حصريا

وجهة نظر أبو القاسم سعد الله للاحتلال الصّهيوني لفلسطين- الزبير بن بردي -الجزائر-

0 66

وجهة نظر أبو القاسم سعد الله للاحتلال الصّهيوني لفلسطين

الزبير بن بردي/ باحث في التاريخ المعاصر – جامعة الوادي (الجزائر)

 

  1. مقدمة:

لقد كان أبو القاسم سعد الله من طينة المؤرّخين والمفكّرين الكبار الذين شغلتهم هُموم أمّتهم وقضاياها، فهو لا يتردّد في إبداء آرائه ومواقفه وتحديد رؤيته من قضايا السّاعة، فالثّابت الوحيد الذي يجب أن يكون محلّ الرّعاية الدّائمة والاهتمام المستمر في قاموسه هو مصلحة الأمّة لا غير، سواءً كان النّشاط يتناول قضيّة أدبية أو قضيّة دينية أو قضيّة سياسية، كان ذلك كُلّه حاضرًا وبقوّة لدى سعد الله المؤرّخ والمفكّر.

ورُغم اهتمام سعد الله الكبير بقضايا وطنه الجزائر، فإنّه لم يكن بمعزل عن قضايا أمّته العربية الإسلامية، إذ لم يكن مستوى وحجم اهتمامه بها بأقلّ من اهتمامه بقضايا الوطن، ويأتي على رأس هذه القضايا، قضيّة فلسطين ومأساتها مع الاحتلال الصّهيوني. حيث خصّ القضيّة من بين العديد من القضايا العربية الإسلامية باهتمام خاص، نظرًا لما تحمِلُه من بُعْدٍ ديني بالخصوص.

  1. تعريف موجز بأبي القاسم سعد الله:

وُلد شيخ المؤرّخين الجزائريّين وقُدوة الباحثين الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله سنة 1930 بمنطقة “البدوع” غرب بلدة ڤمار. لم يكن والده أحمد سعد الله من أهل العلم، ولكنّه من رجال الإصلاح، أمّا أمّه العبيدية هالي فكانت حريصة على تعلّمه، لأنّها متأثرة بأخيها الشيخ الحفناوي هالي الذي تخرّج من جامع الزيتونة سنة 1936 وأصبح من رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

حفظ سعد الله القرآن الكريم بالكُتّاب على يد الشيخ بلقاسم بن البرية وعمره لا يتجاوز خمس عشرة سنة. والتحق في خريف سنة 1947 بالزيتونة لمواصلة دراسته. وفي سنة 1951 حصل على شهادة الأهلية، وبعد ثلاث سنوات تحصّل على شهادة التحصيل مُحتلاً المرتبة الثانية في دفعته.

وفي سنة 1955، توّجه إلى تونس ومنها إلى مصر، حيث قصد مقر جمعية العلماء بالقاهرة والتقى برئيسها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي. كما انتسب في أكتوبر من نفس السنة إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بدار العلوم. وفي جويلية 1959 تحصل سعد الله على شهادة الليسانس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية. غير أنّه لم يكمل دراسة الماجستير في مصر، وتوجّه في نوفمبر 1960 إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ومن حينِها تحوّل من أديب إلى مؤرخ، حيث تحصّل سنة 1962 على شهادة الماجستير في التاريخ والعلوم السياسية من بجامعة “منيسوتا MINNESOTA”، ثمّ على شهادة الدكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر سنة 1965.

وفي أكتوبر 1967 عاد إلى الجزائر وبدأ مساره الأكاديمي بجامعة الجزائر، حيث أنشأ أول قسم في تخصص الدراسات التاريخية. كما تبوّأ خلال مسيرته عدة مناصب ومسؤوليات في الجامعة الجزائرية، ودرّس في العديد من الجامعات العربية والأجنبية.

