التنويه بخصائص كتاب التنبيه – د.بلال فيصل البحر
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.. وبعد:
فإن المختصر المعروف بــ(التــنـبـيه) للإمام العلامة المجتهد شيخ الإسلام أبي إسحق إبراهيم بن علي الشيرازي، من أجود متون المذهب وكتبه نقلاً وتحقيقاً، وأكثرها تحريراً، وأغزرها فوائد، وأعذبـها لفظاً، وأحسنها سبكاً ونظماً، وأجزلها عبارة، فإنه فيما قرّره النووي وغيره أحد الخمسة الكتب المعتمدة في المذهب.
وهو كتاب مبارك كمُصّنِّفه فقد قيل إنه كان يتوضأ ويُصلي ركعتين قبل تصنيف كل باب منه رحمه الله، ويدعو لـمن اشتغل به بالانتفاع، وكان الشيخ أبو إسحق مشهوراً بإجابة الدعوة.
وهذا كما صنع البخاري في (الصحيح) وأبو القاسم الزجاجي في (الجُمل) والشيخ أبو محمد بن أبي زيد القيرواني في (الرسالة) والصروفي في (الكافي في الفرائض) وغيرهم، ولهذا قال كثير من العلماء والعارفين إن هذه الكتب ما اشتغل بـها طالب إلا انتفع في فَـنِّها.
وقد انتزعه مؤلفه فيما قال حذّاقُ المذهب من تعليقة الشيخ أبي حامد الإسفراييني واستوعب عامةَ فوائدها، ولا يستريب شافعيٌّ أن (التعليقة الحامدية) أتقن كتب المذهب في النقل والتحقيق، وقد تقرر عند الشافعية أن العراقيين أقوم من المراوزة والخراسانيين في نقل المذهب وتحريره، وأن الخراسانيين أقعد بالاستدلال له.
ولا يحصى كم من الأعلام استظهر حفظ (التنبيه) كسلطان العلماء العز ابن عبد السلام وشيخ الإسلام النووي والعلامة الباجي والحافظ العلائي وشيخ الإسلام السبكي الكبير والحافظ ابن كثير والحافظ العراقي وابن قاضي شُهبة وناصر السنة ابن حَجّي وغيرهم، وحسبك أن من جملة من حفظه الملكُ المؤيد داود بن يوسف الرسولي ملك اليمن.!
وأما شُرّاحُه فأكثر وأشهر من أن يتسع المقام لاستيعابـهم، وأول من انتدب لشرحه العلامة أبو الحسن بن الخَلّ البغدادي، ومن شروحه المباركة شرح الزنكلوني المصري وهو لطلبة المذهب كابن عقيل لطلبة النحو، سهل المأخذ قريب المشرع.
ومن شروح (التنبيه) المستقصاة للفروع شرح ابن الرفعة، ومن أحفل شروح (التنبيه) شرح العلامة تاج الدين ابن الفركاح الذي وسمه بــ(الإقليد) حتى قال فيه السبكي الكبير:
يا إماماً فاقَ كلَّ إمام ……….. وفقيهاً أزرى بكلِّ فقيهِ
أنتَ أوضحتَ مُشكِلاتِ المعاني…يا إمامَ الدنيا من التنبيهِ
أنتَ ألبستَهُ بألفاظِكَ الغُرّ ……… لباساً يردُّ ما قيل فيهِ
كمْ تصدّى لذاكَ قومٌ قصدوا … عن بديعٍ وغامضٍ تحويهِ
ما رعوْهُ حقَّ الرعايةِ حتى …… أخذَ السهمَ بعدَهمْ باريهِ
وقال أيضاً:
ما زالَ للتنبيهِ بابٌ مغلق … عن فهمِ قومٍ ثاقبٍ وبليدِ
أعيا على الشُّرّاح طُرَّاً فتحُهُ…فلذاك قد ذُهلوا عن المقصودِ
حتى أتى شيخُ البريّة كلِّها … علامةُ العلماءِ بالإقليدِ
شرحٌ وجيزٌ بالإبانة كامل … حاوي هدى التقريب والتمهيدِ
فأبانَ منهُ كلَّ معنىً مُشكِل … خافٍ وقرَّبَ منه كلَّ بعيدِ
وأزالَ عنه كل شُبْهةِ قائل … ساهٍ وردَّ مقالَ كلِّ حسودِ
ثم توارد على شرحه الكبارُ من حذاق المذهب وتسابقوا في ذلك، حتى إن العلامة صائن الدين الجيلي المعروف بـالمعيد لما وضع شرحه الحافل عليه الكثير الفوائد، حسده عليه بعضُ الشافعية فدسَّ فيه من غرائب النقول والوجوه ما استدعى ابنَ الصلاح وغيره من نُظّار المذهب التنفيرَ عنه.!
