حصريا

عَثار الباحثين في التاريخ – د.بلال فيصل البحر – العراق

0 438

بسم الله الرحمن الرحيم

عَثار الباحثين في التاريخ

الحمد لله وسلام على رسله المصطفين الأخيار وبعد:

فإن المتأمل في الدراسات التاريخية المعاصرة بإنعام نظر وتجرُّد، يتضح له أن فيها مواضع ليست بالقليلة، يكتنفها خلل سببه ما يعتنقه الباحث أو الكاتب من سوابق الأفكار والعصبية لها، فيحكم نظره فيها على وفق تلك الاعتقادات والعصبيات والأهواء.

ولا ريب أن في كثير من المعاصرين تشوفا للإنصاف والتجرد في البحث، ولهم دراسات ومحاولات في تخليص البحث التاريخي من الدرس التقليدي، ونقله إلى الدرس الحضاري الذي يثمر إصلاحا وتمنية تنشدها الأجيال والأمم، فإن من لا تاريخ له لا أصل له، والأمر كما قال أستاذنا الوزير الأديب الدكتور أحمد مطلوب رحمه الله: (والـمُجَدِّد إذا لم يَصْدُر عن التراث، يظلُّ بعيداً عن الأصالة) وقال الروائي دان براون: (مفتاح مستقبلنا مُـخـبَّـأٌ في ماضينا).

والمقصود هنا بيان أنه لا يزال في كثير من الدارسين المعاصرين للتاريخ ونصوصه، خلل يعكِّر على جدوى دراساتـهم في الحاضر والمستقبل، من جهة التعامل معها رواية ودراية، وسبب هذا الخلل كما مر: إما العصبية للاعتقادات السابقة التي نشأ عليها الباحث، أو الإمعان في تقديس المنقول؛ سواء النص نفسه أو ناقله، أو العكس بالتحامل على الناقل وقبول الطعن عليه بلا تأمل، أو عدم التمييز في قواعد العلوم.

والكلام هنا عمن ينتدب للنهوض بالبحث التاريخي للتجديد بحيث يجدي في واقعنا المعاصر، ولا كلام لنا مع منكري التاريخ ومدعيي تزويره، أو من يجمد على الدرس التاريخي القديم بلا تشوُّف للتجديد، فهؤلاء كلاهما كالـمُهَدِّر في العُنَّة، أو كمن يثرد خارج القَصْعَة، فلا بالتاريخ أضروا، ولا برواياته انتفعوا ونفعوا، فالبحث معهم والحال هذه ضائع ولا موقع له.

ونحن في هذا المقال لا نستقصي مواقع الخلل في بحث العصريين من الدارسين المجددين، فالمقام لا يتسع للتنبيه على كل مأخذ اقتنصناه وأخذناه عليهم، وإنما ننبه على عثار وقع البحث فيه مع بعض الفضلاء المعتنين، فحسن ترصيفها في سلك ينتظمها بقصد انتفاع من يرغب بالانتفاع بتجارب غيره وإن لم تكن واسعة.

وهنا ثلاثة مآخذ:

أحدها: هيمنة النزعة العربية القومية على الباحثين، وهذا داء تسرَّب للباحثين الإسلاميين حتى بات كثير منهم -لأسباب واقعية منها تخبُّط الإسلاميين السياسيين، وتقهقر ثورات الشعوب وغير ذلك مما ليس هذا موضع بسطه- قوميا أشد من قومية البعثيين والناصريين، فهؤلاء كانت دعوتـهم لتوحيد العرب بحيث يعدون أي إنجاز قام به عربيٌّ: عربيا خالصا، بقطع النظر عن بلده وموطنه، وأولئك استحكمت فيهم وطنية ضيقة العطن، بحيث يرفع العراقي عقيرته على السوري، والسوري على المصري، والمصري على العراقي وهكذا، يفتخر الواحد منهم -مع أن انتماءه إسلامي كما يزعم- بوطنيته الضيقة!

هذا الخلل الفكري استحكم في بعض الدارسين، فأثَّر في نظره وبحثه التاريخي، فتجده حال الكتابة في تاريخ النزاع العلوي الأموي على الحكم، يستحضر بعنفوان حاد جغرافية النزاع القومية، فينحدر في مهيع البحث العقيم، فإن كان شاميا تجده يفسر أسباب عدم نجاح ثورات أهل البيت عليهم السلام، بخذلان شيعة العراق لهم بعد وعودهم بالنصرة -وفيه نوع حق- وأن سبب نجاح الأمويين في الحكم وثباتـهم عليه، مبالغة الشاميين في طاعتهم لهم -وفيه نوع حق أيضا- فيندفع للطعن في العراق وأهله والغلو في مدح الشام وأهله، ويجلب روايات القدح والمدح التي حملته ظاهريته وعصبيته للغلط في تفسيرها بما يصادم التاريخ الواقع من كل وجه!

