شيءّ عن “طه عبد الرحمن” ونقده الأخلاقي للدولة الحديثة
شيءّ عن “طه عبد الرحمن” ونقده الأخلاقي للدولة الحديثة
الأستاذ: معتز أبو قاسم – الأردن
من المعروف أن الدولة ليست كائنا محايدا يستوعب الأشياء أو يضمها ضم جمْعٍ لا غير بل هو كائن يقوم بإنزال سلطته لتَعمل عملها في الأشياء والمضمونات والمفاهيم والأعراف والقيم والأحكام ، مُعيدة إنتاج تعريفها ومشاغلها وبما فيها من وظيفة.
فهي موقف سيادي يعامل كل ما سواه بموقف متعالي –صاحب قوامة- سواء كان الدين أو الإنسان أو الأخلاق أو المجتمع أو الافراد أو المال ، وكل ما يتنزل تحته أو يتم امتصاصه من قِبل هذه الدولة أو ما تمدُّ عليه ظلها يأخذ شكلا متوافقا مع الدولة يخدمها ويعزز القيم والانتماءات التي تريدها.
والأهم ترسيخ تعريف جديد لوظيفة الإنسان كما تريد هي ، ما يستتبع مجازفة الدولة في التعامل مع الدين (وهو العنصر الأهم للإنسان) بعنف لا مثيل له، فقد جُرِّد الدين من هويته –غالبا- وتمت إعادة تشكيله وبنائه من جديد ، ثُم تَمَّ حشره فيما يسمى بالمجال الخاص –لا باعتباره مجالا حراً- الذي تمَّ بناؤه أصلا من الدولة، فدخول الدين في المجال الخاص ليس معناه هو الاحتماء من سلطتها واتقاء شرها وآثارها.
المجال الخاص هو القفص الذي صنعته الدولة لتُقيد فيه كل موضوع أو موجود منافس لسيادتها بقوة، وكل ما يستعصي على الضبط الرياضي والقياس الحسابي ، والترويض وتمام الإحاطة وتمام الإدراك وتمام التنبؤ ، وكل ما لا تستطيع القضاء عليه قضاءً نهائيا كالدين والثقافة والأعراف والأخلاق وخصوصيات الأمم المنغرسة في قلوبهم.
فإذا أخذنا بهذا المعنى للدولة ثم نظرنا في أعمال الدكتور طه عبد الرحمن لوجدناه ينقب بقلمه وفكره في هذا البناء المتوحش الذي أسماه الدولة الحديثة والتي تجلت في الواقع الكوني اليوم . وقد اتخذ هذا النقب طريقا خاصا يقوم على استعادة الإنسان لفطرته ووظيفته الأصلية في هذا العالم، فهو عبد مخلوق مستخلف في هذا العالم ليؤدي عبوديته لله، ولكي يحفظ الأمانة التي استؤمن عليها، وهي استخلاف هذا العبد لتحقيق العبودية على الأرض كما حققها في الملأ الأعلى من قبل ، لقد أُريد من وجود الإنسان على الأرض أن يكون مصداقا لقبوله الأمانة والشهادة في عهد الذر.
وهذا الميثاق الذي واثق به الإنسانُ اللهَ يحفظه نظام من القيم (التَّخلُّق) جاءت به الفطرة (الذاكرة الأولى).
فإذا ما توجه اعتراض أحدهم على موقف طه عبد الرحمن في النقد الائتماني الأخلاقي من السياسة والدولة ، ورفض نهج طه.
قلنا له وهل نقد الدولة الحديثة شيء إلا نقد الأسس الأخلاقية والمصادر القيمية والبنية الفلسفية والمعرفية التي تغذي وجودها وتعزز قوتها وتبرر مآسيها باسم التقدم والحرية والإبداع والديمقراطية والعدالة.
ومعالجة (الفساد السياسي) متمثلا في الاستبداد لن يكون إلا أخلاقيا
ومعالجة (الفساد الاقتصادي) متمثلا في سوء توزيع الموارد لن يكون إلا أخلاقيا
ومعالجة (التعالي الاجتماعي) متمثلا في الأمراض الاجتماعية لن يكون إلا أخلاقيا
ومعالجة مأساة التبعية للخارج لن يكون إلا أخلاقيا.
وإعادة تقوية المنظومة الأخلاقية كنطاق مركزي يؤثر في النطاقات الفرعية المحيطة كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والمعرفة والفلسفة وحتى الدين (وهنا يظهر طه عبد الرحمن في رأيي ليقول لنا إن الأحكام الشرعية موضوعة لنظام قيم يتحقق بها أثرا في النفوس وتتحقق الأحكام وتكتمل حقيقة بحدوث أثرها. أي إعادة بعث الأخلاق كرؤية (كلية مقاصدية) يتحدد بها الحكم الشرعي إن لم يكن كليا فعلى الأقل اعتبارها عنصرا مهما جدا من عدد من العناصر التي تدخل في إنتاج الحكم الشرعي.
