعي عربي مهترئ .

إن الحداثة، لا تعني الاتجاه كليا نحو طريق الغرب، الذي يمثل الثقافة المسيطرة في العصر ،بل باختيار الطريق الذي ترتضيه الأمة لنفسها بقصد التطور والرقي الحضاري ، وحل اشكالية التوفيق في شخصية الأمة بين ما هو أصيل وما هو حديث، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: كيف يمكن حل اشكالية الصراع بين الأصالة والحداثة (المعاصرة)، لذا سنتعرف لاحقا، على طبيعة هذا الصراع ،وهل ثقافتنا الإسلامية ، هي من تعادي الحضارة الغربية وتصارع ثقافتها ،  أم العكس هو الصحيح ، وما هو السبيل الأمثل  إلى إيجاد آليات التوفيق بين الأصالة والحداثة ، وليس مجرد تلفيق ، فثقافتنا العربية الإسلامية تعتمد على التشريع الديني الرباني ، باعتبار الله هو المشرع وهو الحاكم ، بينما الثقافة الغربيةتعتمد على التشريع الوضعي المدني ،وتنفي كل دور وقيمة للتشريع الديني ، وهذا باسم العلمانية واللائكية والحياة المدنية ، لذا فهناك نوعين من التشريع، تشريع ديني ، وتشريع وضعي، يختلفان قلبا وقالبا، وقد اهتم بذلك ، وبكل دقة وعمق، المفكر الكبير مالك بن  نبي ، رحمه الله ، لذا سمى التشريع الإسلامي بالأفكارالمطبوعة ، أما التشريع الوضعي، فقد سماه بالأفكار الموضوعة ، وحاول التمييز بينهما من حيث الماهية و القيمة والمصدر والمقصد.

تصور مالك بن نبي لإشكالية التراث (الأصالة) والحداثة (المعاصرة): .

يميز مالك بن نبي، بين التراث أو الأفكارالأصيلة الحية، التي وجدت منذ أربعة قرنا، وهي أفكار سماوية مقدسة ، راسخة في ضميرنا وقلوبنا وفي شعورنا الجمعي، في مقابل الأفكار الوضعية الدنيوية ، التي تعكس الطابع المدني الوضعي لأمة ما .

 الأفكار المطبوعة، والأفكار الموضوعة :

يشبه مالك بن نبي الأفكار المطبوعة  بأسطوانة يحملها الفرد في نفسه عند ولادته ، وتختلف هذه الأسطوانة من مجتمع إلى آخر ببعض النغمات الأساسية ، …، إن أسطوانة كل مجتمع مطبوعة بطريقة تختلف عن أسطوانة مجتمع آخر ، وتتناغم الأجيال والأفراد مع سلمها الأساسي وهم يضيفون إليها أنغامهم الخاصة بهم ، فعالم الأفكار(المطبوعة)، لها أنغامها الأساسية ، ونماذجها المثالية ، وهي الأفكار المطبوعة ، ولها أيضا توافقاتها الخاصة  بالأفراد والأجيال : وهي الأفكار الموضوعة …، لقد تلقى المجتمع الإسلامي رسالته المطبوعة منذ أربعة عشر قرنا على هيئة وحي ،فانطبعت في ذاتية الجيل المعاصر لغار حراء ، الذي أسمع السمفونية البطولية لدين الرجال ، كما يدعو (نيتشه) الإسلام (69) .

الأفكار المطبوعة هي النماذج الأساسية أو الأصيلة، التي موجودة أصلا في القرآن الكريم أو وردت في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم القولبة والفعلية والتقريرية ، والتي تشكل رسالة  مكتوبة وخالدة، تهتدي به البشرية في حياتها الخاصة والعامة ، وتسترشد به في أمور دينها ودنياها ، وتنهل منه مشروعها الثقافي و الفكري والعقيدي  والحضاري ، وتتحصن به ضد كل أشكال الاستعمار الفكري والغزو الثقافي والطمس العقيدي، لمعالم ومكونات ذاتها الحضارية ، وكيانها الخاص، و التي تقودها  إلى الغاية المنشودة ، وتسمو بها إلى الحياة الحقيقية  والمثالية ،أما الأفكارالموضوعة ، فهي إما أفكار  واجتهادات ، توافق ترديدات  الأفكار المطبوعة  ومقاصدها الحضارية ، وإما  تتعارض مع طبيعة شخصيتها ، وتتنافى  مع عالمها الثقافي الخاص بها كبعض القوانين الوضعية أو العرفية .

وعندما تنمحي النماذج المثالية ، حينئذ  لا تسمع أبدا  لهجة الروح  في تناغم  اللحن ، فالأفكار الموضوعة ، حين لا يعود  لها جذور في الغلاف الثقافي الأساسي تصمت هي  بدورها ، إذ لم تعد  لديها ما تعبر عنه ، ثم لأنها لم تعد تستطيع أن تعبرعن شيء ، والمجتمع الذي يصل إلى هذه الدرجة ، يتفتت ،لأنه لم تعد لديه دوافع مشتركة ، كما هو الشأن  في الجزائر بعد الثورة ،وكما هو الشأن  في أوروبا الآن ، حيث الفرد ينتحر أو ينطوي على ذاته (70) .

فالعلاقة  بين الفكر المطبوع و الفكر الموضوع، تبدأ في الفقدان من مدى حضارة ما ،عندما تفقد الأفكار المطبوعة وجودها ، فهي كالنغم الموسيقي عندما يخنقه النشاز ، فانه حتما يغدو لحنا مزعجا ، ثم يزول إلى السكوت ، ومن خلال العلاقة بينهما يبدو أن الصراع قائم بين ماهو أصيل أي مطبوع ،وبين ماهو دخيل ـ أي موضوع ـ فيولد وضعيتين متناقضتين، فإما تفاعل ايجابي ، وأما انتكاس حضاري (71)

وبالتالي  فالأفكارالموضوعة  لابد أن تكون في خدمة الأفكار المطبوعة ، وان حدث وان وقع صراع أو تدافع  بين الفكرين ،فالمجتمع  إما أن ينمحي  محيا تاما ـ الانقراض الحضاري ـ من الوجود كما حدث  مع المجتمع القرطاجي أو الفينيقي …، أو تحدث له نكسة  ـ سبات حضاري ـ كما يحدث  للمجتمع الإسلامي ، ولكن تكون  له بالرغم من المكرالتاريخي  المضاد له فرصة الإمكان الحضاري ، ومالك بن نبي  يعتقد أن الإنسان ، لابد أن ينطلق من قاعدة الأفكار المطبوعة، ليكون ذاته  تكوينا متميزا، وعندما يحصل  بناء ذات متماسكة أصيلة، يأتي دور الأفكار الموضوعة، لكي تكون الإنسان ، وتجعله أكثرقابلية  للتكيف الحضاري .(72).

وقد يتخلل هذه الأفكارالمطبوعة الأصيلة والحية، أفكارأخرى قد تجعله تفقد قيمتها الرسالية داخل المجتمع ، ويتلاشى دورها  السماوي في أرض الواقع ، فيخبو تبعا لذلك توهجها، لصالح أفكارأخرى موضوعة أوضعية، ذات توجه إيديولوجي مختلف، ومخالف لقيمها الثقافية وشيمها الاجتماعية، ومن أهم هذه الأفكارالتي تتعارض مع حقيقة وطبيعة الأفكار المطبوعة نذكر ما يلي :

الأفكار القاتلة، والأفكار الميتة :

 إن كل مجتمع،  يصنع بنفسه الأفكار الميتة ، لكنها تبقى بعد  ذلك  في تراثه الاجتماعي ،كأفكار ميتة ، وهي تمثل خطرا أشد عليه  من خطر الأفكار القاتلة ، لأنها تبقى مختزنة ضمن عاداته ومنسجمة معها وتؤثر سلبيا في كيانه من الداخل ، وتفتك بقوة مناعة أفكار المطبوعة، فتضعفها ، وتقضي على  توهجها وفاعليتها.

وكما قلنا سابقا ،عندما  يبقى الفرد بدون دوافع مشتركة ، ولا روح فاعلة  مع محيطه الحضاري ، و لا متفاعلة مع أفكاره المطبوعة، فانه يعيش لا محالة  لحظة الأفكار الميتة ، بعد أن عاش المجتمع الإسلامي، اللحظة المجيدة عند ولادة حضارته، لأفكاره المطبوعة في عصر الرسول أو الخلفاء الراشدبن ، وأفكاره الموضوعة في الفترات المضيئة لدمشق وبغداد ، فان المجتمع الإسلامي يعيش فترة الصمت ،إنه  صمت الأفكار الميتة . (73)

فالحاج الذي ينزل ميناء جدة ، يسر حينما  يفاجأ بقراءة إعلان معلق على أحد  الأبواب مكتوب عليه : هيئة الأمر بالمعروف ، ثم عندما يتقدم خطوة  في البلد ، يبدأ في اكتشاف  حقيقة، يبدوا إزائها الإعلان مجرد سخرية : إنه فكرة ميتة ، لكن  الأمر والأدهى ،عندما نبدأ إحياء عالم الثقافة المحشو بالأفكار الميتة بأفكار قاتلة مستوردة من حضارة أخرى ، فهذه الأفكار التي أضحت قاتلة في محيطها ؛ تصبح أكثر فتكا حينما نستأصلها من ذلك المحيط ، لأنها تترك بصفة عامة مع جذورها …، وفي شروط كهذه  يقتبس  المجتمع الإسلامي المعاصر أفكاره الحديثة (التقدمية) من الحضارة الغربية ــ  كأفكار قاتلة اجتثت من بيئة ثقافية مغايرة ـ هذه هي النتيجة الطبيعية  لاطراد تحدد في لب المجتمع الإسلامي، بجدلية الأشياء والأشخاص والأفكار، التي صنعت تاريخه ، غير أن الذي لم يكن طبيعيا ، هو جمود المجتمع الإسلامي ، وخموله في هذه المرحلة من التطور، في حين مجتمعات أخرى كاليابان والصين ، بدأت من النقطة نفسها ، لكنها نزعت عنها ثوب الجمود، وهي تفرض على نفسها ظروف ديناميكية جديدة ، ونظرية جدلية تاريخية جديدة ، فالمجتمع الإسلامي اليوم، يدفع ضريبة خيانته لنماذجه الأساسية ، فالأفكار حتى تلك التي نستوردها ، ترتد على من يخونها وتنتقم منه  .(74)

ونستنبط مما سبق، أن هناك أفكار قاتلة، وهي التي نستوردها من العالم الغربي، وهي دخيلة على مجتمعنا المسلم، وغريبة عن عالمه الثقافي الخاص به ، لكن إذا وجدت لامبالاة من قبل أفراد المجتمع المسلم، أو انبهار واقتداء به ، أو دفاع عن الأفكار القاتلة ، فان الفتك يكون أقوى، والخطر يكون أكثر ضرر بوجوده الثقافي ، وبعالمه الحضاري الإسلامي ، كأن يقتدي بلباس الغرب ومظهره  ومأكله وأن يولع  بإتباع  أفعاله وتطبيق أفكاره.

