الأمة الإسلامية والحاجة إلى ثقافة الاختلاف
الأمة الإسلامية والحاجة إلى ثقافة الاختلاف
الجزء الأول
الدكتور محمد شاكر المودني
أستاذ التعليم العالي – مكناس/المغرب
إن المتتبع اليوم لأحوال الأمة الإسلامية يستطيع الوقوف بيسر على مدى ما وصلت إليه من الفرقة والتجزئة، وعدم قدرة الكثيرين -أفرادا وجماعات، مذاهب وطوائف، مؤسسات ودولا- على الاتصال والتواصل بله التعايش والتساكن أو التكتل والتعاون، وأحينا لمجرد الاختلاف في الرأي والتباين في التقدير، فيتطور الاختلاف إلى صراع وشتات، وقد ينتهي إلى عداء وتقاتل..، والمؤسف دائما حين يكون هذا الحال في المسلمين، ويكون من الدين المنطلق، وعلى تأويل نصوصه المستند والمرتكز..، في وقت يعرف فيه العالم التوحد والتكتل على أسس مختلفة سياسية أو اقتصادية أو علمية أو اجتماعية بل أحيانا عرقية؛ حتى أصبحنا نرى الاتحادات، والتحالفات، والمنظمات الدولية، والشركات العابرة للدول والقارات، ومواقع التواصل الاجتماعي.. حيث تحطمت كل الحدود والحواجز على أرض التواصل والتحالف والتكتل.
ولهذا نقول إن الحاجة ماسة اليوم أكثر من أي وقت مضى لتكاثف الجهود لإرساء ثقافة الوحدة والحوار والتعاون والتكتل لرأب الصدع ولَمِّ شعث الأمة وتوجيه إمكاناتها وطاقاتها.
والحاجة تزداد أكثر إلى إعادة صياغة المفاهيم، ومن ثم إعادة صياغة وتشكيل العقل المسلم وإخراجه من أزمته التي طالت على مستوى الإنتاج والإبداع والاستجابة للتحديات الفكرية والقضايا التجديدية وبناء مفاهيم الإعمار كمت جاء بها القرآن الكريم في خطوة نحو استعادة الأمة لدورها الحضاري ومقامها الريادي..
وكم من المفاهيم اليوم عدت عليها أفهام الناس وتنزيلاتهم وتأويلاتهم، وعاداتهم واستعداداتهم.. (كمفهومالجهاد، والوسطية…)، حتى أخرجتها عن حقيقتها وطبيعتها ومقاصدها، فتحولت من أداة لبناء الإنسان والعمران، إلى معول هدم يعيث في الأرض فسادا يخرب البلاد والعباد..، ولعل مفهوم الاختلاف من تلك المفاهيم التي تحتاج إلى بعث ونظر وتأسيس جديد يؤسس لثقافة التعايش..، بدلا من ثقافة العنف التيطالتكثيرا من البلاد وخاصة الإسلامية منها، حتى وجدنا من يدعو للعنف ويمارسه، بل ويؤسس لصناعة الموت، والمؤسف أن يكون ذلك باسم الدين، مما يقتضي منا وقفة أو وقفات لإعادة الأمور إلى نصابها، وإعادة المفاهيم إلى صفائها وجمالها وفاعليتها.
والاختلاف من المفاهيم البانية التي تحتاج إلى وقفات للتنبيه على أهميته، ولأنه أحد المداخل المهمة لمعالجة ظاهرة العنف العالمية، ولمعالجة كثير من الانحراف والخلل في البنية الفكرية والمنهجية للعقل المسلم، وباعتباره مدخلا رئيسا لإرساء ثقافة التعايش، فضلا عن كونه أحد المجالات العلمية والدعائم الأخلاقية والمنهجية في بناء الإنسان.
- ماذا يعني الحديث عن الاختلاف؟
إن الحديث عن الاختلاف لا يعني إرساء ثقافة التجزئة والتفرقة والتشتت بديلا عن الوحدة المطلوبة؛
- بل هو أساسا طريق إلى وحدة الأمة، وإلى شحذ طاقاتها وتوجيه خيراتها وإمكاناتها ومواردها المالية والبشرية والمادية والمعنوية.. نحو إعادة بنائها، وبناء أمجادها وحضارتها..
