الاستعمار الصهيوني الاستيطاني لفلسطين: الصراع على المفاهيم والتوصيفات-د.حسين بوبيدي-الجزائر-
الاستعمار الصهيوني الاستيطاني لفلسطين: الصراع على المفاهيم والتوصيفات
د. حسين بوبيدي
جامعة قسنطينة 2 عبد الحميد مهري
مخبر الدراسات والبحوث في حضارة المغرب الإسلامي
مقدمة:
تمتد مقاومة الحركة الصهيونية الاستيطانية في فلسطين المحتلة من ساحات المعركة العسكرية إلى مساحات الصراع الفكري، وبينهما أشكال متعددة من التدافع الواجب ممارسته لمنع هذه الحركة من ترسيخ وجودها السرطاني المكلّف بمهمة تعطيل الوحدة العربية واليقظة الإسلامية، ولذلك طورت الإرادات الحية للأمة وسائلها في مواجهة الصهيونة وكيانها؛ لتشمل الإعلام الكاشف لجرائمها وممارساتها العنصرية، والمقاطعة الاقتصادية والثقافية والأكاديمية وغيرها، وحتى في الدول التي ارتكست أنظمتها في حمأة التطبيع المعترف بوجود دولة تم اختراعها في القرن الماضي من أوهام وخيالات لا تاريخية، ومخططات استعمارية ترتّب المنطقة العربية لما بعد الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، ليرثها النظام العالمي الجديد؛ وتمثل له منصة مراقبة وقاعدة عسكرية متقدمة داخل الشرق العربي المسلم.
في سياق المقاومة متعددة الأوجه؛ ينبغي الانتباه إلى النقاشات العلمية التي تتناول توصيف الحركة الصهيونية ومشروعها الاستيطاني، ومناقشة مخرجات بعض الآراء والنظرية التي قد تبدو لأول وهلة مدينة للاستعمار ومتعاطفة مع الفلسطينيين، لكنها تنتهي إلى تكريسه والتسليم بوجوده، وهذا ما تتناوله هذه الورقة العلمية التي تحاول أن تساهم في هذا النقاش من وجهة نظر تتبنى الحق الفلسطيني غير القابل للتجزئة، وتستحضر عدم إمكانية اعتماد الأمر الواقع كمنطلق للتسليم بظلم متحقق سلّطته القوى الغربية على أرض إسلامية، ومن رؤية عقدية تستبطن إيمانا تاما أن هذا الكيان إلى زوال.
1-الاستعمار الاستيطاني والاستعمار الاستغلالي: أي فرق؟
منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي؛ بدأ يتبلور حقل دراسي جديد يعني بالاستعمار الاستيطاني، باعتباره أحد أهم أشكال الاستعمار الأوروبي الحديث، وأنه يختلف بنيويا عن الاستعمار الاستغلالي، وتعتبر أعمال: باتريك وولف/ Patrick Wolfe ولورينزو فيراتشيني/Lorenzo Verasini وآني كومبز/Annie Coombes وسوزان بيدرسون/Susan Pederson وكارولين ألكينز/Carolin Elkins ووليام قلوا/William Gallois من أهم الأعمال في هذا المجال، وتم في عام 2010 تأسيس: مجلة دراسات الاستعمار الاستيطاني/settler colonial studies التي ساهمت مساهمة فعالة في تطوير هذا المفهوم[1]، وقد ساهمت العديد من الأبحاث العربية -وخاصة تلك المتعلقة بالقضية الفلسطينية ومقاومتها للكيان الغاصب والحركة الصهيونية- في تطوير هذه المقاربة، وأعطتها رؤى جديدة حاولت أن تدفع بها نحو الفهم الأعمق لهذا النوع من الممارسة الاستعمارية، ومن ذلك أبحاث: رشيد الخالدي، نديم روحانا، إيليا رزق، أشرف عثمان بدر، عاصم خليل، خالد الحروب، أباهر السقا، وهنيدة غانم، وميساء شقير، وغيرهم من الباحثين الذين ناقشوا المسألة ضمن هذه المقاربات الغربية، وتباينت مواقفهم في تحليل هذه الظاهرة، ورسم معالم الحلول الممكنة لها، والتي تناغمت – دون شك- مع قناعاتهم السياسية ورؤيتهم لطبيعة الصراع مع الصهيونية وكيانها.
لقد تم التمييز بين أنواع الاستعمار ضمن هذه الدراسات، ويتحدد مفهوم الاستعمار الاستيطاني بملاحظ الفرق بينه وبين الاستعمار الاستغلالي؛ هذا الأخير يهدف بالأساس إلى استخلاص القيمة الزائدة من السكان الأصليين بالسيطرة على ثرواتهم وتوظيف جهدهم فيها، وتحويل الفوائد إلى الدولة المستعمرة (الاستغلال)، بينما يستهدف الاستعمار الاستيطاني الأرض ذاتها، فيعمل على إحلال المستوطنين بديلا للسكان الأصليين، وفي هذا السياق يلتزم مجموعة من السياسات التي تصب في الأخير لصالح الاستحواذ على الأرض والتخلص من ملّاكها، وتظهر ضمن هذا النوع من الممارسة الاستعمارية سياسات مختلفة ترتبط بـــــ: الإبادة، الإزالة، المحو، الإقصاء، التطهير العرقي، النفي، التذويب، إعادة الترتيب الجغرافي، الفصل العنصري/الأبارتهايد، الإحلال، الإبدال، التعويض، وغيرها من المصطلحات الدالة على المخرجات النهائية المقصودة في الاستعمار الاستيطاني.
ينظر إلى السياسات المتبعة في الاستعمار الاستيطاني على أنها ليست أعمالا ذات طبيعة ظرفية، أي متعلقة بالقضايا التي تظهر أمام المستعمر ويعمل على إيجاد مخارج لها لتثبيت وجوده، ولكن ينظر إليها على أنها أدوات مستدخلة ضمن هدف محدد سلفا، يدفع دوما نحو الوصول إلى نهاية يصبح فيها المستوطن هو: الأصلي؛ بينما ينتهي صاحب الأرض غريبا عن أرضه، وبالتالي فإن كل التصرفات حتى وإن ظهرت باعتبارها انعكاسا لتوجهات مختلفة، أو لسياسات متباينة، فإنها لا تعدو أساليب متحدة في سبيل غاية واحدة.