أما الأفكارالميتة،  ــ حسب مالك بن نبي ــ فهي التي تنشأ داخل المجتمع الإسلامي ، نتيجة الاستغراق في الضعف والانحطاط ،وإدامة التخلف في محيطها الاجتماعي ، وتوقفها عن صناعة التاريخ وإنتاج الحضارة، مثل بعض العادات البالية ، كزيارة الأضرحة والإمعان في التصوف، والعزلة عن الحياة ، وإتباع حياة الزهد والدروشة، علاوة على الذهنيات القديمة ، كالجبر والنحس ،و أيضا الخرافات ،التي تتوطد باسم الدين والثقافة .

الأفكارالمطبوعة، بين  خطرالأفكار الميتة ، وضررالأفكار القاتلة .

وما جعل الأفكار المطبوعة معطلة ، رغم  قدرتها اللانهائية  على الدفع  والتغيير هو تلك الأفكار الميتة ، التي كثيرا ما تتردد في حياتنا الاجتماعية ، والتي تتجلى أساسا  في بعض العادات البالية والتقاليد الجامدة ،كأن نسمع في لغتنا الدارجة هذه المفاهيم الخاطئة، “الله غالب”، “أنا حشيشة طالبة معيشة ” ،” زريبة توصل للآخرة ” ، “نأكل القوت وننتظرالموت ” (النزعة الجبرية ) ، أو حصر الإسلام في العبادات ،أو توهم  أن المسلمين في كمال  ، نتيجة أن الإسلام كامل ،إلى جانب كثير من الاعتقادات والمفاهيم الخاطئة عن الدين الإسلامي ، التي هي نتيجة رواسب عصور  الانحطاط ، وحتى الأفكار  المطبوعة ، إذ لم تستغل في تشكيل اجتماعي وتتحول إلى نشاط جماعي ، تصبح أفكارا ميتة خالية

من أي روح، كما نلمس اهتماما متواصلا بزيادة المدارس ، دون الاعتناء  بإصلاح  أو تعديل ، برامجها  ،لرفع قدرات الأفراد الفكرية  والعلمية والخلقية والجمالية ، ونلاحظ أيضا في نفس السياق أن كثيرا  من المؤسسات  لا تساير روح العصر ، وذلك باعتمادها على البرامج الكلاسيكية ، في عملهم وتعليمهم .

ناهيك  عن تردي المستوى المعيشي ، وتفشي الجهل والأمية  وانحطاط القيم  ،كاستفحال الرشوة  والمحسوبية  والغش ، وتحولها غلى محور  تدور حوله القيم الاجتماعية ، كل هذه  العوامل  والتصورات  والمفاهيم ، التي سبق ذكرها  ،تشكل  سببا  مباشرا ، في توليد القابلية للاستعمار ، بمعنى تجعل المستعمر  يفكر في استغلال  هذه العيوب  والنقائص ، كسلاح فتاك  ، وتوجد أيضا أفكار قاتلة  ، نتيجة  عناصر و أفكار ومحاولات  مستعارة  ، نقلت من عالم ثقافي متباين  ، عن عالمنا  الثقافي الخاص ، ومفاهيم وتصورات ورؤى مستوردة غريبة  عن قيمنا الثقافية وفكرنا الذي يعبر عن كياننا الخاص ، ويتم هذا ، إما عن طريق التقليد والمحاكاة ،وإما بوساطة فرض العالم الثقافي الآخر  ، الذي يحرص  على انسلاخنا من عالمنا الثقافي  وذوباننا داخل عالمه ، فتصبح  ها ته العناصر  والأفكار  والمحاولات المستعارة، كوسائل ضرورية  في الوصول إلى الغاية ، بينما هي تناقضها تناقضا صارخا.

وهذا نلمسه جيدا في بعض  مشروعات الإصلاح ، وحركات التجديد والتحديث ، حيث نجدها خليط ملفق من  محدثات مستعارة  ورواسب موروثة ، يقول مالك بن نبي  عن المجتمع الإسلامي  :” وكل ما يسوده من اختلاط  وفوضى في الميادين  الفكرية والخلقية ،أو في ميادين السياسة ،إنما هو نتيجة ذلك الخليط  من الأفكار الميتة ، تلك البقايا غير المصفاة ، ومن الأفكار المستعارة تلك  التي يتعاظم  خطرها ،كلما انفصلت عن إطارها التاريخي  والعقلي في أوروبا “، (75). ومن ثم فان  المجتمع  الفتي عليه  أن يتحلى  بالأخذ العقلاني ، والحذر  الواعي من العناصر الاجتماعية الوافدة  خاضعا، بذلك إلى ضوابط  معينة ، تميز بين الأفكار المستوردة القاتلة ، والأفكار الميتة كرواسب موروثة داخل الأمة نفسها..

ففي مجتمع ناشئ  متهيئ للنهضة ، عناصر تقليدية إلى جانب  العناصر الحديثة  ، وهي عناصرمستعارة  من مجتمعات سابقة  في مضمار الحضارة ، فيبذل المجتمع الناشئ  في استعارتها جهدا  في التحليل والتكييف،  يقتضي منه  في الواقع جهدا في الإبداع والتركيب، فهضم تلك العناصر وتمثلها ، يقتضي تمييزا دقيقا  وفكرا ناقدا  يقظا ، يحدد الشروط  التي يلزم توافرها  في الاستعارات الضرورية ،أعني شروط توافقها ونفعها ولياقتها وبذلك يدخل الشيء المستعار بصورة طبيعية  إلى الحياة  الإسلامية، فيندمج فيها، لأنه يحقق غاياتها، ويتفق مع إمكانياتها “.(76)

والعالم العربي اليوم ، يحيا في ظل مشكلة مزدوجة ، فهو  من جهة يعاني  من انتقام الأفكار المطبوعة ، التي هي أساس عالمه الثقافي الخاص به ، نتيجة  مخاذلته لها ، ويعاني من جهة أخرى  من انتقام  الأفكار التي استوردها من الحضارة  الأوروبية ، دون إتمام  الشروط والضوابط  النفسية  والزمنية ، في عملية  الانتقاء أوالتقليد  التي يصون بها نماذجه المثالية ، من الانمحاء ، وقد انجر عن ذلك  تردي الأفكار الأصلية ، وفقدان فعاليتها ، وضعف في قيمة الأفكار المستوردة ، مما أدى  إلى انعكاسات خطيرة  على تطور ومستقبل العالم الإسلامي.

إن الواجب اليوم ، هو إقامة تركيب اجتماعي،  يستمد أصوله  وقواعده ، من الأفكارالمطبوعة كنماذج مثالية  للعالم المثالي الخاص بنا ، والتحكم المتوازن في عوامل  الحضارة الثلاث (الأفكار ، الأشخاص ،  الأشياء )، بدون الإفراط الأعمى في علاقاتنا  مع أي عامل من هاته العوامل الثلاث ، لتحقيق  رسالة الإنسان المسلم الحضاري والشاهد، فالتاريخ ” يبد أ بالإنسان المتكامل ، الذي يطابق بين جهده ومثله الأعلى ، وحاجاته الأساسية ، الذي يؤدي  في المجتمع رسالته “، طبقا لقوله تعالى :” وكذلك جعلناكم أمة وسطا ، لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا ” البقرة 143.(77)

شروط التحديث (النهوض) الحضاري ،عند مالك بن نبي :

لقد أعطى مالك بن نبي ، في كتابه (شروط النهضة)1949 صورة الإستعمار في الجزائر ، كمعطل لكل ارتباط بين دورالانسان الجزائري والبيئة حوله ،لذا لابد أن تنطبق الولادة من جديد ، خارج الدائرة التي رسمها الإستعمار،أي خارج مفهوم القابلية للإستعمار،وهكذا طرح بن نبي المشكلة في إطارها الذي يتصل بمستقبل الإنسانية على هذا الكوكب…،فنشوء الدورة الحضارية يرتبط صعودا وهبوطا بالفرد الذي يمثل  فكرة الإسلام، باعتباره سندها المحسوس ففكرة الإسلام كوحي منزل تمثل الأصالة العينية والحقيقة المطلقة، وهذا من عند الله، ويبقى الذي هو من عند أنفسكم ،كما في الخطاب القرآني ،بمعنى أن محورالحضارة، هوالإنسان المسلم، الذي هوسند الفكرة المحسوس، في مسيرةالتاريخ،ويقدرمسوغات الفكرة، في بناء الإرادة، في فاعلية حضورها، يكتب التاريخ مراحل صعود الحضارة وهبوطها.(78) .

فهذا التطور والهبوط ، يرتبط من حيث الأساس بالعلاقة العضوية، التي ترتبط الفكرة يسندها ، ومن هنا يبدأ دورالإنسان في بناء عالم محيط حوله ، تتحدد في إطاره قيم الأخلاق ومدى ارتباطها بالمثل والجمال ، ومدى التعبير عنه طبقا لهذه المثل والفاعلية ، ومدى ارتباطها بالمنطق العملي في تفعيل الوسائل ذات الارتباط الوثيق بالقيم الأخلاقية والجمالية، عبرالعمل التقني ، فالعناصر الأربعة :المبدأ الأخلاقي ، والمبدأ الجمالي ، والمنطق العملي ، ثم التقنية ، هي العناصرالتي تتكون فيها ثقافة المجتمع ، حينما تصبح تاريخا، لأنها الأساس التربوي الذي يحدد معيار الصعود والهبوط ، بقدر تضامن هذه العناصر في بيئة الفرد، السند الأساسي لمسارالحضارة في اتصاله بالثروة عبرالزمن التاريخي، الذي يحدد مراحل الحضارات، فالحضارة، هي القدرالنهائي للثقافة التاريخية، إن هذا المنهج يرتبط يمفهوم كوني ، كسنة من سنن الله الأزلية، ومن هنا فالاقتباس من أوروبة والاتصال بالتطورالكمي ، في الهيمنة على مسيرة الإنسانية، يتطلب من القابيلية للإستعمار، التي هي الوجه الآخر، لصورة الإستعمار،أن تنظر هذه القابيلية ،إلى الظواهرالغربية الأوروبية الراهنة ، على أنها مسألة نسبية ، لاتعبرعن الحقيقة المطلقة  في مسيرة التقدم ، ومن خلال ، ذلك يستطيع العالم العربي والإسلامي، أن يعرف وجوه النقص في الحضارة الغربية ، كما سيتعرف على عظمتها الحقيقية ، وبهذا تصبح الصلات والمبادلات مع العالم أعظم خصبا ، وحينئذ، نستطيع أن نبني مفهوما تبادليا ، تنسج عليه الولادة الجديدة، خياراتها ونشاطاتها (79).

