العالم الإسلامي والتفاعل المعاصر . د.محمد المرابط -المغرب-
العالم الإسلامي والتفاعل المعاصر
نحو بناء وحدة ورؤية إسلاميتين
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن الناظر في تراثنا العربي الإسلامي، لا يجد مصطلح “العالم الإسلامي” بل يجد مصطلحا آخر وهو”دار الإسلام”، الذي كان يعبر عن البلاد التي دخلها الإسلام أو البلاد التي تحت حكم الإسلام، وأول من وضع مصلح” العالم الإسلامي” في رأي الباحث المغربي عبد القادر الإدريسي هم المستشرقون، حيث يقول:”مصطلح”العالم الإسلامي “ظهر على أقلام المستشرقين الذين كانوا في طليعة الجيوش الاستعمارية التي احتلت معظم البلدان الإسلامية.وكانت تصدر في مطلع القرن العشرين، مجلة في أوربا بهذا الاسم.ونشر كاتب أمريكي في العشرينيات، كتابا بعنوان”حاضر العالم الإسلامي” ( ).
وهناك من يرى أن مفهوم “العالم الإسلامي”، غير جامع مانع، والمفهوم الأشمل، هو مفهوم “الأمة الإسلامية”باعتباره يشمل كل أفراد الأمة الإسلامية، في العالم كله، فهو بهذا الاعتبار لا يعني “مجموعة من الدول، تربطها علاقات سياسية واقتصادية وثقافية طيبة، لا، الأمة الإسلامية شيء آخر، الأمة الإسلامية كيان واحد وجسد واحد وروح واحدة”( ).
فمفهوم “الأمة الإسلامية” يراد به الكيف قبل الكم، أي الروح قبل الجسد، والكيف يأخذ في الاعتبار طبيعة بناء الفرد والجماعة، الأمة، والحضارة، وهذا”الكيف” يبنى أساسا على الدعوة القرآنية الربانية، يقول الله تعالى:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ( )
والمقصود بالأخوة هاهنا الأخوة “في الدين والحرمة، لا في النسب…وأخوة الدين أثبت من أخوة النسب”( )، وقول النبي صلى الله عليه وسلم :
(مثل المسلمين في توادهم، وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى) ( ).
والقرآن الكريم والسنة النبوية (الشريعة)، معيار الفعل الإسلامي، النظري والعملي، أما التجارب السابقة في التفاعل الإسلامي (الذاتي والغيري) فيجب أن ننظر إليها باعتبارها تجربة بشرية، فهي حسنة (إيجابية) بقدر قربها من الروح الإسلامية، والعكس صحيح، والأمة الإسلامية أصيبت في مرحلة من مراحلها بمشاكل قاتلة أثقلت كاهلها، وأعاقت حركتها، وفي هذا السياق يتساءل فيلسوف الحضارة مالك بن نبي، فيقول: “ما السبيل إلى أن يتحرك العالم الإسلامي تحت أوزار القرون، وأثقال التقاليد، والعادات المتخلفة المتراكمة”؟( ).
والجواب في رأيه، أن الأمة الإسلامية،”بحاجة إلى فكر ثوري كفكر (جمال الدين) يدعو إلى الهدم من أجل إعادة البناء، أو إلى فكر منهجي يجري عمليات التشذيب الضرورية لتحرير النظام القائم من أوزار التقاليد، على أساس منهج مرسوم، وكان لابد أولاً من إحصاء تلك العمليات الضرورية بأن يميز المصلحون خبيث (التقاليد) من طيبها”( ).
والقارئ لكتابه “وجهة العالم الإسلامي ” يجد مالك ابن نبي، يبحث فيه عن المشاكل المشتركة بين دول العالم الإسلامي، فـ”يستعرض تاريخها منذ ظهور الإسلام، والمراحل التي مرت بها، ثم يقف بنا طويلاً في العقدة الأساسية في المرحلة الحاضرة من مراحل الإنسانية، ويوسع حينئذٍ مسرح المأساة ليرينا إياها في صورتها العالمية، ويوقفنا على مأساة الإنسانية التي تمثل على مسرح العالم، في جانبها الأوربي الأمريكي، وفي جانبها الإسلامي، بل يرينا من بعيد وجهها الهندوكي البوذي؛ كل ذلك ليدلنا على المخرج وعلى حل العقدة بنور يسلطه على المجتمع الإسلامي، وعلى هذه الرقعة من العالم التي تمتد من مراكش إلى إندونيسيا”( ).