لقد انتشرت في الأوساط الأكاديمية مقولة باتريك وولف: “الاستعمار الاستيطاني بنية وليس حدثا”؛ والذي ميز في نظريته هيكليا بينه وبين الاستعمار الاستغلالي، وأبرز أن العلاقة بين المستعمِرين والمستعمَرين في هذا النموذج ليست علاقة السيد والعبد، فلا تقوم على حاجة إلى الشعب المستعمَر، ومع أن الواقع التاريخي يؤكد استغلال المستوطنين للمستعمَرين؛ إلا أن ذلك ليس سوى واقع مؤقت، لأن هذا النوع من الاستعمار هو مشروع يأخذ فيه الطرف المنتصر كل شيء، ويقوم على الاستبدال وليس على الاستغلال، وهو ميل مؤسس لأجل القضاء على السكان الأصليين والحلول محلهم”[2].
يؤكد باتريك وولف أن انتقال الاستعمار الاستيطاني إلى سياسات استغلالية لا يعني تخليه عن المشروع؛ مشيرا إلى أن الإبادة الجماعية لا تمارس لمرة واحدة، بل هي حالة تدمير مستمرة[3]، وهذا التدمير لا يخص المحو الجسدي بالضرورة، بل إن عملية المحو الثقافي صورة أخرى لديها نفس النتيجة، كما أن قبول السكان بالواقع المسلط عليهم والانخراط التام في المؤسسات الطارئة وتبنيها من منطلق الانبهار بها، أو تطبيع العلاقات بينهم وبين المستوطنين يحيل إلى نجاح هذا النوع من الاستعمار على المدى البعيد.
2-آليات تنفيذ مشروع الاستعمار الاستيطاني ونتائجها: الحتمية المتوهمة
عمل وائل حباس استنادا إلى أعمال باتريك وولف ولورينزو فيراتشيني على تبيان مميزات الاستعمار الاستيطاني؛ وحددها في مجموعة من العناصر، وسنعرضها بطريقة يتمكن القارئ أن يميز فيها بين العوامل التي تؤدي إلى تحقيقها لأهدافها (الإبادة /المحو، ثم الإحلال والإبدال)، وبين رد الفعل الذي يمنع الاستيطان من الاستقرار والسيطرة والاستمرار، ممثلين بالتجربة الجزائرية والمقاومة الفلسطينية المستمرة.
أولا: العمل على إزالة السكان الأصليين؛ استعملت عدة طرق من أجل تحقيق هذا الهدف، تراوحت بين الإبادة الجسدية للسكان كما هو الأمر في أمريكا الشمالية وأستراليا، وبين العمل على التضييق على التزاوج بين أهل البلد وتلقيح نسائهم من الرجل الأبيض للتخفيف من فصيلة دمهم وهو الإجراء الذي اعتمد في أستراليا، ويدخل ضمن منطق الإبادة الحرص على التغيير الهوياتي والمسخ الثقافي، بحيث يتم قطع التواصل بين الأجيال ويتم دمج المولودين الجدد في الثقافة الغازية، وهذا ما سمي “التبييض الثقافي” والتذويب؛ وقد اختار باتريك وولف لهذا النوع مصطلح: الإزالة، أي أن هؤلاء يستمرون في الوجود لكنهم لا يمثلون ذلك الامتداد للساكنة الأصلية، وفي حالة عدم القدرة على تحقيق الإبادة/الإزالة يتم اللجوء إلى العزل، وذلك بحشر السكان في معسكرات مغلقة، ومنعهم من الاختلاط بالمستوطنين، وتحويلهم إلى يد عاملة رخيصة[4].
من بين اقتراحات لورينزو فيراتشيني /Lorenzo Verasini في تعليقاته على آراء باتريك وولف/ Patrick Wolfe هو استعمال مصطلح المحو في حالات يلجأ فيها الاستعمار الاستيطاني إلى نفي السكان الأصليين خارج حدود المستوطنة للتخلص منهم والاستيلاء على أرضهم، أي أنه يحقق مقصده من الإبادة بالتهجير، وفي حالات أخرى من خلال تطبيق صارم لنظام الميز العنصري بحيث يفرض حصارا ورقابة دائمة على السكان[5].
إن عجز الاستعمار في القرنين 19 و20 عن تحقيق ما حققه أجداده السابقون من الإبادة الجسدية، لا يجعل غاياته مختلفة، إنه يقصدها بطرق مبتكرة وبطيئة، فهو في ممارسة الاستغلال والتبعية والتحكم والسيطرة لا يتخلى عن الإبادة والتذويب، وتظهر أهمية عامل الزمن والاشتغال على مستويات عديدة لبلوغ الهدف من مداخل مختلفة، وإذا كانت المشكلة الديمغرافية قد منعت الاستعمار الاستيطاني من بلوغ “الإبادة أو الإزالة”؛ فهنا تبدو أدوات الاستعمار الاستغلالي من الداخل مناسبة، وتحقيق الإبدال الهوياتي عبر القوانين والمؤسسات نموذجا مناسبا لهذه الحالة، وهو ما قصد له الاستعمار الفرنسي في الجزائر.
يطرح أشرف عثمان بدر توصيفا للحالة التي يصبح فيها مشروع المحو الذي قدمه ضمن توصيفه للاستعمار الاستيطاني غير ممكن، بأنها لجوء إلى إعادة الترتيب الجغرافي، فإذا كان المحو يهدف إلى اقتلاع السكان الأصليين وتهجيرهم قسريا خارج حدود الكيان المستعمِر، ومحو ذكراهم من بيوت ومبان بعد احتلال المستعمرين محلهم. تشترك إعادة الترتيب الجغرافي مع المحو في وجود حالة من التهجير القسري للسكان وإحلال المستعمرين محلهم، لكنها تمتاز عنه في أن من يتم ترحيلهم يبقون داخل الكيان المستعمر، ويفقدون أرضهم لصالح المستوطنين[6]، ولا شك في أن عملية الترحيل تكون في سياق التفكيك والتفقير والقدرة الأفضل على الإخضاع والسيطرة والإدارة.
