دراسة موضوعية لمصطلح العقل من القرآن الكريم
دراسة موضوعية لمصطلح العقل من القرآن الكريم
دكتورة. نادية الشرقاوي
مختصة في مقارنة الأديان وباحثة في الدراسات النسائية
مقدمة
أفاض القرآن في التنويه بالعقل البشري، وتعامل معه تعامل خاصا، والمتتبع لآيات القرآن يلحظ ذلك التأكيد الواضح على ضرورة استعمال هذه الهبة الربانية:” العقل”، بحيث لا يمكن أن يُذكر العقل عرضا، وهذا الأمر يدل على القيمة الكبيرة لهذه الأداة، فهي ميزة ربانية منحها الله عز وجل للإنسان، ونعمة منَّ بها سبحانه وتعالى عليه ليَتميز بها عن باقي المخلوقات، ويُميز بها بين الحسن والقبيح ويتعرف بها على معالم هذا العالم ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14]، ومعنى هذا أن لهذه الملكة مكانة متميزة في فهم النص وتقريب معانيه بالطريقة السليمة والصحيحة.
وقد وقف الأستاذ العقاد عند هذه الفكرة، فبيَّن أن إشادة القرآن بالعقل هي إشادة متميزة لا تُقارن بكتاب سماوي آخر، وإشارات القرآن إلى استعمال العقل هي إشارات كثيرة تحث الإنسان على التفكر، فقال:”ولكن القرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه، ولا يأتي تكرار الإشارة إلى العقل بمعنى واحد من معانيه التي يشرحها النفسانيون من أصحاب العلوم الحديثة، بل هي تشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها”[1].
فبنعمة العقل إذن يتعرف الإنسان على قدراته الذاتية، التي يستطيع بواسطتها التدبر في نفسه وفي هذا الكون، فيستخدمه للوصول إلى حقيقة الأمور، وبه يستطيع أن يستفسر أو أن ينتقد أو أن يفهم ما يدور حوله، وبه يتحرر من كل أشكال العبودية ويستسلم خاضعا لله تعالى عن طواعية، وبهذه الأدوار المتميزة والمتنوعة يدرك الإنسان رسالته في هذا العالم، ويتيسر عليه أداء المهمة الموكولة إليه: “مهمة الاستخلاف”، تلك المهمة التي اختير لها الإنسان دون باقي المخلوقات، وهي مهمة صعبة تتطلب الجهد الجهيد للوصول إلى المبتغى المنشود:﴿ يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ [الانشقاق: 6].
ولهذا نحتاج في عصرنا اليوم أن نعود إلى هذه الملكة المغيبة، لنقلص المسافة بيننا وبين القرآن، ونقرأه قراءة تدبرية تقرب بيننا وبين المعجزة المعرفية الخالدة التي كلما زاد التمعن فيها فتحت آفاق المعرفة والأفق اللامحدود للعقل.
أولا: مدخل مفاهيمي:
- المعنى اللغوي والاصطلاحي:
تقدم معاجم اللغة العربية معان متعددة لمادة [ع ق ل]، تدور حول معان كثيرة، منها المرادفات، وهي أزيد من ثلاثين لفظة: إدْرَاك، بَصِيرَة، حِجًى، فِطْنَة، نُهًى، حَصَافة، حِكْمَة، ذَكَاء، رَزَانَة، رَشاد، رَصَانَة، رُشْد، سَدَاد، صَوَاب، فَهْم، كَيْس، كِيَاسَة، لُبّ، مُسْكَة، مِرّة، نَبَاهَة، نَجَابَة، نُبُوغ، نُهْيَة، وَقَار، حِلْم، صَبْر، أَنَاة.
ومنها الأضداد، وهي أزيد من عشرين لفظة: حُمق، جُنُون، جَهل، جَهالة، تيهٌ، تَسَرُّعٌ، خَرَقٌ، رُعُونَةٌ، صَفَلٌ، ضَلالٌ، ضَلاَلَة، ضُعْفُ عَقْلٍ، غرارَةٌ، غَباءٌ، غَباوَةٌ، فَدَامَةٌ، طَيْشٌ، غَباءٌ، غَرارَةٌ.
والعقل اسم لفعلين: عَقَل [بفتح القاف] وعقِل [بكسر القاف]، فأما مرادفات “عَقَل”: أَسَرَ، أَغَلَّ، أَوْثَقَ، حَبَسَ، حَزَمَ، حَصُفَ، رَبَطَ، سَجَنَ، شَدَّ، شَكَل [ الدَّابَّة ]، صَرَّ، صَفَدَ، صَفَّدَ، عَصَبَ، غَلَّ، فَطِنَ، فَهِمَ، قَبَصَ، قَيَّدَ، كَبَّلَ، نَهُوَ.
وأما مرادفات “عقِل”: أَبْهَمَ، أَدْرَكَ، تَفَهَّمَ، حَذِقَ، دَرَى، عَرَفَ، عَلِمَ، فَطِنَ، فَقِهَ، فَهِمَ، وَعَى.
وفي لسان العرب: “العقل: الحجر والنهى ضد الحمق، والجمع عقول،…. عقل يعقل عقلا معقولا، وهو مصدر، قال سيبويه: هو صفة، وكان يقول إن المصدر لا يأتي على وزن مفعول البته… والعَقْلُ القَلْبُ، والقَلْبُ العَقْلُ، وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه، وقيل: العَقْلُ هو التمييز الذي به يتميز الإِنسان من سائر الحيوان، ويقال: لِفُلان قَلْبٌ عَقُول، ولِسانٌ سَؤُول، وقَلْبٌ عَقُولٌ فَهِمٌ؛ وعَقَلَا لشيءَ يَعْقِلُه عَقْلاً: فَهِمه.”[2]
أما في مقاييس اللغة:” عقل: العين والقاف واللام أصلٌ واحد منقاس مطرد، يدلُّ عُظْمُه على حُبْسة في الشَّيء أو ما يقارب الحُبْسة. من ذلك العَقْل، وهو الحابس عن ذَميم القَول والفِعل، قال الخليل: العَقل: نقيض الجهل. يقال عَقَل يعقِل عَقْلا، إذا عرَفَ ما كان يجهله قبل، أو انزجَر عمّا كان يفعلُه.
وجمعه عقول، ورجل عاقلٌ وقوم عُقَلاء، وعاقلون عَقُول، إذا كان حسَنَ الفَهم وافر العَقْل، وما له مَعقولٌ، أي عقل؛ خَرج مَخرجَ المجلود للجَلادة، والمَيْسور لليُسْر. قال:
فقد أفادت لهم عقلاً وموعِظةً لمن يكون له إرْبٌ ومعقولُ“[3]
وفي القاموس المحيط: “العَقْلُ: العِلْمُ، أو بِصفاتِ الأَشْياءِ، من حُسْنِها وقُبْحِها، وكَمَالِها ونُقْصانِها، أو العِلْمُ بخَيْرِ الخَيْرَيْنِ، وشَرِّ الشَّرَّيْنِ، أو مُطْلَقٌ لأُمورٍ، أو لقُوَّةٍ بها يكونُ التمييزُ بين القُبْحِ والحُسْنِ، ولِمعانٍ مُجْتَمِعةٍ في الذِّهْنِ. يكونُ بمُقَدِّماتٍ يَسْتَتِبُّ بها الأَغْراضُ والمصالِحُ، ولهَيْئَةٍ مَحْمودةٍ للإِنْسانِ في حَرَكاتِهِ وكَلامِهِ، والحَقُّ أنه نورٌ روحانِيٌّ، به تُدْرِكُ النفسُ العلومَ الضَّرورِيَّةَ والنَّظَرِيَّةَ. وابتداء وجوده عند اجتنان الولد، ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ، ج: قول، عقل عقلا ومعقولا وعقَّل، فهو عاقل من عقلاء وعقال.”[4]
والعَقْل اسم مفرد وجمعه: عقول، ويُستعمل “العقل” في الاصطلاح اللغوي في أداء مجموعة من المعاني، منها:
- الفهم والتفقه والفطنة.