يعطي مثالا يبرهن به/فيه على أن العالم الإسلامي يعاني من نفس المشاكل، حيث يقول:”وليس من قبيل المصادفة أن نرى (الحاوي) يجمع حوله الأطفال في سمرقند وفي مراكش، وهو يلوح لهم بثعابينه، إن معنى هذا أن مشكلة العالم الإسلامي واحدة”( ).
ولهذه المشاكل – الإسلامية – قاسم مشترك في رأي مالك بن نبي، وهو”انقلاب القيم الإسلامية الحقة إلى أشياء لا قيمة لها.لم يكن الانقلاب فجائياً، إذ هو النهاية البعيدة للانفصال الذي حدث في (صفين)، فأحل السلطة العصبية محل الحكومة الديمقراطية الخليفية، فخلق بذلك هوة بين الدولة وبين الضمير الشعبي، وكان ذلك الانفصال يحتوي في داخله جميع أنواع التمزق، والمناقضات السياسية المقبلة في قلب العالم الإسلامي”( ).
وبناء على المشاكل التاريخية والتكالب الغربي، أصيب العالم الإسلامي في القرن الماضي -وما زال إلى اليوم- بضعف كبير أدى إلى “حالة من التشرذم والفرقة ليست بين الحكومات وحدها، بل حتى بين الشعوب التي ساعدت في توسيع الخرق، وتعميق الجرح بالاستجابة للسياسات المتبعة في تأصيل العنصرية والحمية والتعصب للجنسية” ( )، وهذا ما جعل العالم الإسلامي يفقد “توازنه الأولي، على الرغم من بقاء الفرد المسلم متمسكا في قرارة نفسه بعقيدته التي نبض بها قلبه المؤمن”( )، الأمر الذي يجعلنا نقول أن الوحدة الإسلامية القرآنية قابلة للتفعيل مرة أخرى، في ظل الحكمة والعقلانية ونبذ رواسب الجاهلية، والعمل على وحدة إسلامية، قائمة على قول الله تعالى:
– (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ( )
– (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ( )
والحديث عن الوحدة العربية الإسلامية، يدفعنا إلى التفكير في أهم الطرق لتفعيلها، والاستفادة من التجارب “التوحيدية” السابقة والناجحة، ذاتية أو غيرية.
فالوحدة بشكل عام، تعني: “اتحاد الدول أو البلاد، والأفراد والجماعات لسائر أمور حياتهم ومعاشهم وسيرتهم وغايتهم، وبموجب هذه الوحدة يصبح الجميع شيئا واحدا أو أمة واحدة يقال اتحاد البلدان، اتحد البلدان أي صارا بلدًا واحدًا”( ).
أما الوحدة الإسلامية، بشكل خاص، فتعني: أن المسلمين”جسد واحد، جسد يده في السودان ومصر والجزائر والمغرب، ورجله في سوريا ونيجيريا وباكستان والعراق، كبده في السنغال ومالي واليمن وقطر، عينه في الشيشان وكشمير والأردن وأندونيسيا، أذنه في البوسنة وتركيا ماليزيا والكويت والنيجر، قلبه في مكة والمدينة والقدس “( ).
هذا يدفعنا إلى الحوار والتعاون “على أساس المبادئ المشتركة الثابتة والأكيدة واتخاذ موقف موحد من أجل تحقيق الأهداف والمصالح العليا للأمة الإسلامية “.( ).
والأمة الإسلامية، روح وجسد، وقد بين البروفسور أبو يعرب المرزوقي، طبيعة روح الأمة الإسلامية وجسدها، بقوله :
– “جسد الأمة: هو جغرافيتها التي تحققت خلال ملحمتها بفضل ما لها من قوة على حماية كيانها ورعايته
– وروح الأمة: هي تاريخها الذي تعينت ملحمته في ما حازته من مكان خلال حفظ بقائها وحمايته” ( ).