يمكننا أن نلاحظ في هذا السياق أن التجربة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر قد فشلت في تحقيق الأهداف المرادة من أغلب هذه العمليات: أي من الإبادة والمحو، وإن كانت نجحت في إعادة الترتيب الجغرافي، وذلك أن العلاقات التي عملت على تفكيكها لم تكن هي القواسم المشتركة الوحيدة بين الجزائريين، فمع أهمية القبيلة كإطار اجتماعي إلا أن الدّين كان يمارس دورا مركزيا ينفذ إلى عمق الجسد الاجتماعي في مختلف مناطق الوطن، وبالتالي سمح بالمحافظة على الرابطة الروحية واستدعائها في حالات الثورات والحاجة إلى التضامن العام، كما أن واقع الاستعمار الصهيوني في فلسطين يكشف أن كل المحاولات التي قام بها للفصل بين عرب الداخل (عرب 1948) وإخوانهم في مختلف المناطق قد باءت في معظمها بالفشل، وأن الرابطة الدينية والوطنية والعمق التاريخي واللغة وغيرها من القواسم قد حافظت على الشعور بالانتماء الإسلامي والعربي والفلسطيني، وبالتالي فإن هذا العمق الحضاري الذي يمتكله الفلسطينيون مانع من المحو، وهو الذي يفسر استمرارية أشكال المقاومة والرفض التي لم تهدأ منذ وعد بلفور وقرارات الاستعمار البريطاني التي كانت تمهد الأرض للتقسيم وتضع قواعد الكيان الجديد، إلى صدور قرار التقسيم وما تلاه من المواجهات وردّات الفعل ضد الكيان وصولا إلى معركة طوفان الأقصى.
إن نجاح الرجل الأبيض في محو وإزالة السكان الأصليين في قارتي أمريكا وأستراليا، انطلاقا من نزعته العنصرية، وتوجهات العقل الغربي نحو السيطرة والتدمير، لم تكن لتتحقق لولا أنه استفرد بشعوب في حالة تفكك وتناحر داخلي وغياب عمق حضاري وتماسك هوياتي، مع فوارق صارخة في مستوى التقدم العلمي، مما جعل عملية الإبادة الوحشية تتحقق ثم تستكمل بالمحو الثقافي وإعادة استدخال بقايا الشعوب المستعمَرة ضمن فلك الحضارة الغربية، وبمقارنة هذا النجاح مع نماذج أخرى فإنه تتكشف لنا قدرة التضامنات المجتمعية وقوة خطاب الانتماء والهوية على تنظيم مقاومة مستمرة وعدم السماح لعملية المحو والإبدال بالنجاح، وهذا ما مارسه الجزائريون ولا يزال يقدم فيه الفلسطينيون أمثلة حية عن فاعلية الشعوب في منع تحقيق الاستيطان لمشروعه.
ثانيا: العلاقة مع المركز الإمبريالي: يحاول المجتمع الاستيطاني الجديد الاستفادة قدر الإمكان من دولته الأم بهدف توطين مجتمعه الجديد، لكتنه -باعتباره قادم في هجرة نهائية واستقرار دائم-يعمل تدريجيا على فك هذا الارتباط وإقامة دولته الخاصة، منتقلا من تصور نفسه كمستوطن إلى تصورها كمواطن، وفي هذا السياق تعمل كل استراتيجيات هذا النوع الاستعماري على تحقيق هذه الغاية؛ التي تنتهي إلى أن ينظر هذا المهاجر إلى نفسه أنه صاحب الأرض الأصلي، وأن الميثروبول غريب عنه وليس له الحق في التحكم فيه، وفي هذه الحالة قد ينتقل إلى ولاء جديد لدولة أخرى لأجل تحقيق غايته التي يتخيلها “حرب تحرر واستقلال”، كما قد يكتفي بمؤسساته التي أقامها ليخوض بها حربه، ومن أهم وسائله في تحقيق مسعى تأصيل ذاته في المجال الذي استعمره، باللجوء إلى تغيير أسماء الأماكن والأحياء والأزقة والمعالم؛ بحيث يشعر أن المكان ينتمي إليه وليس لساكنته الأصلية، محاولا بذلك قطع امتداد الذكريات الأصيلة ومحاصرتها ليؤثث المكان بذكرياته التي تحمل معالم جذوره وثقافته ودينته[7].
يمكننا أن نلحظ في التجربة الجزائرية الكثير من الأدلة على تشكل شعور مبكر عند المستوطنين أنهم أحق بإدارة البلد من حكومة الميثروبول، والكثير من نماذج الصراع بين المدنيين (المستوطنين) والعسكريين المكلفين بإدارة السلطة في الجزائر يندرج ضمن هذه النظرة، ومساعي تعزيز الاستقلال المالي والتمثيل السياسي في المؤسسات السيادية من قبل أجيال المستوطنين كان يدفع نحو تشكيلهم هوية خاصة بهم على أنهم هم الجزائريون الذين يحق لهم حكم أنفسهم بأنفسهم، لولا أن ثورة الجزائريين كانت أسبق من تفكيرهم ومخططاتهم.
في تجربة الحركة الصهيونية بفلسطين نلحظ أنها مع قيامها كتخطيط بريطاني؛ فإنها تقدم نفسها اليوم في دعايتها التاريخية الرسمية المليئة بالاختلاق والتزوير على أنها حققت استقلالها عن الإنجليز، وقد انتقلت الحركة الصهيونية تدريجيا إلى ولاء جديد لصالح أمريكا سيرا مع القوة القادرة على حمايتها من محيط يستبطن دوما توثبا نحو تجاوز هذا الوضع النشاز، ويلاحظ أن الكيان اليوم -مع كل الأدلة التي تثبت أنه عاجز عن الاستمرار بمفرده (مثل فشله الذريع أمام عملية 7 أكتوبر 2023 وما تلاها)- يحاول أن يظهر نفسه في صورة المتمرد على الضامنين لوجوده واستمراره، فهو لا يزال في مرحلة السعي للاستقلال عن المركز، وهذا ما يجعل استمرارية مقاومة تثبيت وجوده عملية ضرورية وحتمية لمنع مجتمعاته المفككة (إثنيا، ثقافيا، جغرافيا) من تجاوز انتماءاتها الأصلية، ودفعها إلى استعادة فاعلية الانتماء الأول وتوريثه ليكون التفكير في الهجرة والعودة إلى موطن الآباء والأجداد هاجسا مستمرا وهدفا مستحضرا.
