مفهوم الشورى في ضوء التفسير الفقهي بقلم: محمد قاسمي
مفهوم الشورى في ضوء التفسير الفقهي
بقلم: محمد قاسمي
مقدمة:
لا شك أن القرآن الكريم منبع التشريع الأساسُ، فبه شرع الله تعالى للناس ما يصلحهم في عاجلهم وآجلهم، وبتعاليمه استطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبلغ دعوته ونوره للناس كافة، وهو المتن المبيَّن بالسنة النبوية لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. فقد أورد فيه المولى جل وعلا كليات الدين متراصَّةً، على نحو تُجعل قوانين كلية للتشريع، وفيه وردت أصول التشريع بما هي أدلة كلية يستمد منها الفقه ومصالح العباد في الدارين، وذلك بتوارد الآيات على تلك المعاني في المرحلتين الدعويتين الكبيرتين: المرحلة المكية، والمرحلة المدنية، ومعلوم ما لهاتين المرحلتين من الخصائص الدعوية والميزات التشريعية، فقد بين علماؤنا -رحمة الله عليهم- ذلك في تفاسيرهم وكتب علوم القرآن، وهو أمر لا يجهله من له أدنى دراية بالقرآن وعلومه وفقهه.
ومن جملة عنايتهم في هذا الصدد أنهم توجهوا إلى القرآن الكريم بالتفسير والبيان، وكشف المغطى من ألفاظه، وحل ما أشكل من مفرداته، وبيان ما أجمل من معانيه، وذلك في تفاسيرهم التي هي بذل المجهود البشري في تعيينمراد الله من كلامه، وأظهروا عنايتهم بكتاب ربهم من أول حرف فيه إلى آخره، قراءة، ورسما، وفقها، وغير ذلك.
ونذكر في هذا السياق عنايتهم بتفسير آيات الأحكام وبيان فقهها، وإبراز فوائدها وفرائدها، على نحو ما كتب الجصاص الحنفي، وما نسب إلى الإمام الشافعي في تفسيره وما كتبه صاحبه في المذهب العلامة الكيالهراسي، وكذا الإمام ابن العربي في أحكامه، وابن الجوزي في تفسيره ( زاد المسير)، وغيرهم من الفقهاء المفسرين المعاصرين…
ومما يذكر أيضا أن المفسرين اختلفوا في تعداد هذه الآيات بين مكثر ومقل، كل حسب أصوله ومآخذ فقهه، لأن الآيات منها الصريح وغير الصريح في إفادة الفقه والأحكام الشرعية العملية، غير أنهم متفقون على أن القرآن كله لا يهمَل منه طرف، لأنه خطاب الله إلى خلقه ورسالته إلى الناس كافة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، ومن جملة فوائد التفسير الفقهي ما يلي:
- أنه يبين مدى اهتمام المسلمين بما تحته عمل، وما يعن لهم ويجد في حياتهم على ضوء القرآن الكريم، فهم توجهوا إلى الآيات التي رأوها مورد التشريع، فاعتنوا بتفسيرها، وبيان معانيها، وتنزيل مناطاتها على أفعال المكلفين، ليحلوا بها مشاكل عصرهم، ويقننوا بها واقعهم في كل مجالات الحياة العامة والخاصة.
- بيان الرتب التشريعية للقضايا الفقهية انطلاقا من ورودها في هذه الآيات كثرة وقلة، تنصيصا وتلميحا، إجمالا وبيانا، وهكذا…
- سهولة الاطلاع على مسالك الفقهاء في الفقه، أو بعبارة أخرى (أصولهم) في التشريع والاجتهاد بشكل تطبيقي من خلال تفسيراتهم لهذه الآيات.
وهكذا لا يمكن حصر فوائد هذا النمط من التفاسير، إلا بالرجوع إلى مظانها والأبحاث فيها؛ وليتبين الأمر سنحاول تلمس ما ذكرناه انطلاقا من دراستنا لمفهوم (الشورى) في القرآن الكريم، مستعينين في ذلك بأنظار المفسرين وأفقاههم، وكذا تلمس موارد هذا المفهوم في الآيات القرآنية، والنظر في معانيها التشريعية ببيان فوائد ذلك في باب السياسة الشرعية، والله المستعان.
الشورى: مفهوما قرآنيا، ومصطلحا تداوليا في باب السياسة الشرعية.
ورد مفهوم (الشورى) في القرآن الكريم على هذا النحو اللغوي الصرفي مرة واحدة في سورة الشورى، كما ورد بصيغته الفعلية (شاورهم) وصيغته المصدرية (تشاور)، كما سنبين بحول الله.
يقول المولى عز وجل {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38].