وحتى كان المحدثون من الشافعية يتنافسون في فضل تصنيف شرح عليه، كالحافظ الكبير عبد العظيم المنذري وغيره، حتى شرحه الحافظ ابن الـملقن ثلاث مرات، وكان العلماء من سائر الفنون يرغبون في شرحه لبركته وغزارة مادته وبركة مؤلفه، حتى شرحه ابن النفيس الطبيب المشهور، وشرحه أبو العلوم كلها الحكيم الفيلسوف كمال الدين بن يونس الموصلي، وممن شرحه العلامة الشريف أبو عبد الله الحسيني السبتي قاضي الجماعة بغرناطة، وكان شافعياً.!
وشرحه من الأولياء العارفين السيد الكبير ابن سُكينة وكان فيما قال أبو شامة: من الأبدال، وكان دائم التكرار له، وحسبك أن (التنبيه) كان عمدة سيدي العارف بالله كبير الأولياء السيد أحمد الرفاعي، فكان يُفتي منه.!
ووضع الناس عليه من الكتب غير الشرح، كتخريج أدلته كابن كثير والسيوطي، وشرح غريب ألفاظه كالنووي والبرهان الفزاري وغيرهما، وحل مشكلاته كابن الحضرمي والموفق حمزة الحموي والزبيدي، بل والتنكيت عليه كما صنع ابنُ كشاسب وابن أبي الصيف والنووي والنشائي والعجلوني، وتصحيحه كالنووي والأسنوي.
لا بل واختصاره كما صنع العلامةُ تاج الدين ابنُ يونس وقاضي القضاة البازِري وأبو العباس بن لؤلؤ وغيرهم، ومنهم من نظمه كأبي محمد بن السراج وعبد العزيز الدميري وأبي الحسن الأذرعي وابن بيلبك وغيرهم.!
والأعجب أن القاضي العلامة عز الدين بن جماعة أفرد خطبة (التنبيه) بشرح أسماه (مقصد النبيه) مع كونـها مختصرة جداً في خمسة أسطر، وقد أُغرم بـمطالعته الفقهاءُ والعلماء حتى قيل إن المحدّث أبا الفضل بن الأُخُّوَّة انتسخه في يوم واحد، وأول من أعتنى بنشر (التنبيه) وطبعه المستشرق الهولندي إبراهام فلم جوينبول سنة 1300 هـــ ثم توارد على طباعته المحققون.!
وقد كان العلامة نصير الدين ابن الطباخ ذكي القريحة حاد الذهن كثير الاعتناء بــ(كتاب التنبيه) والتعظيم من شأنه، فنُوزع مرةً في مسألة، وقيل له: ليست هذه في (التنبيه).؟
فغضب وقال: ما من مسألة إلا وهي في (التنبيه).!
فقيل له: أين في (التنبيه) إن لكل جرية حكماً في الماء الجاري.؟
فقال: في قوله في الطلاق: (وإن قال لها وهي في ماء جار: إن خرجت من هذا الماء فأنت طالق، وإن أقمت فيه فأنت طالق، لم تُطلّق خرجت أو أقامت) فقد جعل لكل جرية حكماً.!
وقد كان المصنف أراده مستقصى جامعاً للفروع منطوقاً ومفهوماً، ولهذا قال في صدره: (إذا قرأه المبتدي وتصوّره تنبَّه به على أكثر المسائل، وإذا نظر فيه المنتهي تذّكر به جميع الحوادث).!
والذي يظهر أن الشيخ لخصّ (التنبيه) من (المهذب) الذي كان صنفه لـما بلغه أن الأستاذ أبا نصر بن الصباغ قال: (إنما علمُ أبي إسحق رؤوس الخلافيات بين أبي حنيفة والشافعي دون الفروع، فإذا اصطلح الإمامان ذهب علم أبي إسحق) فنهض أبو إسحق من فوره ووضع (المهذب) وهذا كما قيل:
من الناس من لا يُرتجى نفعُهُ…..إلا إذا مُسَّ بإضرارِ
كالعُودِ لا يُطمَعُ في عَرْفه……..إلا إذا أُحْرِقَ بالنارِ
وكان العلامةُ العارف بالله تقي الدين ابنُ رزين قد أخذ الطلبةَ بحفظ (التنبيه) وألزمهم به، ومن لطائف كراماته ما حكاه الشيخ عماد الدين بن سِنان الدولة قال: كانت لي نسخة من (التنبيه) مليحة حفظتها خلا باب القراض.