وعلى النقيض تجد باحثا يميل للعلوية، مفعم بالولاء، قد غمرته نظرية المؤامرة على أهل البيت وغمط حقوقهم حتى كأنه إرث يرثونه، مع أن من مغالطاته العصبية: إنكار توريث الأمويين والعباسيين، فلست أدري ما الذي سوغ له تصحيح إرث العلوية من حيث سلبه عن غيرهم، إلا العصبية!

فتراه يفسر حبوط ثوراث العلويين باستحكام النصب في الشاميين -وهو واقع في كثير من قدمائهم وينبعث بخفاء اليوم- ويجلب النصوص في هذا المعنى، وينحدر في الطعن ببحث عقيم لا يفيد؛ فلا للعلويين انتصر، ولا للأمويين كسر.

والواقع أن التاريخ بحاجة إلى فلسفة معنوية -للتصرف في منقولاته من جهة الدراية والفهم- وإلى علوم ليس أقلها معرفة الأخلاق وعلم الاجتماع والنفس والأدب والأنساب، فضلا عن العلوم الشرعية والآلية، فلو قُدِّر أن العلويين وشيعتهم هم من يستحوذ على الـمُلْك، وأراد الأمويون ومن معهم من الشاميين، انتزاعه منهم، لرأيت ثبات الشيعة في الولاء للعلويين والمحاماة عن ملكهم، كثبات الشاميين في الذب عن الأمويين، ولرأيت نكول الشاميين عن نصرة الأمويين وخذلانـهم كما تخلى الشيعة عن أهل البيت سواء.

وهذا ليس سببه ما يتوهمه العوام في العلم من نفاق شيعة العراق أو ولاء وطاعة الشاميين، بل الأمر راجع إلى أحوال العرب وطباع نفوسهم الرامية إلى التمرد على كل شيء وعدم التسليم والانقياد له بدافع النخوة، فإذا تسلط عليهم الحكام واحتوشوهم بالرغبة والرهبة، ملكوا زمام قلوبـهم، حتى دانوا لحكامهم بالقهر أو بالحلم.

فإذا أراد إنسان -مهما بلغ من الصلاح وشرف النسب- انتزاع ملكهم لسبب مشروع كمطالبة بحق أو إنكار باطل وجور، فلن يجد في العرب من يثبت معه وإن كان يكون معه في الرأي، وذلك لميل العرب إلى طاعة حكامهم بالقهر والغلبة، ودونك الواقع اليوم، فعلى ما بلغه حكام العصر من القهر والجور والفقر واستجهال الشعوب واستعبادها، لا يزال في العرب -وهم الأكثر- من يميل إليهم ويود أن لو عاد الحكم إليهم.

وما روي من تململ العترة من شيعتهم، ومدح الأمويين لمناصريهم، إنما خرج على مقتضى الحال لا أنه الحق في نفس الأمر، وإلا فقد ثبت الشيعة مع علي حتى قال نفطويه في (تاريخه): (كانت وقائع صفين تسعة وثلاثين موقعة، كلها لأهل العراق على أهل الشام)!

لكن الفرق أن معاوية يحكم أهل الشام من أيام عمر، فاستحكمت في نفوسهم المولاة له وللأمويين، ألا تراهم سخطوا عدل عمر بن عبد العزيز فلم يرضوه حتى عادوا بالخلافة لبني مروان -على جورهم ومخالفاتـهم الظاهرة للشرع- خشية أن يعهد عمر لرجل من أهل الصلاح كما عهد بـها سليمان بن عبد الملك لعمر، فتخرج الإمارة عن الأمويين، هذا وعمر منهم فكيف بغيره ممن ليس فيهم نسبه وولاؤه؟!

وأما علي عليه السلام: فاضطرب أمر العراق عليه؛ لقربه من فارس، وقصر مدة ولايته فيهم، وظهور الخوارج، ولهذا قل الغزو في زمانه -مع أنه أغزى زياد بن أبيه خراسان وما والاها- فمن هنا كانت العوامل السياسية والاجتماعية في صالح الأمويين، وأدرك الحسن ذلك لما يراه من عدم طاعة الشيعة لأهل البيت لقلة ولايتـهم فيهم، وثبات موالاة الشاميين للأمويين بطول العهد فيهم، فغلب جانب العقل والحكمة ونزل عن الخلافة.