فقد وردت هذه الآية في سورة الشورى وهي مكية، ومعلوم أن القرآن المكي لا يتميز بتشريع الأحكام التفصيلية إجمالا، بل يعتني في عمومه بالتصور والإيمان والتوحيد ونبذ الشرك والأوثان المادية والمعنوية، غير أن ورود هذه الآية في هذه السورة المكية قد يكون لها دلالة عميقة، لأن الشورى أداة للتسيير والحكم، وهو أمر عرف بالمدينة أي بعد قيام الدولة النبوية، وهذا يدل على أن الشورى ينبغي أن تكون نفَسا عاما في المجتمع الصغير والكبير، لأن ورودها في القرآن المكي يدل على أهميتها وضرورتها في استقامة مصالح الدنيا والدين، ولأنها نقيض الاستبداد بالأمر والتحكم فيه.
أقوال المفسرين في الآية:
قال أبو بكر بن العربي[1]: الشورى ألفة للجماعة، ومسبار للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا.
وقد قال حكيم:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن … برأي لبيب أو مشورة حازم
تجعل الشورى عليك غضاضة… فإن الخوافي نافع للقوادم
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذا الآية في كتابه: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث، تطييباً لقلوبهم، ليكونوا أنشط لهم فيما يفعلونه “[2].
وقال ابن الجوزي في تفسيره: “اختلف العلماء لأي معنى أمر الله نبيه بمشاورة أصحابه مع كونه كامل الرأي، تام التدبير، على ثلاثة أقوال:
- أحدها: ليستن به من بعده، وهذا قول الحسن، وسفيان بن عيينة.
- والثاني: لتطييب قلوبهم، وهو قول قتادة، والربيع، وابن إسحاق، ومقاتل.
قال الشّافعيّ رضي الله عنه: نظير هذا قوله عليه السلام: «البكر تُستأمر في نفسها»، إنما أراد استطابة نفسها، فإنها لو كرهت، كان للأب أن يزوجها، وكذلك مشاورة إبراهيم عليه السلام لابنه حين أُمر بذبحه.
- والثالث: للإعلام ببركة المشاورة، وهو قول الضحاك”[3].
كما وردت الشورى في سورة آل عمران في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
يقول الإمام الطبري في تأويل الآية: “ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله أمر تعالى ذكره نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم، وما المعنى الذي أمره أن يشاورهم فيه؟ فقال بعضهم: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: “وشاورهم في الأمر”، بمشاورة أصحابه في مكايد الحرب وعند لقاء العدو، تطييبًا منه بذلك أنفسَهم، وتألّفًا لهم على دينهم، وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم، وإن كان الله عز وجل قد أغناه = بتدبيره له أمورَه، وسياسته إيّاه وتقويمه أسبابه عنهم” .[4]وقد أورد في تفسيره تفصيلا ذكر فيه من قال بهذا القول من كبار المفسرين وهم: (قتادة والربيع وابن إسحاق).
وقال في التأويل الثاني: “وقال آخرون: بل أمره بذلك في ذلك. ليبين له الرأي وأصوب الأمور في التدبير، لما علم في المشورة تعالى ذكره من الفضل”.
وذكر من قال بهذا وهم: (الضحاك بن مزاحم والحسن) ثم ثلث بالرأي الثالث فقال: “وقال آخرون: إنما أمره الله بمشاورة أصحابه فيما أمره بمشاورتهم فيه، مع إغنائه بتقويمه إياه وتدبيره أسبابه عن آرائهم، ليتبعه المؤمنون من بعده فيما حزبهم من أمر دينهم، ويستنوا بسنته في ذلك، ويحتذوا المثال الذي رأوه يفعله في حياته من مشاورته في أموره مع المنزلة التي هو بها من الله أصحابه وتباعه في الأمر ينزل بهم من أمر دينهم ودنياهم، فيتشاوروا بينهم ثم يصدروا عما اجتمع عليه ملأهم. لأن المؤمنين إذا تشاوروا في أمور دينهم متبعين الحق في ذلك، لم يخلهم الله عز وجل من لطفه وتوفيقه للصواب من الرأي والقول فيه. قالوا: وذلك نظير قوله عز وجل الذي مدح به أهل الإيمان: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].[5]
رأي الإمام الطبري: قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه ومكايد حربه، تألفا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرة التي يؤمن عليه معها فتنة الشيطان وتعريفا منه أمته مأتى الأمور التي تحزبهم من بعده ومطلبها، ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم، فيتشاوروا فيما بينهم، كما كانوا يرونه في حياته صلى الله عليه وسلم يفعله. فأما النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن الله كان يعرفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صواب ذلك . وأما أمته، فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله في ذلك، على تصادق وتآخ للحق، وإرادة جميعهم للصواب، من غير ميل إلى هوى، ولا حيد عن هدى، فالله مسددهم وموفقهم.[6]
وقد نقل القرطبي _رحمه الله_ عن ابن عطية قوله: ” والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام”، وقال كذلك: قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] يدل على جواز الاجتهاد في الأمور والأخذ بالظنون مع إمكان الوحي.[7]
ونحن نرى أن إمام المفسرين ومن تبعه من الأئمة يتفقون على ضرورة الشورى مع اختلافهم في مساحات استعمالها وأوصاف المستشارين بها وغير ذلك مما هو مبثوث في كتب السياسة الشرعية، لكن يمكن إجمال ما رآه أهل التفسير فيما يلي:
- الشورى سبب لاجتماع الأمة على الحق والصواب في أمور دينها ودنياها، وبخلوها يكون الاستبداد والرأي الوحيد وذلك مكمن الخطر وطريقه.
