حصريا

مسارات الكتابة التاريخية عند المسلمين-د.حسين بوبيدي-الجزائر-

0 1٬946

مسارات الكتابة التاريخية عند المسلمين:

من النفس الملحمي القصصي إلى التأسيس المنهجي والوعي السنني

د.حسين بوبيدي

جامعة قسنطينة 2 عبد الحميد مهري

   مخبر الدراسات والبحوث في حضارة المغرب الإسلامي

1_ حدود الحس التاريخي عند العرب: أدب الأيام وعلم الأنساب:

يرتبط تشكل أدب الأيام عند العرب قبل الإسلام بطبيعة البنية الاجتماعية العربية في جزيرة العرب، وهي البنية القائمة على القبيلة والتحالفات القبلية، وعلى اقتصاد الغزو باعتباره نمطا معاشيا أو وسيلة توسع وسيطرة ونفوذ تتخذ البعد السياسي عندما ترتبط بمشروع سلطة وترسيخ سيادة، ولذلك تمثل الوقائع المهمة أحد أهم المعالم الحدثية في تاريخ العرب في تلك المرحلة، وهو ما لا يمكن فصله عن طبيعة الوعي التاريخي الإنساني عموما في العهود القديمة، والذي غلبت عليه النزعة العسكرية الملحمية الأسطورية، والتركيز على الانتصارات الكبرى والصراعات السياسية.

يقول فرانز روزنثال: “إن قصص الأيام ترجع في أصلها إلى الأدب أكثر  مما ترجع إلى التاريخ، فقد كانت تروى بالدرجة الأولى لإيناس السامعين ولمتعهم العاطفية، كانت تحتوي على عناصر تاريخية من حيث أنها سجلت أحداثا كبرى، ومن حيث أنها اعتبرت مثل تلك الأحداث متصلة بنواح معنوية معينة، غير أنها يعوزها الاستمرار تماما، فلم تدرس ضمن الأسباب والنتائج التاريخية، كما أنها لا تأخذ الزمن بنظر الاعتبار قط، ولا توجد إشارة إلى أن الشعور التاريخي قد تقدم قبل الاسلام إلى الحد الذي يضفي على هذه القصص شيئا من التعاقب التاريخي. وبذلك لم يكن بالإمكان أن تتطور قصص الأيام، أو يكون لها دافع يوجهها نحو التطور لتصبح من الأدب التاريخي، هذا بالرغم من أن فنونها وأشكالها لعبت فيما بعد دورا هاما في علم التاريخ الإسلامي”[1].

غير بعيد عن هذا الرأي كتب عبد العزيز الدوري: “لم تترك الفترة الجاهلية أدبا مكتوبا، فهي فترة ثقافة شفوية، ومع أن تراثها على العموم أدى إلى استمرار الاهتمام بالأيام والأنساب، وإلى بقاء أسلوب في الرواية هو الأسلوب القصصي شبه التاريخي، إلا أنه يخلوا من أي نظرة تاريخية”[2].

وقد تواصل حضور هذا النمط في المرحلة الإسلامية، لكنه تطور ليصبح شكلا من أشكال الكتابة التاريخية الواعية بالزمن، والناظمة للحوادث ضمن سياقها العام، محاولة بلوة تاريخ عربي من خلال جمع شتاتها وتبويبها، وهو ما جعل حاجي خليفة يعرف أدب الأيام بقوله: ”علم أيام العرب، وهو علم يبحث فيه عن الوقائع العظيمة والأهوال الشديدة  بين قبائل العرب… والعلم المذكور ينبغي أن يجعل فرعا من فروع التاريخ“[3].

يندرج ضمن هذا الصنف مما دون في السياقات الاسلامية كتابات:

التيجان في ملوك حمير لوهب بن منبه (ت: 114هـ).

الديباج لأبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي (ت: 209هـ).

الإكليل في أخبار اليمن وأنساب حمير لأبي محمد الحسن بن محمد الهمداني (ت: 336هـ).

ومن أهم مميزاته:

* يعد في مرحلة ما قبل الإسلام معرفة شفوية شعرية ونثرية.

* تغلب عليه النزعة القبلية.

* يقع اهتمامه الأكبر على الحروب والنزاعات الفاصلة.

* يهدف إلى حفظ أمجاد القبيلة.

* يتميز بعدم الحرص على الموضوعية.

* يتضمن الكثير من الأساطير والغرائب والعجائب.

أما قصص الأنساب فهي مجموعة روايات شفهية قبلية، تعمل على حفظ شجرات النسب وبيان موقعها ضمن القبائل الكبرى، وتفرعاتها، وكان من الأهمية بحيث يعتبر أساس الانتماء في بيئة قبلية، ولكنه لم ينتقل إلى صيغة الكتابة لأنه كان يحفظ ويتوارث ولا يتطرق الشك فيه بين القبائل، لأن ذلك يهدم أساس نظامها الاجتماعي.

2_ اللحظة القرآنية: التاريخ والقصص من السرد إلى الاعتبار.

يحضر التاريخ في القرآن الكريم حضورا لافتا من خلال القصص، ويمثل لحظة فارقة في تشكل الوعي التاريخي العربي، ومنطلق التصور الإسلامي للتاريخ، ذلك أنه ينقل الفرد من الفضاء القبلي الضيق إلى فضاء جديد هو: الأمة، وضمن مفهوم الأمة يمتد الزمان والمكان أيضا، فعلى مستوى الزمان سيتم منذ ذلك الحين النظر إلى التاريخ البشري باعتباره خط مستمرا في محطات متعاقبة منذ آدم عليه السلام إلى النبي محمد ﷺ.

من جهة أخرى تضع نصوص القرآن الكريم العقل المسلم أمام مسألة الصدق في الأخبار، فالله تعالى يقول: ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111]، وقوله:﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ﴾[المائدة 27]﴿نحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ[الكهف: 13]، وينبه القرآن إلى وجود سيرورة سننية في حوادث التاريخ، ويدعوا المؤمن إلى تأملها والاستفادة منها، كما في قوله تعالى:﴿قُلْسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ[الأنعام: 11]، وقوله:﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ[النمل: 69]، وقوله:﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ[العنكبوت: 20]،وقوله:﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ[الروم: 42].

ستكون هذه الأسس: امتداد الزمان والمكان ليشمل التاريخ الكلي لبني الانسان، الحقيقة التاريخية ورفض التزييف، الوظيفة التأملية للتاريخ لأخذ العبرة، بمثابة الأسس التي ستحقق التميز الإسلامي عند مساره الذي ينفصل تدريجيا عن التاريخ العربي ما قبل الرسالة المحمدية.

إن النص القرآني باعتباره جوهر بناء العقل المسلم سمح بإقامة تصور عام للتاريخ على ارتباط بالرسالات، وعلى وعي بالمآلات، وبالتالي سيخرج العربي من إطاره القبلي ويستدخله ضمن الفضاء الرحب لحركة الانسان، ولأن الخطاب القرآني يقدم مفاهيم يندرج تحتها كل بني الانسان بحسب الثنائيات المتعددة التي يتبناها، فإن المؤمن به لن يمكنه الانفصال عن الوقائع، وستصبح بالنسبة له خادمة لمسار عام يتجه دوما نحو تحقيق العبودية ومدافعة ما يعارضها، هذه الصورة تنتقل من الماضي وتشمل الحاضر وتؤطر المستقبل.

لم يقتصر الوعي السنني الذي حمله القرآن على ما يرتبط بالقصص المتعلق بالأمم والماضية، والوقائع التي عاشها المسلمون مع النبي ﷺ، إنما أسس لمنطق قياسي يعمل على استحضار مجموعة من القوانين التي تحكم حركة الانسان، وبالتالي تسمح له بحالة من الاستشراف، وذلك انطلاقا مما هو مشترك بين بني الانسان، وما تتطابق فيه الأخبار مما يعد قاعدة تسمح للفرد المسلم بإدراك عواقب الأمور، ونتائج بعض التصرفات التي سبق وعاشتها المجتمعات البشرية، وكل ذلك مثل المنطلق نحو انقلاب شامل في مفهوم التاريخ.

3- بدايات التدوين التاريخي عند المسلمين وامتدادات أدب الأيام وعلم الأنساب.