ولإحياء جسد الأمة وروحها، لا بد من ” البدء بتجديد الإنسان منها إلى الاندفاع في تشييد العمران، نظرا لأن هذا التشييد المادي، بموجب آلية الأفعال العقلية التي يقوم عليها، يكون أيسر من التجديد الذي يوجب استبدال قيم حية بقيم ميّتة، بل يزداد يسراً إذا ما تقدَّمه هذا التجديد المعنوي”( )، لأن الاهتمام بالجانب العمراني فقط أو تغليبه يفقدنا توازن البناء المستقبلي الجاد، الذي يبنى على القيم والأخلاق الإسلامية في بعدها الكوني، بالمعرفة، إذ المعرفة أساس الحركة الفعالة، فبها تكون فاعلا، لا مفعولا.
لكن بناء الجسد بمعزل عن الروح، يعني وجود خلل في البناء الطبيعي للأمة، ومن الأدلة على ذلك، فـإن “الدول العربية أنفقت بين عامي 1980 ،2000 نحو 2500 مليار دولار في بناء المصانع والبنية التحتية. مقابل ما يقترب من الصفر في الإنفاق على الشأن المعرفي. ما يذهل في ذلك الرقم، ليس ضخامته ولكن انعدام مردوديته على الفرد العربي، فقد انخفض الناتج المحلي للفرد عربيا بدل أن يرتفع بسبب تلك الاستثمارات، لان ما حصل في الواقع هو نقل لوسائل الإنتاج وليس لإتقانها بما تتضمنه من أبعاد علمية ومعرفية يمكن البناء عليها لاحقا” ( ).
فكما يستثمر المسلمون في العمران بكل تجلياته وصوره، يجب أن يعطوا ” قيمة للاستثمار في الروح و قيمة الإنسان كيفما كانت نوعية حياته وكرامته، هذه هي التنمية الحقيقية، هذا هو التقدم، أما الباقي فهو بيع وشراء” كما يقول البروفسور المغربي المهدي المنجرة رحمه الله( ).
إن الوحدة التي نتحدث عنها، تتميز بكونها معنوية في الأساس وليست مادية، وإن كانت لها نتائج مادية ومعنوية في آن واحد، ولتحقيق هذه الوحدة، وجب التسليم بأمرين اثنين:
الأمر الأول: تقديم البناء المعنوي، الذي يقوم على:
– البناء الأخلاقي
– و تحمل المسؤولية
– والإحساس بالأمانة
– والوفاء بالعهود
– والبناء المعرفي (الماضي والحاضر والمستقبل )
الأمر الثاني: أن القوى العالمية اليوم تتحرك بدافع قيمي، وما نراه من صراع سياسي واقتصادي وعسكري، فهو في الأساس مجرد وسائل استبدلتها تلك القوى بوسائل أخرى قديمة، فأمريكا مثلا، وصل بها الحد إلى استعمال الحرب”القتال” في سبيل “التبشير” بقيمها في العالم، التي تسميها “القيم الأمريكية”.
وهذا يدفعنا بعد إعداد العدة “القيمية” التي دعا إليها الإسلام، إلى بناء العدة المادية و”الأقومية” في بعدها الاعتباري العالمي، والتي تحدد موقع الأمة في خريطة العالم بكل أبعادها.
ولمعرفة واقع العالم الإسلامي الحالي، يجب أن نلقي نظرة ولو سريعة على واقعنا في الماضي، فإن مما لا شك فيه، أن العالم العربي- الإسلامي عرف عبر التاريخ وحدة وتوحيدا، مع ما كان فيها من “قلاقل” ومشاكل، إلا أنه ظل متماسكا في الغالب، إلى أن أتى عليه المستعمر -في بداية الأمر بطرق “ناعمة”-، فأوقعه ببعضه البعض، وراح – وما زال – يتفرج ويدرس الوضع لصالحة، فعرف/ يعرف مكامن الضعف، والتي من خلالها وعليها بنى/ يبنى تصوره العام من اجل المستقبل، ففرق/يفرق، وتحكم/ يتحكم بطرق مباشرة وغير مباشرة، وعمل/ يعمل على إيقاظ النزعة الجاهلية، والتي جاء القرآن الكريم للقطع معها، وعمل النبي صلى الله عليه وسلم على مسحها، وأبدلها بما هو خير منها، وهي الأخوة الإسلامية .