وكان الشيخ ابن رزين تقدّم إلى الطلبة أن يعرضوا محفوظهم منه في الغد، وكان من عادة الشيخ أن يأخذ كتاب الطالب فيفتحه ويستقرئه منه، وخطر لي أَن أشرط الورقة التي فيها باب القراض من الكتاب، فإذا فتحه لم يرَ ذلك الباب.!
فلمّا أصبح واستعرض الجماعةَ وانتهت النوبةُ إليّ، تقدّمتُ وناولته الكتاب فقال: دعه معك، اقرأ باب القراض.؟
فقلت: والله يا سيدي أحفظ الكتاب كلَّه خلا هذا الباب.
فقال: ما حملك على قطع الورقة وإفساد المالية.؟
قال: وكان إذا لحظ شخصاً انتفع بألحاظه، وإذا أعرض عنه خيف عليه مغبّة إعراضه.!
ولـما صنف العلامة جمال الدين الريمي شرحه على (التنبيه) الموسوم بــ(التفقيه) في عشرين مجلداً حافلاً مبسوطاً، حُمل إلى ملك اليمن في موكب عظيم جليل والحرس يحوطونه، لكنه لم يُنتفع به لأنه فيما قيل أكثر من الطعن فيه على النووي إلى حدّ الانتقاص، عفا الله عنا وعنه.
وحكى الحافظ عن محمد بن أبي بكر المصري أنه شاهده عند وفاته وقد اندلع لسانه واسْوَّدَّ، فكانوا يرون أن ذلك بسبب كثرة وقيعته فى الشيخ محي الدين النووي رحمه الله تعالى.!
ونظير هذا وقع للعماد الدمنهوري مع (التنبيه) فإنه كان مغرى بالاعتراض على الشيخ أبي إسحق الشيرازي في (التنبيه) فلا جرم أخمل اللهُ ذكرَه كما ذكر ابن السبكي وغيره، وهذا من بركة الكتاب ومؤلفه كما تقدم ذكره.
ولله أبو الخطاب بن الجراح القائل:
سُقياً لـمَنْ صنَّف التنبيهَ مُختصِراً…ألفاظَهُ الغُرَّ واستقصى معانِيهِ
إِن الإِمامَ أبا إسحاق صنفه ……. للهِ والدينِ لا للكِبْرِ والتِّيِهِ
رأى علوماً عن الأفهامِ شاردةً …. فحازها ابن عليٍّ كلَّها فيهِ
بقيتَ للشرعِ إبراهيمُ منتصراً ……. تذودُ عنهُ أعادِيهِ وتحمِيهِ
وقد صنف العلامة تاج الدين عبد الرحيم بن يونس الموصلي جزءاً لطيفاً في مناقب (التنبيه) ومؤلفه والكلام على دقائقه أسماه (التنويه بفضل كتاب التنبيه) لم نقف عليه، ومن عجائب ما اتّفق لمؤلفه أنه لم يتزوج باتفاق الناس، ومع ذلك كان العلامة مجد الدين الفيروزابادي يقول: إنه من نسل الشيخ من ولده فضل الله.!
وما أكثر ما سمعنا من حجَّ عن ابن حزم، فليت بعض أهل السعة ينتدب للحجِّ عن الشيخ أبي إسحق الشيرازي، فإنه لم يحجَّ لعدم اقتداره على نفقته، ولو أراده لاحتمله الناس على الأعناق من تعظيمهم لجنابه رضي الله عنه.
وبعد..فشأن (التـنـبيه) كما قال بعض الشافعية في تقريظه:
يا كوكباً ملأَ البصائرَ نورُهُ … من ذا رأى لكَ في الأنامِ شَبِيها
كانتْ خواطرُنا نياماً بُرهةً ………… فرُزِقنَ من تنبيهِهِ تنبيها
آخره
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
وكتب
بلال فيصل البحر
بالقاهرة/الثاني من أيام التشريق/1438هــ
جزاكم الله خيرا د.بلال مقال نافع باذن الله، اود فقط إخباركم بأن كتاب الموصلي ( التنويه بفضل التنبيه) قد وقفت عليه نسخة وحيدة مخطوطة الى الآن، ولعلها تخرج قريبا باذن الله.