حصريا

الإسلام بين التنظير والممارسة فيى ألمانيا-د. موراد حرمان-المغرب-

0 121

لقد عرفت العلاقات بين الشرق والغرب مراحل تاريخية متعددة، أسفرت عنها دراسات وتوجهات فكرية مختلفة، فبعد أن كان الغرب مضطرا للدفاع عن نفسه أمام تقدم الحضارة الإسلامية، إلى حدود القرون الوسطى، عرف العالم بعد ذلك توجها فلسفيا تحكم في العلاقات بينهما وأدى إلى فتح باب الحوار بين المسيحية والإسلام، رغم طغيان المصالح الاقتصادية في توجه الغرب، وهو ما تجلى بوضح في القرن الثامن عشر الذي عرف تفوق العالم الغربي على العالم الإسلامي في المجالات الثقافية والسياسية والاجتماعية والعسكرية، توج باستعمار الأول للثاني، ومن تمة السيطرة على المخطوطات الفكرية والعلمية الإسلامية، مما أتاح لمفكري الغرب إعادة قراءة الفكر الإسلامي في مختلف مجالاته، وهو ما تجلى في دراسات المستشرقين على وجه الخصوص، ومن أبرزها ما أنتج في ألمانيا. فكيف ظهرت هذه الدراسات؟ وما هي أهم المراحل التي عرفتها؟ وماهي أبرز مميزاتها؟ وماهي التطورات التي نتجت عن انتشار الفكر الإسلامي في ألمانيا؟ وما هي تجليات حضور الإسلام في ألمانيا المعاصرة؟
لقد انطلق الاستشراق الألماني كغيره ضمن إطار الرغبة في تحقيق مصالح سياسية واقتصادية، إضافة إلى دوافع الرد على الإسلام، وتنشيط المذاهب المسيحية في العالم الشرقي تحت مظلة التبشير، وتمثلت خطواته الأولى في القرن (15) بجمع المخطوطات الشرقية، وتخصيص كراسي لتدريس اللغات السامية في جامعات ألمانيا، إلا أن قيام الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر( 1521م) كان له أثرٌ في تغيير تلك التوجهات، التي تحددت بتركها العالم الديني والثقافي للكاثوليكية، وإزالتها لظواهر الطابع الثقافي المتصل بالتوراة وقراءته، ووترجمته، وتفسيره في تشريعها الديني الخاص. وقد اتكأت دراسة المستشرقين الألمان العلمية على مخطوطات مكتبة بوستل في مدينة (فالس)، حيث لمع في هذا الوقت عدد من المستشرقين منهم: يعقوب كريستمان ،وعمانوئيل ترميليوس..
وفي القرن الثامن عشر الميلادي نقل بعض المستشرقين الألمان اللغات الشرقية التي تعلموها في هولندا، إلى جامعاتهم، و أنشؤوا مدرسة لها في برلين سنة (1305هـ/1887م)، ومن أبرز هؤلاء جوهان ميخائيليس.
أما في القرن التاسع فقد ازدهر هذا الاستشراق وتطور بانتقاله من دراسة اللغات الى جمع وتحقيق النصوص، ودراسة جغرافيا وتاريخ، وسياسة، واجتماع، وأديان البلدان الشرقية، وأولى عناية خاصة للتراث العربي الإسلامي، فضلاً عن استحداث كراسي اللغات الشرقية في الجامعات الألمانية، وإقامة متحف للفن الإسلامي في برلين (1322هـ/1904م)، احتوى على مصحف نادر من القرن السابع الهجري (السادس عشر الميلادي) مكتوب بالخط الفارسي.
وإذا كان المستشرقون الأروبيون ــ بشكل عام ــ عملوا تحت الإرادة السياسية والدينية لبلدانهم، فإنّ المستشرقين الألمان كانوا على صلة بمناهج أوربا وتطورها أكثر من صلتهم بالسياسية الاستعمارية لبلدهم، لذا كان الفرق واضحاً في طبيعة بحوثهم ودراساتهم حول الشرق والإسلام. وهو ما تجلى في الأسس التي اتبعوها في دراسة التاريخ الإسلامي، والمتمثلة في: المنهج الفيلولوجي والمذهب التاريخاني. اللذين طبقا في تحقيق مصادر السيرة والمغازي وعلوم القرآن، وقد أولى هؤلاء السيرة النبوية الشريفة اهتماما خاصا في بحوثهم ودراستهم، وتناولوها بأساليب تحليلية ونقدية تابعة لثقافتهم ورؤيتهم، وابتعدوا عن أساليب كتابات القرون الوسطى .
ومع بداية القرن العشرين ظهرت بعض الدراسات المعتدلة، تضمنت مستويات مقبولة من الإنصاف للتاريخ الإسلامي، والسيرة النبوية الشريفة. ولعل السبب في ذلك حيازة المستشرقين الألمان لمصادر ومخطوطات المسلمين، حيث اتخذت دراساتهم للتاريخ الإسلامي طابعا شموليا، ومن أبرزهم “رايكسه” صاحب كتاب (المدخل إلى التاريخ الإسلامي).
لقد عرف القرن الماضي علاقات متعددة بين الشرق المسلم والغرب المسيحي، ترتب عنها هجرة الآلاف من المسلمين إلى البلدان الأوروبية من أجل العمل، لكن هؤلاء المهاجرين حملوا معهم ثقافتهم الدينية وظلوا يمارسون طقوسهم الدينية بشيء من التستر والإحساس بغربة ثقافتهم وسط أوروبا، وقد كانت ألمانيا من أبرز الدول التي عرفت نموا كبيرا وتزايدا للمهاجرين المسلمين، ما ساعد على ظهور نمط اجتماعي جديد فيها.
