حصريا

مميزات المنهج السَّلَفي في إثبات التوحيد والقضايا المتعلقةِ به- أ.دصالح حسين الرقب – فلسطين

0 325

مميزات المنهج السَّلَفي في إثبات التوحيد والقضايا المتعلقةِ به

 

من خلال دراستنا لمنهج السلف في دراسة العقيدة الإسلامية وتقريرها يمكننا بيان منهج السلف في إثبات التوحيد بأنواعه الثلاثة، توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات في عدة نقاط.. هي:-

1- يمتازُ منهجُ السَّلَف في تقسيمِ التَّوحيدِ إلى توحيدي الربوبية والألوهية بموافقتِه لمَا دلَّت عليه النصوصً الشرعيةً. وبذلك يكونُ السَّلَف أعرفَ النَّاسِ بالتَّوحيدِ الذي أَنزَلَ الله به كُتُبِهِ وبعث به رسَله، ألاَ وهو توحيدُ الألوهية، أمَّا توحيدُ الربوبية فقد كان يُقِرُّ به المشركون كما أخبرَ الله تعالى عنهم في القرآن الكريم.

2- إن السَّلَف لم يخرجوا في تَصَوُّرهم للوحدانيةِ عمَّا جاءَ في الكتاب والسُنَّة، فهو إذاً تصورٌ إسلاميٌّ صحيحٌ.

3- إنَّ منهجَ السَّلَف في تقريرِ التوحيدِ والقضايا المتعلقةِ به يدلُّ على أنَّهم أعرفُ النَّاسِ بالله تعالى، واتبَعُهم للطريق الموصِلِ إليه، وأصدَقُهم في التعامل مع نصوصِ وحيِه، وفي السيرِ على صراطِهِ المستقيم.

4- إنَّ مفهومَ التوحيد عند السَّلَف يَتَضمَّنُ إثباتَ أسماءِ الله الحسنى وصفاتِه الجليلةِ العلى كما جاءَت في الكتاب والسُّنة، وإمرارُها على ظاهرِها كما لا يَتَكَلَفونَ علمَ ما لا يعلمون، ولا يشتغلون بالتأويل الذي يُفضي إلى التعطيل.

بينما نَجدُ أنَّ مفهومَ التوحيد عند الفلاسفة والمعتزلة يُفضِي عندَهم إلى تجريدِ الصفات الذات الإلهية من صفاتها، حيث ذهبوا إلى نفيِ الصفات. ونَجِدُ مفهومَ التَّوحيدِ عند الأشاعرة يَتضمَّنُ تجريدَ الذات الإلهية من معظم الصفات، لأنَّهم قالوا بتأويلِ الصفات- ما عدا الصفات السبع – تأويلاً يؤدي إلى تعطيلِ الذاتِ عن صفاتِ الكمال.

5- إنَّ من ميزات المنهج السَّلَفي اتفاقُ أهلِهِ على مسائل الاعتقاد المُتعلقةِ بالتوحيد، رغمَ اختلافِ أزمانِهم، وتباعدِ ديارِهم وأمصارِهم. وبيان ذلك: أنَّا نجدُ أقوالَهم في باب الأسماء والصفات واحدةٌ، لا تناقضَ فيها ولا اختلافَ. فمثلاً اتفقوا جميعاً على إثباتِ الصفات لله تعالى على الوجِهِ الذي يَليقُ بجلالِهِ وكمالِهِ، وإمرارِ نصوصِ الصفات على ظاهرها، ولم يَرِدْ عن أحدٍ منهم أنَّه اشتغلَ بتأويلِ الصفات، أو الخوضِ في معناها وكُنْهِهَا، بل آمنوا بالمعنى المُتبَادرِ من ظاهرِها، وفَوَّضوا كُنْهَهَا إلى الله تعالى. يقول أبو القاسم التيمي الأصبهاني في ذلك: “وممَّا يدلُّ على أنَّ أهلَ الحديث على حقٍ، أنَّك لو طالعتَ جميعَ كتبِهم المُصنَّفةِ من أَوَلِهُم إلى آخرِهِم، قديمِهم وحديثهِم، مع اختلافِ بلدانِهم وزمانِهم، وتباعدِ ما بينهم من الدِّيارِ، وسكونِ كلِّ واحدٍ منهم قطراً من الأقطار، وجدتَهم في بيانِ الاعتقادِ على وتيرةٍ واحدةٍ، ونَمطٍ واحدٍ، يَجرونَ على طريقةٍ لا يَحيدونَ عنها، ولا يَميلونَ فيها، قولُهم في ذلكَ واحدٌ، ونقلُهم واحدٌ، لا تَرى بينَهم اختلافاً، ولا تَفَرُقاً في شيءٍ ما وانْ قلَّ، بل لو وَجَّهتَ جميعَ ما جرى على ألسنتِهم ونقلُوُه عن سلفهِم، وجدتَّهُ كأنَّه جاءَ عن قلبٍ واحدٍ، وجرى على لسانٍ واحدٍ، وهل على الحقِّ دليلٌ أبينُ من هذا؟”.([1])

