حصريا

لا تنقمن (قصة)-عبدالله نفاخ-سوريا-

0 69

لا تنقمن

(قصة)

عبد الله نفاخ – سوريا

استغرق بسَّام في تأمله والغيظ يأكله.

لقد تقضت سني حياتي كهشيم المحتظر، فارغة من أي معنى أو روح، كنت دوما أعيش في ظل الاضطراب النفسي منذ مطلع أيامي حتى الوقت الذي قررت أن أبدأ فيه العلاج قبل سنين، واليوم أشعر أني ابتدأت حياتي، ابتدأتها في الأربعين، أي خسارة هذه وأي مهزلة.

تنهّد بأسى محرق، ثم عبَّ الهواء عبًّا، وأخذ نفسا من سيجارته.

بعد تفكير طويل تأكدت أنها أمي، أمي كانت السبب الرئيس في كل ما جرى، لو كانت أكثر حنكة وكانت شخصيتها أقوى لردت عني بلايا لا حصر لها، ولكانت عملت على تقوية شخصيتي لأكسر المصاعب التي واجهتني فلا تكسرني، لكنها كانت كذلك طوال حياتها ضعيفة الشخصية وغذَتني لبان ضعف الشخصية كذلك.

شعر بقهر هائل بين جنبيه، فاتجه إلى سريره ليستلقي، وما هي إلا دقائق حتى سمع صوت إشعار من هاتفه الجوال.  فتح ليجد هذه الإنسانة الغريبة التي أطلت عليه قبل فترة عبر صفحات التواصل الاجتماعي.

تقول إنها زميلة قديمة من أيام الجامعة، حدثته عن معاناة نفسية شديدة تعيش فيها، تقارب المعاناة التي مرّت به، وذكرت له اسمها، وهو ما يزال يذكر جيدا الفتاة التي تحمل هذا  الاسم، فلا يمكن أن تكون هي، تلك كانت شرسة قوية الشخصية حادّة قاسية، وهذه مكسورة متألمة مقهورة.

فتح برنامج الماسنجر فوجدها تطرح عليه اقتراحا أن يلتقيا في اليوم التالي الساعة الرابعة، فأجابها سريعا بالموافقة لرغبته الشديدة أن يتعرف عليها شخصيا، وكانت قد ذكرت له من قبل أنها ترغب في الاجتماع به ليناقشا تجربتها في المعاناة النفسية.

واعدته عند باب الكلية، وحين حلّ الموعد نزل من الحافلة ليلقاها في وجهه، فتأسره الدهشة.

إنها هي … نجلاء، ذات الشخصية القوية والردود العنيفة والمشاجرات الكثيرة مع زملائها، تلك التي ما تزال صورتها حاضرة في ذهنه وقد استبعد أن تكون من تراسله.

لكنها تغيرت كثيرا، تبدو اليوم هادئة رقيقة متزنة، بعيدة تماما عن نجلاء الأمس.

حياها بترحاب، وما أسرع أن راحا يذكران لبعضهما ما تحتفظ به الذاكرة من مواقف الدراسة التي جمعتهما، ومضيا إلى حديقة الكلية.

وعلى مقعد خشبي بسيط، جلسا يتحادثان.

راحت نجلاء تسرد قصة معاناتها، لقد تزوجت في آخر سنيها في الجامعة بشاب يكبرها ببضع سنين، لكنه صاحب مركز ونفوذ، وهو إلى ذلك صاحب شخصية راقية ونفس سمحة، فعاشت معه أيام لا تنسى، لكنه –وهي حامل منه في الشهر السابع- مضى في سفر إلى إحدى دول الجوار، وفي طريق العودة، تعرض لحادث سير مروع، قضى نحبه على أثره.

لقد كانت تكلّمه قبل دقائق من الحادث، وحين عاودت الاتصال به لتذكره بأمر ما أجابها صوت غريب ليقول: البقية في حياتك.

كانت صدمة الموقف الأسود كافية لتدخلها في حال اكتئاب فظيعة شغلتها عن ابنها الذي ولدته بعد شهرين وعن نفسها سنة كاملة، وعندما بدأت تتعافى برز لها أهل زوجها بوجوه مسودّة، يحاسبونها على كل صغيرة وكبيرة، ويحصون عليها أنفاسها.

والمجتمع صار ينظر إليها نظرة دونية: إنها أرملة، أي ضعيفة لا ظهر تستند إليه.

وعلى ما كانت في نفسها من قوة فإن ضغط المجتمع المتنامي ولا سيما ضغط أهل الزوج الذين يرون لأنفسهم حقا عليها، كل ذلك حوّل صروح قوتها قطعا من رمل تعبث بها مياه الجو المحيط.

وعلى قهر واضطراب قضت أياما طوالا، حتى وجدت سلوى لنفسها في بعض الأعمال اليدوية دون أن يهدأ ضغط من حولها أو يلين، وما زالت نفسها تتألم وتنكمش حتى باتت في وضع لا يعلمه إلا خالقها.

كان بسام يستمع فيشعر بندم طاغ، فلقد جاءه الشاهد الساعة ليرد عليه كل ما فكر به ولام أمه، فإن تكن هذه التي عرف بنفسه شدتها وقوتها قد عانت الأمرين بعد فقد زوجها حتى غدت بين فكي كماشة، فما بال أمه التي لم تكن يوما بتلك القوة ولا بذاك العنفوان!!!

وفيما راح يشير عليها ببعض الوصايا التي استفادها مما مر به، ويدلها على بعض الأطباء الناجحين كانت نفسه تردد:

– لا تنقمنَّ على المرأة في مجتمعنا مهما بدر منها !

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.