يريد طه أن يعيد السياسي إلى حجمه وموقعه الطبيعي بنفي سلطته المتعالية وجعله تابعا للإرادة الإنسانية المشروطة بالقبول الإلهي، وإلا فإن السياسي مُتفلِّت مناطح متمرد لأنه يقع في (نطاق القوة) = (نطاق السلطة) مما يجعله خطيرا إذ كان صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، لذلك لابد من تأسيسه على نظام أقوىومع ذلك ليس نظام قوةٍ وتسلطٍ بالمعنى الفوكوي بل هو (نطاق أخلاق).
لذلك وجدنا طه لم ينجر إلى سلوك الطريق الذي غلب على الإسلاميين ، الذين تصوروا إمكانية التعامل مع الدولة باعتبارها مؤسسة خالية من الوصف (صندوق يأخذ وصفه مما يوضَعفيه) فظنوا الأمرِ على مَرْمى حجر.
بل أخذ الطريق الوعر الذي يُغيّر الإنسان قبل المؤسسة (التي لا يمكن أن تتغير بدون انتفاء قاعدتها التصورية الراسخة في الإنسان)، لأن لمؤسسة الدولة شروطا وأوصافا سوف يتلبس بها كل من يقبل بشروطها، لابد من كتلة حرجة تتحمل نظاما من التصورات مغايرا للتصورات التي غُذِّيت بها الدولة الحديثة وكانت مضادة تنظيرا وعمليا لوظيفة الإنسان/العبد.
والمشكلةكذلك ليست تغييرا في الأحكام القانونية باستبدال الشرعية ووضع أحكام وضعية محلها فحسب، بل إن الأمر ازداد تطرفا نحو الحرب على القيم الكونية للإنسانية، وكل ذلك بسبب الفهم الخاطئ لجمع من الحقوق والمفاهيم: كالحرية، والإبداع، والنقد ، والمساواة ، مما أخرج إنسانا مسخًا مستَباحًا ، إنسانَ ما بعد الأمانة أو إن شئت قلت إنسانَ ما بعد الفطرة.
وهي درجة من المسخ الأخلاقي الذي تصبح به الأخلاق الناظمة لحياة الإنسان نوعا من الكبت أو الحالة المَرضِيَّة والانحراف الذي يجب شفائه منها.
ولا شك أن جميع المآزق التي تعيشها البشرية يوما مردها إلى (السؤال الأخلاقي) وكيف أجابت عنه أو كبف تغاضت عنه وأهملت جوابه.
فكل الأزمة السياسية وسائر فروعها يعالجها نظام أخلاقي يدخل كتقنين أصيل في نظام اتخاذ القرارات وفي المحاسبة والمراقبة، وهل المراقبة والمساءلة إلى موقف أخلاقي يتابع انحراف المسؤول وفساده.
وكل الأزمة الاقتصادية مردها إلى آفات ظهرت من جرّاء تهميش الأخلاقي أو التلاعب به، ومن جراء قلب الهرم الذي قدّم النفع الخاص على النفع العام وقدّم تراكم الثروات على الرحمة والعدالة والتضحية والعطاء.
وكل الأزمة الاجتماعية مردودة إلى التلاعب العنيف في نظام الأسرة وماهية الفرد والتعدي على الجسد المعصوم المؤتمن ليصبح الجسد ملكا شخصيا، يمتلك الإنسان عليه موقفا سياديا كأنه خالق جسده ومُوجده.
وكل الأزمة المعرفية تقوم على تحريم سؤال (لماذا) الأخلاقي وتثمين سؤال (كيف) الأدائي المجرد فحرّم على الأخلاق أن تمثل أرضية ضامنة وحافظة للإنسان في مسيرة التقدم التي تهجم عليه هجما ، هذا التقدم الذي أصبح ثيولوجيا كسرت كل الموانع الأخلاقية القيمية ، وأخذ هذا التقدم زمام الأمور وسيطرت التقنية على الإنسان واسترقته، بعد أن كان يظن أنها أداة بين يديه، فانقلبت الآية واستُعبد الإنسان.
إن السؤال الأخلاقي متغلغل في كل مساحة من مساحات هذا الوجود ، ولن تستطيع أن تُفلت منه ثم تُبقي على ادعاء إنسانيتك ، ففي اللحظة التي تتخلى فيها عن أخلاقياتك هي اللحظة نفسها التي تترك بها جماعة الناس المُبينين وتلتحق بقطيع العجماوات.