والعالم الإسلامي اليوم كما يقول فيلسوف الحضارة مالك بن نبي “خليط من بقايا موروثة عن عصر ما بعد الموحدين، وأجلاب ثقافية حديثة جاء بها تيار الإصلاح، وتيار الحركة الحديثة، وهو خليط لم يصدر- كما رأينا- عن توجيه واع، أو تخطيط علمي، وإنما هو مجموعة من رواسب قديمة لم تصف من طابع القدم، ومستحدثات لم تتم تنقيتها. هذا التلفيق لعناصر من عصور مختلفة، ومن ثقافات متباينة، دون أدنى رباط طبيعي أو منطقي يربط بينها”( ).
فالمسلمون لم يستفيدوا من التاريخ قدر استفادة غيرهم منه، ولم يستفيدوا من الحاضر بمعناه الوجودي الكلي، بل ظلوا رهائن لنزوات نفسية(الشرية-الأمارة)، ودخلوا في حرب مباشرة، وغير مباشرة، والمتأمل في من يقوم بهذا، يجد أنهم سيطروا واستولوا على الشرعية، وشرعوا لأنفسهم بما ومن معهم من المشَرعَة فنتجت عن ذلك، فوضى.
و”مهما يكن أمر الفوضى الراهنة في العالم الإسلامي، فمن الممكن أن نتلمس فيه اتجاهين ليسا في طبيعة واحدة،
– أما أولهما، طابع تاريخي، وهو ناتج عن تأثير القوى الداخلية التي تظهر في صورة فعل ورد فعل للاستعمار ولقابليته،… تتمثل في: حركة الإصلاح، والحركة الحديثة، وهما اللتان تخلعان على العالم الإسلامي صورته الحديثة،
– وأما ثانيهما: فمع أنه لا يمكن فصله عن التطور التاريخي، فإنه يتمثل في صورة جد مختلفة، تعود هذه المرة إلى الظواهر الكبرى لانتقال الحضارة في مستواها العالمي:.. أنه يتصل بانتقال مركز الجاذبية من حوض البحر الأبيض المتوسط إلى آسيا.
ولا ريب في أنه يمكننا أن نعد انتهاء تركز هذه الجاذبية في الشرق، إحدى الظواهر الجوهرية في السنوات الخمسين الأخيرة، لقد انتهى تركّز العالم على شواطئ البحر الأبيض، وكان من أثر الحربين العالميتين أن اتخذ العالم شكلاً مخروطياً ذا قطبين: أحدهما في الشرق والآخر في الغرب “( ).
إن واقع دول العالم العربي – الإسلامي، رسمه المستعمر جغرافيا، بناء على العرق والدين واللغة، يعني حاول إحياء صبغة ما قبل الإسلام،بـ(الصحراء المغربية)، (الأكراد)، (كشمير)…لكن وإن حصل هذا بتعاون مع (قوى داخل جسم الأمة الإسلامية)، فإن الشعوب لا تؤمن بهذا، ونرى اليوم بعض(الحكام) الذين يتمتعون بالشرعية يتبنون نفس طرح الشعوب العربية الإسلامية.
الأمر الذي يدعو أولي الألباب، في العالم الإسلامي، في جميع مجالات الحياة، إلى توحيد الهدف، والجهود، من أجل معرفة الذات، ومعرفة الذات لا تتحقق، إلا إذا تخلصنا من آثار الاستشراق، (السلبي)، والتغريب، والتصالح مع الماضي (التراث)، وتجاوز النظرة الدونية للذات، وبعد هذا، -ونحن على الحال الراهن-، يجب الانتقال، من الذات، إلى معرفة الآخر( الغرب)، ومعرفتنا للآخر ، ليس من باب الترف، لا، بل هي من باب معرفة الذات فيه، من جهة، وبناء على كونه نهل منا، في “العصور الوسطى”، وفي فترة “الاستعمار”، ولا يزال، ومن جهة ثانية.
كما يجب معرفته، لكونه تقدم مادية، ومن ثم الاستفادة منه، والتسلح للمستقبل، حتى لا يتكرر الاستعمار بطرق أخرى (لا اقصد الفكري والسياسي والاقتصادي).
والله ولى التوفيق
محمد بن العلمي المرابط
أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي- الفلسفة
باحث في الفكر الإسلامي
المغرب