يمكننا لأول وهلة أن ندرك الأثر الذي مارسه أدب الأيام في الكتابات الأولى لسيرة النبيﷺ، حيث تم اعتماد صورة من السيرة تركز على غزواته ومختلف الأنشطة العسكرية التي قام بها في حماية الإسلام ودولته والدفاع عنها والتصدي لخصومها، وهو ما يمكن تسميه “عسكرة السيرة”، مع أن سيرتهﷺكانت أوسع من ذلك بكثير، ولا تمثل هذه الغزوات سوى نسبة قليلة جدا منها، لكن العقل العربي الذي دون هذه الأخبار كان لايزال مشدودا إلى نفس الصورة القديمة الموروثة عن فترة ما قبل الإسلام للتاريخ.

أول من ألف في المغازي هو عروة بن الزبير (ت: 94 هـ) الذي حفظ مروياته الواقدي (ت: 207هـ) في مغازيه وغيره، وقيل أبان بن عثمان بن عفان (ت: حوالي 105هـ)، وكتب فيه من المتقدمين ابن أبي شيبة (ت: 235هـ)، والزهري (ت: 124هـ ) وهناك من ينسب الكتاب لأبي عروة محمد بن راشد المصري (ت: 153هـ)، ومغازي موسى بن عقبة (ت: 141هـ).

نلاحظ أن هذه الكتابات لم تكن تقليدا محضا لأدب الأيام وإن كان تأثيره فيها جليا، بل إنها ضمت مع المعارك الأيام التي تراها فاصلة في سيرة النبي ﷺ، وذلك ما يتضح مثلا في عنوان كتاب أبان بن عثمان الأحمر (ت: 170هـ): المبعث والمغازي والوفاة والسقيفة والردة.

في نفس السياق سنجد الكتابات التي ألفت في الفتوح وحروب الردة ومعارك الحرب الأهلية (الفتنة الكبرى)، فهي تبدو ضمن نفس النمط من الكتابة التاريخية، وترصد المعارك ومقدماتها ووقائعها كما تناقلها الرواة التي حضروها، وقد عد منها روزنثال أكثر من 100 مؤلف، ومن ذلك: كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي (ت: 314ه)، فتوح البلدان للبلاذري (ت: 279هـ)، وكتاب الردة للواقدي، وله أيضا: فتوح الشام، فتوح الجزيرة، ووقعة صفين لنصر بن مزاحم (ت: 212هـ)، وكتب عنها أيضا: أبي مخنف (ت: 170 هـ) وإسحاق بن بشر والواقدي وابن أبي شيبة، وكتب ابن أبي شيبة عن موقعة الجمل أيضا، ومثله الواقدي وعلي بن محمد المدائني (ت: 225هـ)، وكتب سيف بن عمرو الأسدي (ت: 180هـ) كتب: الفتنة وموقعة الجمل، وكتب أبي مخنف والمدائني عن الخوارج وعن معركة النهروان.

بدأ علم الأنساب مع الإسلام يتشكل كنوع من المعرفة التاريخية، وتم ربطه بالكيانات والعلاقات السياسية، وحسب فرانز روزنثال فإن “التوسيع للعلاقات النسبية بين الجماعات الشخصية الصغيرة ومده إلى الكتل السياسية، يفتح طريقا آخر يؤدي إلى التفكير التاريخي الحق، وهنا نصادف أحد العوامل المساهمة التي مهدت لقبول نظرة التاريخ العلمي في الفكر الإسلامي”[4].

من أهم هذه الكتب:

نسب معد واليمن وجمهرة النسب الكبير لابن الكلبي (ت: 204هـ)

كتاب نسب قريش لأبي عبد الله الزبيري (ت: 236هـ)

نسب عدنان وقحطان لمحمد بن يزيد المبرد (ت: 285هـ)

جمهرة أنساب العرب لابن حزم (ت: 456هـ)

الأنساب لعبد الكريم بن محمد الشمعاني (ت: 562هـ)

نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب للقلقشندي (ت: 821هـ)

لا يمكننا التفريق في المرحلة المتقدمة من الكتابة التاريخية الإسلامية بين أدب المغازي وفن السيرة، لأن السيرة قد قدمت في بداية الأمر باعتبارها غزوات النبي ﷺأساسا، وهو ما نلحظه من اعتبار كتابموسى بن عقبة من أول من كتب في السيرة، ولذلك فكأن الأمر هنا أقرب إلى الخلاف في التسمية، أو أنه أسلمة لأدب الأيام الجاهلي بتحويل موضوعه لسيرة الرسولﷺ،ولذلك نجد أشهر من نسب إليه وضع فن السيرة: سليمان بن طرخان التيمي (ت 143 هـ) الذي كتب: السيرة الصحيحة، وهو الكتاب المفقود إلا حوالي 77 صفحة منه نشرها فون كريمر ملحقة بكتاب المغازي للواقدي، أما أشهر كتب السيرة على الإطلاق والذي استمر في ممارسة تأثيره الكبير على من يكتب سيرة رسول الله ﷺفهو سيرة ابن اسحاق (ت: 151هـ)، وهو يعد نقلة هامة من حيث عودته إلى ما قبل النبوة بما فيها ما قبل حياة النبي ﷺثم أخباره في مكة وتجارته وزواجه من خديجة ودلائل النبوة ومختلف أخبار المرحلة المكية ثم هجرته للمدينة، وفي المدينة نلحظ من جديد تغليب نمط أخبار المغازي، وهو ما يدل عليه قول الشافعي : “من أراد أن يتبحر في المغازي، فهو عيال على محمد بن إسحاق”،مع اهتمامه أيضا بأهم الأحداث الأخرى المرتبطة بخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، ثم هذب سيرته ابن هشام (ت: 218هـ).

لقد تشكل نمط السيرة ضمن تطور ملحوظ في تجاوز أدب الأيام الجاهلي، وهو تعبير عن مختلف تمظهرات سيرة النبيﷺوالذي مع غلبة النزعة العسكرية الحربية على مؤلفاتها ضمن نمط المغازي فإنه تميزت بتجاوزها ذلك للاهتمام بنواحي أخرى من حياته، من الهجرة، وحادثة الإفك، وأزواجهﷺ،وكتبه إلى الملوك، وقد خص الواقدي مثلا أزواج النبي ووفاته بكتابين مستقلين.

على مستوى المنهج وانطلاقا من ضرورة الصدق في نقل الخبر سيستدخل المؤرخون المنهج الحديثي من خلال اعتماد السند للتثبت من الأخبار، لكنهم لن يكونا بنفس الحزم في مرويات السنة من حيث الاحتياط، ولذلك ستتجه هذه المؤلفات إلى التجميع لكل ما تتوصل إليه مع إعلام القارئ بالطريق التي بلغته من خلالها، أو ستكون تدوينا للقصص الرائج في زمنها.

4- من التواريخ الجامعة إلى التواريخ المحلية ومن الشأن السياسي إلى الهمّ الثقافي.

لقد مارس التوجه القرآني العالمي أثره على الكتابة التاريخية الإسلامية، واصطباغها بالصبغة الإسلامية جعلها تبدأ من لحظة الخلق وتدمج أخبار الأمم القديمة ورسالات الأنبياء وصولا إلى سيرة النبي ﷺ ثم تواصل في رصد الحوادث التي شهدتها الأمة وغيرها من الأمم، وعلى مستوى المكان يخرج الوعي التاريخ من القبيلة وما يجاورها ليصبح العالم كله تحت نظهره إيمانا بعالمية الرسالة وامتداد الدعوة إلى “الأبيض والأحمر” أي إلى: العالمين.

ويمكن أن نمثل لهذا النموذج بالعناوين التالية:

تاريخ اليعقوبي (ت: 284هـ)

تاريخ الرسل والملوك لمحمد بن جيري الطبري (ت: 310هـ).

الكامل في التاريخ لعز الدين بن الأثير  (ت: 630هـ)

البداية والنهاية لاسماعيل بن كثير (ت: 774هـ).

كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر لعبد الرحمن بن خلدون (ت: 808هـ)

لقد أظهرت الكتابة بالتواريخ الجامعة صورة من صور الانتقال من التأثير العربي القبـــــــــــــــــــلي إلى التأثير الإسلامي القرآني، وهي تعبر عن تطور مدرسة الإخباريين التي اشتغلت على الفتوح ومختلف الوقائع الهامة في تاريخ الخلفاء الراشدين والأمويين وصولا إلى العباسيين، وجعلها تنظر إلى التاريخ بناء على  تصور مسار كـــــــــــــــــــــــــــــامل للبشرية، وهو ما يتضح من مثال الطبري (ت: 310هـ) في كتــــــــــــــــــابه: تاريخ الرسل والملوك الذي ينطلق من بداية الخلق ليعبر بذلك عن نوع جديد من الكتابة التاريخية، ثم يستمر في ذكر سيرة الرسل وصولا إلى السيرة النبوية، ثم يواصـل ذكر مسار التـــــــــــــــــــــــــــاريخ مهتما بمختلف الأمم الفــــاعلة ذات التأثير في مجريات الأحداث، ومع أن الكتاب تضمن الكثير من الأخبـــــــــــــــار التي لا تعدو كونها مجموعة من أســــــــــــــاطير الأمم وذاكرتهم الجماعية، إلا أنه بين تجاوز العقل العربي لدائرته الجغرافية، وترجم التوســـــــــــع الكبير الذي حققه الإسلام ودولته وحضـــــــارته، بما جعل الكتابة عنه هي كتابة عن مختلف الأمم المتفاعلة معه، ويعد اليعقوبي (ت: 284 هـ)هو الذي وضع بذرة هذا التوجه العالمي.

يعبر ابن خلدون في ثناء مميز على ما حققته هذه المرحلة للكتابة التاريخية الإسلامية فيكتب في مقدمة كتاب العبر:

“قد دوّن النّاس في الأخبار وأكثروا، وجمعوا تواريخ الأمم والدّول في العالم وسطّروا، والّذين ذهبوا بفضل الشّهرة والإمامة المعتبرة، واستفرغوا دواوين من قبلهم في صحفهم المتأخّرة، هم قليلون لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل، ولا حركات العوامل، مثل ابن إسحاق والطّبريّ وابن الكلبيّ ومحمّد بن عمر الواقديّ وسيف بن عمر الأسديّ وغيرهم من المشاهير، المتميّزين عن الجماهير، وإن كان في كتب المسعوديّ والواقديّ من المطعن والمغمز ما هو معروف عند الأثبات. ومشهور بين الحفظة الثّقات، إلّا أنّ الكافّة اختصّتهم بقبول أخبارهم، واقتفاء سننهم في التّصنيف واتّباع آثارهم، والنّاقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون أو اعتبارهم. فللعمران طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار، وتحمل عليها الرّوايات والآثار”[5].

يتضح بجلاء داخل متن التواريخ الجامعة وجود نزوع نحو المراكمة من جهة، وحضور لافت للتفسير من خلال التعليقات على الحوادث ومحاولة برط مصائرها بأصولها، وإذا كان ذلك لم يبلغ درجة التقعيد لمنهج مكتمل ونظرية مفردة في تفسير مسار التاريخ، لكنه يبين للقارئ تجاوز النفس القصصي الملحمي المبعثر لصالح وحدة تاريخية شاملة ذات وعي بالمجرى العام للحوادث، ومحاولة لوضع اليد على التحولات المفصلية التي تؤثر في الحوادث، ولذلك نعتبرها بمثابة الرؤية التي مثلت نضج الكتابة التاريخية في الإسلام، والتعبير عن البعد الكوني فيه.

ويعبر الانتقال من التواريخ الجامعة إلى التواريخ الإقليمية والمحلية إلى التشرذم الذي مس دار الإسلام، وإلى الصراعات السياسية التي بدأت تتشكل بين مختلف الدول والمنـــاطـــق والمدن التي تحولت إلى إمارات متنازعة[6]، حيث عبر هذا التاريخ عن أزمة انتماء عند الفرد المسلم بين مضمون الأمـــــــــــــــــة الواسع ومضمون الدولة الأضيق، ولا يعني هذا انقطاعا في نمط التواريخ الجامعة، لكنه يبين انبثاق شكل جديد، حيث حاول بعض المؤرخين إعادة الاهتمام بالتاريخ الجامع، مثل ابن كثير والذهبي، وتوسع الاهتمام نحو طبقات جديدة داخل المجتمع الإسلامي مثل الجواري والشطار والحمقى والمغفلين، وقد دون هذا النمط من تاريخ المهمشين في التاريخ الاسلامي باعتباره جمعا للملح والطرائف، ومع أنه لم ينظر إليه باعتباره مندرجا ضمن المعرفة التاريخية، إلا أنه من ناحية المواضيع يندرج ضمنها، لكن نفسه القصصي أبعد عنه التحقيق والتدقيق، فكأنه وضع أساسا لتبيان صور أخرى من الحياة في المجتمعات الإسلامية، فكان أقرب إلى الحكي، وإن تضمن معلومات صحيحة يتم الاشتغال عليها أدبيا لأجل الغايات المقصودة.

لقد لاحظ ابن خلدون أن الكتابة التاريخية الإسلامية تراجعت بعد أن أبدعت في مرحلة التواريخ الجامعة، وغلب عليها التكرار والاجترار، وافتقدت إلى حس منهجي واضح قادر على التفريق بين مرحلة زمنية وأخرى في تقدير المؤثرات والجوانب الفاعلة في التغيرات، وهو ما عبر عنه بقوله:

“ثمّ لم يأت من بعد هؤلاء إلّا مقلّد، وبليد الطّبع والعقل وبليد، ينسج على ذلك المنوال، ويحتذي منه بالمثال، ويذهل عمّا أحالته الأيّام من الأحوال، واستبدلت به من عوائد الأمم والأجيال، فيجلبون الأخبار عن الدّول، وحكايات الوقائع في العصور الأول، صورا قد تجرّدت عن موادّها، وصفاحا انتضيت من أغمادها، ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتلادها، إنّما هي حوادث لم تعلم أصولها، وأنواع لم تعتبر أجناسها ولا تحقّقت فصولها، يكرّرون في موضوعاتها الأخبار المتداولة بأعيانها، اتّباعا لمن عني من المتقدّمين بشأنها، ويغفلون أمر الأجيال النّاشئة في ديوانها، بما أعوز عليهم من ترجمانها، فتستعجم صحفهم عن بيانها”[7].

من جهة أخرى عبرت كتب التراجم والطبقات والمناقب والفهارس عن ازدهـــــــار الحضارة العربية الإسلامية؛ حيث ترجمت للشخصيات العلمية في مختلف مناحي المعرفة، كما أشارت إلى محاولة تجاوز نمط التاريخ العسكري والسياسي نحو شكل جديد من أشكال التاريخ الثقافي، ومن ناحية أخرى مثلت استمرارية لأدب المناقب الذي اهتم بفضائل الصحـــــابة والعلمــاء وأئمة المذاهب،وقد تعددت أنواع هذه الكتب، بحسب تعدد اهتمامات أصحابها والاختصــــاصــــــــــات المراد رصدها، فمن كتب عن مختلف أعلام المذاهب، إلى كتب مختصة في أعلام الفلسفة والطب وغيرها، كما تضمنت كتب الفهـــــــــــارس والثبت برامج التدريس ومناهجها وطرقها وأشكال الإجازات، وعبرت عن تفاصيل دقيقة لطرق انتقال العلم والمعرفة في الحضارة العربية الإسلامية.

عبر التوجه الثقافي – رغم عدم عده يومها ضمن المعرفة التاريخية – عن عمق إدراك المسلمين لطبيعة النخب التي تمارس دور الفاعل في تشكيل الواقع الحضاري للأمة، وهي التفاتة متقدمة إلى أهمية الفاعل الحضاري في مسار التحول التاريخي، وتجاوز النظرة التي تعلي فقط من شأن البعدين السياسي والعسكري، وهي التي سيعبر عنها لاحقا فولتير في كتابه: طبائع الأمم وفلسفة التاريخ عندما كتب: “إن بعض المؤرخين يهتم بالحروب وبالمعاهدات، ولكنّي بعد قراءة وصف ما بين ثلاثة وأربعة آلاف معركة، وبضع مئات من المعاهدات، لم أجد نفسي أكثر حكمة من قبلها، حيث لم أتعرّف إلاّ على مجرد حوادث لا تستحقّ عناء المعرفة، وأي حكمة تكتسب من العلم بسيادة حاكم طاغية على شعب بربريّ لا همّ له إلاّ أن يغزو ويدمّر، إنّ مجال التاريخ يجب أن يتّسع لما هو أهمّ من ذلك، ليتتبع سير العقل البشري في الفلسفة، والبلاغة، وفي الشعر، والنقد وفي التصوير، والنحت والرسم، وحتّى في النسيج، وصناعة الساعات، وكلّ ما يُمثِّل شخصية الشعب، إنّها أجدر اهتماماً من معرفة جزئية بأخبار الملوك، وحوادث البلاد”[8].