من ناحية أخرى؛ ينبغي العمل على منع الاستيطان الصهيوني من تثبيت معالم الأرض كما أرادها، فأسماء الأماكن ينبغي أن يحافظ عليها في ذاكرة الناس وعلى ألسنتهم وفي الصحف والمجلات ونشرات الإعلام كما كانت قبل الاستيطان الذي أعاد منحها دلالات جديدة، وليس هناك أي ضرورة تسمح بالتصالح الاجتماعي مع الاستيطان، إذ أن كل أشكال المصاهرة المتوقعة أو الجوار المتوهم ليس سوى تطبيعا وإقرارا للحركة الصهيونية بالاستحقاق، بينما تدار المسألة الاقتصادية تحت الاحتلال بمنطق الضرورة والاضطرار في الحدود التي تحفظ للناس استقرارها في أرضها.
ثالثا: الاستعمار الاستيطاني يستند إلى خطابات إقصائية: يطور الاستعمار الاستيطاني بالضرورة خطابا عنصريا تفوقيا يحاول من خلاله أن يتجاوز صورته الدالة على اعتداءه واغتصابه لأملاك غيره، فينتج بذلك مقولات مغرقة في الاستعلاء والإقصاء، ويؤسس لثنائيات تجعله دوما نموذج الانيسان الراقي في مقابل الانسان المتخلف، ومن خلال هذه الآلية يعمل على الانتقاص من كل أشكال التدين والعلم والثقافة والتنظيم الاجتماعي التي يجدها عند السكان الأصليين، باعتبارها بدائية وتنتمي إلى زمن بعيد جدا عن العصر، وأنه وصل إليها في زمن أفولها لتعبر فقط عن ماض يريد التسريع في دفنه، بينما يرفع تصوراته إلى أعلى مستويات الحداثة والرقي باعتبارها متماشية مع العصر وقادرة على الاستمرار، وهكذا تصبح الثقافة المهزومة أمامه بمثابة فولكلور أو تقاليد بالية، وتؤسس التوصيفات التي يطلقها عليها إلى عملية هدم تستهدف إحلال منظومة جديدة محلها[8].
لقد انتبهت الحركة الإصلاحية الوطنية في الجزائر إلى هذا الشكل من الاستعمار الثقافي، وتعد كل جهودها في الصحافة وتدريس اللغة العربية والدفاع عنها هي تمظهر للمقاومة الثقافية التي منعت من استفراد المدرسة الفرنسية بالمجتمع الجزائري، وكان توسع مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مظهرا لنجاح هذه المقاومة وقدرتها على تجاوز المعوقات التي نصبتها لها القوانين الاستعمارية، وقد اضطرت الجمعية في سبيل ذلك إلى بعض أشكال “التقية” السياسية لتحافظ على مشروعها[9]، ومن أهم الأمثلة على المقاومة الفكرية ذلك التوجه الذي بدأ مع عثمان الكعاك لكتابة تاريخ كامل للجزائر كآلية نضالية ضد الخطاب التاريخي الاستعماري، وهو التوجه الذي تابعه فيه مبارك الميلي وأحمد توفيق المدني وعبد الرحمن الجيلالي[10].
في فلسطين؛ حافظ الفلسطينيون في مختلف محطات نضالهم على تعرية السياسات الصهيونية الاستيطانية، والتأكيد على زيف خطابها السياسي والتاريخي، وفي هذا السياق ظهرت العديد من المؤلفات والأبحاث التي وثقت محطات هامة بمختلف اللغات تمنع من استفراد الخطاب الصهيوني بالعقل الإنساني، وتكشف زيف سرديته التاريخية حول الأرض التي بدون شعب، والشعب الذي بدون أرض، وحول المغادرة الطوعية من الفلسطينيين لأرضهم، ووثقت مختلف الجرائم التي تبين وحشية الكيان وترصد همجيته، وقد استطاع الفلسطينيون إلى حدّ كبير –رغم خطاب التطبيع الذي يحاول اختراق جدار الصدّ في الضمير الفلسطيني- أن يحافظوا على العقل المقاوم الذي يمكنه مواصلة التصدي لسياسات الكيان ويبقيه في وضعية السفينة المتأهبة للرحيل أو الغرق.
رابعا: الاستعمار الاستيطاني مشروع رأسمالي متطور بالضرورة: يعمد هذا النوع من الاستعمار إلى تفكيك المنظومة الاقتصاد السابقة له، ومن خلال أعمال الإبادة والإزالة والتهجير والنفي والعزل يمنع استمرارية توارث مختلف أشكال الإنتاج والاستثمار والتوزيع في صورتها الكاملة، ويعمد إلى تأسيس منظومة جديدة تنتمي إلى التصورات الرأسمالية، فيضع يده على الأرض، وإذا رأى أن بعض تمظهرات المؤسسات التقليدية تساعده على رفع قيمة ما يتستفيده يحولها من طبيعتها الأصلية إلى جزء من عملية الإنتاج التي يديرها لصالحه، ولاشك في أنه على قدر نجاحه في كسر المؤسسات الاقتصادية التقليدية يؤول ذلك إلى هدم المجتمع الأصلي وتفكك روابطه وحلول أنماط جديدة تستدخل السكان الأصليين في المنومة الجديدة، وهو أحد أنواع الإزالة التي سبقت الإشارة إليها، وهي في الحقيقة إبادة على مستوى الذاكرة والانتماء، وبحسب مرحلة استقلال المستوطنين عن الميثروبول تزيد حالة الإفناء الاقتصادي لما هو سابق على وجودهم، لأنه في أنماط الاستعمار الاستغلالي تستمر أشكال الإنتاج القديمة باعتبار الغاية هي الاستحواذ على فائض القيمة مع أهلها لصالح المستعمر، الذي لا يلجأ في هذه الحالة إلى بناء قاعدة اقتصادية إلا بما يضمن له هذا الاستحواذ، بينما يرغب المستوطنون في بناء قاعدة كاملة تحقق لهم استقلالهم الشامل عن الدولة الأم[11].