وأمَّا الفلاسفةُ والمتكلمين فإنَّ التناقضَ والاضطرابَ سمةٌ بارزةٌ في منهجهم وأقوالهم. يقول ابن تيمية: “فالمتكلمةُ والفلاسفةُ تُعظِّمُ الطُّرقَ العقليةَ، وكثيرٌ منها فاسدٌ متناقضٌ، وهم أكثرُ خلقِ الله تعالى تناقضاً واختلافاً، وكلُّ فريقٍ يَرُدُّ على الآخر فيما يَدعيِهِ قَطعياً”.([2])

6- إنَّ من ميزاتِ المنهج السَّلَفي الوَسَطيِّةَ بين المناهج الفلسفية والكلامية. فالفلاسفةُ ومن سلكَ مذهبَهم ينفونَ صفاتِ الله وأسماءِه، والمعتزلةُ ينفونُ الصفاتِ ويثبتون الأسماءَ، والأشاعرةُ يثبتونَ الأسماءَ والصفاتَ العقليَّةَ، ويؤولون الباقي. بينَما السَّلَف يثبتونَ الأسماءَ والصفاتِ جميعاً، ولا يَردُّونَ شيئًا ثبتَ بالكتاب والسُنَّة. يقول ابن تيمية في بيان هذه الميزة: “وهكذا أهلُ السُنَّةِ والجماعة في الفِرَق. فهم في باب أسماء الله وآياته وصفاته: وسطٌ بينَ أهلِ التَّعطيل الذي يُلحدونَ في أسماء الله وآياته، ويُعَطِّلونَ حقائقَ ما نَعتَ الله به نفسَه، حتى يُشَبِهُوه بالعدمِ والمواتِ، وبين أهلِ التُّمثيلِ الذين يَضرِبونَ لهُ الأمثالَ، ويُشَبِّهُونَهُ بالمخلوقات. فَيُؤمِنُ أهلُ السُنَّة والجماعة بما وصفَ الله به نفسَه وما وصفَهُ بِه رسولُه صلى الله عليه وسلم، من غيرِ تحريفٍ، ولا تعطيلٍ، ومن غيرِ تكييفٍ وتمثيل”.([3])

7- إنَّ من ميزات المنهج السَّلَفي أنَّه يجعلُ سالَكَه مُعظِماً لنصوص الكتاب والسنة، لأنَّ السَّلَف يعتقدون أنَّ كلَّ ما جاءَ فيها حقٌ وصوابٌ، بيَدَ أنَّ المذاهب الأخرى- التي سَلَكَتْ طريقَ التَّعطيل والتأويل – أَفْقدَت النُّصوصَ هيبتَها وعظمتَها عندما جَنَتْ عليها بالتأويلِ والتعطيل.

وأيضاً فإنَّ المنهجَ السَّلَفيَّ يربطُ المسلمَ بجيلِ السَّلَف الفريدِ من الصحابة والتابعين الذين هم خيرُ القرون، فَيْزدَادُ المسلمُ عزةً وافتخاراً بانتسابِه لذلك الجيلِ القُرآنِيِ. بينَما المناهجُ الأخرى تَرْبطُ أتباعَها والسائرين على طريقِها بالمبتدعةِ وأهلِ الشكوكِ والشبهاتِ والأوهامِ.