- ثم هو ترشيد لواقع الاختلاف الذي لا ولن يرتفع كلية –كما سأبينه بحول الله فيما بعد-، وذلك بالتأسيس لأدب الاختلاف، والتقعيد لثقافته البانية..
- وهو أيضا إرساء لقواعد التعايش والتساكن، ولثقافة الحوار والتواصل..
- وهو تأسيس لخط واضح في بناء المعرفة وإنضاج المفاهيم والتصورات وترسيخها..
- وهو دعم للعقلية المنفتحة التي تؤمن بالرأي والرأي المخالف، وتعمل وتتعاون في مجال المشترك والمتفق فيه، وتتحاور في المختلف فيه..
-الاختلاف من سنن الله في الكون والحياة والإنسان:
– قال تعالى: ]وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين[ -سورة الروم: الآية 22-.
– وقال سبحانه: ]إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب..[ -سورة آل عمران: الآية 190-
– وقال سبحانه: ]إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون[ -سورة يونس: الآية 6-
– وقال: ]ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم[ -سورة هود: الآية 118-.
– وقال عز وجل ]أَلَمْتَرَأَنَّاللَّهَأَنزَلَمِنَالسَّمَاءمَاءفَأَخْرَجْنَابِهِثَمَرَاتٍمُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَاوَمِنَالْجِبَالِجُدَدٌبِيضٌوَحُمْرٌمُّخْتَلِفٌأَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُسُودٌ(27) وَمِنَالنَّاسِوَالدَّوَابِّوَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌأَلْوَانُهُكَذَلِكَإِنَّمَايَخْشَىاللَّهَمِنْعِبَادِهِالْعُلَمَاء إِنَّاللَّهَعَزِيزٌغَفُورٌ(28) [ -سورة فاطر: الآيتان 27-28-
فقرر القرآن الكريم حقيقة ساطعة، وهي أن الاختلاف آية من آيات الله، وسنة من سننه في الكون، وفي الحياة، وفي الإنسان، تمثل في اختلاف الليل والنهار، والشمس والقمر، والشتاء والصيف، وفي الثمرات، والدواب والأنعام، وفي اختلاف الناس في الألوان والألسنة والطباع والأذواق، وتَبَايُن عقولهم وميولهم وشخصياتهم، وبالتالي في أفكارهم وأفهامهم وآرائهم واختياراتهم ]ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة[ ولهذا يخطئ من يريد أن يجمع الناس كلهم على رأي واحد أو أمر واحد أو قضية واحدة.. لأن الله قضى وحسم الأمر بقوله: ]ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم[ سورة هود: 118.
ولهذا من العبث أن ننشغل اليوم وينشغل الدعاة والمربون والعلماء والمفكرون بإطفاء الحرائق الفكرية كليةً لأنها لن تنطفئ، وبالقضاء على الاختلاف لأنه لن يرتفع..، ولكن ينبغي الاشتغال بترشيد الاختلاف وبإحسان إدارته وتدبيره، وبوضع القواعد والشروط اللازمة للتعايش رغم الاختلاف، وبالتعاون في المتفق فيه وما أكثره، والتحاور في المختلف فيه وما أقله، في أفق الدفع في اتجاه تقليصه وتضييقه، والتخفيف من أضراره وتداعياته، ليصير الاختلاف بذلك ظاهرة صحية، وأداة خادمة لحركة الفكر والإبداع والإنتاج، ورافعة للتنمية والتطور، فتتجلى رحمة الله بالناس وعظمته في الخلق في ظاهرة الاختلاف، مع التنبيه في نفس الوقت على أن من الاختلاف ما هو مذموم وينبغي الحد منه واجتنابه.
كما أن اللغة نفسها زاخرة بصور الاختلاف من الحقيقة والمجاز، والعموم والخصوص، والمنطوق والمفهوم، والمشترك.. إلى غير ذلك.