وفيما يتعلّق بإنتاجه وأعماله فهي عديدة، من أبرزها: تاريخ الجزائر الثقافي، وأبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، والحركة الوطنية الجزائرية. فضلا عن مؤلفاته الأخرى التي زادت على الأربعين، وتوزّعت على: التراجم، والتحقيق، والرحلات، وأعلام ودراسات، والإبداع الفكري والأدبي.

واللّافت للانتباه أنّ سعد الله نذر نفسه للبحث الْمُضني وكان ذلك على حساب صحته، وأوغل في هذا حتى اعترت صحته مجموعة من الأسقام، وانطفأت برحيله إلى دار البقاء يوم 14 ديسمبر 2013 شمعة مضيئة من شموع الوطنية والعلم والتاريخ.

  1. خطر الصّهيونية:

إنّ موقف سعد الله الدّاعم والمساند لقضيّة فلسطين باعتبارها قضيّة العرب والمسلمين الأولى والمركزية، وكذا لعُمق نظرته الفكرية والتاريخية، ومَلَكَته البحثية في أغوار الوثائق والأحداث، ومُعايشته الدّقيقة والفاحصة لأحداث القضيّة، جعله يتنبّه مُبكّرًا للخطر الصّهيوني على المنطقة، بل على العالم أجمع، وأكّد مرارًا أنّه يأتي في مُقدّمة أعداء الأمّة الذي ينبغي مواجهته، وأنّ اليهود الصّهاينة هم وراء أغلب الأحداث الكبرى في العالم في هذا العصر، و ليس في المنطقة فحسب.

ويعتبر سعد الله الحركة الماسونية ووليدتها الحركة الصّهيونية هُما أخطر القِوى الغامضة التي تمخّض عنها القرن العشرون، فقد نجحت الحركتان في تفكيك الإمبراطورية العثمانية، وإسقاط الإمبراطورية السّوفياتية، وإقامة الدولة العبرية على أرض فلسطين العربية. بل إنّ الإمبراطورية الأمريكية نفسها إذا لم تسِرْ مع الحركتين في وئامٍ وانسجامٍ، فإنّ مصيرها حسب رأيه سيكون التفكّك  والسّقوط أيضًا، لذلك فإنّ المسار الصّهيوني الماسوني والمسار الأمريكي مُتلازمان، ويتحرّكان جنبًا إلى جنب على إيقاع واحد، وليس في ذلك أيّ عجبٍ أو سر.

  1. مقارنة بين الاحتلال الصّهيوني وتجارب الاحتلال المعاصر:

يُحلّل سعد الله طبيعة الاحتلال الصّهيوني لفلسطين ويقارنه ببعض تجارب الاحتلال المعاصر في ممارساته وجرائمه، بل إنّه حسب رأيه قد تفوّق عليها في جزءٍ كبير منها، واقتدى بها واستفاد من تجربتها، فيؤكّد وجود تشابه بين ما حدث في الجزائر أيّام المارشال “بوجو” وما يحدث في فلسطين اليوم على يد الزّعماء الصّهاينة، فيقول عن ذلك: “وقد قادني إلى ذلك ما علِمته من أنّ الصّهاينة كانوا يستفيدون في عمليات الاستيطان من تجربة الفرنسيّين في الجزائر، حين كانوا يُجبرون الجزائريّين بشتّى أنواع الضّغط والحِيَل ليستولوا على أراضيهم، ثمّ يُقِيمون عليها المستوطنات للأوروبيّين، بل حتّى العقاب الجماعي ونسف البيوت والطّرد من الوطن، كلّ ذلك كان أسلوبًا مارسته إدارة الاحتلال الفرنسي عندنا، وما أشبه اللّيلة بالبارحة كما يقولون. ومن جهة أخرى لاحظت أنّ مصطلح الإرهاب الذي يُطلقه الصّهاينة على المقاومين الفلسطينيّين، قد أطلقه الاحتلال الفرنسي في الجزائر على كلّ الثوّار الوطنيّين خلال فترة الاحتلال من عبارات: الفلّاقة، والمفتّنين، والمتشيطنين، والمتعصّبين“.