8- إنَّ من ميزاتِ المنهجِ السَّلَفيَّ في باب الأسماء والصفاتِ التزامَه بطريقةِ القرآنِ الكريمِ وطريقةِ الرَّسلِ عليهم السلام في إثباتِ صفاتِ الكمال لله تعالى على وجهِ التَّفصيلِ، ونفيِ صفاتِ النَّقصِ التي لا تَصلُحُ لهُ لمَا فيِهَا من التَّشبيهِ والتمثيلِ على وجِه الإِجْمَالِ، وهذا على نقيضِ ممَّا سلَكَهُ الفلاسفةُ والمعتزلةُ، حيث سَلَكوا التفصيلَ في مجالِ الَّنفيِ، والإجْمَالِ في مجالِ الإثبات.([4])  يقول الإمامُ أحمدُ: “لا يُوصَفُ الله إلاَّ بمَا وَصَفَ بِه نفسَه، أو وصفَهُ بِه رسولهُ صلى الله عليه وسلم، لا يُتَجَاوزُ القرآنَ والحديثَ”.([5])  ويقولُ ابنُ تيمية: “القولُ الشاملُ في جميعِ هذا البابِ: أنْ يُوصَفَ الله بمَا وَصَفَ بِهِ نفسَه، أو وَصَفَهُ بِهِ رسولهُ، وبمَا وَصَفَه به السابقون الأولون لا يُتَجاوز القرآنَ والحديثَ”.([6])

ويقول الشيخُ عبدُ الرحمن الوكيل في بيان ميزةِ ومَكَانَةِ المنهجِ القرآنيِّ وأفضليتِهِ على المناهجِ الفِلسَفيَّةِ والكلاميَّةِ: “ولا أظنُ مسلماً أنَّه يجرؤُ على القول بأنَّ جدلَ الفلسفة، وسَفْسَطَةِ علمِ الكلام يهديانِ إلى يقينٍ، أو بأنَّ ابن سينا والفارابي، والباقلاني والجويني أقدرُ من الله لإقامةِ الآياتِ البَيِّنَاتِ والحججِ الساطعاتِ، التي تُثبتُ أنَّه واحدٌ لا شريكَ له، أو بأنَّ ما في (الإشارات)، أو (المواقف)، أو (العقائد النسفية) ([7]) من تُرَّهاتٍ أَجلِّ ممَّا في كتاب الله من براهين تَبْدَه بقهرِ الحقِّ عقولَ الفلاسفة وغيرَ الفلاسفة، فَتَقهَرُها على الإذعانَ والتسليم… ومنْ يَتدَبَّرُ ما ابتَدَعَتهُ الفلسفةُ من أّدِلَّةٍ مزعومةٍ، وما لَفَّقهُ علمُ الكلام من أباطيلَ، ويتدَبَّرُ أدلَّةَ القرآنِ العقليَّةِ يتجلَّ لهُ في إشراقٍ أنَّ أتَمَّ الأدلَّةِ العقليةِ وأعظمَها وأفضلَها هي أدلةُ القرآن، لا جدلَ الفلسفة ولا سَفسَطَةَ علمِ الكلام، وليتدبَّرُ كلُّ مسلمٍ هذه الآية: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) سورة الجمعة:2. ولا ريبَ أنَّ هذه الآيةَ تَقطَعُ بأنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم قدْ بيَّنَ الأدَّلةَ العقليةَ والسمعيَّةَ التي بها يَهتدي النَّاسُ إلى الاعتقادِ الصحيحِ، والإيمانِ الكاملِ، والدِّينِ الحَقِّ، وإلى ما فيِهِ النَّجاةُ والسعادةُ في الأولى والآخرة…..”.([8])

9- إنَّ من ميزاتِ المَنهجِ السَّلَفيِّ في مسألةِ الصفات وغيرها من مسائل الاعتقاد عدمِ الخروجِ عمَّا جاءَت بِهِ النُصوصُ الشرعيةُ، وعدمِ تقديمِ قولِ أحدٍ أو رأيِهِ مهمِا كانت منزلتُه ومكانتُه، فَقَدَّمُ السَّلَف النَّقلُ على العقلِ، ولم يَقُلْ واحدٌ منهم بتعارضِ المعقولِ مع المنقولِ، وقدْ صنَّفَ أَئَمَتَّهٌم الكتبَ والمُصنَّفاتِ في بيانِ تَهافُتِ دعاوى الفلاسفةِ والمتكلمينِ في هذا المجالِ.([9]) وبيَّنَوا أنَّ قضايا التَّوحيد – سواء التي تتعلق بالصفات أم التي تتعلق بدلائل ربوبية الله وألوهيته – قد نَبَّهَ الله تعالى عليها في كثيرِ مِن سورِ القرآنِ الكريمِ على أكمَلِ وجهٍ وأحَسَنِهِ. وليس في شيءٍ منها ما يُخالفُ العقلَ الصَّريحَ، بلْ العقلُ الصريحُ يُؤكِّدُ ويُعاضِدُ الدلائلَ السَمعيِّةَ التي نصَّ عليها الشرعُ، وأمَّا السَّمعياتُ التي يُقالُ أنَّ العقلَ عارضَها – كمسألةِ الصفاتِ مثلاً – فهي أمورٌ قد عُلِمَ بالضرورةِ أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم قَدْ جاءَ بها من عندِ ربِّه تعالى، وقدْ نَقَلَها عنْهُ الصحابةُ رضي الله عَنْهُم ومن بعدِهم التابعين، ولمْ يَثبتْ عن أحدٍ من نَقَلَتِها أو غيرِهم من أئمَّة السَّلَف وعلمائِهم أنَّه قال: إنَّ هذه الآيةَ أو تلكَ يُعارِضُها صريحُ العقلِ، بل أجمعوا بلا منازعٍ على إثباتِ الصفاتِ على ظاهرِها كما جاءِت دونَ تأويلٍ أو تعطيلٍ.