بل نصوص الوحي نفسها ناطقة بمشروعية الاختلاف، فهي –إلى جانب تقريرها للاختلاف كحقيقة قرآنية- تختلف من محكمات إلى متشابهات، ومن قطعيات إلى ظنيات..، كما أن الاختلاف ثابت في قراءة القرآن الكريم فيما يعرف بالقراءات القرآنية، والتي قررها النبي صلى الله عليه وسلم وكان من حكم ذلك –إلى جانب كل صور الإعجاز، واستيعاب المفاهيم والمعاني الكثيرة والعظيمة بأوجز لفظ بل وباختلاف حركة فحسب، أو بحذف أو إثبات في اللفظ الواحد، أو بتقديم أو تأخير…- توحيد القبائل واستيعاب اختلاف الألسن وتوجيه الطاقات وغير ذلك كم هو معلوم عند أهل الاختصاص،.. وهكذا.
– اختلاف الصحابة:اختلاف لم يفسد ودا ولم ينقص قدرا:
– بعض الباحثين يرجع تاريخ الخلاف بين الصحابة إلى ما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك عندما اختلفوا في حروب الردة وكتابة المصحف.. إلى غير ذلك، والحق أن اختلاف الصحابة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكلنا يقرأ الآية الكريمة التاسعة من سورة الحجرات وهي تؤرخ لما اصطلح عليه القرآن بالاقتتال في قوله تعالى:]وإن طائفتان من المومنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما..[ وقوله صلى الله عليه وسلم: “أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟”[1] عندما أشعل اليهودي شاس بن قيس فتيل الصراع بين الأوس والخزرج بتذكيرهم بذكرى يوم بعاث، حتى نزلت فيهم آيات سورة آل عمران[2] تعيدهم إلى رشدهم، إذ لما نزلت بكى الناس وتعانقوا وتسامحوا، وكلنا يستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته: “لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة”[3]، فمنهم من فهم من كلام النبي صلى الله عليه وسلم الاستعجال ملتفتا إلى تحقيق المقصد فصلى عند دخول الوقت قبل أن يصل إلى بني قريظة، ومنهم من حمل الكلام على ظاهره، وفهم أنه لا تصح الصلاة يومها إلا في بني قريظة، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم الفريقين على اجتهادهما، ولم يعنف أحدا منهما.
وبنفس المنهج تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الذي تيمم وصلى ثم أعاد عند وجود الماء، وصاحِبِه الذي لم يُعد رغم وجود الماء، فقال صلى الله عليه وسلم للأول: “لك الأجر مرتين” وقال للثاني: “أصبت السنة وأجزأتك صلاتك”[4]، ولم ينكر على أحدهما أو يعنفه.
إنه المنهج النبوي في معالجة الاختلالات، وفي إدارة الاختلاف، وتربية الناس، وتشجيع الاجتهاد، وتنمية الإبداع.
وكذلك اختلف الصحابة في أسرى بدر، ويخالف رأي عمر باقي الصحابة ثم ينزل الوحي موافقا لرأيه رضي الله عنه –كما هو معلوم-.
أما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فكُتب التاريخ والسير تحدثنا عن صور متعددة لاختلاف الصحابة، مع نجاحهم في تدبير أكثرها، وعدم تمكنهم من تدبير أخرى وعلى رأسها ما كان من الخلاف بين علي ومعاوية وما ترتب عليه ..
فقد اختلف الصحابة في البداية في موضوع الخلافة، ثم كان ما كان من التوافق بينهم بعد ذلك، ثم اختلفوا في جمع القرآن الكريم ثم اتفقوا بعد ذلك؛ حيث طلب عمر من أبي بكر الصديق -وهو خليفة المسلمين يومها- أن يدرك الأمة بجمع القرآن خوفا عليه من الضياع بعدما قتل عدد كبير من قراء الصحابة، وظل أبو بكر مترددا في القيام بهذا العمل العظيم متهيبا له إلى أن شرح الله صدره لهذا العمل الجليل، وهو نفس ما وقع لزيد بن ثابت رضي الله عنه حين طلب منه أبو بكر رضي الله عنه القيام بهذا العمل، حتى قال: “فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال، ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن”[5].
كما اختلف الصحابة في حروب الردة، فأبو بكر يريد أن يقاتلهم، وعمر رضي الله عنه يقول له: “كيف تقاتل قوما يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله”، فيقول له الصديق: “والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، ووالله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه”، ثم قال عمر بعد ذلك: فشرح الله صدري لما شرح له صدر أبي بكر[6].