- ما يقابل الغريزة التي لا اختيار لها، ومنه: الإنسان حيوانٌ عاقل.
- ما يكون به التفكيرُ والاستدلالُ وتركيبُ التصوُّرات والتصديقات.
- ما به يتميز الحسَنُ من القبيح، والخيرُ من الشر، والحق من الباطل.
- القلب.
- الدِّيَةُ وهي ثمن القتيل، ومنه عقل القتيل أي أعطى ديته.
- الحصنُ والملجأُ.
وفي هذا السياق نورد التعريف الذي قدّمه د. محمد محمود كالو في تعريفه للعقل في الاصطلاح:” العقل هو الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم، وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية، وتدبير الصناعات الخفية الفكرية، وهو الذي أراده الحارث بن أسد المحاسبي، حيث قال في حد العقل، إنه غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم النظرية، وكأنه نور يقذف في القلب به يستعد لإدراك الأشياء”[5].
ويستفاد من هذا التعريف أن العقل ميزة ربانية بين الإنسانية والبهائمية، تحفز الإنسان على إدراك العالم الذي حوله، وقد اختلف العلماء في تعريفهم للعقل اختلافا كبيرا، ونورد هنا تعريف الإمام الغزالي رحمة الله عليه الذي جمع فيه بين أوجه متعددة لمعاني العقل، حيث حددها في خمسة فقال:
إذ يطلق على بعض العلوم الضرورية، ويطلق على الغريزة التي يتهيَّأ بها الإنسان لدرك العلوم النَّظريَّة، ويطلق على العلوم المستفادة من التَّجربة، حتى إن من لم تحنكه التجارب بهذا الاعتبار، لا يسمى عاقلا، ويطلق على من له وقار وهيبة وسكينة في جلوسه، وقد يطلق على من جمع العمل إلى العمل إلى العلم، حتى إن المفسد، وغن كان في غاية الكياسة، يمنع عن تسميته عاقلا.”[6]
وقد سئل الحارث المحاسبي[7] عن ماهية العقل فأجاب:”فهو غريزة وضعها الله سبحانه في أكثر خلقه، لم يطلع عليها العباد بعضهم من بعض، ولا اطلعوا عليها من أنفسهم برؤية، ولا بحس، ولا ذوق، ولا طعم، وإنما عرفهم الله [إياها] بالعقل منه. فبذلك عرفوه، وشهدوا عليه بالعقل الذي عرفوه به من أنفسهم بمعرفة ما ينفعهم ومعرفة ما يضرهم. فمن عرف ما ينفعه مما يضره في أمر دنياه، عرف أن الله تعالى قد منَّ عليه بالعقل الذي سلب أهل الجنون وأهل التيه، وسلب أكثره الحمقى، الذين قلَّت عقولهم.”[8]
ويعتبر المحاسبي القول بأن الاعتقاد أن العقل معرفة أمر خطأ، فيقول:” والقول بأن العقل معرفة خطأ، لأن العقل لو كان المعرفة لسمينا الحمق والجنون نكرة، لأن النكرة ضد المعرفة، والجهل ضد العلم، فلما امتنع أهل العلم أن يسموا المجنون منكرا جاهلا، ولا المنكر مجنونا، ولا الجاهل مجنونا صح أن العقل ليس هو المعرفة.[9]
- العقل في الاستعمال القرآني، وحكمة وروده بالصيغ الفعلية دون الاسمية:
وردت لفظة “ع ق ل” في القرآن الكريم في تسع وأربعين موضعا، منها 34 مرة في القرآن المكي، و15 مرة في القرآن المدني، وهي:
“تعقلون” أربع وعشرين مرة[10]، منها 14 مرة بصيغة:” أفلا تعقلون”، و8 مرات بصيغة:”لعلكم تعقلون”،
“يعقلون” اثني وعشرين مرة[11]، منها 8 مرات بصيغة: “لقوم يعقلون”، و14 مرة بصيغة “لا يعقلون”،
“عقلوه” مرة واحدة[12]،
“يعقلها” مرة واحدة[13]،
“نعقل” مرة واحدة”[14].
والناظر في استعمال لفظة العقل في القرآن الكريم يقف على ملاحظتين هامتين:
- الملاحظة الأولى: أنها جاءت كلها بالصيغة الفعلية ولم تأت بالصيغة الاسمية، لا بالمصدر أو بالاسم ولا باسم الفاعل ولا باسم المفعول، والمعروف أن الصيغة الفعلية تختلف عن الصيغة الاسمية في أداء المعنى، فالفعل أقوى من حيث الاستعمال من فاعلية الاسم، وقد لخص الأستاذ زكي الميلاد أبعاد قيمة وفاعلية الصيغة الفعلية في خطاب العقل في القرآن الكريم في أمرين اثنين:” أولاً: إن القرآن الكريم هو كتاب عمل وسلوك وليس كتاباً للرأي والنظر، ومنطقه هو منطق العمل وليس منطق الرأي، ويدعو دوماً إلى العمل، وتشمل دعوته الأفراد والجماعات والمجتمعات وحتى الأمم، ولسان حاله ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾ [سورة التوبة، آية 105 [، ولسان حاله أيضاً ﴿أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض﴾ [سورة آل عمران، آية 195 [، ومن هذه الجهة، فإن القرآن الكريم جاء متسقاً مع منطقه وحكمته وخطابه، حينما استعمل العقل بصيغة الفعل لأنه كتاب عمل ويدعو إلى العمل، وصيغة الفعل تدل على العمل خبراً وإنشاء، ثانياً: إن صيغة الفعل في الخطاب القرآني، تدل على الحركة التي تقابل السكون، بمعنى أن العقل ينبغي أن يكون في حالة حركة وحركة دائمة، وليس في حالة سكون.”[15].