5- لحظة ابن خلدون: علم العمران والتأسيس المنهجي النقدي:

عمل الباحث “علاوة عمارة” في دراسة بالغة الأهمية عن ابن خلدون تحت عنوان : “الخلدونية: الوسط التاريخي والمرجعية الفكرية”[9]، على إيضاح الخلفية المعرفية التي أنتجت العقل الخلدوني، وذلك بالانطلاق من الوضع العام ببلاد المغرب في القرن 8هـ/14م، حيث لاحظ أن هذه الفترة عرفت تناقضات تراوحت بين النهضة العمرانية والثورة الفكرية والأزمات الاجتماعية، نهضة عمرانية على أساس أن الأزمة التي سببتها في جزء منها الهجرة الهلالية قد انتهت إلى عملية تعمير وبناء خلال هذا القرن، وثورة فكرية تتمثل في انتشار فكر الرازي الأصولي (ت: 606هـ)، والذي كان له دور كبير في دفع الانتاج الكلامي والفقهي والعلمي، وفترة أزمات ارتبطت بالطاعون الأسود الذي ساهم قرنا بعد ذلك في “انقلاب” اجتماعي نتج عنه توجه الشرائح الاجتماعية بقوة “رهبانية” إسلامية، جسدتها بقوة ظاهرة الطرقية التي نجحت في بسط نفوذها على المجتمعات القبلية الريفية[10].

من هذا المنطلق رفض الباحث الموقف الذي يرى أن ابن خلدون مثل قطيعة داخل الخط الفكري، لأن ابن خلدون تتلمذ على بعض الأعلام الذين يمثلون نقلة كبيرة في التوجه نحو الأبحاث الأصولية ذات الخلفية العقلية والمنطقية، واستند إلى نص المقري في نفح الطيب لإيضاح هذا التحول في الثقافة المغربية الإسلامية حيث نقرأ:

“وأما ملكة العلوم النظرية، فهي قاصرة على البلاد المشرقية، ولا عناية لحذاق القرويين والإفريقيين إلاّ بتحقيق الفقه فقط، ولم يزل الحال كذلك إلى أن رحل الفقيه ابن زيتون (ت: 691هـ) إلى الشرق، فلقي تلاميذ الفخر بن خطيب، ولازمهم زمانا، حتى تمكن من ملكة التعليم، وقدم إلى تونس، فانتفع به أهلها، وانتهت طريقته النظرية إلى تلميذه ابن عبد السلام (ت: 749هـ) (…)، واستقل تلميذه بن عرفة (ت: 803هـ) بعده بتلك الطريقة، وكذلك أبو عيسى موسى ابن الإمام التلمساني (…) ولهذا تجد أثر العلوم النظرية بتلمسان”[11].

ومن ناحية أخرى أوضح علاوة عمارة انتقال العقلانية الأصولية على طريقة الرازي إلى بجاية وتلمسان وفاس خصوصا عن طريق أبي موسى عيسى بن الإمام التلمساني وأخيه أبي زيد عبد الرحمن (ت: 743هـ)، وأبي عبد الله محمد بن إبراهيم الآبلي (ت: 757هـ )، ولو نظرنا إلى السيرة العلمية لابن خلدون لوجدناه قد تردد على مجالس أبي عبد الله محمد بن عبد السلام، كما تتلمذ في العلوم العقلية خصوصا على الآبلي، وقرأ المنطق والأصلين على أبي موسى بن الإمام تلميذ ابن زيتون، ثم أكمل تكوينه العقلي على يد أبي العباس بن البناء (ت: 721هـ)، فهو بهذا التفكير قد تجاوز الفكر الأصوليالمالكي الكلاسيكي، لصالح الجمع بين العقلانية الأصولية والكلامية وبين الموروث الفلسفي اليوناني منه والإسلامي،ولهذا فإنه لا ينكر معرفته بفكر “المعلم أرسطو” وبالفارابي وابن سينا وجماعة إخوان الصفا وكبــــــــــــــــــــــــــــــــــار منظري فكرالاعتزال، إلى الحد الذي يمكننا من القول أن ابن خلدون هو نتاج مسار عقلاني طويل تشكل داخل العقل الإسلامي وفق سياقات مختلفة، وانتهى في القرن الثامن إلى صورة أصولية أشعرية[12].

لقد عمل ابن خلدون من خلال مقدمة كتاب العبر على تبيان مداخل الغلط عند الإخباريين، وحددها في نص بالغ الأهمية يقول فيه أن  “الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمرانوالأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق، وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكاياتوالوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط، ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات، إذ هي مظنة الكذب ومطية الهذر، ولا بد من ردها إلى الأصول،وعرضها على القواعد”[13].

اختلف التاريخ عند ابن خلدون عن سابقيه من مؤرخي الإسلام، لقد كان الأقدمون ينظرون إلى التاريخ نظرتهم إلى ديوان أخبار ولم يعدوه علما له قواعده وأصوله وأسسه ومناهجه، ولذلك فلم يهتم ابن خلدون فقط بنقل أحداث الماضي وتسجيلها، وإنما كان يسأل أيضا عن كيفية حدوثها وأسباب وقوعها، وحاول استجلاء أهم العوامل والأسس التي تتقدم من خلالها الدول، العوامل والأسباب التي تؤدي إلى خراب عمرانها، ولذلك تم اعتباره من أوائل فلاسفة التاريخ[14]،  ويمكن تبيان أسباب الوهم والغلط في الكتابة التاريخية حسبه في[15]:

أ- عدم التزام الدقة: وذلك للعديد من الأسباب مثل المبالغات والتهويلات التي تخرج الكتابة التاريخية أحيانا عن العقلانية إلى نوع من الأسطورية والعجائبية، وكمحاولة تبرير سلوكات محددة من خلال نسبتها إلى أعيان الناس كالخلفاء والعلماء والقادة وغيرهم من المشاهير، بالإضافة إلى “التشيعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه و إذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، و كان ذلك الميل و التشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد و التمحيص فتقع في قبول الكذب و نقله”[16]، كما يضاف إلى ذلك “أيضاً الثقة بالناقلين،وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل و التجريح، و منها الذهول عن المقاصد، فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع، وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب”[17].

ب-عدم مراعاة القوانين التي تخضع لها الظواهر الطبيعية والاجتماعية: حيث أشار ابن خلدون إلى أن “كثيرا ما يعرض للسامعين قبول الأخبار المستحيلة وينقلونها وتؤثر عنهم”[18]، مع أن هذه الأخبار غير ممكن قبولها لتعارضها مع قوانين الطبيعة، سواء ما تعلق بالجغرافيا حيث قد تنسب الأعداد الكبيرة للمجال الضيق، أو ازدياد السكان حيث تقدم أرقام كبيرة في أطر زمنية قصيرة.

ج- الجهل بطبائع الأحوال في العمران: ومعنى هذا الجهل بطبيعة الظواهر الاجتماعية، لأن للعمران قوانين تحكمه وتوجه حركة المجتمع، وغالبا ما يذهل عنها المؤرخون، و هذه القوانين ليست ثابتة في الزمان والمكان ولذلك أشار ابن خلدون إلى أنه:”من الغلط الخفيّ في التّاريخ الذّهول عن تبدّل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدّل الأعصار ومرور الأيّام وهو داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلّا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطّن له إلّا الآحاد من أهل الخليقة وذلك أنّ أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقرّ إنّما هو اختلاف على الأيّام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدّول سنّة الله الّتي قد خلت في عباده”[19].

وبناء على هذا فلابد على المؤرخ ألا ينقل عن المؤرخين الذين سبقوه ما كتبوه حرفا بحرف، فينزع هكذا إلى تقليدهم دون الانتباه إلى الاهتمامات التي كانت تشغلهم والظروف التي وجهتهم أثناء انتقائهم للأحداث التاريخية؛ بل عليه أن يراعي أكثر مشاغل عصره هو، واهتمامات معاصريه، حتى يقدم لهم عن الماضي ما يعينهم على فهم الحاضر ومشاكله.