إن حياة المسلمين في ألمانيا أيضا لا تتحرك فقط ما بين قطبي الليبرالية والأصولي، بل نجد أن الأوساط المسلمة، حالها حال الشعب الألماني المكون لأغلبية السكان، حيث تتعدد أنماط الحياة وتختلف المواقف والآراء السياسية والاجتماعية والدينية، فإلى جانب المسلمين الملتزمين، هناك غير المتديين أو من لا يحملون خلفية إسلامية، ومنهم من تخضع ممارساتهم الدينية لتذبذبات كبيرة ومتفاوتة، حسب الحالات المختلفة التي تمر بها حياتهم، من أعياد ومناسبات دينية، يتوجب عليهم المشاركة فيها إلى جانب أهاليهم..
هذا الاحتلاف والتنوع، وهذا التعدد، جعل جهات كثيرة تشارك في رسم صورة الإسلام في ألمانيا ومنها: المدارس والمؤسسات التربوية، ووسائل الإعلام، والمنظمات غير الحكومية، وجهات علمية مختلفة، ومنظمات المهاجرين، والكنائس المسيحية، والطوائف الدينية الأخرى، وكذلك الرابطات الإسلامية، وأخيرا بالمعنى الواسع كل أولئك ــ مسلمين أو غير مسلمين ــ الذين ساهموا ويساهمون في الجدل الدائر حول حياة المسلمين في هذا البلد، وهو ما جعل الدولة تستوعب هذه المسؤولية الملقاة على عاتقها، وبالتالي تعمل على سن قوانين، تتماشى مع القانون الدولي، وتسهر على تطبيقها، لضمان حرية التدين، وحفظ حقوق الإنسان، وذلك عن طريق تكريس مبدأ حظر التمييز بين فئات الشعب المختلفة .
وبناء على هذا أصبحت الدولة مطالبة ــ بوجه خاص ــ بالتصدي بفعالية لكل أشكال التفرقة والتحيز والتمييز، أي الأحكام المسبقة والنظرة السلبية النمطية للإنسان المسلم وغير المسلم في أوروبا.
لقد حرصت الدولة الألمانية على دمج مثل هذه المبادئ في البنية الثقافية والسياسة والتربوية للمجتمع، بغية الحفاظ على الأمن والاستقرار الداخلي، وهي محاولات ساهمت في تبديد المخاوف السائدة إزاء الإسلام والمسلمين.
هذه الجهود الرامية إلى التغلب على الصور النمطية السلبية التي تدعو الى رهاب الإسلام، كان لا بد من أن تنطلق من نقطة الاعتراف بالحقيقة البسيطة، وهي أن الإسلام قد أضحى دينا دائم الوجود في المجتمع الألماني، وهي حقيقة تخالف ما كان سائدا في تسعينيات القرن الماضي، فكان لابد من الإدماج المستدام للمسلمين في المجتمع، وجعل حرية التدين حقا لكل مواطن ألماني بغض النظر عن عرقه ولونه.، ودينه.
لقد أسفر التوجه الساعي إلى دمج كل الفئات ــ على اختلاف مشاربها ــ عن تحول عميق في بنية المجتمع الألماني خلال السنوات الأخيرة، حيث أقر وزير الداخلية الألماني “شوبيله” ــ خلال الفترة التحضيرية لانعقاد المؤتمر الإسلامي الأول الذي دعا له ــ بهذا المسعى، حيث قال: “يعيش في هذا البلد قرابة ثلاثة ملايين مسلم ولكن ليست لنا أية علاقة مع الجالية الإسلامية بأطيافها المتعددة بالرغم من أنها جزء لا يتجزأ من مجتمعنا”.
وهو إقرار سياسي بالحضور الدائم للحياة الإسلامية في ألمانيا، الذي لا يجيز أية ازدواجية، ويقر بتكامل الأنظمة المختلفة، بكل ما لها من قيم ديمقراطية ليبرالية. وهو اعتراف ترتب عنه قبول الممارسته العلنية للإسلام في هذا البلد، باعتباره جزءا من حرية التدين المضمونة بالدستور والقانون الدولي. فكان من أبرز آثاره الاعتراف بالتواجد الدائم للأقليات المسلمة، بناء المساجد ودور للعبادة، والسعي إدخال تدريس الدين الاسلامي في المنهاج الدراسي الرسمي، وهو مسعى مهم تلقى ترحيبا واهتماما من لدن الكثير من أولياء أمور الطلاب المسلمين، وأصحاب الحريات العقدية والفردية.

المراجع:
1. ستيفان فايدنر، ترجمة رشيد بوطيب، خطاب ضد الإسلاموفوبيا في ألمانيا والغرب، مناهضة بيغيدا، منتدى العلاقات العربية والدولية، ط1، 2016، دار الكتب القطرية.
2. الشيخ طه الولي، الإسلام والمسلمون في ألمانيا بين الأمس واليوم، دار الفتح للطباعة والنشر، مكتبة المهتدين، ط1 1386ه/ 1966م، بيروت.
3. هاينر، بيليفيلد، ترجمة: فادية فضة وحامد فضل الله، صورة الإسلام في ألمانيا، تعامل الرأي العام مع الخوف من الإسلام، مقال رقم 7، نموز/ يوليو 2008، المعهد الألماني لحقوق الإنسان، برلين.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.