فالصيغة الفعلية تدل على التجدد والحدوث والحركة والتكرار والتغير والزوال، بخلاف الصيغة الإسمية فهي تدل على الثبات والدوام والاستقرار على حال واحد، وقد ذكر بدر الدين الزركشي في كتابه البرهان فائدة في الفرق بين الخطاب بالاسم والفعل، وقدم شواهد قرآنية على ذلك، فقال:” وأن الفعل يدل على التجدد والحدوث، والاسم على الاستقرار والثبوت، ولا يحسن وضع أحدهما موضع الآخر، فمنه قوله تعالى: ﴿وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد﴾[الكهف:18] فلو قيل:[يبسط] لم يؤد الغرض، لأنه لم يؤذن بمزاولة الكلب البسط، وأنه يتجدد له شيء بعد شيء، فباسط أشعر بثبوت الصفة…. وقوله: ﴿هل من خالق غير الله يرزقكم﴾ ] فاطر: 3] لو قيل:”رازقكم” لفات ما أفاده الفعل من تجدد الرزق شيئا بعد شيء؛ ولهذا جاءت الحال في صورة المضارع، مع أن العامل الذي يفيده ماض”[16].
الملاحظة الثانية: أن كل هذه الصيغ الفعلية جاءت في زمن المضارع ولم تأت في الماضي إلا واحدة منها، وهي “عقلوه” في قوله تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:75]، للدلالة على التجدد والاستمرار.
وموارد هذا اللفظ مرة جاءت مقرونة بالنفي “لا” كقوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [سورة البقرة:171]، ومرة بصيغة الحض والتحريض [أفلا تعقلون] كقوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [سورة البقرة:44]، وبعضها جاءت بصيغة الترجي [لعلكم تعقلون] كما في قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [سورة البقرة:242]، كما جاءت أيضا بصيغة الإثبات (لقوم يعقلون) كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾[سورة البقرة:164].
وبهذه المعاني يمكن أن نستخلص وظائف العقل الإنساني كما حددها القرآن، وهي ثلاثة وظائف كبرى كما بيَّنها صاحب كتاب “دليل الأنفس”[17]، وهي:
الأولى: الكشف عن السنن التي تسير بها المخلوقات من جماد ونبات وحيوان وإنسان، قصد تسخيرها والانتفاع بها.
الثانية: فهم معاني النصوص الشرعية، وإدراك الأسرار والحكم والمقاصد التي تضمنتها أحكامها، وإعمال الاجتهاد في هذه النصوص لاستنباط الأحكام الخاصة بمنطقة العفو التي تركها الشرع، وإعمال العقل في الترجيح عند ورود الأدلة المحتملة.
الثالثة: الاعتبار من الحكم والأسرار الكامنة في الكون والشرع، وإدراك الغايات البعيدة لتلك الحكم والأسرار، والربط بين ذلك كله وبين وجود الإنسان في الأرض ومهمته.
- الألفاظ ذات الصلة:
لا تكاد تخلو سورة من القرآن الكريم من الحث على استعمال العقل، إما بصريح اللفظ أو باستعمال مرادفات أخرى تؤدي نفس المعنى، كالتفكر واللب والحجر والنهى، والنظر والتدبر والتفقه والرشد والتذكر والفؤاد والقلب، نذكر منها:
التفكر: وردت هذه الكلمة ثماني عشرة مرة[18] ضمن سبعة عشر آية بصيغة الفعل “تتفكرون” “يتفكرون” “يتفكروا” “فكّر”، في ثلاثة عشر سورة، والتفكر هو طلب الفكر باستعمال العقل في الكون، فهو تفاعل مستمر بين الإنسان والعالم الخارجي بواسطة ملكة العقل، ويُعرِّفه الطاهر بن عاشور فيقول:”التفكر جولان العقل في طريق استفادة علم صحيح”[19]، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [سورة الروم: 21]، وقوله تعالى:﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [سورة الحشر: 21].
اللب: وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم بصيغة الجمع ستة عشر مرة[20] في 10 سور، ومعنى اللب كما عرّفه الراغب الأصفهاني:”العقل الخالص من الشوائب”[21]، فهو أزكى وأرقى مراتب الإدراك، ومنه قوله تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 269].
الحِجر: ذكرت هذه اللفظة مرة واحدة في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ﴾ [الفجر: 5]، فالحجر بكسر الحاء هو العقل، وسمي العقل حجرا لأنه يمنع الإنسان من الأفعال والأقوال القبيحة.
النُّهى: ذكرت النهى مرتين في موضعين في القرآن الكريم في نفس السورة وهي سورة طه، في قوله تعالى ﴿كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى﴾ الآية 54، وقوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى﴾ الآية 128، وسمي العقل بالنهى لأنه ينهى عن القبائح، قال ابن كثير في تفسيره:”لأولي النهى أي لذوي العقول السليمة المستقيمة”[22]، والملاحظ أن لفظة النهى في هاتين الآيتين اقترنت بالتفكر والنظر في خلق الله تعالى أحياء وأمواتا.
النظر: وردت هذه اللفظة 129 مرة في القرآن الكريم، في 113 آية ضمن 48 سورة، وقد جاء النظر في القرآن بمعان كثيرة: منها “نظر الرؤية” في قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22-23]، و”الانتظار” كقوله تعالى:﴿ مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾ [يس:49]، ومنها أيضا المعنى الذي يوافق معنى العقل وهو:”الاعتبار والتأمل” كما في قوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران: 137]، وقوله تعالى: ﴿ فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الروم:50].
التدبر: وهو نوع من أنواع التفكر واستعمال العقل، وقد جاء في القرآن الكريم مقترنا بمعجزة محمد عليه الصلاة والسلام: القرآن، ومعناه لغة “التفكير في دبر الأمور”[23]، وكما عرفه الرازي في قوله:”التدبير في الأمر النظر إلى ما تؤول إليه عاقبته، والتدبر التفكر فيه”[24]، وذكر التدبر في أربع مواضع[25] منها قوله تعالى: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء:82]، فاستعمال العقل لا يقتصر على النظر في آيات الله المنظورة، ولكن يكون أيضا بالتدبر في آيات الله المسطورة.
التفقه: من الألفاظ ذات الصلة أيضا بمصطلح العقل في القرآن لفظ:”التفقه” وقد تكرر في القرآن الكريم عشرين مرة في عشرين[26] آية في 12 عشرة سورة، وجاء مرة متصلا بلا النافية، ومرة بأسلوب الترجي، ومنه قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ﴾ [المنافقون: 3].
الرشد: وهو لفظ من الألفاظ ذات الصلة بمصطلح العقل، وذكر في القرآن الكريم تسعة عشر مرة بصيغ متعددة[27]، وهو كما فسره الشيخ محمد متولي الشعراوي: “الرشد: اهتداء العقل إلى الأكمل في الصلاح والأعلى في الخير، بحيث لا يأتي بعد الصلاح فساد، ولا بعد الخير شر”[28]، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186].
ثانيا: من مجالات استعمال العقل:
- دلائل وحدانية الله:
كيف يصل الإنسان إلى دلائل وحدانية الله تعالى؟
سؤال قد يطرحه الصغير قبل الكبير، ويبقى بدليل النص القرآني المجيبُ الأول عن هذه الأسئلة هو العقل لأنه هو القاسم المشترك بين البشرية، فالقرآن الكريم يَعُد “العقل” الوسيلة الناجعة التي توصل الإنسان إلى حقيقة معرفة الله تعالى وإدراك وحدانيته سبحانه وتعالى، ولهذا أيضا نجد دعوة القرآن الكريم إلى استعمال العقل والتدبر في الآفاق والأنفس دعوة ملحة.
