خديم الله الشيخ أحمد بامبا السنغالي – د. محمود خليل -مصر-
خديم الله الشيخ أحمد بامبا السنغالي
رحلة الشيخ أحمد بامبا تمثل صورة للجهاد بالنفس والمال والكلمة والدعوة والتربية.
أحمد بامبا السنغالي رائد مجهول من رواد الأدب الإسلامي الجميل.
جهاد الشيخ أحمد بامبا خديم الله.. دوخ المستعمر الفرنسي لأكثر من نصف قرن من الزمان.
السنغال المسلم… جوهرة إفريقيا… التي فشل المستعمر الفرنسي في سرقتها من أهلها وإسلامها.
القـاهــرة
د. محمود خليل
سيظل أدب اللغات واللهجات الإفريقية مجهولاً – خاصة الأدب الإسلامي – ما لم يتوفر عليه باحثون متخصصون، يعيدون اكتشافه وتقديمه للناس من جديد… وهو أدب واسع وعريض.. وإنساني.. وصادق تم – تدوينه بلغات الهوسا .. والفولاني.. وغيرها من اللغات.. كما تم توارثه باللهجات النوبية والأوجندو وغيرها من اللهجـات…
وأمامنا في هذا المجال الواسع… تراث هام ومشرّف لمسيرة الأدب الإسلامي في العمق والشرق والغرب الإفريقي… وفي الزوايا والمحاضر والخلوات والساحات والدواوين.. وبيوت السلاطين والعلماء وشيوخ القبائل.. كان الأدب الإسلامي بلغته العربية الشريفة هو لسان الحال، وبيان المقال…. وهو ديوان المحفوظات والمنظومات لعلوم الإسلام.. يحفظ مادته… ويحمل قيمة وسط صحارى إفريقيا وفي أدغالها ومجاهلها…. قبل أن تختطف معظم هذه البلدان لحساب المستعمر الغربي وثقافته ولسانه…. الذي يعادي الإسلام ويسلخ أهله منه بمكر خبيث… وتخطيط أخبث….
خديــم الله
من هؤلاء العلماء الأدباء المنسيين الشيخ أحمد بن بامبا بن محمد بن حبيب الله السنغالي… الملقب بخديم الله، والمولود بالسنغال عام 1270هـ الموافق 1854م بقرية “أم بكي”.
نشأ خديم الله نشأة طيبة، حيث حفظ القرآن الكريم، وتمرس بعلوم القراءات والتجويد، وتبحر في علوم الفقه والشريعة والنصوص والحديث، واللغة والعروض والبلاغة والمنطق، ووضع في كل هذه العلوم مؤلفات ورسائل، بل…. ومنظومات وفنون.. أصبحت مرجعًا أساسيًا لطلاب الدراسات الإسلامية في أنحاء إفريقية إلى يوم الناس هذا، خاصة منطقة غرب إفريقيا .. وفي القلب منها السنغال… جوهرة إفريقيا السوداء والتي فشل المستعمر الفرنسي في سرقتها من ديار الإسلام….
كان الشيخ أحمد بامبا من أقوى الأصوات الوطنية السنغالية، المطالبة بالوحدة بين ديار الإسلام…الباذلين في هذا السبيل أموالهم وأمنهم وراحتهم… بل وأنفسهم.. حيث كان الشيخ بامبا رحمة الله عليه في وقت من الأوقات هو المحارب الوحيد أمام المستعمرين الفرنسيين…. ذوي السياسات الإجرامية الاستئصالية لخلع هذه الشعوب من عقيدتها، وسلخها من دينها…. ومن ثم… رأوا في هذا الشيخ أكبر الأخطار التي تهدد وجودهم، وتعجل برحيلهم من ديار السلام والإسلام.. فقد كان الشيخ يجمع مريديه وتلاميذه ويبين لهم أخطار الاستعمار ويغرس في نفوسهم بغضه وكراهيته مهما بدا ظاهره مدنيًا خدميًا راقيًا….. وكان يحض تلاميذه على دراسة الإسلام والتمسك بعقيدته الصحيحة… التي يحارب من خلالها الطرق الواهية التي اتخذها الاستعمار سلمًا للوصول وطريقًا للسيطرة والاستعمار، بل وتفرقة المسلمين…
وكان الشيخ على هذا الطريق.. شعلة لا تهدأ.. وجبلاً لا يتتعتع ولا يهتز مهما كانت طرق الإغواء والإغراء أو الترهيب والتخويف…. حيث كان يرى في كل ذلك تفاهات لا يتلفت إليها….كيف؟..وهو يبث اليقين ويزرع الإخلاص في قلوب مريديه… ولم يجدوا وسيلة إلا نفيه من البلاد…..فتم نفيه إلى كونغو وجابون عام 1895م – 1313هـ إلى عام 1902م – 1320هـ وفي هذا المنفى تدنت سلطات الاحتلال إلى أحط مراتب الوحشية والبربرية.. وارتكبوا ضده جرائم التنكيل والتعذيب.. فلم يزده ذلك إلا صمودًا وثباتًا وصلابة وعزة وجهادًا….