وعمر رضي الله عنه أسقط العمل بحد السرقة عام الرمادة[7]، ومنع إعطاء المؤلفة قلوبهم سهمهم من الزكاة.. إلى غير ذلك من اجتهاداته رضي الله عنه، ومع ذلك لم يفسد الخلاف للود قضية، فظل عمر هو عمر في مقامه ومنزلته الرفيعة بين الصحابة؛ لم تمنعهم مكانته من مخالفته، ولم تدفعهم مخالفته إلى ازدرائه والانتقاص من شأنه.. وهكذا.
واختلفوا في زكاة الخيل، وفي بيع الأجل، وفي ميراث المسلم من الكافر كما ذهب إليه معاوية ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما خلافا للحديث الصحيح[8]، والذي عليه جمهور الصحابة..
ومن أكبر اختلافات الصحابة ما وقع في شأن الخلافة، وخاصة بين علي ومعاوية، ومع ذلك عندما طلب معاوية من ضرار بن ضمرة الكناني أن يصف له عليا فوصفه بكى معاوية رضي الله عنه.
وشبيه بذلك وقع مع سيدنا علي رضي الله عنه كما ورد في طبقات ابن سعد: “دخل عمران بن طلحة على علي رضي الله عنه بعدما فرغ من معركة الجمل، فيرحب به ويدنيه ويقول: “إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال فيهم: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين) –سورة الحجر: 47-، ثم أخذ يسأله عن أهل بيت طلحة فردا فردا وعن غلمانه وعن أمهات أولاده..: يا ابن أخي كيف فلانة؟ وكيف فلانة؟ ويستغرب بعض الحاضرين فيقول رجلان جالسان على ناحية البساط:
الله أعدل من ذلك، تقتلهم بالأمس وتكونون إخوانا في الجنة؟ فيغضب الإمام علي رضي الله عنه ويقول لهما: “قُوما أبعد أرض الله وأسحقها فمن هو إذا إن لم أكن أنا وطلحة، فمن إذن؟ !)[9]
– على خطى الصحابة: صور من اختلاف التابعين والعلماء:
وأهم ما يُظهر الخلاف بعد الصحابة، ما عرف بمدرسة أهل الرأي ومدرسة أهل الحديث، مع ما عرف بينهما من اختلاف منهجي في التعامل مع الحديث ومع أقضية الناس وأسئلتهم.
ثم بعد ذلك ما اشتهر من المذاهب الفقهية والتي تعكس اختلافات فقهية متعددة بين كبار علماء الأمة كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرِهم.
وقد وقعت قصص طريفة ثبتت عنهم رضي الله عنهم، تعكس علما كبيرا، وخلقا عظيما، ووعيا عميقا بأدب الاختلاف، والاحترام والتقدير المتبادل..
فقد صلى الرشيد إماما وقد احتجم، وكان أفتاه الإمام مالك بأنه لا وضوء عليه..، وصلى الإمام أبو يوسف خلفه ولم يُعد خلافا لمذهبه.
وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة، فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب.
وهذا الإمام أبو يوسف، صلى يوم الجمعة مغتسلا من الحمام، وصلى الناس وتفرقوا، ثم أخبر بوجود فأرة ميتة في بئر الحمام، فقال: إذا نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة “إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا”[10].
- اختلاف دون اختلاف: في أنواع الاختلاف:
قبل بيان أنواع الاختلاف أود بداية أن أنبه على ما بين مصطلحي “التفرق” و”الاختلاف” من التفرق والاختلاف، فالاختلاف قد يؤدي إلى تفرق وانقسام فيكون بذلك مذموما وقد لا يؤدي إلى ذلك فيكون محمودا –كما سيأتي بيانه-، أما “التفرق” فمذموم بإطلاق، ولا يَرِد إلا في سياق القدح ومقام الذم، كما في قوله تعالى: ]ولا تكونوا كالذين تفرقوا[ سورة آل عمران: 105، ومن خلال ما سبق يمكن أن نقول إن الاختلاف نوعان:
- اختلاف تنوع:
وهذا اختلاف محمود، فهو اختلاف تنوع وتعدد وتكامل، عادة ما يكون الخلاف فيه ظاهريا شكليا صوريا لفظيا؛ ويرجع هذا الاختلاف إلى اختلاف وجهات النظر وتعدد الآراء مع صوابها وصحتها جميعا، كما وقع للصحابة رضي الله عنهم عندما اختلفوا في فهم وتنزيل نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر إلا في بني قريظة، ورغم اختلافهم لم ينكر عليهم عليه السلام ولم يعنف منهم أحدا بل أقر اجتهاد الجميع…
كما يمكن أن يرجع هذا الاختلاف إلى الألفاظ والاصطلاحات مع أن المعنى واحد، ولهذا قالوا: “لا مشاحة في الاصطلاح”، تقريبا للشقة وتضييقا لهوة الاختلاف.