ويقدم لنا القرآن الأدلة المقنعة على أن استعمال العقل يوصل إلى وحدانية الله، حين يقف العقل على مجموعة من الأدلة سواء الدلائل الكامنة في الآفاق، أو الدلائل الكامنة في الأنفس:
دلائل الآفاق: يدعو القرآن في الكثير من آيه إلى استعمال العقل بقصد التدبر والنظر في آيات الله الكونية التي تدل على وحدة الصانع، والمدبر الحكيم، يقول الله تعالى:﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ الرعد:[ 2-4]، فهذه الأدلة التي يعرضها النص القرآني من رفع السماوات بغير عمد، وتسخير الشمس والقمر بأجل، ومد الأرض، وغير ذلك من بديع صنعه سبحانه وتعالى، هي موصلة إلى حقيقة وجود الله تعالى، فمن خلال استعمال العقل والنظر في هذا الكون وما يضمه من براهين ساطعة على القدرة الإلهية في إبداع الخلق ينتقل ذوو العقول من دليل العالم الحسي إلى حقيقة العالم المجرد.
والآيات في هذا الموضوع كثيرة، ومنها أيضا قوله تعالى:﴿ أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية: 17-20]، وقوله جل وعلا:﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان: 61-62]، ومنه أيضا قوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ، وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ، وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ، لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة 163- 164]، فهذه الآيات تدل في مجملها أن للعقل قوة فطرية، يفصل بها الإنسان بين الحق والباطل، فالعقل وسيلة للحصول على المعرفة السليمة التي تضمن للإنسان السير بالاتجاه الصحيح.
وفي هذا السياق نستحضر قصة النبي الكريم (عليه السلام) الذي منحه الله عز وجل لقب: “النبي الأمة” في قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 120]، حيث يبدو دور العقل بارزا في إثبات الوحدانية لله تعالى، ففي قصة سيدنا إبراهيم دلالات عظيمة على حسن التدبر والتفكر واستعمال هبة العقل، ليكون قدوة لغيره ممن أنكروا وحدانية الله وأشركوا به جل وعلا، فها هو عليه السلام مرة يستخدم عقله لفهم هذا الكون البديع فيتساءل عن سر البعث وكيفية إحياء الموتى، وتساؤله هذا لم يكن من باب إنكار عقيدة البعث، فهو نبي الله الذي أدى رسالته وبلَّغها، ولكن ليقدم للآخر البرهانَ الحسي على حقيقة هذه العقيدة الغيبية التي يسهل إنكارُها مادامت غير معروفة إلا بالوسائل الإخبارية، ولولا أهمية استعمال العقل في الاستدلال على الحقائق الغيبية بالدلائل المستنبطة من الآفاق لما حكاها لنا القرآن الكريم، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 260]، ومرة يستخدم عليه الصلاة والسلام عقله للاستدلال على وحدانية الخالق، فيصِلُ بنظره الثاقب إلى أن هذه المخلوقات العظيمة تدل على عظمة الخالق ووحدانيته تعالى:﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ *فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي * فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي * فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ * فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 74-79].
دلائل الأنفس: إلى جانب دلائل الآفاق الظاهرة في الكون، والتي تدل على عظمة الخالق ووحدانيته، هناك دلائل أخرى قريبة منا، وهي دلائل الأنفس، والتي جاء ذكرها في ثلاث مواضع في القرآن الكريم:
﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ] [الرّوم/ 8]
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53]
﴿وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ] [الذاريات/ 20-21]
وقد بيّن فخر الدين الرازي في تفسيره المراد من دلائل الأنفس، فقال:” وأما دلائل الأنفس، فالمراد منها دلالة أحوال بدن الإنسان، ودلالة أحوال نفسه على وجود الصانع القادر الحكيم”[29]، فدلائل الأنفس هي كل ما يتعلق بتكوين الإنسان، ومنها التفكر في حسن التركيب في خلق الإنسان، حيث ركَّب فيه أدواتًا لاقتحام باب العلم والعمل وهي السمع والأبصار والأفئدة، فقال تعالى: ﴿وَالله أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاّ الله إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: 78-79]، وكذا التفكر في أطوار ومراحل الخلق [مرحلة الطين، مرحلة النطفة، مرحلة العلقة، مرحلة المضغة، مرحلة العظام واللحم، مرحلة الخلق الآخر…]، والتي بيّنها القرآن في الآية الكريمة: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾ [المؤمنون: 12-15].
وفي قوله تعالى:﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [العنكبوت: 20] دعوة إلى استعمال العقل للبحث عن ماهية الأمور، واكتشاف وفهم طريقة كيفية بدء الخلق، وهي معارف يتوصل إليها عقل الإنسان بالنظر والتفكر للوقوف على عظمة الله تعالى.
فالقرآن الكريم يَعْتبر التدبر في الأنفس والآفاق مصادر للمعرفة، فتأتي دلائل الأنفس تزكي وتكمل دور دلائل الآفاق، لتكون الغاية المعرفية للعقل متحققة ويكون للدليل المجرد سند بالدليل الملموس.
- الأحكام الشرعية:
يقول الحق سبحانه:﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 17-18]، وإتباع أحسن القول يكون باستعمال العقل للتمييز بين الرديء والجيد، ولهذا ترتبط الأحكام الشرعية في الإسلام بالعقل ارتباطا وثيقا، فالشرع يعتبر “العقل مناط التكليف”، والتكليفُ في الفرائض الإسلامية مُوجه إلى الرجال والنساء على حد سواء، وبغيبة العقل يرفع التكليف، فلا تتم العبادات ولا المعاملات إلا بتحقق شرط العقل، وفي هذا يقول الآمدي: “اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون عاقلاً فاهماً للتكليف، لأن التكليف خطاب، وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال كالجماد والبهيمة، ومن وجد له أصل الفهم لأصل الخطاب دون تفاصيله من كونه أمراً ونهياً ومقتضياً للثواب والعقاب، ومن كون الآمر به هو الله تعالى وأنه واجب الطاعة، وكون المأمور به على صفة كذا وكذا كالمجنون والصبي الذي لا يميز، فهو بالنظر إلى فهم التفاصيل كالجماد والبهيمة بالنظر إلى فهم أصل الخطاب، ويتعذر تكليفه أيضاً”[30].
وسمى الشاطبي العقل بـ “مورد التكليف” باعتباره شرطا في التكليف، ومن أهم شروطه، فقال:”مورد التكليف هو العقل، وذلك ثابت قطعا بالاستقراء التام حتى إذا فقد ارتفع التكليف رأسا، وعد فاقده كالبهيمة المهملة، وهذا واضح في اعتبار تصديق العقل بالأدلة في لزوم التكليف فلو جاءت على خلاف ما يقتضيه لكان لزوم التكليف على العاقل أشد من لزومه على المعتوه والصبي والنائم، إذ لا عقل لهؤلاء يصدق، أو لا يصدق بخلاف العاقل الذي يأتيه ما لا يمكن تصديقه به، ولما كان التكليف ساقطا عن هؤلاء لزم أن يكون ساقطا عن العقلاء أيضا، وذلك مناف لوضع الشريعة فكان ما يؤدي إليه باطلا “[31]
وإذا كان العقل هو مناط التكليف في الشريعة الإسلامية، فإن حفظه إذن ضرورة لا غنى عنها ولا تستقيم حياة الناس بدون ذلك[32]، ولذلك جعل الشرع “حفظ العقل” مقصدا من المقاصد العامة إلى جانب حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ المال وحفظ النسل، ووضعه في المرتبة الثالثة بعد الدين والنفس، وحفظ العقل لا يشمل فقط اجتناب ما من شأنه أن يؤثر على سلامة العقل وما يضر به، كتحريم الخمر وما شابهه لأنه يذهب العقل، ولكن شمل أيضا الاعتناء بالصحة السليمة للعقل، بتنمية الملكات العقلية والفكرية، وذلك بالحظ على طلب العلم والمعرفة، حتى يحصل المطلوب من المكلف العاقل وهو تنفيذ مضامين النصوص الشرعية.