لقد كانت قضية الأرض تقع في عمق الأسباب الداعية إلى ثورات الجزائريين على الاستعمار الفرنسي، فقد كان الجزائريون واعين بأثر سياسات المصادرات وإعادة تشكيل اقتصاد مستدخل ضمن دورة الإنتاج والتوزيع الفرنسية على واقعهم واستمراريتهم، فاستوعبوا غرض قوانين الأرض ومخرجاتها[12]، وقاوموها بأشكال مختلفة، وفي فلسطين أدّت اتفاقية أوسلو/Oslo (1993) والعلاقة التي نشأت بين السلطة الفلسطينية والكيان الاستيطاني المحتل إلى خلق تعقيدات وارتباطات جعلت الاقتصاد الفلسطيني رهينة في يد محتليهم، وحركة الأموال فيه متوقفة على قرارات الكيان، ومثل هذا الواقع المختل بسبب القبول بهذا الاتفاق الذي يعدّ خطأ استراتيجيا في مسار المقاومة الفلسطينية للاحتلال، والذي حول السلطة في حالات كثيرة إلى مجرد جهاز للتنسيق الأمني مع الكيان.
خامسا: الهندسة الاجتماعية الدقيقة: يعمد الاستعمار الاستيطاني إلى تشكيل واقع تكون فيه كتلة المستوطنين الأولى هي الكتلة المعيارية التي يراد لها أن تمنح هوية لدولته الجديدة، ومن خلال التشريعات القانونية والسياسات الموجهة نحو هذا الهدف يتقصد هذا الاستعمار وضع مسارات محددة لمن هو خارج الكتلة الأصلية من المستوطنين الملتحقين حتى يتمكن من الاندماج في الحدود التي رسمت له، منعا من انبعاث هويات استيطانية مبعثرة قد تخلق مشكلات مستقبلية لصالح هوية متجانسة، وحفاظا على تراتبية تجعل الملتحق صاحب حق في تحسين مستواه المعيشي لكنه ليس في مستوى من أسس للمشروع، بينما يتم اقصاء السكان الأصليين، بالنظر إلى أنهم عنصر منافس ينتمي إلى هوية مناقضة، وهكذا يصبح صاحب الأرض منظورا إليه من القوة المسيطرة على أنه دخيل، وهو ما يعدّ غاية هذا الاستعمار[13].
إن الاستعمار الفرنسي بالجزائر يعد مثالا بارزا على إعادة التشكيل الاجتماعي، بحيث يمكن القول أنه أعاد إنتاج المجتمع الجزائري على مستويات عدة، تبدأ من الألقاب وتمتد إلى البعد القبلي الذي انتفى في حالات عديدة، أو تم تفكيكه وإعادة تركيبة بطريقة أخرى، قبل أن يتداخل مع مفاهيم تم فيها التلاعب بين الدلالات القديمة والوقائع التي تم تشكيلها على الأرض مثل: الدوار، والعرش، والجماعة، لكن ذلك لم يتمكن من كسر كل مستويات التضامن، إذ بقي الدين فاعلا في الشعور بالغربة عن دولة الاستعمار، والتأكيد على وجوب التخلص من هذا الحكم، كما أن الفكرة الوطنية المعززة بالثقافة القادمة مع المهاجرين المناضلين في أوروبا قد أكدت على هذه الفوارق التي لا يمكن معها القبول بالوضع الاستعماري، وبالتالي التوجه نحو القطيعة معه.
إن هذه الآليات التي ينتهجها الاستعمار الاستيطاني لا تنتج بالضرورة نفس نجاح تجربته في أمريكا وأستراليا، أو استمرار سطوته الاقتصادية كما في جنوب إفريقيا، ذلك أن كل هذه النتائج متوقفة على طبيعة رد فعل السكان الأصليين، وأنهم في الحالة التي يسقطون فيها مشروع التصفية، ويواجهون قوانين التهجير والتفكيك الاجتماعي والسيطرة الاقتصادية، ويقاومون العنف الإجرامي الاستيطاني بالعنف المقاوم الشرعي، ويرفضون التنازل عن هوياتهم العميقة والاندماج ضمن الثقافة الغالبة؛ فإن كل الممارسات السابقة ستستمر في حالة عجز عن فرض نفسها، وبالتالي تبقي الظاهرة الاستيطانية غريبة عن بيئتها وتمنعها من الانتقال إلى الشعور بالأصلانية في المجال الذي سيطرت عليه غصبا، وهذا ما يؤكد أن رسم خط واحد ونهايات متطابقة لأشكال الاستعمار الاستيطاني هو تنظير متوهم يستبطن محاولة لترسيخ الكيان والتعاطي معه من حيث كونه حتمية تاريخية، وهو أحد مداخل التطبيع التي ينبغي رفضها وإدانتها، لأنها تلغي فعالية الشعوب وتتجاوزها.
3–العنف والقانون الاستعماري: آليات المستعمِر ورد فعل المستعمَر
قد يبدو لأول وهلة عدم وجود علاقة بين الممارسات العنفية التي يقوم بها الاستعمار الاستيطاني، وبين المنظومة القانونية التي يسعى لترسيخها، باعتبار العنف حالة تعبّر عن رغبة في الاستئصال وليس في الإدارة عكس التقنين، بينما في هذه الحالة تترافق هذه الأساليب ضمن ذات المخطط، إذ يعبر العنف (القتل، الاغتصاب، التعذيب بمختلف أنواعه) عن إيحاء دائم بمصير الرفض للقوانين التي تهدف إلى الاستحواذ على الأرض، وبالتالي يؤسس لقبول مختلف القرارات وتجاوز السؤال المركزي: من أين تستمد القوانين المطبقة شرعيتها؟
تمارس القوانين الاستعمارية فاعلية كبيرة في محاولة ترسيخ العلاقات بين القوى غير المتكافئة، وفي غياب السؤال عن مدى شرعية القوانين والهيئات التي تصدر عنها، أو بالأحرى العجز عن مواجهة ذلك في واقع تحتكر فيه القوة من طرف واحد فقط ولا تبالي بالتحول إلى الخيار العنفي، فإن الترتيبات التي تتخذ لتنفيذ القرارات يراد لها دائما ان تظهر بمظهر الحائزة على كل الأحقية في التنفيذ، ويتم الاحتجاج بها، والرد إليها، وتقديمها في حالات العقاب الفردي والجماعي على أنها تمثّل للعدالة.