كما يمكن أن يرجع هذا الاختلاف إلى تباين وجهات النظر في تكييف الواقع أو ما يسمى عند علماء الأصول بتحقيق المناط أو بالاصطلاح المعاصر فقه التنزيل، فقراءة الواقع ووعي طبيعة الأزمة الحضارية التي تعيشها الأمة قد تختلف، ومن ثم ستختلف حتما وصفات علاج الأزمة، ومشاريع الإصلاح، ومخططات التنمية، وبرامج النهوض، وترتيب الأولويات.. وما إلى ذلك.
وهذا الاختلاف فيه ما فيه من الرحمة، وحسْب أطرافه أنهم يدورون بين الأجر والأجرين كما في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه: “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر”[11].
بل إن عددا من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وردت بصيغ متعددة مختلفة، لم تتدخل فيها أفهام الناس، ومنها ما صيغت بألفاظ وعبارات ظنية تحتمل أكثر من رأي أو فهم، فوجدنا التشهد مثلا ورد بصيغ مختلفة، وكذا صلاة الجنازة، ودعاء الاستفتاح، والصلاة الإبراهيمية، وصيغ الأذان… إلى غير ذلك.
ب-اختلاف تضاد:
وهو الاختلاف الذي لا يمكن فيه الجمع بين القولين المختلفين والرأيين المتباينين، فإن لم يؤد إلى عداوة وبغضاء، وتفرق وانقسام، كان محمودا، وإلا صار مذموما.
– فأما الأول المحمود فصوره كثيرة في الصحابة وفيمن جاء بعدهم من أئمة هذه الأمة وأعلامها؛ فقد جاء ابن مسعود في زمن عثمان فقال: كم صلى عثمان بمنى؟ فقالوا: أربعا، فقال عبد الله كلمة، ثم تقدم فصلى أربعا، فقالوا: عبت عليه ثم صليت كما صلى، فقال: أما إني قد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ركعتين ولكن الخلافشر[12].
ووجدنا من السلف من يصلي خلف من يخالفه في بعض المسائل والأحكام، أو يعمل بمذهب غيره لمصلحة، كما وقع للإمام أبي يوسف الذي صلى يوم الجمعة مغتسلا من حمام بلغه فيما بعد بوجود فأرة ميتة فيه فاعتمد مذهب المالكية “إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث”[13]، وكما صلى خلف الرشيد وقد احتجم ولم يعد صلاته خلافا لمذهبه..
كما اختلف الصحابة في قضايا اعتقادية كسماع الميت صوت الحي، وتعذيب الميت ببكاء أهله..
– وأما الثاني المذموم –أي اختلاف تضاد المذموم- فهو الذي يؤدي إلى العداوة والفرقة والتنافر والتناحر، حيث تدخل الأهواء في الموضوع، وتتصدر “الأنا” المواقف، ويعجب كل ذي رأي برأيه، وتنتفخ الأوداج عصبية، وتنطلق الألسنة تجريحا، بل قد تمتد الأيدي اقتتالا والعياذ بالله..
ولهذا وجدنا في تاريخ الأمة الشافعي الذي لا يصلي خلف المالكي، والحنبلي الذي لا يزوج ابنته للحنفي، بل وجدنا من يكفر مخالفه لمجرد مخالفته في مسألة فرعية، ومن يصادر الرأي الآخر فقط لأنه ينتمي إلى مذهب مخالف، ووجدنا إحراق كتب في تاريخنا وإقرار أخرى بمجرد اختلاف الرأي ووجهات النظر، وتباين المذاهب أو الاختيارات والمواقف السياسية.