- التدبر في آيات القرآن:
بالوقوف على الآيات القرآنية[33]، نجد الحث على استخدام وظائف العقل في فهم القرآن وتدبر معانيه، يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [ص:29]، وصدق ابن القيم إذ قال في كتابه بدائع الفوائد:” فما أشدها من حسرة، وما أعظمها من غبنة على من أفنى أوقاته في طلب العلم، ثم خرج من الدنيا وما فهم حقائق القرآن، ولا باشر قلبه أسراره ومعانيه، ولا يكون هذا إلا عن طريق التدبّر”[34].
والمتدبر للقرآن الكريم يلاحظ أن القرآن، بدعوته للتدبر وحثه على استعمال العقل، قد قدّم طرحا جديدا، جعله يثير عدة تساؤلات حول النصوص الأخرى المتواجدة في ساحة الأديان السماوية، والتي تدعي أنها وحي منزل من عند الله تعالى، فكأنه وضع ميزانا للمقارنة بينه وبين هذه النصوص “توراة وإنجيلا” لمعرفة أي نص من هذه النصوص هو الوحي الحقيقي، كاشفا عن حقيقة مهمة أثبت فيها أن هذه النصوص التي يدعي أهل الكتاب أنها نصوص مقدسة، قد تعرضت لكثير من التغيير والتحريف والتبديل، قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾[آل عمران: 78]، ومع ذلك دعا إلى مجادلتهم بالتي هي أحسن حتى لا يؤجج في قلوبهم العصبية، وهو يوجه لهم أصابع الاتهام في مسؤوليتهم عن هذا التحريف: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾[العنكبوت: 46].
هكذا دعا القرآن إلى تدبر معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، للبحث فيه عن أي اضطراب أو اختلاف أو تعارض، وبيَّن أن لو كان مصدره غير الله لوجد فيه الخصوم اختلافات وتناقضات كثيرة، وكان واضحا وصريحا في هذا الأمر: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]، واضعا بذلك قواعد منهج علمي دقيق لدراسة ونقد النصوص الدينية، وهو منهج نقد المتن، أو النقد الداخلي للنصوص، واعتبر عدم التدبر دليلا على انسداد الفكر وقصور العقل، ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾[محمد: 24]، وفي دعوته إلى تدبر القرآن للتأكد من صحة نسبته إلى الله تعالى دعوةُ ضمنية إلى تدبر كل نص ديني يدعي أنه منزل من عند الله تعالى، للكشف عن حقيقة هذا النص، فإذا تناقض هذا النص، فإن الباحث عن الحقيقة يصل إلى نتيجة حتمية، وهي أن هذا النص ليس نصا منزلا، أو ليس وحيا من عند الله تعالى، بل هو نتاج فعل بشري.
- آثار المهلكين من الأمم السابقة:
يرتبط استعمال النظر العقلي في القرآن الكريم ب “السير في الأرض“، ليكَونا معا نوعا آخر من أنواع الأدلة على وجود خالق سرمدي لهذا الكون، الذي لا يفنى جل وعلا، ولذا نجد القرآن الكريم يحث فيما يزيد عن أكثر من عشرين آية[35] على السير في الأرض، والنظر في عاقبة الأمم السابقة، وتتبع آثارهم باستعمال العقل، للتدبر في تاريخ الأمم الخالية واستخلاص العبر، فيقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج:46].
ويختلف السير في الأرض، فيمكن أن يكون سير سفر وسياحة، بالتنقل بين أرجاء الأرض، أو سير نظر وتفكر وبحث، وكلاهما النوعين مطلوب، وذلك لتتبع أخبار الأمم الخالية والنظر في أحوالهم، باستعمال النظر العقلي وأسلوب التفكر، فيستعين الإنسان العاقل بكل الوسائل الممكنة من علوم إنسانية، وعلوم بحثة للوصول إلى الهدف(كالجيولوجيا والتاريخ والجغرافية والعلوم الطبيعية…)، لأن العبرة والحكمة من دعوة القرآن هي إيقاظ العقل من الغفلة، وتحفيزه على التدبر والتفكر في مآلات الأمم السابقة، ومعرفة سنن الله في كونه، وإدراك قدرته سبحانه في تدبير شؤون خلقه، والامتداد عبر الزمن للكشف عن الحضارات المتعاقبة، وأخذ العبرة من الأمم السابقة.
ولهذا حذَّر الحق سبحانه من الوقوع في نفس الخطأ الذي وقعت فيه أمم سابقة، فقال تعالى: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ * أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [الأعراف: 97-100]، وفي قوله تعالى:﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 109].
فمهمة العاقل هو استخلاص العبرة من أخطاء الأمم السابقة، والعمل الجاد وبذل الجهد لعمارة الأرض وأداء مهمة الاستخلاف، المهمة الأساسية التي تقلد أمانة أدائها الإنسان.
- حقيقة الحياة الدنيا والحياة الآخرة:
الإيمان بالحياة الآخرة في عقيدة المؤمن جزء لا يتجزأ عن الإيمان بالله تعالى، فالفصل بين أركان الإيمان أمر مستحيل، والحياة الآخرة من الأمور الغيبية التي أخبرنا الله تعالى عنها في كتابه العزيز: ﴿ الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ*وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة:1-5].
ويشكل الموت الفاصل بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، وإذا كان الموت نهاية الحياة الأولى فإنه ولادة جديدة في عالم الحياة الثانية، وتحدثت[36] آيات كثيرة عن حتمية الموت وأكدت أنه مصير كل مخلوق كيفما كان… فنفت الخلود عن كل البشر، وأكدت العلاقة القائمة بين النهاية الصغرى للإنسان وهي الموت والنهاية الكبرى التي تكون بفناء العالم ووقوف العالمين بين يدي الله عز وجل يوم القيامة للحساب، قال تعالى:﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [ آل عمران:185].
ولم تكن النبوة حصنا منيعا أمام الموت فالأنبياء أيضا بشر يسري عليهم قانون البشرية، مآلهم لا يختلف عن مآل الآخرين، وبذلك خاطب الله عز وجل نبيَّه الكريم محمد عليه الصلاة والسلام قائلا:﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ﴾ [الأنبياء: 34].
وفي مخاطبته لمنكري عقيدة البعث، يؤكد القرآن الكريم أن هذه الحياة الفانية تتبعها حياة الخلد، لتتحقق فيها العدالة الإلهية، فقال تعالى: ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ* وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [سورة الأنعام: 31-32].