إن الغرب بات يرى نفسه ،وثقافته وحضارته ، وأسلوب حياته المرجعية الوحيدة ، والنموذج الفريد، الذي ينبغي على العالم أن يؤوب إليه، قبل فوات الأوان ، والغرب بات على قناعة بأن العولمة شيء حقيقي ،لأنها ثمرة تطور تاريخي وتقني ، لايمكن الرجوع عنه …، فهذا العالم هو أسير العصر الحديث ، في مختلف صوره وقد بدأ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، ينقلب  في فوضى الكم والوزن والتكاثر ، الذي  يسبق مسيرة الزمن ، وتخلق الحياة الأرض ، فالعصر  الصناعي، أضحى  في حرب ضد البيئة الكونية والإنسان ، وهذا  ما يعبر عنه القلق والإضرابات في العالم ، فالظاهرة الدينية ، في تحديد عالمية الإنسان، تبدأ كما يقول مالك بن نبي حينما يوجه الإنسان بصره نحو السماء ، وهنا يظهر الرسول والرسالة ، أي ذلك الإنسان الذي يملك أفكارا، يريد تبليغها إلى الناس ، من هنا  تبدو أوروبا ،خارج الظاهرة الكونية والدينية ، قد امتلكت نموذجا، استحوذ على العالم، يسلب الزمن والإنسان قيمتهما المطلقة ، ليصبحا في خدمة الآلة والإنتاج والتكاثر، الذي يهدم  النظام الكوني ، ويقول مالك بن نبي في هذا الأطار :’ أن المغالاة في جانبي التفريط والإفراط ، يؤكد اليوم حقيقة قائمة ، وهي أننا نتناول ثقافتين في لحظة أفولهما(80).

وهذا يعني أن على كل ثقافة مجتمع، الإنطلاق من مكوناتها الثقافية وشروطها الاجتماعية الخاصة به حسب الاطار السوسيو نفسي لحياةالأمة الخاصة، ومن السفاهة أو الحماقة أن تنطلق في عملية تقدمها الحضاري، من ثقافة مجتمع آخر، بدعوى أنه مسيطر في العصر، ومتحكم في العالم ومجريات أحداثه    ، لأن التقدم الغربي، تقدم مادي وتقني ، يقدس المصالح المادية، ويمجد منافعه، ولايهتم أبدا فالشروط أو المبادئ الدينية ، والقيم الخلقية والجمالية ، التي هي أساس التطور الحضاري ، والتقدم الاجتماعي للأمة.

علاوة على التركيز على عنصر الفعالية، من الناحية العملية أو الواقعية، وهوما سماه مالك بن نبي يالمنطق العملي ، الذي يجب على الفرد والمجتمع معا، تفعيله كطاقة حضارية خلاقة، ودافعة إلى التغيير والتحديث ،إنطلاقا من مقوماتها الخاصة، ومكوناتها الثقافية الحية ، بمعنى إنطلاقا من أفكار المطبوعة الحية ، التي هي ركيزة في كل تقدم اجتماعي، وكل نهوض حضاري ، وهذا يبين بما لايدع مجالا للشك ،أن لكل أمة شروطها الاجتماعية والنفسية ، داخل اطارها الثقافي الخاص بها ، تجعل لكل أمة ثقافتها الخاصة، أو هويتها المميزة، مثلها في ذلك مثل هوية الأشخاص والأشياء ، وان الحداثة أو التحديث ، يجب أن ينطلق من من أديم ثقافتها، ومن اطارها الفكري الخاص بها، أي من أفكارها الحية، كما هو الحال بالنسبة لكل أمة من أمم العالم ، وأن اجتهادها وابداعاتها كأفكارموضوعة، لابد من أن تدورفي فلك الإفكارالمطبوعة (أفكارالقرآن والسنة)، لذا يكون التحديث أو النهضة كما يصطلح عليه مالك بن نبي إنطلاقا من ثقافتنا ومن تعريفها ، فتعريف النهضة من خلال ثقافتنا يتم من خلال ناحيتينأو تعريفين هما:

الأول : يحددها في ضوء حالتنا الراهنة ، والثاني يحددها حسب مصيرنا .

لأن جيلنا  هذا حد فاصل بين عهدين : عهد الكساجد والحمول ، وعهد النشاط والمدنية ،لذا فالشروع في بناء نهضتنا منذخمسين عاما ذبك هو مكاننا أي تلك هي اللحظة الخاطفة التي تسجل نهاية الظلام في ضميرنا ،ودبيب الحياة في ذلك الضمير ، فهي اللحظة الفارقة بين عهد الفوضى الجامدة، والجمود الفوضوي ، وعهد التنظيم والتركيب والتوجيه ، وحينما يصل التاريخ إلى مثل هذا المنعطف من دورة الحضارة ، فانه  يصل إلى المنطقة التي تتصل فيها نهاية عهد ، ببداية عهد آخر ، ويتجاوز فيها ماضي الأمة المظلم مع مستقبلها المشرق البسام …، ولتحقيق التحديث أو النهضة ، يقول أيضا إنه  ليجب بادئ الأمر تصفية عاداتنا وتقاليدها ،وإطارها الخلقي والأجتماعي ،مما  فيه من عوامل قتالة ،ورمم لافائدة منها ، حتى يصفو الجو للعوامل الحية والداعية إلى الحياة ، وإن هذه التصفية لاتأتي إلابفكر جديد ، يحطم ذلك الوضع الموروث،عن فترة تدهورمجتمع أصبح يبحث عن وضع جديد، هووضع النهضة (81)

مما يعني، ضرورة الانطلاق في عملية التحديث والتجديد من تراث الأمة، وأصالتها الخاصة والمميزة ، لكن هذا لايجب أن ينسيها،أو يبعدها على ضرورة غربلة التراث، حتى لا يعيق عملية النهوض الحضاري ، ويقف حجرة عثرة، في سبيل تقدمها الفكري والعلمي والتقني ، وأن تحصر التراث أو الأصالة، في أفكار تقليدية بالية، أوعادات قديمة و هشة وقيم متخلفة وغير ذاتأهمية في علاقاتنا الاجتماعية، (الأفكار الميتة)، من جهة، كما يجب أن تقوم، بعملية التخلية والتنقية للأفكارالقاتلة ، التي تتأثر بها، بدعوى التقليد وزعم العصرنة ووهم التحديث ،والتي تشوه ثقافتها العربية الأسلامية ، مثل شرب الخمر، والرقص، وأكل الربا ، والإحتكار للسلع وقوت الناس، والتبرج السافر للمرأة، وأن تبصر مما يحاك لها في الخفاء، من خطط ماكرة و تبشير وغزو ثقافي، (أن تبتعد عن التقليد الأعمى، والإنبهاربالغرب المسيحي، وأفكاره المستوردة القاتلة)، وأن تأخذ بالأفكارالأيجابية التي تنسجم مع عالمها الثقافي وأفكارها الخاصة ، مثل فكرة كمولويلث إسلامي، والفكرة الأفروآسيوية ، وفكرة دول عدم الإنحياز، وأخذ تقنيات إدارية أوخدماتية أو تقنية ،كما حدث ذلك لما انفتحت على الأمم الأخرى كالحضارة الهندية والفارسية واليونانية…

نظرة حسن حنفي،لإشكالية الصراع التراث الإسلامي،والتراث الغربي(الأصالة والحداثة):

، يستند على أسس نظرية وعملية ، ويعتمد على رؤى وأفكار، أكثر تفاؤل وشمولية ، بهدف تحقيق الوثبة الحضارية المطلوبة ، بحيث لابد لإنجاح هذا المشروع من الاهتمام  الواعي والمتواصل  بهذه الروح الحضارية الجديدة، والتي يجب أن تسري في كيان العالم الإسلامي ككل ، وان تتجلى  بالخصوص في تكريس  مشروع إصلاحي ؛ أو ثوري شامل وكامل  ، للنهوض الحضاري الجذري ، بحيث بشمل  ثلاث جبهات مختلفة ، و التي يجب التعامل معها علميا وموضوعيا ، بعيدا عن الاعتزاز بالماضي ومدحه ، وفي منأى عن  الذاتية ، التي لا تجعلنا نبصر، ما  تتطلبه منا، هذه المرحلة الصعبة والحرجة من عصرنا الحالي ، التي تمر بها أمتنا الإسلامية، من حلول عقلانية راشدة ، ولا نبذل الجهود الفكرية والحضارية اللازمة، للتنوير و التغيير، بهدف الارتقاء إلى مستوى حضاري، أكثر تميزا واستقلالية وإبداع ، ومن أهم تلكم الجبهات، التي يجب أن نخضعها للنقد والتحديث والتجديد ، بقصد النهوض الحضاري ، نذكر ما يلي :

1 ـ تجديد الثراث القديم :  

والذي يجب أن ينصب، على عناصر ومكونات تراثنا القديم ، باعتبار أنه بحاجة إلى تجديد وتحديث، من الناحية الابستيمية والثقافية والفكرية والتاريخية والسلوكية ، وموقفنا من التراث القديم يعتبر من أهم المواقف الذي يجب أن يفصل فيها ، تجنبا للتخلف والجمود وتراكم الرواسب الخاطئة والمعرقلة لسير الأمة التاريخي لنهضة حضارية شاملة  وكاملة ،  والتي لا تتحقق إلا بحل  هذه المشكلات  وإعادة النظر في تلكم العناصر والمكونات ، والإجابة على التساؤلات والانشغالات من موقفنا من التراث القديم ومشتملاته ومكوناته ، ومحاولة تغييره وتجديده، بما يتماشى وتحقيق الوثبة الحضارية الجديدة ، ومن أهم العناصر أو الأجزاء  من التراث القديم ،التي يجب أن تخضع للتجديد والتطوير، نكر ما يلي :

1ـ  “من العقيدة إلى الثورة ” ، ومحاولة  إعادة بناء علم الأصول .

