حصريا

أبو الزبير المكي بين البراءة والاتهام – عمر ماجد السنوي -العراق-

0 177

أبو الزبير المكي
بين البراءة والاتهام

عمر ماجد السنوي (العراق)

أبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس، القرشي الأسدي المكي، أحد التابعين الحُفّاظ، روى عن بعض الصحابة كجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وأبي الطفيل وابن الزبير وغيرهم رضي الله عنهم، وروى عن بعض كبار التابعين كسعيد بن جبير وطاووس وعطاء والأعرج وعكرمة وخلقٌ كثير، وروى عنه: عطاء بن أبي رباح وهو شيخُهوالزهري وأيوب السختياني والأعمش وهشام بن عروة وموسى بن عقبة وشعبة والسفيانان والليث ومالك وابن لهيعة وابن جريج وخلقٌ كثير، وأرّخ المؤرّخون وفاته سنة (128هـ)(1).

رماهُ بعضُ متأخِّري النقّاد بالتدليس، ولم يرمه بذلك مَن عاصروه ولا مَن بعدَهم، حتّى مَن تركوا حديثه كشعبة، أو ليّنوه كالشافعي، لم يؤثَر عنهم اتهامه بالتدليس، بل سائر النقّاد على توثيقه والأخذ بحديثه وتقديمه لحفظه وإتقانه.

وربّما وقع مِن بعضِ محدّثي السَّلَف شيءٌ من الإرسال والعنعنة، ويكون ذلك من النوع الذي وصفه ابن حزم الأندلسيّ(2) بقوله: (وأما المدلّس فينقسم إلى قسمين: أحدهما: حافظٌ عدلٌ ربّما أرسلَ حديثَه وربّما حدّث به علَى سبيلِ المُذاكرة أو الفُتيا أو المُناظرة، فلم يَذكر له سندًا، وربّما اقتصرَ على ذِكر بَعض رُواته دون بعضٍ، فهذا لا يَضرُّ ذلك سائر رواياته شيئًا، لأنّ هذا ليس جُرحةً ولا غَفلةً، لكنّا نتركُ مِن حديثه ما عَلِمنا يقينًا أنّه أرسلَه، وما عَلِمنا أنّه أسقطَ بعضَ مَن في إسناده، ونأخذُ مِن حديثه ما لم نُوقِن فيه شيئًا من ذلك، وسواءُ قال أخبرنا فلان أو قال عن فلان أو قال فلان عن فلان، كل ذلك واجبٌ قبولهوهذا النوع منهم كان جلة أصحاب الحديث وأئمة المسلمين كالحسن البصري وأبي إسحاق السبيعي وقتادة بن دعامة وعمرو بن دينار وسليمان الأعمش وأبي الزبير وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة…).

قلتُ: وقد ناقَض ابنُ حزم نفسَه في كتابه هذا، فجعلَ أبا الزبير في موضِعٍ آخَر(3) مدلّسًا من القسم الثاني الذي لا يجوز قبول روايته إلّا إنْ صرّح بالسماع!

وقد احتج ابن حزم وغيره بقصّة الليث بن سعد فيما رواه الفسوي(4): (عن الليث بن سعد قال: جئت أبا الزبير فأخرج إلينا كتابًا، فقلت: سماعك من جابر؟ قال: ومِن غيرهِ. قلتُ: سماعك من جابر، فأخرجَ إليّ هذه الصحيفة). ففَهِموا من هذه الحكاية أنّها تتضمن الإشارة إلى تدليسه بعضَ الروايات عن جابر، وهذا غير مفهوم من هذه القصة، ولو كان الأمر كذلك لكان شعبة بن الحجّاج أولى الناس بذِكْره، وهو ممّن تركَ أبا الزبير لا لسوء حفظه ولا لِانْتقاص صدقه، وإنما لأمور رآها لا تليق بالعلماء كاسترجاح الميزان، ولم يُصِب في ذلك، فقد قال ابن حبان(5): (وَلم يُنصِف مَن قدحَ فِي أبي الزبير، لِأَنّ مَن استرجحَ فِي الوَزن لنَفسِهِ لم يسْتَحقّ التّرْك مِن أَجلِه).