ويرتب على إنكار حقيقة البعث ووجود حياة ثانية بعد البعث عواقب وخيمة، وفي قصة تجبر فرعون وإنكاره لحقيقة هذه الحياة الأخرى بعض ملامح هذه العواقب:﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ* أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ* وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ* يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [غافر: 36-39].
وفي هذه الآيات، التي تتحدث عن هذه الأخبار الغيبية المجردة والأساسية في عقيدة المؤمن، يحث القرآن على استعمال العقل، تلك الملكة التي يميز بها الإنسان بين الحق والباطل، وتفصله بين البهائمية والإنسانية، فالعقل يستطيع إدراك هذه الحقائق باستعمال النظر، ويضرب الله تعالى الأمثلة البارزة لفهم حقيقة الحياة الدنيا والحياة الآخرة، وهي أمثلة يستصيغها العقل البشري، ومنها قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: 5]، يبين القرآن بمنهج عقلي ثبوت حقيقة الحياة الآخرة، فقياسا على وجود حياة دنيوية يخلقها الله عز وجل من عدم، فهناك حياة آخرة يعيد فيها الخالق سبحانه وتعالى الحياة للإنسان، ويمكن للعقل البشري بالنظر في محيطه في مسألة تعاقب الحياة والموت إدراك وفهم العالم المجرد من خلال العالم المشهود، ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 28].
- الأمثال قرآنية:
استعمل القرآن الكريم أسلوبا آخر للحث على استعمال العقل، وهو أسلوب “ضرب الأمثال“، لتقريب المعاني الذهنية وإخراجها من الصور المجردة إلى الصور الحسية الملموسة، وقد أكد القرآن الكريم أن هذه الأمثال موجهة لذوي العقول حتى تفقه معانيها وتدرك مغازيها، فقال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43]، وفي آية أخرى: ﴿ تِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لعلّهُمْ يَتفَكَّرُون﴾ [الحشر: 21]، وفي آية أخرى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [الزمر: 27].
والأمثال جمع مثل، وقد خصص السيوطي في كتابه الإتقان بابا للحديث عن أمثال القرآن، وجمع أقوال العلماء في هذا الباب، ومن هذه الأقوال: “وضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة: التذكير والوعظ، والحث، والزجر، والاعتبار، والتقرير، وتقريب المراد للعقل، وتصويره بصورة المحسوس، فإن الأمثال تصور المعاني بصورة الأشخاص لأنها أثبت في الأذهان لاستعانة الذهن فيها بالحواس، ومن ثم كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالمشاهد”[37].
والمثل في القرآن جاء على وجهين، “أحدهما: بمعنى المثل نحو مشبه ومشبه به، قال بعضهم: وقد يعبر بهما عن وصف الشيء، نحو قوله تعالى: مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ.
والثاني: عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني أي معنى كان، وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة.”[38]
ومن هذه الأمثال التي جاءت في القرآن، قوله تعالى:﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾[العنكبوت: 43]، وفي هذه الآية الكريمة ضرب سبحانه وتعالى لآلهة المشركين ومعبوداتهم المزيفة مثلا بأوهن البيوت وهو بيت العنكبوت، فحال الآلهة المزيفة يشبه حال بيت العنكبوت، إن لم نقل أسوأ منه، فبيت العنكبوت لا يمنع حرا ولا قيظا، بل ينصب لضحاياه شراكا حتى يكونوا طعاما للعنكبوت، وكذا الآلهة المزيفة، فهي لا توفر لأتباعها شيئا، بقدر ما توقعهم في ظلمات الشرك، وتبعدهم عن قارب النجاة وهو توحيد الله تعالى.
ثالثا: ثمار استعمال العقل:
- الهداية.
يصل الإنسان باستعماله للعقل إلى ثمرة من ثمار العقل، وهي ثمرة الهداية، والهداية في اللغة تعني الدلالة والإرشاد، أما في الاصطلاح فمعناها: سلوك الطريق الذي يوصل الإنسان إلى غايته، وهي إتباع شرع الله، وعكسها الغواية والعمى والضلال كما عبر عن ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: 175] وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا﴾ [مريم: 75].
فالإنسان العاقل لا يصل إلى الهداية بالفطرة فقط، وإن كانت هي أول الأمور الموصلة للهداية، إلا أن الفطرة تحتاج إلى الكثير من العناية والصقل، ولكن العقل موصل لا محالة إلى الهداية، وقد رأينا أن استعمال العقل يمَكن من إدراك حقيقة هذا الكون، وبه يستطيع الإنسان الوصول إلى معرفة الخالق القدير الذي خلق كل شيء وأحسن تدبريه، وفي قصة سيرة سيدنا إبراهيم في القرآن دلالة عظيمة على دور العقل في الهداية، وقد سبقت الإشارة إلى هذا الأمر في موضع آخر، ومنها قوله تعالى:﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ* الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ* وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ* وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ [الشعراء: 75-82].
وقد ذكر الراغب الأصفهاني أوجه الهداية وحددها في أربع:”وهداية الله تعالى للإنسان على أربعة أوجه: الأول: الهداية التي عَمَّ بجنسها كل مكلف، من العقل والفطنة والمعارف الضرورية، التي أَعَمَّ منها كلَّ شيءٍ بقَدَرٍ فيه حسب احتماله، كما قال:﴿ ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾ [طه: 50]، الثاني: الهداية التي جعل للناس بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء وإنزال القرآن ونحو ذلك، وهو المقصود بقوله تعالى: ﴿وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا﴾ [الأنبياء: 73]، الثالث: التوفيق الذي يختص به من اهتدى، وهو المعني بقوله تعالى: ﴿والذين اهتدوا زادهم هدى﴾ [محمد: 17]، وقوله: ﴿ومن يؤمن بالله يهد قلبه ﴾ [التغابن: 11]، وقوله: ﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ﴾ [يونس: 9]، وقوله: ﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ﴾ [العنكبوت: 69]، ﴿ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ﴾ [مريم: 76]، ﴿فهدى الله الذين آمنوا ﴾ [البقرة: 213]، ﴿ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾ [البقرة: 213]. الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنة، المعني بقوله: ﴿ سيهديهم ويصلح بالهم ﴾ [محمد: 5] ﴿ ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا: الحمد لله الذي هدانا لهذا﴾ [الأعراف: 43]، وهذه الهدايات الأربع مترتبة، فإن من لم تحصل له الأولى لا تحصل له الثانية، بل لا يصح تكليفه، ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة، ومن حصل له الرابع فقد حصل له الثلاث التي قبلها، ومن حصل له الثالث فقد حصل له اللذان قبله”[39].
- مطابقة العلم للعمل.
إلى جانب ثمرة العقل: الهداية، نجد ثمرة أخرى من ثمار العقل أيضا، وهي تطابق العلم مع العمل، إذ لا يقبل العقل التصرفات المتناقضة، ففي منطق العقل يجب أن يطابق العلم العمل، فإذا تناقضا أو تنافرا، فلا عمل ولا علم بنفس المنطق، وفي التسلسل المنطقي للعقل، العقل موصل إلى العلم والعلم موصل إلى العمل فتكون النتيجة توافق العقيدة والسلوك، يقول الشاطبي:”العلم الذي هو العلم المتعبد شرعا هو العلم الباعث على العمل الذي لا يخلى صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه…”[40].