2ـ “من النقل إلى الإبداع” ، محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة .

3 ـ  “من الفناء إلى  البقاء ” ، محاولة لإعادة بناء علوم التصوف .

4 ـ ” من النص إلى الواقع ” ، محاولة  لإعادة بناء علم أصول الفقه .

5ـ ” من النقل إلى الواقع “، محاولة لإعادة بناء العلوم النقلية ( القرآن ، الحديث ، التفسير ، السيرة ، الفقه) .

6 ـ ” العقل والطبيعة “، محاولة لإعادة  بناء العلوم العقلية  (العلوم الرياضية والطبيعية ).

7ـ ” الإنسان والتاريخ”، محاولة لإعادة بناء العلوم الإنسانية ( اللغة ،لأدب ، الجغرافيا ، التاريخ). (82) .

وفي هذا المشروع النهضوي الجديد، لحسن حنفي ، الذي يهفو إلى تجديد التراث، يشبه في بعض أجزائه ، لمشروع مالك بن نبي الإصلاحي ، لواقع العالم الإسلامي المريض ، وإعادة ترميم  لشبكة العلاقات الاجتماعية ، وهذا باسترجاع الفعالية المفقودة لها ، وعدم جعل العقيدة، جامدة ومتعالية عن الواقع الإنساني ومتطلباته وانشغالاته  ، بدون إعادة النظر في علاقتها  بنا، وبالواقع الاجتماعي ، وتحويلها إلى سلوك عملي مثمر ، وأسلوب حياة نابض بالحركة  والنشاط ، علاوة  على تنقيتها من التصورات الجبرية  والطرقية ؛ والرؤى المتخاذلة ورواسب التراث الخرافية، والمستسلمة  للظروف ..،  وأن لا نجعل من الأفكار المطبوعة (النقل)، خالية من روح الفعالية، و التوجيه الخلقي والجمالي لها ، مع تشجيع المبادرات والمواهب وتحرير الطاقات والدفع بروح الابتكار والعمل الخلاق . وأن نتخلى في الوقت نفسه ،عن الفكر الصوفي، الذي يبعدنا عن تغيير الواقع الاجتماعي الحقيقي، والرفع من طاقة الإنسان الإبداعية والإنتاجية ، وهذا يستدعي منا إن نحول الأفكار المطبوعة، التي حوتها نصوص القرآن  والسنة/ إلى  واقع عملي حي ، بعيدا عن الجمود والكساد والتخلف ، كما شجع مالك بن نبي  العلم التجريبي والرياضي ، وحث على ضرورة استفادة الأمة من نظرياتها ونتائجها، وروحها التطبيقية والنفعية، لصالح الإنسان والمجتمع ، ولا يجعل ذلك حكرا على الغرب وحده فقط ، بل تعميم ذلك على جميع البلدان الإسلامية قاطبة ، واستثمار  نتائج ومناهج العلوم الإنسانية، كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم التاريخ وعلم الانثربولوجيا ، في تنويرالفرد والمجتمع و تغيير واقع الأمة المتردي والمتهالك، إلى  واقع جديد، أفضل وأنبل .

وعليه نجد حسن حنفي ،  يربط  تجديد التراث ، بجبهات متعددة  ومختلفة،  لكن تأثيراتها متبادلة ومتفاعلة ، في  إدامة الجمود ،والتخلف الحضاري ، وتكريس الرداءة الحضارية ، أولها تجديد التراث القديم بكل مكوناته وأجزائه ، من معوقات التحضر ومثبطات الانطلاق الحضاري،  من جهة  ـ كما سبق وأن تناولنا ـ أما الجبهة الثانية فتتمثل في تجديد التراث الغربي، فيتم بتحديد موقفنا منه أيضا ، من حيث مصادر الوعي الأوروبي ، والوقوف على بداية الوعي الأوروبي ، وعلى نهايته  من جهة ثانية ،  وأخيرا الجبهة الثالثة، فتتجلي في موقفنا من الواقع ومكوناته، من منهاج وعهد جديد وعهد قديم ، وكيفية انتخاب واقع جديد وفريد، يحمل خصوصياتنا الإسلامية ، وهذا معناه بدون تكرار للواقع القديم للسلف ، ولا تكرار واقع التراث الغربي الحالي؛ الوافد إلينا من الحضارة الغربية،  ويتماشى مع   في الوقت ذاته  مع متطلبات واقعنا ومقتضياته ،ويعالج بشكل علمي دقيق وعميق ، مشكلات وانشغالات الإنسان المسلم في عصرنا هذا.

كما تشير هذه الجبهات الثلاثة إلى جدل الأنا والآخر في واقع تاريخي محدد ، فالجبهة الأولى من التراث القديم ” تضع الأنا  تاريخها الماضي وموروثها الثقافي والجبهة الثانية ” موقفنا من التراث الغربي ” تضع الأنا في مواجهة الآخر المعاصر ، وهو الوافد  الثقافي الغربي أساسا ، والجبهة الثالثة “موقفنا من الواقع ” (نظرية التفسير) فإنها تضع الأنا في خضم وعيها المباشر تحاول تنظيره تنظيرا مباشرا ، فتجد النص جزءا من مكوناته ، سواء أكان نصا دينيا  مدونا من الكتب المقدسة أو نصا شعبيا شفهيا  من الحكم والأمثال العامية ، الجبهتان الأوليان حضاريتان ، بينما الجبهة الثالثة  واقع مباشر…، فإذا كانت  الجبهة الأولى تتعامل مع الموروث الجبهة الثانية  تتعامل مع الوافد ، وكلاهما يصبان في الواقع الذي نعيش فيه ، وفي كل موقف حضاري ، توجد ثلاثة عوامل  للإبداع فيه : الموروث ، والوافد ، ومواطن الإبداع أو بوتقته التي ينصهر فيها الموروث والوافد . (83) .

فصراع التراثين القديم الماضي، والتراث الغربي الوافد، الذي يرى  نفسه المستقبل المحقق  ، وان التحديات المعاصرة هي الواقع المباشر الذي يعاد فيه  بناء التراثين القديم والغربي معا  فان أخد موقف نقدي منهما يساعد  على إبراز الواقع ذاته  وفرض متطلباته على قراءة التراثين  معا ،وتداخل هذه الأبعاد الثلاثة بينهما ،  فقد يكون  للوعي الحضاري موقف ايجابي من التراث القديم بسبب  موقفا آخر سلبيا من التراث الغربي ، وقد يكون له موقف ايجابي من التراث الغربي بسبب موقفا آخر سلبيا من التراث القديم ،أما الذي يأخذ موقفا ايجابيا من الواقع ، فانه قد يسأم المحلين التراثيين ويتهما عن أحيانا  بالنظريات المجردة ،وبالصراع على السلطة ، والواقع هو الضحية ، وعادة ما يغيب التوازن في وعينا القومي  بين هذه الأبعاد الثلاثة …، فكلما ازداد الشعور بالقطيعة  مع القديم ازداد التغريب ، فينشأ وعي حضاري معاكس ، كرد فعل على الوعي الحضاري الأول  يتمسك بالقديم كله ، ويرفض المعاصرة كلها ، فتنقسم الأمة إلى فريقين : فريق يرى أن صلته بالتراث، صلة انقطاع ثم قطيعة ، وفريق آخر يرى أن صلته بالتراث، صلة اتصال ثم وصال ، والواقع في كلتا الحالتين هو الخاسر . (84) ، لذا سنفرد عنصر خاص  لعرض  ونقد التراث الغربي ، وتحديد موقفنا منه كتراث  يعبر عن حضارة غربية ، والذي اختلف في أهميته وقيمته كتراث ، إما بالاتصال به  كتراث واستنباط منه مناهج ومذاهب ونظريات التقدم العلمي والحضاري ، أو بالانفصال عنه ، إيديولوجيا وثقافيا وحضاريا، ومناصرة  وإحياء تراثنا الإسلامي .

موقفنا من التراث الغربي : 

يؤكد حسن حنفي، على أن التراث الغربي، يكون أحد الروافد الرئيسية لوعينا القومي ، وأحد مصادرالمعرفة المباشرة العلمية والوطنية، ولقد كان الآخر باستمرار، حاضرا في وعينا وفي موقفنا الحضاري، منذ قدماء اليونان، حتى محدثي الغرب ، لم تحدث بيننا وبينه قطيعة ، إلا في الحركة السلفية ، ولم تقم حتى الآن حركة نقد له إلا في أقل الحدود وبمنهج الخطابة والجدل دون منهج النقد والبرهان ، وقد يتم التركيز على هذا المصدر وحده ، فتنشأ ثقافتنا العلمية العلمانية، وحركاتنا الإصلاحية والتحديثية وتعليمنا العصري ، ونظمنا الحديثة، اقتناعا وإيمانا أو دفاعا عن لصالح الحكام ، وبالرغم أن هذه الجبهة أقصرعمرا ، حوالي مائتي عام ، في وعينا القومي ، في مقابل الجبهة الأولى ، حوالي أربعة عشرة قرنا ،إلا أنها بدأت تأخذ حجما في وعينا القومي ،أكثر من حجمها الحقيقي ، وهو ما نسميه بظاهرة ” التغريب “… ، نظرا لانتشار الثقافة  الغربية، في وعينا القومي  لدرجة الانبهار والتبعية  لها (85)

لقد كثر الحديث عن هذه الجبهة،  وفي جيلنا هذه الأيام ، وبعد الصحوة  الإسلامية ، وأخذ موقف من الغرب  ومن ” التغريب ” بالرفض المطلق الانفعالي، كنوع من الدفاع عن الذات وتأكيدا للهوية ، وسهولة  نقد هذا الموقف بحجة مضادة ، وهي أن كل ما في الغرب ليس مرذولا ، وأننا  في كل لحظة  من حياتنا ،نتمتع  بما ينتجه الغير، وكلاهما موقفان جدليان ، والجدل غير البرهان ، كلاهما خاطئان ، ومجموع الخطأين، لا يكون صوابا ، موقف الرفض صحيح من حيث المبدأ ، فلا بداية إلا من الأنا ، ولكنه خاطئ من حيث الواقع، أي ترك الغرب كموضوع دراسة ، وموقف القبول خاطئ،  من حيث المبدأ، فعلاقة الأنا بالآخر، علاقة تضاد وليس علاقة تماثل، صحيح من حيث الواقع ،أي ضرورة التعلم والتعرف على حضارات الآخر ، بصرف النظر عن  مصدرها، ثم تمثلها  واحتوائها وإكمالها ، وقد آن الأوان  لتصحيح هذين الخطأين ، ونقل الموضوع من مستوى الانفعال، إلى مستوى الفعل ، ومن ردود الأفعال، إلى التحليل العلمي الرصين . (86) .