كما استدلّ آخَرون على تدليس أبي الزبير بأنّه يروي عن جابرٍ مِن صحيفةِ سليمان اليَشكريّ عنهُ؛ وهذا الاستدلال فيه حُجة عليهم، لا لهم، لأنّه لو كان تدليسًا فقد عرفنا الواسطة، وهو اليشكري الثقة، فصحّت الرواية. ويُنظر للمزيد عن هذه الصحيفة ورواية أبي زبير لها وإخراجِ مسلمٍ كثيرًا منها في صحيحهِ: ما كتبَه الأستاذ الدكتور صالح بن أحمد رضا، في بحثٍ محكّم بعنوان: صحيفة أبي الزبير المكي عن جابر(6).

واستدلّ بعضُ القائلين بتدليس أبي الزبير بأنّه يروي عن عائشة وهو لم يسمع منها، والحقُّ أن هذا النوع لا يسمَّى تدليسًا وإنما هو إرسالٌ معروفٌ عن كثير من التابعين، ولم يُجرَح أحدٌ منهم بهذا، وذلك على فرض التسليم لهم بعدم سماعه منها، والصواب أنه روى عنها، وأخرجَ ذلك مسلمٌ في صحيحه(7).

ولهذا قال ابن القيم(8): (وأبو الزبير وإن كان فيه تدليس فليس معروفًا بالتدليس عن المتَّهَمين والضعفاء، بل تدليسه مِن جنس تدليس السَّلف، لم يكونوا يدلّسون عن مُتَّهَم ولا مَجروح، وإنّما كثُر هذا النوع من التدليس في المتأخِّرين).

ويؤيِّد هذا قولُ الحاكِم النيسابوري(9): (النوع الحادي عشر من علوم الحديث: هذا النوع من هذه العلوم هو معرفة الأحاديث المعنعنة وليس فيها تدليس، وهي متصلة بإجماع أئمة أهل النقل، على تورع رواتها عن أنواع التدليس، مثال ذلك: ما حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا بحر بن نصر الخولاني، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله…).

فالقول العدل في أبي الزبير هو ما ذهب إليه ابن عدي(10) بعدَ أن سردَ الكثيرَ مِن مرويّاته وبعدَ كلامٍ طويل قال: (وكفى بأبي الزبير صدقًا أنْ حدّث عنه مالكٌ، فإنّ مالكًا لا يروي إلّا عن ثقة، ولا أعلمُ أحدًا مِن الثقات تخلّفَ عن أبي الزبير إلّا قد كتبَ عنه، وهو في نفسه ثقة إلّا أنْ يروي عنه بعض الضعفاء فيكون ذلك من جهة الضعيف، ولا يكون مِن قِبَله، وأبو الزبير يروي أحاديث صالحة، وهو صدوق، وثقة، لا بأس به).

1() يُنظَر: تهذيب الكمال، للمزي (26/403)، وسير أعلام النبلاء، للذهبي (5/381)، وذكروا أقوال مجرّحيه ومعدّليه، وذكروا ممن جرحه: شعبة والشافعي.

2() في كتابه: الإحكام في أصول الأحكام (1/126).

3() يُنظَر: السابق (4/284).

4() في كتابه: المعرفة والتاريخ (1/166).

5() في كتابه: الثقات (5/352).

6() نُشِر في: مجلة جامعة الإِمام محمد بن سعود الإِسلامية، (عدد 8، رجب 1413هـ).

7() تحت الحديث رقم (1213).

8() في كتابه: زاد المعاد (5/408).

9() في كتابه: معرفة علوم الحديث (ص23).

10() في كتابه: الكامل (7/293).

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.