وفي قول الحق سبحانه:﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ [الإسراء: 36] دليل وإشارة إلى تلازم العلاقة بين العلم ومصادر المعرفة: “البصر والسمع والفؤاد” في جلب الخير والمنفعة، وقد علق الأستاذ مسعود أومري على هذه الآية فقال:” هذا هو المنهج الوحيد الذي يحفظ حرية العقل، ويحميه من أي سلطة خارجية تُحَاول توظيف العقل لمصالحها، وهو المنهج الوحيد الذي لا يخطئ العقل فيه؛ لأنه يتجرد عن الذات، ويتَّبع قوانين ثبت صحتُها بطرق علمية بحتة، ويرفض العقل في هذا المنهج الاعترافَ بنتائج استندتْ إلى فرضيات لم تَثبُت صحتها، ونتائج انطلقت من مسلَّمات ليس عليها برهان”[41].
وفي قوله تعالى ثناء من الله سبحانه تعالى على العلماء وبيان لعظمة منزلتهم: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر: 28]، وهو تأكيد لمكانة العالم الجليلة والعظيمة، والخشية هي الخوف المقرون بالعلم، والعلم موصل إلى الحقيقة لا محالة، ويصقل الفكر والسلوك، وإذا صقل الفكر والسلوك استقام العمل، وصلاح العمل يساوي الخشية الكاملة لله تعالى.
- البعد عن التقليد المذموم.
من المعلوم ما للتقليد المذموم أو التقليد الأعمى من أضرار على الشخص، الذي يضع إتباع الآخرين في أقوالهم وأفعالهم في مرتبة أولى، دون النظر في صحة ما يصدر عن هؤلاء، أو الانتباه إلى أنه ليس كل ما يصدر عن الآخر هو صالح له بالضرورة، ولذلك كان من ثمار العقل أيضا البعد عن التقليد، ونجد القرآن الكريم ذمَّ التقليد في كثير من الآيات، وانتقص من شأن المقلدين لتغييبهم الحجج العقلية، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 170-171]، وقد وقف عباس محمود العقاد مع هذا المفهوم، وبيَّن أن للخرافة سلطة قوية في تعطيل الفهم الصحيح، والابتعاد عن الحق، فهي قادرة على خلق حواجز ذهنية لصد أي فكر جديد، يقول العقاد:” تحرير العقل من سلطان الخرافة وإطلاقه من إسار الأوهام، ومن هنا حرم الإسلام السحر والكهانة والشعوذة وغيرها من أساليب الدجل والخرافة، كما أنه منع على العقل الخوض في الغيبيات من غير سلطان أو علم يأتيه من الوحي المنزل على الأنبياء، واعتبر ذلك مسببا في هدر طاقته من غير طائل، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾”.
خاتمة:
بعد هذه الوقفة مع مصطلح العقل في القرآن واستعمالاته ومعانيه ومرادفاته….، نشير هنا إلى أننا اليوم في حاجة ماسة إلى العودة إلى هذه الملكة المغيبة، مادامت قادرة على إتاحة المجال لقراءة القرآن قراءة تدبرية، تقرب المسافة بيننا وبين القرآن الكريم، المعجزة المعرفية الخالدة، التي كلما زاد التمعن فيها فتحت آفاق المعرفة والأفق اللامحدود للعقل، وفي هذا السياق يقول العلامة عبد الله بن بيه:” لكي نعتقد أو نعمل يجب أن نفهم، ولنفهم علينا أن نفسر، ولنفسر يمكن أن نتأول للمواءمة بين مقتضيات العقل ومدلولات الوحي، فهذه هي معادلة الدلالة اللغوية بالاقتضاء العقلي”[42].
وفي الختام أود أن أسوق هنا كلاما في غاية الأهمية، وهو للأستاذ العقاد، يقول فيه:” وليس التفكير في الإسلام عوضا من النص أو ما يشبه النص في الأحكام، بل هو فريضة منصوص عليها، مطلوبة لذاتها، ولما يتوقف عليها من فهم الفرائض الأخرى، وكلها محظور على المسلم أن يهمله وهو قادر على النهوض بتكاليفه غير مضطر إلى تركه، فإن تركه لغير ضرورة فهو مقصر محاسب على التقصي.”[43].
المراجع والمصادر
- الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، دار الكتاب العربي، طبعة: 1999م.
- الإحكام في أصول الأحكام، علي بن محمد الآمدي، تعليق عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي.
- الإسلام وضرورات الحياة”، عبد الله قادري الأهدل، دار المجتمع للنشر والتوزيع، جدة، الطبعة الثالثة: 2001 هـ.
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، دار الفكر، طبعة: 1415ه/ 1995م.
- بدائع الفوائد، ابن قيم الجوزية، طبعة دار عالم الفوائد.
- البرهان في علوم القرآن، بدر الدين الزركشي، دار المعرفة، طبعة: 1410ه/1990م.
- التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، دار سحنون، تونس.
- تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار طيبة، طبعة: 2002م.
- التفكير فريضة إسلامية، عباس محمود العقاد، نهضة مصر.
- تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع، عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت لبنان، الطبعة الأولى: 2014.
- دليل الأنفس بين القرآن الكريم والعلم الحديث، محمد عز الدين توفيق، دار السلام، الطبعة الرابعة: 2010م.
- دور العقل في فقه النص، الدكتور محمد محمود كالو، مركز الدراسات القرآنية، 2009م.
- العقل وفهم القرآن، الحارث بن أسد المحاسبي، تحقيق د. حسين القوتلي، دار الفكر، الطبعة الأولى: 1391ه/1971م.
- القاموس المحيط، للفيروزآبادي، تحقيق مكتبة تحقيق التراث، مؤسسة الرسالة، لبنان، الطبعة الثامنة: 2005م
- لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت.
- مختار الصحاح، للجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور العطار، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة.
- المسائل في أعمال القلوب والجوارح، الحارث المحاسبي، دار الكتب العلمية، بيروت.
- معجم مقاييس اللغة، لابن فارس الرازي، تحقيق عبد السلام هارون، دار الفكر.
- مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الفكر، لبنان، الطيعة الأولى: 1981م.
- المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، تحقيق مركز الدراسات والبحوث، مكتبة نزار مصطفى الباز.
- منهج القرآن في الرد على المخالفين من اليهود والنصارى، نادية الشرقاوي، دار صفحات للدراسات والنشر، سوريا، الطبعة الأولى: 2010م.
- الموافقات، الشاطبي، دار ابن القيم-دار ابن عفان، طبعة: 1424ه/2003م.
مقالات:
- “خطاب العقل في القرآن.. وعنصر العمل والحركة” زكي الميلاد، عن موقع مجلة عكاظ، منشور بتاريخ الأربعاء 24/09/1432 ه، 24 أغسطس 2011 م، العدد:3720،
http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20110824/Con20110824441407.htm
- تفسير خواطر الشيخ محمد متولي الشعراوي،
[1] التفكير فريضة إسلامية، عباس محمود العقاد، نهضة مصر، الصفحة: 7.