تشمل الجبهة الثانية أيضا، عدة أجزاء لإعادة وصف الوعي الأوروبي ، منذ مصادره الأولى ،ونشأته  وتطوره حتى اكتماله وانهياره ونهايته، والخلاف في المنهجين، بين الجبهة الأولى عن التراث القديم ،والجبهة الثانية عن التراث الغربي، ناتج عن طبيعة الحضارتين الإسلامية والغربية ، فالأولى حضارة مركزية،  نشأت علومها انطلاقا من مركز واحد، كدائرتين متداخلتين صغرى (علم أصول الفقه)، وكبرى (الوافد) …، أما الحضارة الغربية ، فأنها حضارة طردية  ـ أي أنها نشأت تحت أثر الطرد المستمر من المركز ورفضا له ، بعد اكتشاف عدم اتساقه مع العقل أو تطابقه مع الواقع ، ثم إنشاء علوم عقلية وطبيعية وإنسانية، تقوم على أدوات جديدة للمعرفة ، العقلية أو الحسية ، وابتداء من ثورة جديدة وهو الإنسان ، نشأت الحضارة الأوروبية كتطور صرف، دون بناء ، لذلك غلب عليها المنهج التاريخي ، كما ظهر في المدرسة التاريخية وفي الماركسية ، وفي العلوم التاريخية ، التي سميت فيما بعد العلوم الاجتماعية ثم العلوم الإنسانية ، قبل إعادة النظر في أسسها المعرفية في الفترة الحالية ، كما هو الحال في البنيوية وفلسفة الاختلاف …الخ ، وبالتالي خرجت أجزاء الجبهة الثانية، تصف الوعي الأوروبي في لحظاته التاريخية المتتالية ، وليست في بنية علومه ، كما هو الحال في الجبهة الأولى ، وقدمت تكوين الوعي الأوروبي، أكثر مما قدمت بنيته ، وهذا لا يمنع من تحول هذا التاريخ نفسه، إلى بنية أو عقلية  ترى الظواهر والحقائق،  كلها تاريخا وتطورا  ، وتنكر الثبات لحساب التغير أولا ، ثم تنكر التغير لحساب لاشيء ثانيا  (87)  .

ويمكن تلخيص  مسيرة الوعي الأوروبي  التي تترجم  الحضارة الغربية  في ثلاثة أجزاء  أساسية  وهي كالتالي :

1 ـ  مصادر الوعي الأوربي ، وفيه الكشف عن مصادره المعلنة والخفية ، المعلنة مثل المصادر اليوناني الروماني ، والمصدر اليهودي المسيحي ، والخفية  مثل المصدر الشرقي القديم والبيئة الأوروبية نفسها ، وذلك في فترة التكوين من القرن الأول حتى القرن الرابع عشر  ، ويضم  عصر   آباء الكنيسة اليونان  واللاتين  في القرون السبعة الأولى ، ثم العصر المدرسي المقتدم والمتأخر في القرون السبعة التالية .

2 ـ  بداية الوعي الأوروبي ، وفيه يتم  الكشف عن بداية الوعي الأوروبي  في عصري الإصلاح الديني  وعصر النهضة في القرنين الخامس والسادس  عشر، ثم وضع البداية في الكوجيتو والعقلانية في القرن السابع عشر وانفجاره في التنوير والثورة في القرن الثامن عشر .

3 ـ  نهاية الوعي الأوروبي ، وفيه يتم الكشف عن التحول الرئيسي في مسار الوعي الأوروبي من الأنا أفكر إلى الأنا موجود،  وبداية نقد الوعي الأوروبي  لنفسه ونقد ماضيه وما وضعه بنفسه ، نقد المثالية والوضعية واكتشاف طريق ثالث يضم ” الفم المفتوح” ويغلقه  في الظاهريات . (88).

ونفهم من هذا التقسيم لأجزاء الوعي الأوروبي، داخل الحضارة الغربية نفسها، أن له مصادر خفية ومعلنة ، كونته  وشكلته تاريخيا ، والوقوف على بدايته؛ وكيفية أفوله ، ووضع حد لأسطورة الحضارة المثال، أو الثقافة العالمية المتعالية ،  وفرضها على ثقافة الحضارات الأخرى، وجعل هذه الأخيرة، تابعة وخاضعة ،مطبقا  في ذلك المفكر حسن حنفي ،علم الاستغراب ، وأخيرا بيان طبيعة بنية العقل الأوروبي ، التي نتجت عن التكوين أو التطور،  والقوانين الثابتة والمعايير القارة التي يتألف منها هذا العقل، وجعله مختلفا ،ومؤمنا بالاختلاف مع الآخر، بعيد عن العنصرية والإقصاء والتهميش ، كصفات كانت نتيجة عن التمركز الحضاري والغلو الفكري للثقافة الغربية .

موقفنا من الواقع (نظرية التفسير):

إن التراث ليس مخزونا ماديا ، ككم هائل من المخطوطات القديمة ، المنشور منها وغير المنشور ، وليس كيانا مستقلا بذاته، يدافع عنه وكأنه يحتوي على حقائق نظرية مسبقة، توحد بذاتها  مهددة بالضياع إن غابت ، وتحشد لها العقول، في حالة الخطرحقيقيا أم وهميا ، وليس التراث  موجودا صوريا له استقلال عن الواقع  الذي نشأ فيه ، وبصرف النظر عن الواقع، الذي يهدف إلى تطويره ، بل هو تراث يعبر عن  الواقع الأول  الذي جزء من مكوناته ، وان ما عبر عنه  القدماء باسم ” أسباب النزول ” لهو في حقيقة الأمر أسبقية الواقع عن الفكر ، ومناداته له ، كما أنة ما عبر عنه القدماء  باسم الناسخ والمنسوخ  ليدل على  الفكر  يتحدد طبقا  لقدرات الواقع وبناء على متطلباته ، أن تراخى الواقع ،  تراخى الفكر ، وان اشتد الواقع ، اشتد الفكر، فالتراث ،إذن ليس  له وجود مستقل  عن واقع  حي يتغير ، ويتبدل ، يعبر  عن روح العصر ، وتكوين الجيل ، ومرحلة التطور التاريخي  التراث  إذن هو مجموعة من التفاسير التي  يعطيها كل جيل  بناءا على متطلباته ، خاصة أن الأصول الأولى التي صدر منها  التراث،  تسمح بهذا التعدد ، لأن الواقع هو أساسها الذي تكونت عليه ، ليس التراث مجموعة  تحققات هذه النظريات في ظرف معين ، وفي موقف تاريخي محدد، وعند جماعة خاصة تضع رؤيتها ، وتكون تصوراتها للعالم . (89)

 وعليه ، ليس التراث محزونا ماديا  ولا حقائق نظرية  مسبقة ، توجد بذاتها ، كما قلنا سابقا ، بمعنى ليست مخزونا ماديا ولا ك مخزونا  نظريا أو كيانا صوريا ، بل هو كما يقول حسن حنفي  بأن التراث مخزون نفسي  عند الجماهير ،…، وهو أيضا جزء من الواقع  ومكنوناته  النفسية ، مازال  التراث القديم  بأفكاره وتصوراته  ومثله موجها لسلوك الجماهير، في حياتها اليومية  ،إما  بعاطفة التقديس  في عصر لا يسلك الإنسان فيه  إلا مداحا ،أو بالارتكان  إلى ماض زاهر  تجد فيه الجماهير عزاء عن واقعها  المضني ، وإذا كانت  البداية العلمية  للتغيير تعني البدء بالواقع واعتباره  هو المصدر الأول  والأخير لكل فكر ، فان القيم القديمة التي حواها  التراث  جزء  من هذا الواقع ؛ فنحن   مثلا نئن  تحت الإيمان والقدر الموروث من أهل السلف ، ونفسرهزيمتنا  بأنه  “لا غني حذر من قدر” ، والذي حاولت الحركات الإصلاحية الحديثة،الخف من حدته ، كما نرهق عقولنا بالتشبيه والتشخيص سواء في الأوليات ـ أي العقليات ـ  مثل وجود حقيقة أولى، أو أفكارعامة ،أو الأخرويان  فيما يتعلق  بنهاية العالم (90).

ونجد في ذلك عزاء، عن عدم الوعي  بأنفسنا ،إما من  حيث النشأة أو من حيث المصير ، كما أننا نلحق عقولنا  بالنصوص ونقع في التأويلات ، ونقطع الصلة  بين العقل والتحليل المباشر للواقع ، باعتباره مصدر للنص ، ونقبل الإمام بالتعيين ، ونطيع له خانعين، ضعفاء أو خائفين ، ثم ننتقي من التراث ما  يدعم هذا الوضع ، كما أننا نقف  أمام الطبيعة سالبين عنها استقلالها، وعادمين وجودها، وقاضين على قوانينها ، ونصفها بالشر والوبال ، وندعو للخلاص منها ، ومتهمين كل اتجاه طبيعي بالمادية والإلحاد، وحاكمين عليها بالسفور والانحلال ، دون دراية منا ، بأن هذا الموقف يعبرعن  تطهير أو حرمان أو نفاق…، ومعاقبين البدن ، وهو لم يحصل على حقه منا ، ومزكين النفس وهي عاجزة عن فعل شيء، ذاك بعض الموروث النفسي القديم، من علم أصول الدين .  (91)

فإذا أخذنا موروثا نفسيا ثانيا، وجدنا أننا مازلنا نعيش التصورالثنائي للعالم ، كما ورثناه من الكندي  ،وآثار ذلك على وحدة السلوك ، وما يترتب عنه من تطهير وتبرير للنفس، ونفاق وتغطية وتعمية وازدواجية  ،كما أننا  نسلك طبقا  للتصور الهرمي للعالم الذي ورثناه  من الفارابي خاصة في تصور مجتمعنا  ومؤسساته التي يقوم  كل منها على الرئيس، الذي هو وحده الملهم والقائد والمعلم والكامل  والمقدس والمعبود، ثم تقل مراتب الشرف والكمال  حتى تصل إلى المرؤسين،  الذين  عليهم  إما الطاعة  والولاء ،وإما السجن  والعقاب  ، وان كنا نخلط بين العقل والوجدان،  في فكرنا المعاصر، فنخطب فنظن أننا نفكر، وننفعل ونظن أننا  نفعل،  ذلك لأن العقل في التراث القديم،  وما ورثناه عن السلف  كانت مهمته  تبرير الدين، على الأقل  في علم أصول  الدين،  وفي علوم الحكمة ، وأن العقل لم يستقل  على الإطلاق، ولم يوجه نحو الواقع، وهو طرفه الأصيل ،إلا  في أصول الفقه، الذي انتهى أيضا إلى الثبات وتحجيرالأصول،  وتغليبها على الواقع، حتى أنه لم يبق إلا التقليد، علاوة على إعطاء الأولوية في عالمنا المعاصر،  للكليات النظرية على حساب الكليات ، باعتبار الجامعات أعلى من المعاهد العليا والمدارس المتخصصة ، وبأن الذي يعمل بعقله، أفضل قيمة وأعلى شرفا من الذي يعمل بيده ، وأن الموظف أفضل من العامل، والمثقف أعلى من الفلاح (92).