6- فلسفة مالك بن نبي في قراءة التاريخ:

مثل التاريخ أحد أهم المداخل التي قدم من خلالها مالك بن نبي مشروعه الفكري وعالج به مشكلات الحضارة، إذ مثلت الحوادث التاريخية الجزئية والتحولات المفصلية منطلقا أساسيا في تصوره لصعود وهبوط الحضارات ورقي وتخلف المجتمعات، وتقييمه لمستويات وعي الأفراد وقياس مدى انخراطهم في التدافع الحضاري، لأن التاريخ حسب تصوره -الذي تأثر فيه بابن خلدون- يمكن وضع قوانين ضابطة لحركته، ويتم ترقب المآلات التي تسير إليها المجتمعات من خلال مختلف الظواهر الدالة على حالتي التحضر والتخلف، وهو بهذا التصور ينطلق منطلقا قرآنيا سننيا، ذلك أن “المنهج الذي يطرحه القرآن الكريم يؤكد أكثر من مرة على أن التاريخ لا يكتسب أهميته الإيجابية إلا بأن يتخذ ميدانا للدراسة والاختبار، لنستخلص منه القيم والقوانين التي لا تستقيم أي برمجة للحاضر والمستقبل إلا على هداها”[20].

تعد نظرية مالك بن نبي حول مسار التاريخ امتدادا للنظرية الخلدونية التي أسست لفكرة الدورة التاريخية، وعملت على تجاوز التاريخ الحدثي السردي نحو نمط جديد من الكتابة تكتشف النواميس التي تحكم الوقائع وتقف خلف التغيرات الكبرى وانتقال الريادة بين الأمم، وقد عدّ ابن نبي نظرة ابن خلدون العميقة بتأكيدها على قضية الانتقال من مرحلة إلى أخرى مفتقدة إلى المصطلحات المناسبة المعبرة عنها؛ لأن الربط بين الدورة التاريخية وبين العصبية الأسرية كان يعكس أفق النفس المسلمة يومها، ولذلك انطلق منها في ضرورة قراءة التاريخ للبحث عن عوامل التقهقر والانحطاط وشرائط النمو والتقدم، لكنه اختار مصطلح الحضارة للتعبير عن هذه الدورة؛ باعتبارها المصطلح الأحسن موائمة لوصف حركية الإنسان الفاعلة وقياس تدرجه بين الفعالية والخمول[21].

وقد انطلق بن نبي في تقديم نظريته من تشكل المجتمع وليس من حركيته التاريخية كما فعل ابن خلدون؛ الذي اعتبر الأصل البدوي للمجتمع ورابطته القبلية قضية محسومة[22]،فقسّم المجتمعات من حيث تشكلها إلى نوعين: يتمثل النوع الأول في النموذج الجغرافي الذي يكون ميلاده نتيجة لاختيار مفروض، تفرضه الظروف الطبيعية الخاصة بالوسط الذي يولد فيه، بصرف النظر عن تنوع عناصره، أو تلاحمها في ظرف معين بعد تعرضها لتحد طبيعي طارئ، أما النوع الثاني فهو النموذج الفكري الذي يتشكل تلبية لنداء فكرة تجمع شتاته وتوجهه نحو ترجمة مقتضيات الإيمان بها إلى ممارسات عملية، ونسج شبكة علاقات اجتماعية قائمة عليها[23].

وإذا كان ابن خلدون قد انطلق من دورات الدولة المعبرة عن مراحل سيرورة العصبية القبلية من القوة إلى الانهيار، مدمجا التغيرات الطارئة على المجتمعات والتحولات الملازمة لقيم الأفراد ضمن موقعها داخل سياق التغلب أو التراجع[24]؛ فإن مالك بن نبي قد قارب التاريخ الحضاري من خلال المحركات التي توجهه في كل مرحلة زمنية، كاشفا عن التغير المطرد للدافع الأساسي الموجه لسلوك الإنسان والمبلور لقيمه، بحسب المرحلة التي يمر بها من مراحل التحضر، وهذا ما سمح له بتجاوز الرؤية الخلدونية وإخراجها من قولبتها العاكسة لظروف القرن 8هـ/14م إلى فضاء النظر الشمولي نحو المشترك الإنساني.

لقد قدم لنا مالك بن نبي مميزات تمكننا من تحديد موضع كل مجتمع من المجتمعات ضمن المسار السنني الذي رسمه، ففي مرحلة الروح يتم إخضاع الغرائز إلى المقتضيات الروحية التي طبعتها الفكرة الدينية في النفوس، بحيث يمارس الناس حياتهم حسب إلزامات العقيدة وتوجيهات الفكرية الدينية لتعبر سلوكاتهم عن الإذعان الكامل لها، فتكبح الغرائز الطائشة وتيد وتمنع من الانطلاق[25]، وفي منعطف العقل تبدأ الغرائز  في التحرر من قيود الروح، وتشرع في التحلل من سيطرتها، وهذا يؤدي إلى بداية اختلال المنظومة القيمية للمجتمع ونقص الفعالية الاجتماعية للفكرة الدينية، ويتوافق هذا المرض الاجتماعي مع ازدهار العلوم والفنون والتمظهرات الدنيوية للحضارة[26]، ولاريب أننا نلحظ التأثير الخلدوني في مالك بن نبي في هذا التوصيف الذي يميز به بين الأطوار الثلاثة للحضارة، وان اختلفا في العوامل التي تقف خلفها، إذ نجد ابن خلدون أيضا يقرن الابداع المادي بالمرحلة الثانية التي تحقق الترف وتعلي العمران، وتوصل الدولة إلى المجد، لكنها توهن الرابطة العصبية وتخفت الدعوة الدينية الجامعة[27].

في مرحلة الغريزة التي يعلو فيها عالم الأشياء، يتم التنكر للفكرة الجوهرية المؤسسة، وبذلك تكون الحضارة قد استنفذت قدرتها على العطاء، وأضاعت الروح طاقتها التي تقاوم بها عوامل الفناء، وخفت إشعاعها الذي تبقى داخل النفوس في مرحلة العقل، وهو ما يعني أن الحضارة قد بلغت مرحلة الأفول، وقد عبر مالك عن نبي عن ذلك بانتقام الأفكار لنفسها عند التنكر لها، مشبها لهذا التأثير بانفجار مكينة سيئة التصميم أو انهيار جسر لسوء البناء،  إذ كوارث التاريخ في مختلف الأزمان حسب هذه الرؤية ليست سوى النتيجة التي تكاد تكون فورية لانتقام الأفكار التي خانها أصحابها[28].

هذه المرحلة التي يصعد فيها عالم الأشياء إلى أعلى هرم اهتمامات الأشخاص، وتصبح الأفكار مجرد صدى لمتطلباته ومستلزمات الصراع حوله، يفتقد المجتمع القدرة على بث روح متوثبة من أجل إعادة بعثه، ولا تفيده الفعالية لافتقادها إلى ظروف تاريخية نفسية معينة، ولذلك يعتبره مالك بن نبي بمثابة مجتمع يعيش عصر طفولته متموضع خارج الحضارة[29]، وهو بذلك عاجز عن دخول دورتها بمخلفات انهياره السابق، ومحتاج إلى انبلاج جديد يستحضر فيه فكرة توقظه من غفلته وتقذف به في دورة جديدة إذا سلم من سنة الفناء والإفناء التي يقدمها مالك بن نبي سنة تاريخية حتمية تتوج مرحلة الغريزة إذا نجحت في إطفاء كل إشعاعات الروح.

ويرسم بن نبي صورة توضح مظاهر سنة الفناء والإفناء، حيث تظهر بوادر انفراط عقد عناصر الحضارة بفساد علاقات الأفكار فيما بينها، مما يخرب النسيج الفكري، وفساد علاقتها مع عالم الأشخاص بعدم تبنيهم لمنطلقاتها وتمثلهم لمخرجاتها، وفساد علاقتها بعالم الأشياء الذي يتحول من خادم للفكرة إلى مخدوم لها، فلا يؤدي الوظائف التي كان عليه أن يؤديها بسبب غياب الخيط الناظم له، وكل هذا يولد اضطرابا في الحياة الاجتماعية، وشذوذا في عالم الأفراد، وتصبح الأفكار التي كانت مؤسسة ليس لها أي معنىعندما تفقد فاعليتها[30].