إن الطريقة التي يتبعها الاستعمار الاستيطاني -الذي عجز عن تنفيذ الإبادة الشاملة-في التعاطي مع المنظومة القانونية التي ينتجها تحتاج إلى تأمل؛ حيث يتكشف وجود نوع من أنواع الخداع العام، إذ يحاول الاستعمار تجاوز حقيقة أنه ليس سوى جماعات عنصرية متسلطة على الأرض وسكانها، ليمنح ممارساته صورة تجعل عملية انتقال الملكية وتحقيق مشروع الإبدال ينتمي إلى أسلوب الإدارة العادية، ويتضح ذلك من خلال:
أن يعطي الدولة حقا في وضع اليد على أنواع مختلفة من الأراضي والعقارات، فكل ملكية عمومية للسكان الأصليين انطلاقا من خلفية دينية أو اجتماعية (الوقف مثلا في الحالة الإسلامية، والأملاك الجماعية كالغابات والأنهار وغيرها للقبائل والأعراش في الأنظمة القبلية عند مختلف الشعوب) يجعلها ملكية للدولة وبالتالي حقا للمستوطنين، ويمنح نفسه صفة النظام الحاكم بحق الغزو والسيطرة.
أن ينقل الملكية من الأفراد والعائلات إلى الدولة من خلال نظام العقوبات القائم على الغرامات والمصادرة، ويتم تقنين الكثير من الحالات التي تؤدي إلى هذه العقوبة، وهي مخالفات يرى فيها الاستعمار الاستيطاني تمردا عليه، تتعلق بكل أشكال المقاومة المادية، ورفض تطبيق القوانين المتعلقة بالأملاك، كما يجعل من المصادرة عقوبات بديلة للكثير من الممارسات التي يعتبرها خرقا قانونيا.
يتقصد الاستعمار الاستيطاني منح استغلال الأراضي المصادرة من السكان الأصليين إذا طالبوا كراءها، ولا يتعلق الأمر في هذه الحالة بمجرد اكتساب العوائد التي تنتج عن هذا الكراء، لكنه يحاول من خلال هذا الفعل إعادة تكييف علاقتهم بالأرض، وقبول انتقال الملكية إلى غيرهم مع عملهم فيها، ليحولهم من مالكين على أيدي عاملة رخيصة، ومن أصليين إلى غرباء على الأرض التي ستبدو بعد سنوات طويلة ملك لصاحبها المستوطن خاصة من الجيل الثاني والثالث.
تعد عملية التفكيك الاجتماعي من خلال آليات التقسيم الإداري، وتغييره بين الفينة والأخرى بمثابة غرس حالة اغتراب عند السكان الأصليين، إذ تم خلخلة روابطهم الاجتماعية وإعادة تشكيل روابط جديدة مقطوعة الصلة بالماضي، وهو ما يقود إلى حالة من “عدم الانتماء المحلي”، ويؤدي غرس نماذج قيادية جديدة، وتراتبية مختلفة على ما عهده السكان طريقا إلى القضاء على العلاقات الداخلية التي تسمح باستمرارية وضعية التضامن المرتكز على الشعور بالانتماء، وهذه الغربة تساعد الاستعمار الاستيطاني على التذويب.
يرتبط الإيهام القانوني في حالات كثيرة بالعنف والردع والترويع الذي رسخته النماذج التي احتفظ بها السكان الأصليون، فالمبالغة في العقاب والتذكير به والتهديد باستعادته كأسلوب إخضاعي يهدف إلى تشكيل حالة نفسية قابلة بالمنظومة القانونية؛ كأنها مسلك “عادل” مأمون في حالة العجز عن مواجهة التمدد الاستيطاني، فالعنف في هذه الحالة يمثل وظيفة مركزية في تحقيق الإخضاع، وهو يبدو كأنه انتصار للقانون ورد إلى الوضع الذي يحاول الاستعمار تحقيق مصالحة بينه وبين السكان الأصليين، ولذلك يحرص الاستعمار في كل الحالات على إعطاء مبررات قانونية لكل همجيته الاستئصالية، ولدينا نماذج كثيرة تعبر عن أساليب الاستعمار الاستيطاني في الدمج الغريب بين السياستين.
إن كل هذه الممارسات تتباين نتائجها بحسب وعي الشعوب بمقصدها وغاياتها؛ فليست قدرا حتميا كما تصورها بعض الأبحاث التي تريد التأكيد أن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني قد استقر أمره، والمطلوب هو تحويل المستوطنين إلى مواطنين والتعايش بينهم وبين السكان الأصليين، وحالة الشعب الفلسطيني الذي يجد في عمقه الحضاري وتلاحمه الاجتماعي وانتمائه للأمة العربية الإسلامية –رغم ضعفها وتشرذمها- عوامل مقاومة ورفض ليست هي ذاتها حالة القبائل البدائية التي لم تجد الوسائل الكفيلة بالتصدي للرجل الأبيض الغازي.
4-غاية الاستعمار الاستيطاني: أصلنة المستوطن وإنهاء الأصلي.