قال الشاطبي –رحمه الله-: “فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء، وأنها التي عنى الرسول صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية وهي قوله تعالى: ]إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون[ الأنعام: 159″[14].
يتبين من خلال ما سبق أن الاختلاف وقع في عهد الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، نجحوا في تجاوز بعضه وأخفقوا في البعض الآخر كاقتتال علي ومعاوية رضي الله عنهما، كما وقع الاختلاف في تاريخ الأمة بين من جاء بعد الصحابة من التابعين وتابعيهم إلى يوم الناس هذا..، وبقدر ما كان الاختلاف ثقافة ووعيا راسخا حافظ على وحدة الأمة إلى حد كبير وورث زخما معرفيا وإنجازا حضاريا يشهد له تاريخ الأمة وينطق به واقعها وحاضرها، بقدر ما ضمر اليوم وعلا صوت التفرقة والشتات والتشرذم ونطق واقع التخلف والتراجع والنكوص الحضاري !!
فما هي أسباب الاختلاف؟ وكيف السبيل إلى إحياء ثقافة الاختلاف المحمود؟ بل كيف السبيل إلى تدبير الاختلاف؟ وكيف يمكن أن يتحول واقع الاختلاف إلى رافعة للتنمية وداعم لحركة الاجتهاد والتجديد ومرتكزا لانبعاث جديد للأمة الإسلامية؟…
تلكم هي بعض الأسئلة التي سيجيب عنها المقال في جزئه الثاني بحول الله.
والحمد لله رب العالمين
فهرس المصادر والمراجع
- معجم مفردات ألفاظ القرآن: للعلامة الراغب الأصفهاني، تحقيق نديم مرعشلي، دار الفكر – بيروت.
- أساس البلاغة: لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، ط1، 1419هـ / 1998م، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان.
- مناهل العرفان في علوم القرآن: للشيخ عبد العظيم الزرقاني، ط3، دار إحياء الكتب العربية.
- صحيح مسلم: للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (طبعة مرقمة بترقيم المعجم المفهرس لألفاظ الحديث)، دار الاعتصام.
- الكليات: معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، للإمام أبي البقاء الكفوي – ط2 ، 1419هـ/ 1998م، مؤسسة الرسالة، بيروت – لبنان.
- تفسير الكشاف: أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، اعتنى به ورتب حواشيه محمد السعيد محمد، المكتبة التوفيقية، القاهرة – مصر
- جامع البيان في تأويل القرآن (تفسير الطبري): أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. ط 1: 1412هـ-1992م.
- تفسير الجامع لأحكام القرآن: أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، 1966م.
- تفسير التحرير والتنوير: الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس.
- أحكام القرآن: أبو بكر ابن العربي المعافري الأندلسي، دار المعرفة، بيروت – لبنان.
- فتح القدير: محمد بن علي الشوكاني، تحقيق: هاني الحاج، المكتبة التوفيقية.
- مفاتيح الغيب (تفسير الرازي): فخر الدين الرازي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان.
- تفسير ابن كثير: الإمام أبو الفداء إسماعيل ابن كثير، ط 1401هـ – 1981م، دار الفكر، بيروت – لبنان.
- الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف: الدكتور يوسف القرضاوي، كتاب الأمة الصادر عن مجلة الأمة القطرية، ط1، شوال 1402هـ،
- تفسير المنار: للإمام محمد رشيد رضا، ط2، دار الفكر
- الغلو في الدين، المظاهر والأسباب: أبو زيد المقرئ الإدريسي، منشورات الزمن، الكتاب 29، 2010 – دار النجاح الجديدة، الدار البيضاء.
- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت.
- أزمة العقل المسلم: الدكتور عبد الحميد أبو سليمان، إصدار المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا – الولايات المتحدة الأمريكية، ط1، 1412هـ / 1991م، دار القارئ العربي، القاهرة – مصر.
- الموافقات في أصول الشريعة:الإمام أبو إسحاق الشاطبي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، ط1: 1411هـ – 1991م.
- صحيح البخاري: محمد بن إسماعيل البخاري، حقق أصوله ووثق نصوصه وضبطه ورقمه طه عبد الرؤوف سعد، دار نشر سوماكرام، 1423هـ – 2003م.