فقاموا بنفيه مرة أخرى إلى موريتانيا…..تحت رعاية الشيخ الموريتاني الكبير “سيدي بيّه” زعيم المسلمين في موريتانيا… والذي كان الشيخ “بامبا” يملأ عينيه وقلبه… جرّاء علمه وصبره وجهاده. فقال الشيخ “سيدي بيّه” في الشيخ أحمد بامبا كثيرًا من المدائح والتقاريظ.. منها قوله:
وما عيبه إلا عبادة ربه ونفع الورى في صحبه ومسائه
ومكث المجاهد الطريد… الشيخ أحمد بامبا بموريتانيا حتى عام 1325 حيث اضطر الاستعمار الفرنسي الغادر إلى إعادته إلى موطنه مرة أخرى، حيث رأوا أن الناس قد أقبلت عليه بموريتانيا من كل مكان… وأصبحت له مدرسة مريدية بالغة الأثر في التربية الإسلامية الصحيحة التي تمثل أرض النهاية للاستعمار…. فأبعدوه داخل السنغال إلى قرية نائية مهجورة يصعب الوصول إليها.. ولكن الله قد أهوى بأنفس الشعبين السنغالي والموريتاني إليه… فاضطر الاستعمار إلى نقله مرة أخرى إلى مدينة “جريل” تحت مراقبة محافظها المشددة.. واستمر ذلك الوضع العصيب من عام 1229هـ إلى عام 1249هـ حيث لحق بعد ذلك الحصار .. ربه عز وجل عام 1903م… بعد رحلة جهادية وعلمية وعملية تزيد على ثلاثة وثلاثين عامًا.. ناله خلالها كل أنواع العنت والتعذيب والتدويخ الاعتقال…. حتى أحال أعداء الله حياته من حوله سجنًا كبيرًا… لكنه كان يجلدهم بقوله الدائم: “كلما ازداد بعض إنسان للمستعمرين المجرمين.. كلما ازداد حبي له، وثقتي فيه”.
أدب التزكية والتربية
ولم تشغل الشيخ عذابات الجهاد، ولم تبتلعه ميادينه.. فقد أسس مدرسة مريدية صحيحة العقيدة… سليمة العبادة وكان دائمًا يردد: ” أن المريد الصادق… سينحدر من صلبه بإذن ربه مريد صادق جديد”…. والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه…. وله في ذلك منظومة طويلة…. يبدأها بقوله:
إليّ قال الله ما لم يكن ولا يكون أبدًا لممكن
كما أسس المساجد الكبرى… وفي مقدمتها المسجد الكبير في “جريل” كما بنى أضخم جامع في إفريقيا حتى الآن، وهو مسجد “طوبى”… بمدينة طوبي، وهو لا يزال شامخًا إلى الآن…
والطريقة المريدية التي أنشأها الشيخ أحمد بامبا السنغالي… هي الأكثر انتشارًا في إفريقيا حيث يمثل مريدوها أكثر من 75% من المسلمين في السنغال.. ولها الكلمة العليا على الحكومة والشعب… وكان الشيخ “أحمد بامبا” شاعرًا أديبًا، وخطيبًا مفوهًا… يقطر حكمة، ويفيض بيانيًا… وله في ذلك تراث ضخم من الأدب الإسلامي النفيس، حيث كان جل مؤلفاته شعرًا.. وله مئات المنظومات بعضها يطول على مئات الأبيات… ومن ذلك أرجوزته التي ينافح ويكافح فيها عن دينه المجيد الذي دوخ المستعمر الفرنسي على طريقة أكثر من نصف قرن من الزمان.. حيث يقول:
الحمد لله على الإيمان ثم على الإسلام والإحسان
وأفضل الصلاة والسلام على الشفيع الحق للأنام
محمد الواجب أن يتبعا في كل ما أتي وما قد شرعا
وآله وصحبه المتبعين سنته بإذن رب العالمين
فإنما العزة للرحمن جميعها وصحبة الإيمان
ومن تعزر بغير الله فهو ذو ذل سفيه لاه
لا تحسبن إلا من الجليل النفع والضرر لذي العقول
فكلما أراد ذو السماء فذاك واقع بلا مراء
فآمنوا بربكم واعتصموا بجبله وأخلصوا تغتنموا
قلت لكم منبهًا يا قومي انتبهوا من سكرات النوم
ويل لمن إلى اليهود مـالا لكي ينال مكنة ومـالا
ويمضي الشيخ في أرجوزته الطويلة… الجامعة الصفات السلوك وواجبات السير على الطريق المريدي السمح المجاهد الشريف.. إلى أن يقول:
لأن من يتبع محمـدًا عليه خير الصلوات سرمدا
فقولـــه لن يحمــدا وإنما مصيره إلى الردى
أما الذي أحبه ثم اقتـدى بشرعــه ففائز به غدًا
رضوان الله على “خديم الله” ….الشيخ المجاهد المؤسس… المربي العالم الصابر المحتسب الشيخ “أحمد بامبا” بن محمد حبيب الله السنغالي الذي لقي ربه بعد طول جهاد وعلم وتربية عام 1927م وهو رهن الإقامة الجبرية من سلطات الاحتلال الفرنسي الآثيم.