بينَما ذهبَ مخالفو المنهجِ السَّلَفي إلى أنَّ نصوصَ الصِّفاتِ التي في ظاهرها التشبيه يجبُ تأَويلُها لكونِهَا مُعارَضَةٌ بالدلائل العقلية، وأنَّ الدلائل النقلية لا تفيدُ اليقينَ، فلا يُستدَلُّ بها في المطالب الإلهية.([10]) بل ذهبَ أحدُ المتكلمين إلى أنَّ الأخذَ بظواهرِ الكتابِ والسُنَّةِ من أصولِ الكفر.([11])

يقولُ ابنُ القيم واصفاً حالَ هؤلاء: “ومن كَيدِهِ([12]) بهِم وتَحَيُّلَهُ على إخراجهم من العلم والدِّين: أنْ أَلقى على ألسنتِهم أنَّ كلامَ الله ورسولِه ظواهرُ لفظيةٌ لا تفيدُ اليَقينَ، وأَوحَى إليهم أنَّ القواطعَ العقليَّةَ والبراهينَ اليقينيَّةَ في المناهجِ الفلسفيِّة والطرقِ الكلاميَّةِ، فحالَ بينَهم وبين اقتباس الهدى واليقين من مُشكاة القرآن، وأحالَهم على منطقِ اليونان، وعلى ما عندَهم من الدعاوى الكاذبةِ العَرِيَّة عن البُرهان، وقال لهم: تلكُ علومُ قديمةٌ صقلتَها العقولُ والأذهانُ، وَمَرَّتْ عليها القرونُ والأزمانُ، فانظر كيفَ تَلَطَّفَ بِكَيدِه ومَكرِهِ حتَّى أخرجَهم من الإيمانِ، كإخراجِ الشعرةِ من العجين”.([13])

وممَّا يبيِّنُ بطلانَ مزاعمِ المتكلمين الذين أفنَوا أعمارَهم بحثاً في العقليَّات، أنَّهم لم يَصلوا فيها إلى مَعقولٍ صحيحٍ يُمكنُ اعتبارَه معارضاً للسَّمعِ، بل انتهى الأمرُ بكثيرٍ منهم إلى الحَيْرَةِ والارتباكِ والنَّدمِ والاعترافِ بالخطأِ.([14])

يقولُ الفخرُ الرَّازي في آخرِ عمرِه في كتابه “أقسام اللذات”: “لقدْ تِأمَّلتُ الطُرقَ الكلاميَّةَ والمَنَاهجَ الفَلسَفيَّةَ، فما رأيتُها تُشفي عَليلاً ولا تَروي غَليلاً، ورأيتُ أقربَ الطِّرقِ طريقةَ القرآنِ الكريمِ، أقرأْ في الإثبات: (لرحمنُ على العَرْشِ اسْتَوَى) سورة طه:5، (إليهِ يصعدُ الكَلِمُ الطَّيِبُ) سورة فاطر:10، وأقرَأْ في النَّفِيِ: (ليسَ كَمِثْلِهِ شَيءُ) سورة الشورى:11، (ولاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) سورة طه:110، ومنْ جَرَّبَ مثلَ تَجْرِبِتيِ عَرَفَ مثلَ مَعرِفَتي”.([15]) وقال في وَصيَّتَه التي أملاَها على تلميذِهِ أبي بكرٍ إبراهيم بن أبي بكرٍ الأصبهاني: “ولقدْ اختبرتُ الطُّرقَ الكلاميَّةَ والمناهج الفلسَفيَّةَ، فمَا رأيتُ فيها فائدةً تُساوي الفائدةَ التي وجدتُها في القرآن العظيم، لأنَّه يَسعى في تَسلِيمِ العظمةِ والجلالِ بالكُلِيَّةِ لله تعالى، وَيمنَعُ عن التَّعمُّقِ في إِيرادِ المُعارضاتِ والُمناقضات، وما ذاك إلاَّ ليُعلَمَ بأنَّ العقولَ البشريةَ تَتَلاشى وتَضمحِلُّ في تلك المضايقِ العميقةِ والمناهجِ الخَفِيَّةِ…”.([16])