كما ربط سعد الله بين النّظام الصّهيوني المحتل لفلسطين وبين نظام التمييز العنصري السابق في جنوب إفريقيا “الأبرتايد”، حيث أنّ الصّهيونية تقوم تقريبًا على نفس القاعدة التي قامت عليها العنصرية في جنوب إفريقيا، أي التمييز العنصري والإيمان بالتّفوق على الآخرين، وإذا كان الضّحايا في إفريقيا هم الأفارقة السّود، فإنّ الضّحايا في الكيان الصّهيوني والأجزاء المختلفة من البلاد العربية والإسلامية هم الفلسطينيّون، ولكنّ الفرق بين النّظامين هو أنّ نظام جنوب إفريقيا يؤمن بالتفوّق اللّوني والعرقي، أمّا الكيان الصّهيوني فيؤمن بالتفوّق الدّيني والتاريخي، وإذا كان النّظام في جنوب إفريقيا يكره أن يُسوّي بين الأبيض والأسود، فإنّ نظام الكيان الصّهيوني يكره أن يُسوّي بين اليهودي والمسلم.

وإذا كان سعد الله يُشَبِّهُ الاحتلال الصّهيوني لفلسطين في بعض مظاهره بالاحتلال الفرنسي للجزائر وبالنّظام العنصري في جنوب إفريقيا، فإنّه يُحدّد طبيعته باعتباره حوصلة لكلّ أنواع الاحتلال التي حدثت في العالم، ويقول في هذا الصّدد: “إنّ من سوء حظّ الفلسطينيّين أنّهم ابتلوا باستعمار من نوعٍ جديد لم يعرفه العالم من قبل في الكثير من أعماله ومُمارساته وجرائمه، فقد جرّب العالم كلّ أنواع الاستعمار، الاستيطاني، والاقتصادي، والانتدابي، والحمائي، والعسكري، وحتّى العنصري، ولكنّ الاستعمار الصّهيوني أصبح نوعًا فريدًا، ولعلّه هو خُلاصة كلّ تلك الأنواع مُضافًا إليها الأساليب النّازية والفاشيستية مجتمعة، ومُضافًا إليها أيضًا المخترعات العلمية التي تزيد من بشاعته وآثاره المدمّرة على الإنسان والعمران“.

  1. موقفه من داعمي الاحتلال الصّهيوني:

أمّا موقف أبو القاسم سعد الله من داعمي الاحتلال الصّهيوني، فكثيرًا ما أشار إلى الموقف الأمريكي والأوروبي المنحاز بشكل كامل للكيان الصّهيوني، وداعمٍ له على حساب الحقّ الفلسطيني والعربي، فيقول عن الموقف الأمريكي على سبيل المثال: “نحن الذين درسنا في الجامعات الأمريكية نُحِسُّ بالتّناقض الصارخ بين ما تعلّمناه عن المبادئ الأمريكية، وبين تطبيقات الإدارة الأمريكية نحو الأمّة العربية، وبالخصوص نحو القضية الفلسطينية. إنّنا حقًا أمام تناقضٍ صارخٍ بين المثالية والواقعية في سياسة الإدارة الأمريكية نحو القومية العربية عامّة والقضية الفلسطينية خاصّة، فهل نُصدّق ما تعلّمناه في الجامعات الأمريكية من مُثل عليا في الحرّية والعدل وتقرير المصير، أو نُصدّق ما تعيشه قضيّتنا الأولى فلسطين من مُمارسات أمريكية، قِوامها التعسّف والتجاهل ومصادقة العدوّ بلا حدود؟“.