[2] لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت، الجزء الحادي عشر، الصفحة: 458.
[3] معجم مقاييس اللغة، لابن فارس الرازي، تحقيق عبد السلام هارون، دار الفكر، الجزء الرابع، الصفحة: 69،70.
[4] القاموس المحيط، للفيروزبادي، تحقيق مكتبة تحقيق التراث، مؤسسة الرسالة، لبنان، الطبعة الثامنة: 2005م، الصفحة: 1033.
[5] دور العقل في فقه النص، الدكتور محمد محمود كالو، مركز الدراسات القرآنية 2009م، الصفحة 3.
[6] المستصفى من علم الأصول، أبو حامد الغزالي، دراسة وتحقيق حمزة حافظ، المدينة المنورة، الجزء الرابع، الصفحة 70.
[7] يعد الحارث المحاسبي من أوائل علماء الإسلام الذين كتبوا عن العقل وماهيته، وألف كتابا بعنوان: “ماهية العقل ومعناه واختلاف الناس فيه”.
[8]العقل وفهم القرآن، للحارث المحاسبي، تحقيق حسين القوتلي، دار الفكر، الطبعة الأولى 1971م، الصفحة: 201-202.
[9] “المسائل في أعمال القلوب والجوارح” الحارث المحاسبي، دار الكتب العلمية، بيروت، الصفحة: 239.
[10] وردت لفظة “تعقلون” في: البقرة، الآيات: 44-73-76-242، آل عمران، الآيات: 65-118، الأنعام، الآيات: 32-151، الأعراف: 169، يونس: 16، هود:51، يوسف:2-109، الأنبياء: 10- 67، المؤمنون: 80، النور: 61، الشعراء: 28، القصص: 60، يس: 62، الصافات: 138، غافر: 67، الزخرف: 3، الحديد: 17.
[11] وردت لفظة “يعقلون” في: البقرة، الآيات: 164-170-171، المائدة: 58-103، الأنفال: 22، يونس: 42-100، الرعد: 4، النحل: 12-67، الحج: 46، الفرقان: 44، العنكبوت: 35-63، الروم: 24-28، يس: 68، الزمر: 43، الجاثية: 5، الحجرات: 4، الحشر: 14.
[12] وردت لفظة: “عقلوه” مرة واحدة في سورة البقرة: 75.
[13] وردت لفظة ” يعقلها” مرة واحدة في سورة العنكبوت: 43.
[14] وردت لفظة “نعقل” مرة واحدة في سورة الملك: 10.
[15] خطاب العقل في القرآن.. وعنصر العمل والحركة، زكي الميلاد، عن موقع مجلة عكاظ، منشور بتاريخ الأربعاء 24/09/1432 ه، 24 أغسطس 2011 م، العدد:3720،
http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20110824/Con20110824441407.htm
[16] البرهان في علوم القرآن، بدر الدين الزركشي، الجزء الرابع، الصفحة: 60.
[17] دليل الأنفس، محمد عز الدين توفيق، الصفحة: 29.
[18] وردت لفظة التفكر بصيغة “تتفكرون” في البقرة:219-266، الأنعام: 50، “يتفكرون” في آل عمران: 191، الأعراف: 176، يونس: 24، الرعد: 3، النحل: 11-44-69، الروم: 21، الزمر: 42، الجاثية: 13، الحشر: 21، “يتفكروا” في الأعراف: 184، الروم: 8، “تتفكروا” في سبأ: 46، “فكر” في سورة المدثر: 18.
[19] التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، دار سحنون، تونس، الجزء السابع، الصفحة: 244.
[20] المواضع التي وردت فيها لفظة “الألباب”: البقرة: 179، البقرة: 197-269، آل عمران: 7- 190، المائدة: 100، يوسف: 111، الرعد: 19، إبراهيم: 52، ص: 29-43، الزمر: 9-18-21، غافر:54، الطلاق: 10.
[21] المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، دار المعرفة، بيروت لبنان، الصفحة: 575.
[22] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار طيبة، طبعة: 2002م، الجزء الثالث، الصفحة: 300.
[23] المفردات، الأصفهاني، الصفحة: 220.
[24] مختار الصحاح، للجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور العطار، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة، الصفحة: 83.
[25] النساء: 82، المؤمنون: 68، ص: 29، محمد: 24.
[26] النساء: 78، الأنعام: 25-65-98، الأعراف: 179، الأنفال: 65، التوبة: 81-87-122-127، هود: 91، الإسراء: 44-46، الكهف:57-93، طه: 28، الفتح: 15، الحشر: 13، المنافقون: 3-7.
[27] ذكر الرشد في 19 موضع في القرآن الكريم: البقرة: 186-256، النساء: 6، الأعراف: 146، هود: 78-87-97، الكهف: 10-17-24-66، الأنبياء: 51، غافر: 29-38، الحجرات: 7، الجن: 2-14-21.
[28] تفسير خواطر الشيخ محمد متولي الشعراوي لقوله تعالى: “وآتينا إبراهيم رشده”، الأنبياء: 51.
[29] مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الفكر، لبنان، الطيعة الأولى: 1981م، الجزء 27، الصفحة: 85.
[30] الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي، تعليق عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، الجزء الأول: الصفحات: 150- 151.
[31] الموافقات، الشاطبي، دار ابن القيم-دار ابن عفان، طبعة: 1424ه/2003م، الجزء الأول، الصفحة: 209.
[32] الإسلام وضرورات الحياة، عبد الله قادري الأهدل، الصفحة 113.
[33] يمكن الرجوع إلى كتابي: “منهج القرآن في الرد على المخالفين من اليهود والنصارى”، المنشور بدار صفحات، سنة الطبع 2010، الصفحة: 206.
[34] بدائع الفوائد، ابن قيم الجوزية، طبعة دار عالم الفوائد، الجزء الأول، الصفحة: 338.
[35] آل عمران:137/ 191، الأنعام: 6/11، يونس:24/101، يوسف:109، الرعد: 3، النحل: 36/48، الأنبياء: 30، الحج: 46، النمل: 14/69، العنكبوت: 20، الروم: 8-10/21/42، السجدة: 27، فاطر: 44، الزمر: 42، غافر: 21-22/82-84، محمد: 10.
[36] “منهج القرآن”، مرجع سابق، الصفحة 141.
[37] الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، دار الكتاب العربي، طبعة: 1999م، الجزء الثاني، الصفحة: 272.
[38] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، الشنقيطي، دار الفكر، طبعة: 1415ه/ 1995م، الجزء الثامن، الصفحة: 65.
[39] المفردات، الراغب الأصفهاني، ص 538.
[40] الموافقات، الشاطبي، الجزء الأول، الصفحة: 69.
[41] العقل وحرية التفكير في الإسلام، مسعود أومري، مقال منشور بتاريخ: 12-5-2013، بشبكة الألوكة:
http://www.alukah.net/sharia/0/54329/
[42] تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع، عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت لبنان، الطبعة الأولى:2014.
[43] التفكير فريضة إسلامية، العقاد، الصفحة 97.
[…] دراسة موضوعية لمصطلح العقل من القرآن الكريم – مجلة ا… […]