وهكذا نجد هذه  القيم السلبية، والمعاني والحقائق المشينة أيضا، في القيم الصوفية السلبية، التي تدعو إلى الخضوع والاستكانة والاستسلام للواقع، وعدم تغييره والرضي بالقليل، والتحلي بالصبر والجوع والتوكل على الله ، بدلا من اتخاذ الأسباب و تحدي الواقع وتغييره ، وهي مازالت تؤثر في السلوك  الفرد والمجتمع سلبا ، وتبعده عن ما يجب القيام به في الواقع، ويكون دافعا لتغير السلوك التواكلي أو الجبري،  بدلا من تبريره ، وباعثا لبناء السلوك، والرقي به اجتماعيا وإنسانيا ، وتجديد التراث إذن ضرورة  واقعية، ورؤية صائبة للواقع ، فالتراث جزء من  مكونات  الواقع، وليس دفاعا عن موروث

 قديم ، التراث حي يفعل  في الناس ويوجه سلوكهم ، وبالتالي يكون تجديد التراث،  هو وصف لسلوك الجماهير، وتغييره  لصالح  قضية التغير الاجتماعي ،وتجديد  التراث هو إطلاق لطاقات مختزنة عند الجماهير ، بدلا من وجود التراث كمصدر لطاقة مختزنة، لا تستعمل أو تصرف  بطرق غير سوية  ،على دفعات عشوائية،  في سلوك  قائم على التعصي،  أو الجهل أو الحمية الدينية ، والإيمان الأعمى، أو يستخدمها أنصار تثبيت الأوضاع القائمة، لحسابهم  الخاص، من أجل الدفاع عن الثبات الاجتماعي…، فتحليل التراث، هو في  نفس الوقت،  تحليل لعقليتنا المعاصرة ، وبيان أسباب معوقاتها ، وتحليل عقليتنا المعاصرة …،  فالتراث والتجديد، يؤسسان معا علما جديدا ، هو وصف  للحاضر، وكأنه ماض يتحرك ، ووصف  للماضي، على أنه واقع معاش ، خاصة في بيئة كتلك التي نعيشها ، حيث الحضارة مازالت قيمة، وحيث الموروث مازال مقبولا. (93) .

 وكلما أوغل الباحث في القديم  وفك رموزه ، وحل طلاسمه  أمكن رؤية العصر والقضاء  على المعوقات  في القديم إلى الأبد ،  وإبراز مواطن القوة  والأصالة  لتأسيس نهضتنا المعاصرة ، ولما كان التراث يشير إلى الماضي ، والتجديد يشير إلى  الحاضر ، فان قضية التراث والتجديد هي قضية التجانس في الزمان  وربط الماضي بالحاضر  وإيجاد وحدة التاريخ ، فكثيرا ما سمعنا في عصرنا هذا عن انفصال  الماضي عن الحاضر أو عن قطع جذور  الحاضر من الماضي ،أو عن ماضي عظيم  ولى ولن يعود ،أو عن حاضر أصيل جديد  عبقري المنال  لا أصول له   إلا من ذاته ، ربط  الماضي بالحاضر  إذن ضرورة ملحة حتى لا يشعر الإنسان  بغربة عن الماضي أو بغربة  عن الحاضر …، فهي إذن مشكلة واقعة  تبدأ  بمعطى واقعي  وهي كيف  يمكن لشعب من الشعوب تحقيق تجانسه في الزمان والبحث عن مسار طبيعي لتطوره ، والإبقاء على الاستمرارية في تاريخه ، وقضية التراث والتجديد ، هي  قضية التجانس الحضاري  لشعب من الشعوب ، فلا يعني انتقال شعب من مرحلة لأخرى حدوث قطع وانفصال حضاري، بل  يعني استمرار الحضارة  ، ولكن على أساس  جديد من احتياجات العصر …، وحتى  نظهر البعد التاريخي  في وجداننا المعاصر ، واكتشاف  جذورنا  في القديم  حتى يمكننا  الإجابة عن سؤال  : في أي مرحلة من التاريخ نحن  نعيش ؟ ، وحتى  نعود  إلى تطورنا الحضاري الطبيعي ، فتحل  مشكلة الجمود والتوقف من ناحية  ، وتحل مسألة التقليد للآخرين والتبعية لهم من جهة أخرى …. (94) .

فتحليل الواقع المباشر، ورؤية التراث فيه ، أو تحليل  التراث، على انه مخزون  نفسي عند  الجماهير ، هو  في نفس الوقت، منهج نفسي اجتماعي   نفسي، لأنه يقوم على  تحليل شعور الناس  وسلوكهم ، واجتماعي ، لأنه يهدف إلى تحليل  الواقع ، وإلى أي حد ترتكز الأبنية، على أبنية نفسية أخرى عند الجماهير ، ولما  كانت هذه الأسس النفسية ذاتها،  ناشئة  من موروث  حضاري ، فانه يتعين  تحليل هذا الموروث ، ومعرفة  ظروف  نشأته ” التراث والتجديد”، إذن يغطي ميادين ثلاثة :

  • تحليل الموروث القديم، وظروف نشأته  ومعرفة مساره  في الشعور الحضاري .
  • تحليل الأبنية النفسية للجماهير ، وإلى أي  حد هي ناتجة عن الموروث  القديم ، أو من الأوضاع  الاجتماعية الحالية .
  • تحليل أبنية الواقع ،وإلى أي حد  هي ناتجة عن الواقع  ذاته  ودرجة تطوره أم أنها ناشئة  من الأبنية النفسية  للجماهيرالناشئة ، بدورها  عن الموروث القديم  ، وان شئنا ، فالتراث  والتجديد يود الانتقال  من علم اجتماع المعرفة إلى تحليل سلوك الجماهير ،أي  من العلوم الإنسانية إلى الثقافة الوطنية ، ومن الثقافة الوطنية  إلى الثورة الاجتماعية  والسياسية (95)، وهو في هذا يلتقي مع منهجية مالك بن نبي في فقه سنن التنوير والتغيير، ومعرفة أسس وشروط البناء والنهوض الحضاريين ،  والتحرر من كل أشكال الاستعمار والتبعية .

 

وإذا كان مالك بن نبي ينطلق  من النقل كأفكار مطبوعة وأصيلة،  ويرى بأنها الأساس في كل تحديث أو نهوض حضاري متميز ، مع التأكيد على  ضرورة تطبيقها وتفعيلها ، في واقعنا التاريخي كأمة إسلامية ، بدون إخضاع  النصوص النقلية ومضامينها  للمسائلة والنقد ، بقصد تجديد وتطوير التعاطي مع النص الديني، وما تفرع عنه  ،  من اجتهادات  وكيف يتم على أساسها إبداع لعلوم الحكمة  والتي هي جزء من التراث القديم لحضارتنا الإسلامية ، فان حسن حنفي على العكس ، ينصب اهتمامه ودراساته  بشكل أساسي ومتفرد للنص الديني (النقل) ، بنقد تلك الاجتهادات والتأويلات والعلوم ،التي اشتقت منه لتقويمها ، بقصد إعادة بنائها  ، ومن ثم تجديدها وتطويرها ، بجعلها مصدر إبداع  وابتكار،  لتغيير الواقع  الحضاري المتردي ، وعدم الاكتفاء  بتقديسها ومدحها فقط ، بدون تقويمها وغربلتها باستمرار، ( نقد المناهج كنعرة علمية ولدها علم الاستشراف في الدراسات الإسلامية، كالمنهج التاريخي ، والمنهج  التحليلي  والمنهج  الإسقاطي ، ومنهج الأثر والتأثير) واستبدالها بعلوم ومناهج وحلول، أكثر موضوعية وفعالية  و نجاعة ، بقصد البناء الحضاري السليم والراشد ، ومن ثم النهوض الحضاري الراقي .

ورغم ذلك، فإن كل من مشروع مالك بن نبي الإصلاحي ، ومشروع حسن حنفي النهضوي ،  يتفقان في نقد التراث الغربي وتمركز الحضارة الغربية ،و ذهنية كيلها بمكيالين، لبقية الثقافات الأخرى ،  ومحاولة إطالة أمد وسطوة تمركزها، عن طريق الاستغلال والاستعمار والاستبداد ؛ والذي يفضي إلى احتكار الثروات  والعلوم والمعارف ، وفرض ثقافتها الليبرالية على بقية الثقافات والحضارات الأخرى ، عن طريق الترهيب والترغيب  ،  وهذا في ظل تهاون وتكاسل شعوب الأمة العربية ، في الإلمام بشروط النهضة كما حدثنا بها مالك بن نبي ، أو توفر شروط الوعي الفكري والحضاري ، بحل أزمة العلاقة بين  التراث الإسلامي القديم والتراث الغربي الوافد ، ومحاولة إيجاد واقع إسلامي ، يضع معايير وشروط  الانتقاء والتأثر والتأثير بينهما ، مع الحفاظ على خصوصية وطابع  كل حضارة .