يميز لورينزو فيراتشيني/Lorenzo Verasini بين نمطي الاستعمار الاستغلالي والاستيطاني من خلال تحليل كيفية تعامله مع السكان الأصليين عندما يعجز النوع الثاني عن إفنائهم: أهو في اتجاه الفصل أم التطبيع؟ من الناحية النظرية يتم التفريق بين هذين النوعين من الاستعمار بصفتهما تكوينين منفصلين كما سبق بيانه، إذ يهدف النوع الأول إلى إدامة نفسه، بينما يهدف الثاني إلى حلّ نفسه، والفرق هنا مهم جدا، ففي النوع الأول ينجح الاستعمار إذا استمر في تكريس تباين كامل بين المستعمِر والمستعمًر، فيحتفظ الأول بوظيفة السيطرة والتحكم والإدارة والاستغلال، ويبقى الثاني في حالة خضوع واستسلام وتنفيذ ما يطلب منه في إطار علاقة الإنتاج القائمة على التبعية كما شرحناه، أما في حالة الاستعمار الاستيطاني فإن مشروع الاستيطان لا يكون قد حقق غايته إلا إذا توقف المستوطن عن تعريف نفسه أنه مستوطن وطارئ على الأرض، أي أن ينظر إلى ذاته أنه أصلي وصاحب الأرض، ويسعى إلى التحرر من وصاية الميثروبول عليه والتحكم في الإمكانيات التي يتوفر عليها، ولإكمال هذه الصورة المخترعة عليه أن ينشئ أشكالا سياسية وثقافية واجتماعية تميزه عن البلد الأم، وبالتوازي مع ذلك عليه ن ينهي الاستقلالية السوسيوثقافية للأصليين الحقيقيين، سواء بإبادتها أو بقمعها إلى أن تختفي، أو بإعادة تشكيل ذاكرتهم بما يجعلهم تابعين لخصوصياته ثقافيا دون أن ينالوا السلطة والتفوق الذي يميزه عنهم، أي أنها عملية تذويب لا تستلزم حالة المساواة[14].
إن غاية الاستعمار الاستيطاني في هذا النموذج الأخير هو ما يريد الصهاينة تكريسه في فلسطين، أي غرس شعور لدى الأجيال الجديدة أنهم -ولو كانوا أبناء مهاجرين مغتصبين-فإنهم صاروا أبناء البلد، وإذا كان الصهاينة الأوائل قد احتاجوا إلى استحضار أساطيرهم التوراتية حول حقهم الأبدي لتبرير وضع اليد على أملاك الفلسطينيين ومصادرتها، فإن الجيل الجديد من وارثي الاستيطان يقدمون كأصليين، وتهدف السياسات الصهيونية حاليا عبر برامج التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية أن تشكل مفهوما واحدا للمجتمعات التي تسكنها، والقادمة من ثقافات مختلفة ومتصارعة في كثير من الحالات، ولذلك تعاني من مشكلة طبقية النفوذ والثروة، ولا يبدو أن كل ما فعلته قد حقق أيا من غاياته بسبب رسوخ الميول العنصرية في الرجل الصهيوني الأبيض.
5- النظريات المغلقة والنهايات المتخيلة:
إن تقديم هذه الورقة العلمية من خلال المقارنة بين الحالتين الجزائرية والفلسطينية كان مقصودا؛ تلمسا للمسلك الصحيح لتوصيف الاستعمار الصهيوني لفلسطين، فهو استعمار استيطاني يراد له أن يكون إحلاليا فيعوض السكان الفلسطينيين بالمهاجرين القادمين من أطراف الأرض استجابة لخرافة الأرض الموعودة، ولأن هذه المجتمعات ستجد أمامها شعبا فلسطينيا واعيا بأهداف الصهيونية ومخططاتها ومصرا على تفكيك مشروعها فإنه يجد مثاله في التجربة الجزائرية التي انتهت بترحيل الاستعمار بمستوطنيه، فالنهاية التي ينبغي العمل لأجلها هي إعادة ترحيل اليهود إلى بلدانهم الأصلية، ولأن صفة المحتل المستوطن المغتصب تورث عبر الأجيال، فإن الهدف ينبغي توريثه بين أجيال المقاومة، وكل اعتراف بالكيان الوهمي والدولة المختلقة هو تسليم في الأرض، ولم يكن حل الدولتين المزعوم سوى تواطئا لبيع نصف فلسطين للمغتصبين مقابل سلام متخيل تنقضه قواعد التاريخ ووقائع الجغرافيا وضرورات السياسية والتوازنات الاستراتيجية التي لا ينبغي لها أن تقبل تفكيك العالم العربي بكيان وظيفي ينتمي للحقبة الاستعمارية.
لقد تبين لنا فيما بيناه وفي المقارنات التي عقدناها عدم منهجية اعتماد القوالب الجاهزة كأدوات تحليلية عندما تختلف النماذج التي يراد التطبيق عليها، وهو ما أكدت عليه كثير من الدراسات الفلسطينية عندما أصرت على ضرورة تبيئة المفاهيم في معالجة هذا الموضوع بسبب آثاره الخطيرة على تصور الصراع ضد الصهيونية، وفي هذا السياق تم التأكيد على ضرورة التعامل مع هذا المصطلح: الاستعمار الاستيطاني باعتباره مفهوما وليس براديغما، لأن الأطر المفاهيمية قابلة للتطور مع تطور البحث، والتكيف مع الغرض (الحدود) بالمرونة (التطور) وتماسك البحث (الخطة/التحليل/الاستنتاج)، بينما يشير البراديغم إلى الإطار الجامع الذي يحكم نظرتنا[15]، ومن هذا المنطلق فإن هناك الكثير من التداخل بين نمطي الاستعمار الاستغلالي والاستيطاني في السياقات المختلفة، مع التأكيد على الهدف النهائي كما سبقت الإشارة إليه.
من ناحية أخرى؛ ينبغي التأكيد دائما على عدم إغفال فاعلية أهل الأرض في الدفاع عن وجودهم، إذ أن هذه الفاعلية هي التي تعطل السياسات الاستعمارية وتمنعها من تحقيق أهدافها، وتجبرها على تعديل خططها، والتراجع عن التنفيذ المطابق لتجارب الإبادة في أمريكا الشمالية وأستراليا، وتمنع تحقيق الإبدال الذي ينقل المستوطن إلى أصلي، والأصلي إلى مغترب، وهذه الفاعلية هي التي سمحت لإيرلندا مثلا أن تحقق استقلالا -لا يزال منقوصا جغرافيا-بعد احتلال طويل دام قرونا عديدة.