إن هذا المسار السنني الذي رسمه ابن نبي للتاريخ متدرجا من مرحلة ما قبل الحضارة إلى مراحل: الروح ثم العقل ثم الغريزة إنما تعتبر نظرية متكاملة في فلسفة التاريخ، إذ وضعت باعتبارها كلية لا تخص أمة دون أمة وزمنا دون زمن، بل تعم كل المجتمعات الإنسانية في مختلف الحقب التاريخية، وتمتلك بنيانا واضحا للعلل التي تنشأ عنها الحضارات وتتحكم في سيرورتها صعودا ونزولا، وهذه الكلية والعلية هما ما يرفع نظرة ما حول التاريخ من مرتبة الرؤية الجزئية  إلى مقام النظرية الفلسفية[31]، وهذه المقاربة تحتاج تسليط الضوء على تاريخنا الإسلامي من خلالها، بحثا عن دلالاتها وأدلتها لإقامة البرهان عليها، أو تقديما لقراءة نقدية لها تسمح بتجاوز ثغراتها لبعث نظرة سننية فلسفية من جهة، ومعالم تحقيب لتاريخنا الإسلامي لإخراجه من التبعية التحقيبية للعالم الغربي من جهة أخرى، إذا اعتبرنا أن التحقيب التاريخي ضرورة ملحة لقراءة مسارنا الحضاري.

قدم مالك بن نبي تصورا واضحا لمسار التاريخ الإسلامي انطلاقا من التدرج السنني الذي رسمه للتاريخ، وقد على المحطات التي مثلت بالنسبة إليه التمفصلات الكبرى الدالة على التغييرات العميقة والانقلابات المؤثرة في مختلف الجوانب النفسية والاجتماعية والسياسية، وعدّ مرحلة الجاهلية خارج فلك الحضارة باعتبار المجتمع العربي يومها مفتقدا إلى الفكرة التي تجمع عناصرها المتفرقة بين يديه، وأسس لدخول هذا المجتمع إلى الدورة الحضارية من لحظة تلقي النبي صلى الله عليه وسلم للوحي في غار حراء، ومن هذه اللحظة إلى معركة صفين كانت الأمة المسلمة تعيش مرحلة الروح، أي أن الروح كانت القوة المحركة في عهد النبوة والخلافة الراشدة (المرحلة A في المخطط)، ومن معركة صفين إلى سقوط دولة الموحدين كان المسلمون يعبرون مرحلة العقل (المرحلة B في المخطط)، ليصبحوا بعد سقوط دولة الموحدين في مرحلة الغريزة (المرحلة C في المخطط)، ، وقد قدم ابن نبي هذا الشكل لإيضاح هذه الدورة التي عبرها المسلمون في تاريخهم إلى زمنه[32]:

لا يتوفر وصف.

7- محمد باقر الصدر والخطاب السنني:

قبل أن نقدم تعريفـا اصطلاحيا للسنة التاريخية، لا بد من تقديم بين يدي ذلك تعريفا لغويا للكلمة، فقد ورد في “لسان العرب” في مادة “سنن” ما يلي: “سنة الله، أحكـامه وأمره ونهيه (…) وسنها الله للناس، بينهـا وسن الله سنة، أي بين طريقـا قويما (…) السنة: الطريقة المحمودة المستقيمة، وهي مـأخوذة من السنن ، أي الطريق، السنة في الأصل سنة الطريق، وهو طريق سنه أوائل الناس، فصار مسلكا لمن بعدهم”[33]، وانطلاقا من هذا التعريف اللغوي، قد نستنتج تعريفا للسنة التاريخية، وهو: إنها الطريقة المستقيمة التي لا تتبدل التي تسلكهـا أحداث التاريخ التي يقوم بها الإنسـان، وهي تفضي إلى مآلات واحدة وعواقب مشتركة على اختلاف المكان والزمان والناس، أو هي الروح المشتركة التي تسري في الظواهر التاريخية على ما بينها من اختلاف في الزمان والمكان، مستوعبة كل شيء ضمن نسقها السّنني العام، بمعنى إحاطتها بالحياة الإنسانية ، وبما أن الله سبحانه شاء أن يجري حركة الحياة وفقها وعبرها، فهي متقنة إتقانا دقيقا، لا مجال فيه للتفاوت أو الاختلال، أو الانفلات والفوضى. كمـا أن وظيفتها حين يتفاعل معها الإنسان بوعي وإيجابية – أي يحسن في التسخير-هي أن تقود الحياة إلى كمالتها المثلى على شتى الأصعدة[34]، والسن التـاريخية عند محمد باقر الصدر هي: “تلك الضوابط والقوانين والنواميس التي تتحكم في عمليـة التاريخ”[35].

يؤكد محمد باقر الصدر بأنه ليس كل ما يدون تاريخيا يعتبر خاضعا للسننية التاريخية، بل هناك قسم معين من الحوادث تحكمه هذه السنن، بينما تنطبق على القسم الآخر قوانين أخرى فيزيائية أو فيزيولوجية، مثل الزلازل والبراكين، ووفـــــــــــــــــاة الأشخاص أو طول أعمارهم مع أثر ذلك الكبير في تطور الوقائع، ويحدد الصدر ثلاث خصائص للحدث الذي تحكمه السنن[36]:

أ: الحدث المرتبط بسبب معين، أي أن يتضح فيه علاقـة الحاضر بالمـاضي (الظروف المسبقة المنجزة)، بحيث يكون الحدث نتيجة لمقدمات ضمن دائرة الفكر الإنساني.

ب: أن يكون هذا الحدث عملا هادفا، أي أنه يرتبط بعلة غائية سواء كانت هذه الغاية صالحة أو طالحة، فهو فعل متطلع للمستقبل، كون المستقبل يعتبر محركـا لهذا الفعل من خلال الوجود الذهني الذي يرسم للفـاعل غايته.

ج: أن يكون لهذا العمل موج يتغدى فــــــــاعله، فيكون المجتمع هو أرضيته بغض النظر عن كون الموج محدودا أو كبيرا، لكن العمل لا يكون عملا تاريخيا إذا لم يتجاوز الفرد، وبالمصطلح الفلسفي فالمجتمع يمثل العلة المـــــــــــــــــــــــــــادية لهذا العمل، ولذلك فرق الخطـاب القرآني بين كتاب الفرد الذي يحصي عمله فقال الله تعالى:﴿وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَٰٓئِرَهُۥ ‌فِي ‌عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا ٱقۡرَأۡ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفۡسِكَ ٱلۡيَوۡمَ عَلَيۡكَ حَسِيبا﴾[الإسراء.13].

ويحدد محمد باقر الصدر العناصر الفاعلة في تبلور السنن التاريخية في:

أ- علاقة الانسان بالطبيعة والمجتمع: لقد جعل محمد باقر الصدر الإنسان جوهر الحركة التاريخية وروحها إحدى أسس السنن التاريخية، ولكنه لم ينح في ذلك منحى نظرية البطولة، لأنه لم يغفل العوامـل المتفاعلة مع الإنسـان، وأهمها العوامل المـادية والاجتماعية،  وقد أوضح الصدر عناصر الفعل التاريخي انطلاقا من قوله تعالى: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض  خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمـاء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون﴾ [البقرة 30]، فهناك ثلاثة عناصر يمكن استخلاصها من العبارة القرآنية:

أولا: الإنسان الذي يجعله الله سبحانه وتعالى على الأرض.

ثانيا: الأرض أو الطبيعة بوجه عام “إني جاعل في الأرض خليفة”، وهي علاقة مـــــــــــادية يظهر فيها تـأثير وفاعلية الإنسان كما تمثل المجال المبلور لتحقيق عبوديته.

ثالثا: العلاقة المعنوية التي تربط الإنسان بالأرض وبالطبيعة، وتربط من ناحية أخرى الإنسان بأخيه الإنسـان هذه العلاقة المعنوية التي سمـاها القرآن الكريم بالاستخلاف[37].

وإذا تأملنا في هذا الطرح التعددي لمقومات الفعل التاريخي عند الصدر نجـده يقترب من الطرح البنيـوي الذي يجعـل من التاريخ علمـا معقـدا يتركب من فـروع معرفية متداخلة، ” فالتاريخ هو مجموع التواريخ الممكنة …” على حد قول برودال (1902-1985)، الذي يرى في جدل التـاريخ تفاعل مستويات ثلاثة داخل التـاريخ أو الزمان وهي: المستوى الجغرافي، والمستوى الاجتماعي، والمستوى الفردي، ويعتبر هذا المفهوم للزمان التاريخي ثورة على أنصار التأريخ التقليدي الذين يعتبرون الزمان التاريخي ديمومة رتيبة متجانسة الإيقاع ووحيدة الاتجاه، ولذلك يؤكد برودال أن (…) الحدث في حد ذاته غير قابل للفهم إذا لم ينزله المؤرخ ضمن بنية أشمل: (الأبعاد السياسية والاجتماعية والجغرافية) فإنه يظل عاجزا عن إدراك معناه الحقيقي[38].