التحديث في الفكر العربي المعاصر :

لقد حاول المفكرون العرب، منذ عصر النهضة لتقديم ما اعتبروه تجديدا أو تحديثا ، سواء كان ذلك في الحركات القومية العربية على مختلف أصنافها، أو في الحركات الإصلاحية الدينية ، بمختلف تنوعاتها ، ثم تلتها الحركات الفلسفية، التي طرحت مسألة التجديد (التحديث) بشكل واضح ، هذا التجديد أو التحديث ، الذي كان المهمة الأساسية لكل فكر، ولعل كتاب محمد  إقبال “تجديد الفكر الديني” وكتاب زكي نجيب محمود” تجديد الفكرالعربي”، وما يماثلهما من الكتب والدراسات المتشابهة، دعوة صريحة إلى تجديد الفكر الفلسفي ، سواء في البنية المعرفية للفكر، أو في علاقته بالتراث العربي الإسلامي، أو في أسئلته بالمرتبطة بالواقع، لذا شهد القرن العشرين ظهور مشاريع فكرية عربية متناسقة تدعو إلى التجديد والتحديث، مثل المشروع الذي يستند على الماركسية في مجملها ، كمشروع حسين مروة ، والطيب تيزيني، والمشروع الذي يستند إلى الطرح الوضعي ،كما قدمته كتابات زكي نجيب محمود ، والمشروع الذي يجد مرجعيته في الفينومينولوجيا ، الذي يمثله حسن حنفي، والمشروع الذي يستند إلى البنيوية كمشروع محمد عابد الجابري، ومحمد أركون وغيرها، من المشاريع الفكرية . (96)، وعليه نجد أن جل هذه المشاريع ، مجرد تكرار للفلسفات الغربية المتمركزة ، وارتماء واضح وسافر، بين أحضان الغرب السيد والمتمركز، وأنها مجرد حلول فكرية مستوردة ، تتناقض تماما ، مع جوهر الثقافة الإسلامية.

لكن في مقابل ذلك نجد ، بعض المفكرين العرب القلائل، الذين جاءوا بمشاريع تجمع بين ماهو أصيل وماهو حديث ، وفيها بصمة متميزة للتجديد والتحديث من أمثال حسن حنفي ، الذي سبق تناوله ، سابقا بالتفصيل ، لما له من أهمية وقيمة في معرفة نقاط الضعف والقوة في كل من التراث الإسلامي والتراث الغربي ،ومحاولة الخروج بمشروع متميز من صلب الثقافتين ، لكنه متفرد في جوهره وأبعاده ومقاصده ، فهو مشروع ثري مقنع مقارنة بالمشاريع الأخرى المستوردة ،مثله في ذلك مثل المفكر الكبير مالك بن نبي الذي تأثر به حسن حنفي ، أيما تأثير  ويليه أيضا في التميز والابتكار كل من هشام جعيط ،  وهشام شرابي ، هذا الأخير، الذي حاول التركيب بين مختلف تلك المشاريع الفكرية، مستفيدا مما قدمته للحركة الفكرية العربية ، محيلا إلى  إشكالياتها  ، ومساهما في حل بعض  قضاياها، للخروج  بها من حالة الركود والجمود ،إلى حالة الديناميكية ” الحركية” والفعالية ،لأننا نعتقد أن كل عملية فكرية إبداعية،  يصاحبها  بالضرورة شكل من أشكال التوتر ، وتطبعها سمات خاصة ومحددة ، وهي التي ميزت فكر هشام شرابي (97).

لذا يقول :” الحياة مسرح الفلسفة ، والفلسفة هدفها الحياة ، والحياة والفلسفة يلتقيان كيانيا بشكل وجودي حي ، وجود إنساني واع” ففلسفته بهذه الرؤية، هي فلسفة براجماتية” نفعية “، عملية تهتم بالإنسان وبشؤونه ، وتهتم في ذات الوقت بفاعليته في التاريخ وفي الحياة (98)، رغم ذلك فان مشكل التحديث مازالت قائمة ومستمرة، بحسب القضايا و التحديات المستجدات ، التي يفرضها عصرنا ، و يخلفها الصراع الثقافي بين الثقافة العربية الإسلامية ، والثقافة الغربية .

لاحداثة بدون أصالة :

وقد أثبت التجارب العربية والإسلامية والإنسانية ،أنه لا الهروب إلى التراث وانتحاله جاهزا هو خيار مواجهة التحديات ، ولا تقليد الجديد هو الذي يعالج معضلاتنا  ويقاوم التحديات التي نواجهها ، فانتحال التراث عملية لا تزيدنا إلا هروبا وبعدا عن واقعنا بتحدياته وآفاقه ومتطلباته ، واستيراد  تراث الآخرين ، ومنتجاتهم ، يلغي  إرادة تقدمنا الحقيقي ، ويزيد من اهترائنا وضعفنا ،إننا بحاجة إلى الخروج من هذه المتاهات النظرية المجردة ، والتي تساهم في  تضليلنا  وبعدنا  عن اكتشاف استرانيجية العمل المطلوبة لمجابهة تحديات راهننا ، لأن استمرارنا في هذه المضاربات الفكرية ، ساهم بشكل أو بآخر في تغيبنا عن القضايا ذات الشأن  الكبير والمصيري ، فلا بد من وقف هذا النزيف الفكري والثقافي ، الذي يشترك في إبعادنا عن قضايا عصرنا وتحديات واقعنا ، فالمشروع  العربي بعناوينه المختلفة في عصره أخفق في مواجهة  المشروع الصهيوني في المنطقة ، واستطاع هذا المشروع  السرطاني تحقيق انتصارات ومكاسب ضد مصالحنا الحيوية والإستراتيجية…،ولا يمكن أن نواجه هذا المشروع  والتطورات اللاحقة  بالهروب والانزواء في كهف الماضي ، كما أن الاستكانة إلى العدو والقبول  بخططه  واستراتيجياته ، ليس طريقا مواتيا، أو موصلا إلى السلم والاستقرار، وإنما هو  بداية الهيمنة الصهيونية على المنطقة ، وهي هيمنة لا تستمر ،إلا  بالمزيد من ضرب ونسف الواقع العربي، في مختلف المجالات (99)

وعليه ،فان الإشكالية القديمة ،إسلام ــ غرب قد ولى عهدها ، لأنه لم يعد هناك إسلام موحد ، ولأن الغرب أصبح مزيجا مركبا ، كما أن الحداثة اليوم لا تحمل معنى حداثة الأمس ، عندما كان الغرب يهيمن مباشرة ، كان يطرح الإسلام كوحدة ، لأنه كان خارج التاريخ ، وبالطريقة عينها نجح في تركيب دينه وثقافته وحضارته وحداثته التكنولوجية، وهذا ما لم يعد يفعله أبدا ولا يمكنه أن يفعله ، في السابق عارض نيتشه الحداثة ، وفصل شبينجلر مفهوم الثقافة الغربية، عن مفهوم الحضارة (إمبريالية ، صناعة، باختصار حداثة)، لذا نكتشف الآن أن الثقافة الغربية بمختلف وجوهها  في حالة تفتت ، وأن الحضارة أو الحضارات الغربية الصادقة ،هي في طريق التجزؤ، وأن الوحش الذي التهمها لا ينتج إلا ثقافة دنيا وحضارة دنيا (100).

لكن هذا لا يمنع، من وجود الحوار الحضاري بين الثقافات  ، ممن يدعون إلى التواصل الثقافي ، ويحضون على الاتصال الفكري والإنساني ، والإعلاء من قيم الخير والحب والحق والجمال ، ويأمرون بالتشبث  بالمبادئ الإنسانية والشيم الأخلاقية والمعاني الروحية ، باعتبار أن الناس سواسية،  يشتركون في خاصيتي العقل والإنسانية، وفي نشدان الخير وطلب الحق ، وفي الوقت نفسه  يطمحون إلى  العيش بحرية وأمان ، والتعايش بحب وسلام ، على بساط هذه المعمورة، وهذا لا يكون إلا بتوخي سبيل الحوار، الذي لا يوجد بديل عنه، في زمن الصراع الثقافي، والصدام الحضاري ، والنزال الإيديولوجي ، وأن تهتم الأمة العربية الإسلامية ، على غربلة التراث أو الأصالة ، والاكتفاء بما تصمد به أمام الرياح العاتية للمعاصرة والحداثة الغربية ، وفي الوقت نفسه عليها النقد الايجابي ، لأفكار الحداثة ومستجدات العصر بالتكيف الايجابي معها، باعتبار أن هناك طرق أخرى للحداثة، غير الذي فرضته الثقافة الغربية  وأرتضته لها ولنا، والابتعاد عما يضر أو يشوه هويتها الثقافية والحضاربة، مع الانفتاح الحذر واليقظ على الحضارات الأخرى وثقافتها، التي تخالف روح ثقافتنا العربية الإسلامية ، بعيدا عن الذوبان فيها، أو الإندماج فيها ، نظرا للتباين الحاد في المقومات والوظائف والمقاصد.

الهوامش الخاصة بالمقال :

 

1تأليف مجموعة من الكتاب ـ نظرية الثقافة ـ ترجمة علي سيد الصاوي ـ مراجعة وتقديم أ، د الفاروق زكي يونس ـ المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت ـ بتاريخ يناير 1998ـ ص 09.

2المرجع نفسه ـ ص09/ 10 .

3محمد السويدي ، مفاهيم علم الاجتماع الثقافي ومصطلحاته ، المؤسسة الوطنية للكتاب ،ط1،عام1991م،بالجزائر، ص74/75.

4محمد السويدي، مفاهيم علم الاجتماع الثقافي ، ص71.

5المرجع نفسه ، ص71/72.

6مولود قاسم نايت بلقلسم،أصالية أم انفصالية،ج2، المؤسسة الوطنية للكتاب بالجزائر،ط1، سنة 1991م،66.

7 الجرجاني ، كتاب التعريفات، حققه وقدم له إبراهيم الأبياري،دار الكتاب العربي ،ط4،عام 1998م، بيروت ـ لبنان ، ص 45.

8 مراد وهبه ، المعجم الفلسفي ، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع بمصر، طبع سنة 1998م،ص70.

9المرجع نفسه ، والصفحة نفسها

10المرجع نفسه ، والصفحة نفسها.

11عبده الحلو،معجم المصطلحات الفلسفية ، المركز التربوي للبحوث والإنماء، مكتبة لبنان، ص 136.

12مولود قاسم نايت بلقلسم، أصالية أم انفصالية ، ج2، ص 13/14.

13المصدر نفسه، ص24.

14مراد وهبه ـ المعجم الفلسفي ـ ص 75 .

15المرجع نفسه ـ صفحات75/76/77 .

16روجي قارودي ـ نحو حرب دينية جدل العصر ـ ترجمة صباح الجهيم ـ  دار الفارابي ـ الطبعة الثالثة سنة  ـ2006بيروت ـلبنان ـ ص37.

17محمد السويدي ، مرجع سابق ، ص 90.

18نقلا عن محمد السويدي ـ مفاهيم علم الاجتماع الثقافي ومصطلحاته ـ المؤسسة الوطنية للكتاب ـالجزائرـ الدارالتونيسية للنشر تونس ـ  الطبعة الأولى سنة1991ـ ص77

19الدكتور محمد لبيب النجيحي ـ في الفكر التربوي ـ الطبعة الثانية 1981ـ دارالنهضة العربية للطباعة والنشر ـ بيروت ـ لبنان ـ صفحة 173.