- الشورى سب في تطييب نفوس الرعية واجتماعهم على إمامهم وخليفتهم ورئيسهم وبها تحل النزاعات الداخلية وحتى الخارجية في بعض الأحيان.
- النبي صلى الله عليه وسلم قدوة في المشورة لأهل الرأي وهو مثال يحتذى لكل من تأمر على المسلمين في شؤونهم الدينية والدنيوية.
- الشورى يتسع مجالها فيما لا نص فيه من الأمور الاجتهادية، ويحتاج إليها أشد الاحتياج في شؤون الأمة العامة وفي القرارات المصيرية والاستراتيجية وحفظ أمن الدولة والأمة وهكذا …
- الشورى يكون الصواب فيها ومعها في الغالب الأعم عكس الانفراد والاستبداد بالرأي.
الرتبة التشريعية للشورى في الإسلام:
ما يتميز به الإسلام هو وضعه لكل مسألة حجمها في التشريع وبيانه الفروق بين الكليات والجزئيات، والأصول والفروع، والقطعيات والظنيات، وهكذا، وهو أمر بين ذائع في جميع نواحي التشريع والفقه.
وموضوع الشورى يندرج ضمن الفروع الفقهية العملية، لاندراجه في أبواب السياسة الشرعية، ومعلوم الخلاف بين السنة والشيعة في أكبر ركن من أركان السياسة الشرعية، وهو ركن ” الإمامة “، فهي عند الشيعة من الأصول المنصوص عليها في الخطاب الشرعي صراحة، ولا يجوز الخلاف فيها عندهم، وأنها تنتقل بين الأئمة بالتنصيص والتسلسل، وهي من أصول الدين عندهم، أي: إنها من جملة العقائد.
غير أن أهل السنة يرون أن الإمامة من فروع الفقه التي لم تحسم بالنص القاطع للظن، ويرون أنها أمر اجتهادي محض.
وعن هذا الخلاف نشأت تصورات متناقضة في باب السياسية، سواء في التصور أو التنزيل، ومن ذلك أن الشورى أداة في الحكم والتسيير والتدبير، لها ارتباط وثيق بالاجتهاد بما هو موازنات بين المصالح والمفاسد ونظر مقاصدي لما يجد للناس من الأقضية والنوازل، بمعنى أن تفاصيل الشورى وطرق تنزيلها، لم ترد لا في القرآن ولا في السنة، بل وردت في القرآن مجملة عبارة عن مبدإ عام في الدين والتدين.
وغالب ما ورد في السنة في موضوع الشورى يحمل على خصوصيتها التشريعية بما هي تصرفات بالإمامة في الأمور الدنيوية تحتمل الاجتهاد والتغيير حسب متغيرات الزمان والمكان والحال. وهذا ما عرف في العصر الحديث بآلية الديمقراطية بما هي أداة تقريبية لتنزيل الشورى، وتقريبها إلى المجال التداولي في شؤون الحكم والسياسة والتدبير والحياة عموما.
خلاصة وخاتمة:
لا شك بعد هذا التطواف بين آراء بعض المفسرين والفقهاء أن موضوع الشورى مما ينبغي الاهتمام به نظرا لاحتياجات الأمة المتزايدة إلى التضييق على الاستبداد والتسلط وحاجتها إلى الحرية والشورى والعدل، لكن حسبي أن أكون قد أثرت الموضوع ليتم نقاشه بإسهاب مفيد وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
إعداد محمد قاسمي
[1] أحكام القرآن ج4 ص76.
[2] تفسير القرآن العظيم ج 1 ص 373.
[3] زاد المسير ج1 ص 340.
[5] الطبري ج7 ص 343/345
[6] الطبري: ج7 ص 346
[7] القرطبي/ ج4، ص: 253.