إن الخطورة الكامنة خلف اعتماد بعض الآراء كقوالب جاهزة؛ هي أنها تحيل إلى تطابق النهايات في مختلف النماذج؛ وهذا غير صحيح، فإذا كان الاستعمار الاستيطاني في أستراليا وأمريكا الشمالية قد نجح في استبدال السكان الأصليين بالمستوطنين، فإنه في إيرلندا وجنوب إفريقيا قد انتهى إلى تجاوز مخلفات السياسة الاستعمارية، بينما نجح الجزائريون في اقتلاع الاستيطان ديمغرافيا من جذوره، وقد كانت المقاومة الفلسطينية – ولا زالت أطياف واسعة منها- تتبنى المقاربة الجزائرية في كفاحها التحرري.
هذه الخطورة في التوظيف الأكاديمي لصالح التطبيع كشفت عنها الباحثة الفلسطينية: ميساء شقير التي قرأت هذه النظرية ضمن منحى براغماتي يهدف إلى التأكيد على استحالة اجتثاث هذا النوع من الاستعمار؛ ومن الأفضل هنا التأكيد معها أن هذه الورقة تتفق مع وولف على أهمية عامل السيطرة على الأرض لضمان استمرارية المشروع الاستيطانيّ، فالتوّسع والعنف من أجل السيطرة على الأرض هما صفتان أساسيتان في المشاريع الاستيطانيّة لأنها ببساطة مسألة بقاء أو زوال. وأن السيطرة على الأرض في حالات الاستعمار الاستيطانيّ لا تعني (فقط) السيطرة العسكرية، بل تعني أن على الأرض أن تحمل وجهَ وصفات المستوطن[16]، لكن مخرجات هذا التحليل والإطار النظري للقراءة التي تبناها الكثير من أنصار هذا الطرح ليست سوى قراءة انتقائية ذات أغراض سياسية موجهة تهدف إلى “التعايش” مع “نهايات متوهمة”، ولذلك نبهت ميساء شقير دائما أن “هذا النموذج يتضمنُ مخاطرَ سياسيّةً وأخلاقيّةً قد تؤدي إلى تعزيز المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ في فلسطين، من خلال تعزيز سرديات الإبادة واستحالة التحرير”[17].
إن كل كلمة ضد الاستيطان الصهيوني، وكل صرخة في وجهه، وكل نشاط سياسي كاشف لوجهه المتوحش القبيح، وكل حجر يرمى على جنوده، وكل رصاصة تطلق على المحتلّين، هي دليل على أن المشروع الصهيوني قد فشل وأنه سيستمر فاشلا إلى أن يتفكك، وأما الدعوات إلى الاعتراف والتطبيع وحلّ الدولتين فهي أعمال تدفع نحو التنازل والخيانة التي لن ينساها التاريخي ولن تغفرها الأجيال.
[1]– وائل حباس، “مفهوم الاستعمار الاستيطاني نحو إطار نظري جديد”، قضايا إسرائيلية، مج17، 66 (2017)، ص: 114-115.
[2]– أشرف عثمان بدر وعاصم خليل، “الاستعمار الاستيطاني في السياق الفلسطيني: براديغم أم مفهوم”، عمران، مج9، ع35(2021)، ص: 14.
[3]– أشرف عثمان بدر، “الاستعمار الاستيطاني في فلسطين بين البنية والصيرورة: محو وإزالة أو تحكم وسيطرة“، عمران، مج10، ع39(2022)، ص: 26-27.
[4]– وائل حباس، “مفهوم الاستعمار الاستيطاني نحو إطار نظري جديد”، ص: 115-117.
[5]– أشرف عثمان بدر، “الاستعمار الاستيطاني في فلسطين بين البنية والصيرورة: محو وإزالة أو تحكم وسيطرة“، ص: 32.
[6]– المرجع نفسه، ص: 32.
[7]– وائل حباس، “مفهوم الاستعمار الاستيطاني نحو إطار نظري جديد”، ص: 117-121.
[8]– المرجع نفسه، ص: 121-122.
[9]– صدرت في الموضوع عدة دراسات، أشير منها إلى العمل المميز لعبد الحميد زوزو، الثقافة والتعليمان الحر والرسمي في العهد الفرنسي، الجزائر، دار هومة، 2017.
[10]– انظر في الموضوع: علاوة عمارة، “ملاحظات حول تاريخ الجزائر العام للشيخ عبد الرحمن الجيلالي”، الشيخ عبد الرحمن الجيلالي المؤرخ الفقيه ذو القرن، قسنطينة، جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، 2011، ص: 217-229؛ حسين بوبيدي، “التاريخ في خدمة المشروع الإصلاحي ومدافعة التزييف الاستعماري: كتاب: تاريخ الجزائر في القديم والحديث للشيخ مبارك الميلي أنموذجا”، أعمال الملتقى الوطني: إسهام علماء جيجل ومشايخها في الحركة الوطنية والثورة التحريرية المباركة، 2016، ص: 187-211.
[11]– وائل حباس، “مفهوم الاستعمار الاستيطاني نحو إطار نظري جديد”، ص: 122-123.
[12]– انظر: توفيق بن زردة، حفريات في السياسة الاستعمارية في الدول المغاربية، الجزائر، دار الهدى، 2022، ص: 79-113.
[13]– وائل حباس، “مفهوم الاستعمار الاستيطاني نحو إطار نظري جديد”، ص: 123-126.
[14]– أشرف عثمان بدر وعاصم خليل، “الاستعمار الاستيطاني في السياق الفلسطيني: براديغم أم مفهوم”، ص: 16.
[15]– أشرف عثمان بدر وعاصم خليل، “الاستعمار الاستيطاني في السياق الفلسطيني: براديغم أم مفهوم”، ص: 8.
[16]– ميساء شقير، “منظور الاستعمار الاستيطاني في فلسطين ج1”، على الرابط: https://cutt.us/6Wip0
[17]– المرجع نفسه.