20مولود قاسم نايت بلقاسم ـ أصالية أم انفصاليةـ الجزء الثاني ـ المؤسسة الوطنية للكتاب ـ الجزائر ـ صفحتي 367/368.

21المرجع نفسه ، ص 369.

22المرجع نفسه ، ص 24..

23برتراند راسل ، التربية  والنظام الاجتماعي ، ترجمة سمير عبده ، منشورات دار مكتبة الحياة ، ط2،عام 1978م ،بيروت ــ لبنان ، ص 19

24الجرجاني، كتاب التعريفات، حققه وقدم له إبراهيم الابياري ،دارالكتاب العرب ،ط4عام 1998م،بيروت ـ لبنان، ص12

25أنظرمقالنا ، بمجلة المربي رقم 25حول التربية على المواطنة، الذي يصدر عن المركز الوطني للوثائق التربوية ، ص 94 26المرجع نفسه ، ص 94/95

27مالك بن نبي ـ مشكلة الثقافة ـ ترجمة عبد الصبور شاهين ـ دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشرـ  ط4 ـ دمشق ـ ص 74.

28علي المحافظة ـ الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة 1798/1914.ـ الطبعة الثالثة 1980ـ دار الأهلية للنشر والتوزيع ـ  بيروت ـ صفحة 163.

29ــ محمد عبده ، الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية ، دار موفم للنشر ، ص 57.

30الدكتور عماد الدين خليل ـ هجمات مضادة في التاريخ الإسلامي ـ دار الضياء للإنتاج الإعلامي للتوزيع ـ الطبعة الثانية 1989ـ صفحتي 30/31.

31محمد عبده ص 57

32علي المحافظة ـ المرجع نفسه ـ ص./130.129.

33المرجع نفسه ـ صفحات 130.

34المرجع نفسه ـ صفحات 134.

35المرجع نفسه ـ صفحات 121.

36المرجع نفسه ـ صفحات 128.

37المرجع نفسه ـ ص 109

38المرجع نفسه ـ ص 111./112

39المرجع نفسه ـ ص 113/114.

40المرجع نفسه ـ ص 118

41محمد طهاري ـ الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ الحركة الإصلاحية في الفكر الإسلامي المعاصر ـ بدار الأمة للطباعة والنشر والتوزيع بالجزائر ـ  طبعة 2010ـ صفحة 11/12.43

42محمد طهاري، المرجع نفسه ـ 12/13.

43 محمد البشير الإبراهيمي ـ في قلب المعركة ــ دار الأمة للطباعة والنشر والتوزيع ـ بالجزائرـ  طبعة 2007ـ صفحة 60.

44 محمد الصالح الصديق ـ شخصيات فكرية وأدبية ـ دار الأمة للطباعة والنشر والتوزيع ـ طبعة 2010ـ بالجزائرـ صفحة 43 .

45.نقلا عبد الله شريط ـ مع الفكر السياسي الحديث ـ بالمؤسسة الوطنية للكتاب ـ  طبع سنة 1986ـ بالجزائرـ صفحة 113/114.

46 مالك بن نبي ـ الصراع الفكري في البلاد المستعمرة ـ ترجمة عبد الصبور شاهين ـ بإشراف ندوة مالك بن نبي ـ دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشرـ الطبعة الرابعةـ بدمشق ـ صفحة 34.

47باقر بري ـ إضاءات على كتاب الاستشراف لادوارد سعيد ـ دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع ـ  الطبعة الأولى سنة 2002م ـ بيروت ،لبنان ـ صفحتي 29/30

48إبراهيم العبادي ـ جداليات الفكر الإسلامي المعاصر ــ دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع ـ الطبعة الأولى 2001م ـ بيروت ،لبنان ـ صفحة 271.

49يعتبر فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب”نهاية التاريخ والرجل الأخير” الذي تناول فيه حتمية تحقيق القيم الرأسمالية الكونية،وزال بقية الحضارات والأديولوجيات الأخرى ،من إسلامية،وشيوعية،ووطنيات أخرى ،ويتفق فوكوياما في ذلك، مع صموئيل هنتنغتون صاحب نظرية صراع الحضارات بين الأمم،لأن مآل كل الثقافات الزوال ،وان البقاء والسيادة معا للحضارة والثقافة الغربية .

50 الدكتور حسن حنفي ـ مقدمة في علم الاستغراب ـ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع (مجد)  الطبعة الثالثة 2006م ـ بيروت لبنان ـ ص 23.

51 الدكتور حسن حنفي ـ المرجع نفسه ـ ص 27 .

52ابراهيم العبادي ـ جداليات الفكر العربي المعاصر ـ ص274 .

53 مراد وهبه ـ المعجم الفلسفي ــ دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع ـ مصر ـ صفحتي 282/283 .

54 د. الزواوي بغورة ـ ما بعد الحداثة والتنوير ـ دار الطليعة للطباعة والنشر ـ  طبعة   2008 ـ بيروت ،لبنان ـ صفحتي 41/42 55.الزواوي بغورة ـ المرجع نفسه ـ صفحات 41/42/45 .

56 إليا حريق ـ الديمقراطية وتحديات الحداثة بين الشرق والغرب ـ دار الساقي ـ  الطبعة الأولى عام 2001م ـ بيروت ، لبنان ـ ص 244 .

57 هشام عصيب ـ تجديد العقل النهضوي ـ دار الفارابي ـ بيروت لبنان ـ الطبعة الأولى سنة2004 ص/6665 .

58 العلامة عبد الرحمان بن محمد بن خلدون ـ مقدمة ابن خلدون ـ الجزء الأول ـ دار الجيل ـ بيروت ،لبنان ـ ص 162 .

59إسماعيل زروخي ـ دراسات في الفكر العربي المعاصرـ دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع ـ عين مليلة، الجزائرـ ص 16 .

60علي المحافظة ـ المرجع السابق نفسه ـ صفحات 203/204/205 .

61علي المحافظة ، المرجع نفسه ، ص 121.

62 رفاعة الطهطاوي ـ تخليص الإبريز في تلخيص باريز ـ موفم  للنشر ـ طبع المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية ـ وحدة الرغاية ـ الجزائر سنة 1991 ص 128 .

63 علي المحافظة ـ المرجع السابق نفسه ـ صفحتي 236/237 .

64 طه حسين ـ تقليد وتجديد  ـ دار العلم للملايين ـ بيروت ـلبنان ـ الطبعة الأولى سنة 1978م ـ ص 58 .

65 هشام عضيب ـ تجديد العقل النهضوي ـ صفحتي 87/88 89 .

66هشام عضيب ـ المرجع السابق نفسه ـ صفحتي 89/90 .

67عيساني أمحمد ، الوعي السياسي بين القوميين والإسلاميين “دراسة تخليلية ونقدية” ، دار الغرب للنشر والتوزيع ، طبعة 2007م، وهران ــ الجزائر ، ص 61.

68ـعبد الرحمان بن براهيم ـ صحيفة القبس ـ الصادرة يومي السبت والأحد 1ـ 2/07/1989ـ ركن قضايا ثقافية ـ ص08 . 69إسماعيل زروخي ـ دراسات في الفكر العربي المعاصر ـ ص15.

70المرجع نفسه ،  ص 68/70..39) ــ

71 المرجع السابق نفسه،  ص 74. ع

72عبد القادر بوعرفة ، الحضارة ومكرالتاريخ ، “تأملات في فكر مالك بن نبي ” دار رياض العلوم ، ط1عام 2006م ، ص 110.

73 ـ عبد القادر بوعرفة ،  الحضارة ومكر التاريخ، “تأملات في فكرمالك بن نبي ” الصفحة نفسها.

74ـ  مالك بن نبي ، مشكلة العالم الإسلامي،  ص 74.

75 ـ المرجع نفسه ، 75.

76 ـ مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة عبد الصبور شاهين ، دار الفكر بدمشق ، ط6 ،عام 2006، ص 81.45

77ـ مالك بن نبي ، وجهة العالم الإسلامي ، ص  79.

78سورة البقرة :143.

79ـعمر المسقاوي ، مقاربات حول فكر مالك بن نبي ،دار الفكر ، ط1،عام 2008م بدشق ـت سوريا،ص158/159.

80عمر المسقاوي، مقاربات  حول فكر مالك بن نبي،  ص159/160.

81عمر مسقاوي ، المرجع نفسه ، ص 163/164.

82ـ مالك بن نبي ، شروط النهضة ، ترجمة عبد الصبور شاهين ، دار الفكر  للطباعة والنشر والتوزيع ، 1979م،دمشق،ص79/80.1

83ـ  حسن حنفي ، مقدمة في علم الاستغراب ، مجد المؤسسة الجامعية  للدراسات والنشر والتوزيع ، ط3، عام 2006م ، ببيروت ـ لبنان  ، ص09.

84ــ  حسن حنفي ، مقدمة في علم الاستغراب ، ص 10/11.

85ـ  حسن حنفي، المصدر نفسه ، ص 12/13

86المصدر نفسه ،  ص 13.

87ـ المصدر نفسه ، ص 14.

88ـ المصدر نفسه ، ص 14/15.

89ـ  المصدر نفسه ، 16

90ـ حنفي حسن ، التراث والتجديد ـ موقفنا من التراث القديم ـ مؤسسة هنداوي ،  ط 4 عام 1991م ،  بالقاهرة ــ مصر ص17.

91ـ  حنفي حسن التراث والتجديد ـ موقفنا من التراث القديم ، ص 17/18.

92ـ حنفي حسن ، المصدر نفسه ، ص 18/19.

93ـ  المصدر السابق نفسه ، ص 21/22.

94ـ المصدر السابق نفسه ، ص 22.

95ـ  المصدر نفسه ، ص 28/29.

96ـ إسماعيل زروخي دراسات في الفكر العربي المعاصر،شركة دار الهدى للطباعة  والنشر والتوزيع، طبعة 2002م ،عين مليلة ـ الجزائر، ص86.

97ـ  اسماعيل زروخي ، دراسات في الفكر العربي المعاصر ص 87.

98ـ المرجع نفسه ، والصفحة نفسها.

99ـ محمد محفوظ ، العولمة وتحولات العالم ” إشكالية  التنمية في زمن العولمة  وصراع الثقافات ، ص117/118.

100ـ هشام جعيط ، مرجع سابق ، ص 123.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.