ب- التعالي الانساني من خلال رسالة الاستخلاف: يفرق محمد باقر الصدر بين مقومات الفعل التاريخي كطرح فكري يقتصر على تفسير مسار التاريخ، دون البحث عن اتجـاهه نحو الرقي أو انحداره نحو الانحلال والفنـاء، وبين بحثه في هذه المقومـات كأسس تسمح للإنسان بتنظيم الحركة التاريخية وفق السنن الربانية المحققة للصلاح، ولذلك يميز بين مسار تاريخي بأبعاد ثلاثة هي: الإنسان والطبيعة والمجتمع، ومسار آخر بأبعاد أربعة يضيف إلى سابقه فكرة الاستخلاف، وهو ينطلق في هذا الموقف ينطلق من”القراءة الإسلامية للتاريخ كما يجسدها القرآن الكريم (…) فالإنسـان هو خليفة الله في الأرض (…) وقد تحمل أمـانة إعمار الأرض، وبناء الحضارة ونشر الحق والعدل في ربوعها وفق سنة الله، ولكي يتمكن الإنسان من أداء الأمانة، ينبغي عليه أن يتعرف على ذاته من خلال رصد الماضي الحضاري للبشر والبحث في ثناياه”[39].

ج- المثل الأعلى: يعتبر البحث في المثل الأعلى كقوة محركة ودافعة للإنسان نحو تحديد طريقه وغاياته وأهدافه، مما أبدع فيه محمد باقر الصدر من خلال تحليل دقيق و استقراء واسع وتطبيقات واقعية، وهو ما لم يسبق إليه، ويعتبر من أبرز إسهاماته في بلورة الفلسفة البديلة للتاريخ التي تستند إلى الحقيقة السننية كما هي، لا إلى إيديولوجيات مسبقة  يراد إسقاطها قهرا على صيرورة التاريخ،  وهو يقرر بجلاء أن المثل الأعلى هو أساس المحتوى الفحوي للإنسان، الذي يجسد الغايات التي تحرك التاريخ من خلال وجودات ذهنية تمتزج فيهـا الإرادة بالتفكير، وهذه الغايات التي تحرك التاريخ يحددهـا المثل الأعلى، أي أنها تنبثق عن وجهة نظر رئيسية إلى مثل أعلى للإنسان والجماعة البشرية، فبقدر ما يكـون المثل الأعلى للجمـاعة البشرية صالحا وعاليا وممتدا تكون الغايات صـالحة وممتدة، وبقدر ما يكون هذا المثل الأعلى محدودا أو منخفضا تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة أيضا، إذن المثل الأعلى هو نقطة البدء في بناء المحتوى الداخلي للجمـاعة البشرية، وهذا المثل الأعلى يرتبط في الحقيقة بوجهة نظر عـامة إلى الحياة والكون[40].

وقد ميز محمد باقر الصدر ثلاثة أقسام من المثل العليا التي تتبناها الجماعات البشرية وهي:

* المثل الأعلى المستمد من واقع الجماعة البشرية: أي أن الوجود الذهني الذي صاغ المستقبل هنـا لم يستطع أن يرتفع عن الواقع ويتجاوزه، فانتزع مثله الأعلى منه بحدوده وقيوده وشؤونه، وتبنى هذا النوع من المثل العليا له أحد سببين: إما الألفة والعادة والخمول والضياع، أو التسلط الفرعوني الذي يجد في أي تطلع إلى المستقبل وتجـاوز للواقع الذي سيطر عليه زعزعة لوجوده وهزا لمركزه، ومن هنا فمصلحة فرعون على مر التاريخ أن يحول واقع النـاس إلى إله ومثل أعلى لا يمكن تجـاوزه، وأن يضع كل الأمة في إطار نظرته ووجـوده، لكي لا تعمل على تغيير وضعهـا، وهنا البعد خارجي لا داخلي والسبب إجتمـاعي لا نفسي، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿قال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكـم من إله غيري﴾ [القصص.38]، ﴿قال فرعون ما أريكم إلا إلا ما أرى وما أهديكـم إلا سبيل الرشاد﴾ [غافر.29]، والأمم التي تتعلق بهذا النوع من المثل العليا لا يمكن لمصيرها أن يتجاوز الحالات الثلاث التالية: إما أن تتداعى الأمة أمام غزو عسكري خارجي كما حدث للمسلمين أمام الغزو التتري وأمام حركة الاستعمار الأوروبي، أو تذوب وتنصهر في مثل أعلى أجنبي، وهو ما فعله أتـاتورك بتركيا ورضا بهلوي بإيران، أو أن ينشأ في أعماق هذه الأمة بذور إعادة المثل الأعلى من جديد، بمستوى العصر الذي تعيشه تلك الأمة وهو ما قام به رواد النهضة الإسلامية في مواجهة الاستعمار، وذلك بالعمل على إعادة الحياة للإسلام كمثل أعلى من جديد، وتقديمه بلغة العصر وبمستواه وبمستوى حاجات المسلمين[41].

* المثل الأعلى المستمد من تطلع إلى مستقبل محدود: أي أنه مستند إلى طموح مفيد، فهو تحفز نحو الإبداع والتطوير، ولكنه واهم في اعتبار المرحلي مطلقا، والآني نهاية وهدفا أخيرا، وفي هذا المثل الأعلى جانب صحيح وهو عدم الاقتناع بالواقع كما هو والسعي إلى تطويره، والعمل على وضع تطلعات أبعد من الإنجازات الآنية المحققة، ولكن الإنسان عاجز بمفرده وعبر مسيرته الطويلة عن استيعاب المطلق، فدائرة استيعابه محدودة بقدر الذهن البشري المحدود، ولذلك فمن الخطر الكبير تحويل هذا الاستيعاب المحدود إلى مثل أعلى يعتبر المحرك الوحيد للأهداف والطموح، وهذا النوع من المثل الأعلى يخدم المجتمع أو الأمة التي تتبناه في المرحلة الأولى، ويحقق لها إمكانيات النمو بقدر طاقات هذا المثل، ولكنه سرعان ما سيصل إلى حدوده القصوى وبالتالي سيصبح قيدا للمسيرة الإنسانية وعائقا عن تطورها ومجمدا لحركة الإنسان[42].

وقد ضرب الصدر لذلك نموذج المجتمع الأوروبي في عصر النهضة عندما اتخذ من الحرية هدفا له، كرد فعل على حالة الظلم السلطاني والطغيان الكنسي الذي كان يعيشه، ولما كانت الحرية قيمة من القيم الأساسية التي ينشدها الإنسان فقد دفعت بأوروبا نحو تقدم ملحوظ، ولكن الغلط يكمن في تحويل الهدف إلى مثل أعلى، لأن الحرية لا تكفي بمفردها لبناء الإنسان السوي، فجوهر  ممارسة الحرية ومضمونها، وإطارها لا بد أن يرسم وإلا تحولت إلى وبال على الإنسان، كما هو الحال اليوم عندما قاد هذا الشعار إلى ويل ودمار يهدد الإنسانية جمعاء، بعدما صار الإنسان حرا في صناعة كل وسائل الدمار والإفناء[43]، ويحيلنا الاستقراء التاريخي إلى القول بأن المثل العليا المأخوذة من طموح مستقبلي محدود، تتجه بالتدريج نحو الجمود وترتد إلى المثل الواقعية، بعدما يصبح المستقبل واقعا آنيا مجسدا وتعجز عن فهمه في بعده الزمني الجزئي، فتدخل حركة التاريخ في تكرارية رتيبة.

* الله سبحانه وتعالى هو المثل الأعلى: وهذا النوع هو المثل الأعلى الحقيقي، لأنه المثل غير المحدود، فهو ليس إفرازا ذهنيا للإنسان وليس من نتاجه أيضا، بل هو مثل أعلى عيني له واقع عيني، وهو وجود مطلق في الخارج له قدرته المطلقة وله عمله المطلق وعدله المطلق، والمرء الذي يتبع هذا المثل يكون في صراع مستمر مع مختلف أشكال الآلهة والمثل المنخفضة والتكرارية التي حاولت أن تحد من حركة الإنسان وتوقفه في وسط الطريق، والمثل الأعلى الحقيقي يعمل على إطلاق الحركة من عقالها ويزيح عنها الحدود المصطنعة لكي تسير باستمرار[44].