- كيف نختلف؟ د. سلمان العودة؟ إصدارات مؤسسة الإسلام اليوم للنشر، ط1، صفر 1433هـ.
- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد:الحافظ نور الذين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي المصري، تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية.
- سنن النسائي: أحمد بن شعيب النسائي، دار إحياء التراث العربي.
- سنن أبي داود: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي، مراجعة محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النبوية.
- مجلة الأمة الوسط: يصدرها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، العدد الثاني، السنة الثانية 2010م
[1]– انظر فتح القدير للشوكاني: 1/548.
[2]– وهي هذه الآيات: (يَاأَيُّهَاالَّذِينَآمَنُوَاْإِنتُطِيعُواْ فَرِيقًامِّنَالَّذِينَأُوتُواْالْكِتَابَيَرُدُّوكُمبَعْدَإِيمَانِكُمْكَافِرِينَ(100) وَكَيْفَتَكْفُرُونَوَأَنتُمْتُتْلَىعَلَيْكُمْآيَاتُاللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُوَمَنيَعْتَصِمبِاللَّهِ فَقَدْهُدِيَإِلَىصِرَاطٍمُّسْتَقِيمٍ(101) يَاأَيُّهَاالَّذِينَآمَنُواْاتَّقُواْاللَّهَ حَقَّتُقَاتِهِوَلاَتَمُوتُنَّإِلاَّوَأَنتُم مُّسْلِمُونَ(102) وَاعْتَصِمُواْبِحَبْلِاللَّهِ جَمِيعًاوَلاَتَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْنِعْمَةَاللَّهِ عَلَيْكُمْإِذْكُنتُمْأَعْدَاءفَأَلَّفَبَيْنَقُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمبِنِعْمَتِهِإِخْوَانًاوَكُنتُمْعَلَىَشَفَاحُفْرَةٍمِّنَالنَّارِ فَأَنقَذَكُممِّنْهَاكَذَلِكَيُبَيِّنُاللَّهُ لَكُمْآيَاتِهِلَعَلَّكُمْتَهْتَدُونَ(103) وَلْتَكُنمِّنكُمْأُمَّةٌيَدْعُونَإِلَىالْخَيْرِوَيَأْمُرُونَبِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَعَنِالْمُنكَرِوَأُوْلَـئِكَهُمُالْمُفْلِحُونَ(104) وَلاَ تَكُونُواْكَالَّذِينَتَفَرَّقُواْوَاخْتَلَفُواْمِنبَعْدِمَاجَاءهُمُالْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَلَهُمْعَذَابٌعَظِيمٌ (105)) -سورة آل عمران-
[3]– أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر: ح4119.
[4]– والحديث أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي.
[5]– والحديث بكامله في صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، ح4679.
[6]-انظر صحيح مسلم، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ح61.
[7]– وأرى أن سيدنا عمر رضي الله عنه لم يسقط العمل بحد السرقة، بل العكس تماما، لأنه نظر إلى روح الشريعة وسعى إلى تحقيق مقاصدها، وهو يعلم أن الحد يدرأ بالشبهات، وأنه لابد لإقامة أي حد من حدود الشريعة من أن تتوفر أسبابه وشروطه وتنتفي موانعه، وهو ما لم يحصل عام الرمادة إذ لم تتوفر كل الشروط ولم تنتف كل الموانع، حيث أصاب الناس قحط وشدة ومجاعة اضطرتهم للسرقة للحصول على ما يسد رمقهم..
[8]– حديث أسَامة بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( لا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ )) متفق عليه.
[9]– انظر الحديث أيضا في مجمع الزوائد للهيثمي: 9/152.
[10]– والحديث رواه ابن ماجة، وقال الألباني صحيح، ورواه السيوطي في الجامع الصغير.
[11]-أخرجه البخاري في صحيحه: ح7352، ومسلم: ح1716، وأخرجه أيضا أصحاب السنن الأربعة.
[12]-أخرجه أبو داود، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة: 1/444، وقال: صحيح.
[13]-سبق تخريجه.
[14]– الموافقات للإمام الشاطبي: 5/164.