10- إنَّ من ميزات المنهج السَّلَفي الفهم الصحيح لدور العقل في مجال الاستدلال به في إثبات التوحيد والقضايا المتعلقة به، فدوره هو دور الرضا والاطمئنان والتقدير والمعاضدة للنصوص الشرعية المثبتة للأسماء والصفات الإلهية، والدالة على وحدانية الله تعالى، وليس من دوره أن يتقدم النصوص الشرعية أو يعارضها، بل يدعم هذه النصوص ويزيد في تثبيت عقيدة التوحيد في النفس البشرية، ولقد جنى الفلاسفة والمعتزلة وأتباعهم على العقل حينما أقحموه في غير مجاله، فاعتدى على الذات الإلهية المقدسة، فجردوها من صفات الكمال الثابتة لها بنصوص الكتاب والسنة، وبذلك ضعفت عقيدة التوحيد في نفوس الكثيرين ممن أعطوا العقل هذا الدور.

11- إنَّ من ميزاتِ المنهجِ السَّلَفيِ الاعتصامُ بالكتابِ والسنَّةِ، والتسليمُ المطلقُ لنصوصِها، وما تَدُلُّ عليه من معانٍ وأحكامٍ، فالسَّلَف لا يَردُّونَ منها شيئًا، ولا يُعارضونَ منها بشيءٍ، بل يَقفونَ حيثُ تقفُ بهِم، ولم تَثبتْ عن أحدٍ منهم معارضةُ النصوص برأيِه، أو بذوقِه، أو بقياسِه، أو بمعقولِه، أو بِوَجْدِهِ، ملتزمين في ذلك بقولِه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ….الآية) سورة الحجرات:10.([17]) يقول ابنُ عبد البَّر: “ليسَ في الاعتقاد كلِّه، في صفات الله وأسمائه إلاَّ ما جاءَ منصوصاً في كتاب الله، أو صَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أجمعت عليه الأمَّةُ، وما جاءَ في أخبار الآحاد في ذلك كلِّه أو نحوِه يُسلَّمُ له ولا يُنَاظرُ فيه”.([18])

بينما امتازت المناهجُ الفلسفيِّةُ الكلاميةُ والصوفيةُ بنقيضِ ذلك تماماً، حيث ردَّ أصحابُها كثيراً من النُّصوصِ بالتأويلاتِ الفاسدةِ وبالرأي والهوى. فالفلاسفةُ زعموا أنَّ القرآنَ الكريمَ ليس فيه إشارةٌ إلى التوحيد، ولم يقبلوا شيئًا من نصوصِ الصِّفات، وكثيرٌ من المتكلمين زعموا أنَّ أدلَّةَ القرآن الكريم ظنيةٌ، وأنَّ أدلَّةَ  العقلِ برهانيِّةٌ يقينيةٌ، وجمهورُ المتكلمين ردوا أحاديث الآحاد، وزعموا عدم دلالتها اليقينية على مسائل الاعتقاد، ورد المعتزلة بعض الأحاديث الصحيحة بحجة ضعفها، وأولوا – هم والأشاعرة – كثيراً من النصوص بحجة مخالفتها لقواعدهم الكلامية.([19]) وذهب بعضُ الصوفية إلى أنَّ القرآنَ الكريمَ كلَّه شركٌ، وأنَّ التوحيدَ في كلامهِم هُم.([20]) يقول ابن تيمية: “ولم يكن في سلف الأمة وأئمتها من يرد أدلة الكتاب ولا السنة على شيء من مسائل الصفات ولا غيرها بل ينكرون على أهل الكلام الذين يعدلون عما دل عليه الكتاب والسنة إلى ما يناقض ذلك ولا كانوا ينكرون المعقولات الصحيحة أصلا ولا يدفعونها بل يحتجون بالمعقولات الصريحة كما أرشد إليها القرآن ودل عليها فعامة المطالب الإلهية قد دل القرآن عليها بالأدلة العقلية والبراهين اليقينية”.([21])