د- المحتوى الفحوي للإنسان: الفكر والإرادة هما في الحقيقة المحتوى الداخلي الشعوري للإنسان، أو هما ركناه الأساسيين، والمحتوى الداخلي هذا هو الذي يصنع الغايات ثم يجسد الأهداف من خلال مزجه بين الفكـر والإرادة، وهو بذلك يمثل أساس حركـة التاريخ، وكل بناء اجتماعي بما يضمه من علاقات وأنظمة وأفكـار مرتبط بهذا الأساس، ويكون ما يطرأ عليه من تغير وتحول وتطور تبعا للتحول الطارئ على المحتوى الفحوي، لأنه إذا تغير الأساس تغير البناء الاجتماعي، أما إذا بقي الأساس ثابتا استمر الوضع على ما هو عليه، وهذا المحتوى الفحوي للإنسـان يسميه القرآن الكريم “النفس”، ويجعله هو الأسـاس لأي حركة تغييرية مهما كان اتجاهها، تطال الفرد أو المجتمع[45]، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿إن الله لا يغير ما بقـوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ [الرعد.11]، وبهذا تصبـح النفس هي مجمـوع القوى المحركـة للإنسان والجمـاعة صوب غاياتها، هي الأفكـار والمشاعر والقيم والمبادئ، والأخلاق والأهواء والنوازع والرغبات، والحالات الروحية المتسامية، هي ذلك الكل المختلط المتصارع في ذات الإنسان، ثم ما يتبع ذلك على مستوى العمل من الجهد وترجمة الفكر إلى واقع من خلال العزم والإرادة[46].

وعليه فالمحتوى الفحوي للإنسان مستمد من المثل الأعلى، لأنه يصبغ قناعاته ويحدد أهدافه انطلاقا مما يؤمن به ويعمل على تكريسه، وبالتالي تتحدد الرؤية الكونية التي ترسم مجمل التصورات حول الأخلاق والمعـاملات والقوانين وغيرها،  ويمكننا تقديم المخطط التالي لتوضيح بنية المحتوى الفحوي:

لا يتوفر وصف.

بناء على هذا التوضيح يمكننا الاستنتاج بجلاء أن سنن الحركة التاريخية عند محمد باقر الصدر، هي سنن تجد تفسيرهـا في طبيعة الإنسان ذاته، وهو ما يبرز طابع اطرادها، ويجلي كون الإنسان هو جوهر حركة التاريخ، ولأن المحتوى الفحوي للإنسان هو تركيب من إبداع الله تعالى لا يتغير في جوهره، وإنما في أشكـاله فهو يبرز ربانية السنن وينفي عن الطرح الإسـلامي البعد اللاهوتي بالمفهوم الغيبي للتـاريخ، ويبعد فلسفة التاريخ الإسلامية عن مجـرد تعميم للظاهرة الواقعية على المسار الإنساني، كما هو حال فلسفات التاريخ الوضعية التي نفت فكرة الإله، وبالتـالي سقطت في نسخ واقعهـا وإسقاطه على المـاضي والمستقبل، وبالتالي فإن الفكرة الإسلامية التي أوضحها، هي وحدها القادرة على تصوير الإنسان هو الفـاعل في حركة التاريخ وفق القضايا التي سبقت معالجتها.

 

 

[1]– فرانز روزنثال، علم التاريخ عند المسلمين، تر: صالح أحمد العلي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1983، ص: 33.

[2]– عبد العزيز الدوري، بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب، بيروت، المكتبة الكاثوليكية، ص: 18.

[3]– حاجي خليفة، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، بغداد، مكتبة المثنى، 1941، ج1، ص: 204.

[4]– فرانز روزنثال، علم التاريخ عند المسلمين، ص: 35.

[5]– ابن خلدون أبو زيد عبد الرحمن بن محمد الحضرمي (ت808هـ/1405م)، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، تح: إبراهيم شبوح وإحسان عباس، تونس، القيروان للنشر/الدار العربية للكتاب، 2006، ج1، ص: 3.

[6]– انظر في الموضوع: وجيه كوثراني، تاريخ التاريخ اتجاهات  – مدارس- مناهج، ط2، الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013، ص: 63-67.

[7]– ابن خلدون، كتاب العبر، ج1، ص: 4-5.

[8]– هاشم يحيى الملاح، المفصل في فلسفة التاريخ، بيروت، دار الكتب العلمية، 2007، ص: 295.

[9]– نشره في: دراسات في التاريخ الوسيط للجزائر والغرب الإسلامي، الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، 2008، ص: 183-202.

[10]– انظر: المرجع نفسه، ص: 183-188.

[11]– المقري، أزهار الرياض في أخبار عياض، تح: إبراهيم الأبياري وآخرون، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والنشر، 1942، ج3، ص: 26.

[12]– علاوة عمارة، دراسات في التاريخ الوسيط للجزائر والغرب الإسلامي، ص: 191-192.

[13]– ابن خلدون، كتاب العبر، ج1، ص: 11-12.

[14]– خالد طحطح، الكتابة التاريخية، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2012، ص: 19.

[15]– اعتمدت هنا على ما لخصه: هاشم يحيى الملاح، المفصل في فلسفة التاريخ، ص: 132-134.

[16]– ابن خلدون، كتاب العبر، ج1، ص: 56

[17]– المصدر نفسه، ج1، ص: 11-12.

[18]– المصدر نفسه، ج1، ص: 57.

[19]– المصدر نفسه، ج1، ص: 45.

[20]– عماد الدين خليل،  حول تشكل العقل المسلم، فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الاسلامي، 1981، ص: 67.

[21]– مالك بن نبي،  وجهة العالم الإسلامي، تر: عبد الصبور شاهين، دمشق، دار الفكر، 1986، ص: 28.

[22]– انظر: ابن خلدون، كتاب العبر،  ج1، ص: 208.

[23]– مالك بن نبي،  ميلاد مجتمع، تر: عبد الصبور شاهين، دمشق، دار الفكر، 1986، ص: 11.

[24]– ابن خلدون، كتاب العبر، ج1، ص: 306-307.

[25]– مالك بن نبي،  شروط النهضة، تر: عبد الصبور شاهين، دمشق، دار الفكر، 1986، ص: 68-69.

[26]– المرجع نفسه، ص: 69.

[27]– ابن خلدون، كتاب العبر، ج1، ص: 293-294.

[28]– مالك بن نبي،  مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي، تر: بسام بركة واحمد شعبو، دمشق، دار الفكر، 1988، ص: 64.

[29]– مالك بن نبي، تأملات، دمشق، دار الفكر، 1979، ص: 41.

[30]– مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي، ص: 64.

[31]– سالم أحمد محل،  المنظور الحضاري في التدوين التاريخي عند العرب، قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية، 1997، ص: 142.

[32]– مالك بن نبي،  مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي، ص: 44.

[33]– ابن منظور، لسان العرب، مادة سنن، بيروت، دار صادر، 1414هـ، مادة: سنن، ج13، ص: 225.

[34]– عبد الله عيسى لحيلح، الجدلية التاريخية في القرآن الكريم، رسالة دكتوراه، جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، 2004-2005 ، ص: 3-4.

[35]– محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، بيروت، دار المعارف، د.ت. ص: 44.

[36]– انظر: المرجع نفسه، ص: 90-97.

[37]– محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، بيروت، دار المعارف، د.ت. ص: 126. فريد بن سليمان، مدخل إلى دراسة التاريخ، مركز النشر الجامعي، تونس.2000م.ص: 32.

[38]– فريد بن سليمان، مدخل إلى دراسة التاريخ، تونس، مركز النشر الجامعي، 2000، ص: 32.

[39]– قاسم عبده قاسم، إعادة قراءة التاريخ، كتاب العربي، 78(2009)، الكويت، ص: 42. وانظر: محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، ص: 126-131.

[40]– محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، ص: 145-146.

[41]– انظر: محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، ص:148-152.

[42]– المرجع نفسه، ص: 164-166.

[43]– المرجع نفسه، ص: 167-168.

[44]– المرجع نفسه، ص: 176.

[45]– محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية،ص: 140-141.

[46]– عبد الله عيسى لحيلح، الجدلية التاريخية في القرآن الكريم، ص:  64-65.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.