  1. خطاب مُوجّه لإخوانه الفلسطينيّين:

يُوجّه سعد الله خطابًا مُوجزًا لإخوانه الفلسطينيّين بقوله أنّهم -أي الفلسطينيّون- أولى النّاس بأن يعرفوا أنّ المطالبة بالحقِّ عن طريق الاستجداء في الأمم المتّحدة وغيرها، لن تجعل العدوّ ينحني، ولن تجعل صديق العدوّ يُراجع أوراقه. فقد جرّب الفلسطينيّون ذلك ربع قرن أو يزيد دون جدوى، جرّبوه في الملاجئ، ومنظّمات الغوث، ومحافل العالم، فلم يجدوا منه إلاّ الشّفقة من البعض، والاحتقار من الآخرين. أمّا الانتفاضة الشعبية والثورة الجديدة المنتظرة -وبداياتها إن شاء الله مع طوفان الأقصى- فهي التي ستجلب إليهم احترام العالم، وتُعيد إليهم حقّهم المغتصب.

كما يأمل سعد الله في أن يُوحّد الفلسطينيّون صُفوفهم، وينبذوا خلافاتهم الفكرية، ويتخلّوا عن حبّ الزّعامة وكثرة الرؤوس. ودعاهم إلى أن يتعلّموا من الثّورة الجزائرية درسًا خالدًا، وهو أنّ لا بطل إلاّ الشّعب، ولا زعيم إلاّ السّلاح، ولا وسيلة إلاّ القوّة والوِحدة. وأن يتعلّموا درسًا آخر من الواقع المرّ، وهو أنّ وطننا العربي مليءٌ بالزّعامات، ولكنّها جميعًا مُزيّفة، لأنّها لا تُخيف عدوًّا ولا تُسند صديقًا.

  1. الخاتمة:

وفي الأخير لا يسع مفكّر ومثقّف كمثل أبو القاسم سعد الله إلاّ أن يُبارك نضال المقاومة الفلسطينية التي بعثت الأمل في النّفوس بالنّصر مهما طال الزّمن، حيث يُؤكّد على أنّ الذي يقف على أرضه وبيده السّلاح، ولو كان من حجارة، أفضل ألف مرّةٍ ممّن بيده منشورٌ سياسي يتجوّل به في المحافل الدّولية.

تلك إذًا هي نظرة المفكّر والمؤرّخ سعد الله للاحتلال الصّهيوني لفلسطين ولقضية فلسطين، القضية التي عاشها بوجدانه وفكره إلى أن وافاه الأجل وهو على ذلك ينتظر أملاً قريبًا.

  1. قائمة المصادر:
  • بلغيث محمد الأمين: رحيل شيخ المؤرخين الجزائريين أبو القاسم سعد الله بأقلام أحبائه، البصائر الجديدة للنشر والتوزيع، الجزائر، 2014.
  • بوالصفصاف عبد الكريم وآخرون: معجم أعلام الجزائر في القرنين التاسع عشر والعشرين، ج2، منشورات مخبر الدراسات التاريخية والفلسفية، جامعة منتوري قسنطينة، الجزائر، 2004.
  • سعد الله أبو القاسم: حاطب أوراق، عالم المعرفة، الجزائر، 2015.
  • سعد الله أبو القاسم: خارج السرب، عالم المعرفة، الجزائر، 2015.
  • سعد الله أبو القاسم: منطلقات فكرية، دار الغرب الإسلامي، لبنان، 2005.
  • سعد الله أبو القاسم: في الجدل الثقافي، عالم المعرفة، الجزائر، 2015.
  • سعد الله أبو القاسم: هموم حضارية، عالم المعرفة، الجزائر، 2015.
  • قمعون عاشوري: العلامة الموسوعي الشهير الدكتور أبو القاسم سعد الله، الملتقى الدولي أبو القاسم سعد الله مؤرخا ومفكرا، كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية، قسم العلوم الإنسانية، جامعة الوادي، الجزائر، 13-14 ديسمبر 2015.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.