12- إنَّ منهجَ السَّلَفي في الاستدلال على وحدانيةِ الله تعالى هو منهجُ القرآنِ الكريمِ نفسِه، فأدلتُهم العقليةٌ مستمدةٌ من آياتِ الكتاب الكريم التي نَبَّهتْ العقلَ عليها. فهي أدلةٌ عقليةٌ شرعيةٌ فطريةٌ، مناسبةٌ لجميعِ العقولِ، وملائمةٌ لكلِّ الفِطَرِ، تَمتَازُ بوضوحِها وبداهتِها في نفسِها، وقد بَلغتْ من الإِحكَام والقوةِ والوضوحِ مبلغًا عظيمًا بحيثُ لا يُمكنُ مقارنتُها بأدلَّةٍ أُخرى، ولا يمكنُ معارضتُها لكونِها برهانيةً يقينيةً قطعيةً.

وقد بيَّنَ الله تعالى هذه الأدلةَ في القرآن الكريم بأعذبَ الألفاظِ وأحسنِها، لا تَرى فيها غُموضاً، ولا تَطويلاً ولا تَقصيراً، ولا نقصاً ولا زيادةً، وقد بلغتْ من الحسنِ والفصاحةِ والبيانِ والإيجازِ ما لا تَجدْهُ في غيرِها، ففصاحةُ القرآن الكريم وبلاغتُه أعجزتْ فصحاءَ العربِ وبلاغةَ البلغاءِ.([22])

أمَّا أدلةُ الفلاسفة والمتكلمين فهي في مُجْمَلِها تَمتازُ بِغُموضِها وعدمِ وضوحِها بنفسِها، لمَا فيها من التطويلِ، وكثرةِ المُقدماتِ، والتكلُّفُ، ولكثرةِ الاعتراضاتِ، والشكوكِ التي يُمكنُ أنْ تُثَارَ نحوها، لكونِها تَعتمدُ على العقلِ المُجَرَّدِ، والخيالِ الذِّهني البعيد عن الواقع والمشاهدة. ولذا فإنَّ العقلَ لا يُمكنُ أنْ يَصلَ إلى فَهمِهَا بيُسرٍ وسهولَةٍ، وإنْ وصلَ إليها وجدَها غيرَ ملائمةٍ لمَا استَقرَّ في الفِطَرِ والنفوس.

 

[1]– الحجة في بيان المحجة 2/224-225.

[2]– مجموع الفتاوى 12/338.

[3]– مجموع الفتاوى 3/373، شرح العقيدة الواسطية ص 124-125.

[4]– انظر الرسالة التدمرية ص 8-11.

[5]– مجموع الفتاوى 5/26.

[6]– المصدر السابق نفسه.

[7]– الإشارات والتنبيهات لأبي علي الحسين بن عبد الله، ابن سينا، والمواقف للقاضي عضد الدين الإيجي، والعقائد النسفية لأبي حفص عمر بن محمّد النسفيّ، وشرح العقائد النسفية لسعد الدين التفتازاني.

[8]– الصفات الإلهية بين السَّلَف والخلف ص 8-9.

[9]– من أمثلة ذلك: كتاب درء التعارض بين العقل والنقل لابن تيمية رحمه الله.

[10]– انظر أساس التقديس للفخر الرازي ص 172، ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين له ص 13.

[11]– انظر حاشية الصاوي على تفسير الجلالين 3/10.

[12]– أي الشيطان الرجيم.

[13]– إغاثة اللهفان 1/139.

[14]– انظر درء التعارض1/29، مجموعة الرسائل الكبرى 1/14، نقض المنطق ص 25، الصفات الإلهية بين السَّلَف والخلف ص 20، 32.

[15]– نقلا عن مجموع الفتاوی 9/225، 19/169.

[16]– عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة 417-468، وانظر طبقات الشافعية للسبكي 8/81-83.

[17]– انظر مجموعة الرسائل الكبرى – رسالة الفرقان– 1/19، مجموع الفتاوی 13/27-29.

[18]– جامع بیان العلم وفضله 2/117-118.

[19]– انظر مجموع الفتاوی 11/337.

[20]– انظر مجموعة الرسائل والمسائل 1/177، 4/45، الصفدية 1/295-296.

[21]– الصفدية 1/295-296.

[22]– انظر مختصر الصواعق المرسلة 1/97.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.