ومن هنا تجد أن الحكم الوراثي مع كونه مخالفا للشرع؛ ويغلب عليه الطغيان والفساد، استمر في التاريخ العربي، لأن طباع عوام العرب الميل للمبالغة في طاعة حكامهم بطول العهد والولاء لهم ولأولادهم، وهذا لا ينحصر في العرب، بل يطَّرد في الناس والأمم، لكنه في العرب أظهر، مع التنبيه على أن هذا لا يقتضي صلاحيته، بل الصلاح إنما يقع بالعدل الذي هو المقصود الأصل للشارع الحكيم.

فمن يميل لتفسير التاريخ ووقائعه بما يتخيله من فضل طائفة على غيرها، أو مناقب بلد على غيره، فقد غلط وأسرف في راديكالية لا تجدي في الواقع، ولما أدرك هذا بعض الفضلاء غلط فأطلق أن الحكم الوراثي أنفع للعرب من الشورى والاستخلاف، وهذا عثار آخر، وهو لا يصح لأنه حمل للشرع على طبع جاء الشرع بتغييره ونسخه، فإن التوارث إنما كان في بني إسرائيل، فابتعث الله نبيه عليه الصلاة والسلام بالشورى والخلافة، وإنما أقر أهل العلم هذا التوارث تغليبا للمصلحة، كنهي الشرع عن الخروج على ولاة الجور مع أن فيهم من الظلم ما يقتضي الخروج عليهم وخلعهم، لكن أمر بإقرارهم والنزول عند طاعتهم تغليبا للمصلحة ودرءاً للمفسدة، فكذلك ولاية المتغلب بالوراثة، هذا وجه تقريرها عندهم.

وقد حكى أبو العباس المقري عن جده شيخ الإسلام الإمام محمد بن محمد التلمساني المقري: قال: سألني بعض الفقراء عن سوء بخت المسلمين في ملوكهم إذ لم يل أمرهم من سلك بهم الجادة وحملهم على الواضحة، بل يغتر في صلاح دنياه غافلا عن عقباه فلا يرقب في مؤمن إِلَّا ولا ذمة، ولا يراعي عهدًا ولا حرمة؟

فأجبته بأن ذلك لأن الملك ليس في شريعتنا، بل كان شرع من قبلنا، قال تعالى ممتنًا على بني إسرائيل: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} ولم يقله في هذه الأمة، بل جعل لهم خلافة، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} الآية، وقال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} وقال سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا} فجعلهم ملوكًا، ولم يجعل لنا إلا الخلفاء فأبو بكر خليفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، كما فهمه الناس عنه فهمًا وأجمعوا على تسميته بذلك، ثم استخلف عمر فخرج بها عن سنن الملك الذي يرثه الولد عن والده إلى سنن الخلافة الذي هو النظر والاختيار، ونص في ذلك على عهده، ثم اتفق أهل الشورى على عثمان فأخرجها عمر عن بنيه إلى الشورى دليلا على أنها ليست ملكا، ثم تعين عليٌّ بعدُ إذ لم يبق مثله، فبايعه من آثر الحق على الهوى والآخرة على الدنيا، ثم الحسنُ كذلك، ثم كان معاوية أول من حولها ملكا والخشونة لينا: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فجعلها ميراثا، فلما أُخرجت عن موضعها لم يستقم مُلْك فيها، ألا ترى أن عمر بن عبد العزيز كان خليفة لا ملكا؛ لأن سليمان رغب عن بني أبيه إيثاراً لحق المسلمين، ولئلا يتقلدها حيا وميتا، وكان يعلم اجتماع الناس عليه فلم يسلك طريقة الاستقالة بالناس قط إلا خليفة، وأما الملوك فعلى ما ذكرت إلا من قلَّ، غالب أحواله غير مرضية.

وبه يعلم أن دراسات بعض المتعصبين لبني أمية وبني العباس ومحاولة تقرير أعمالهم المخالفة للشرع، لا طائل منها إلا محاولة تقرير أفعال الظلمة من ولاة الجور في زماننا، وعلى نقيضهم: الغلاة من الشيعة ممن ينبش في روايات التاريخ فيظهر شواذها للناس بقصد استثارة العامة لمظالم أهل البيت النبوي عليهم السلام، وإنما هو عبث لا طائل منه إلا استثارة العامة للطعن في السلف الأول والتاريخ، وكلاهما لا يثمر علما نافعا للواقع تنهض به الأمم.

على أن عامة ما يروى في ثلب الشاميين بالنصب، والعراقيين بالرفض، لا يتجه للشام والعراق، بل لمن فيهما من النواصب والروافض، فعليهم يحمل الذم ولا شأن لنفس البلاد وأهلها بذلك، كما قال الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب يوما لرجل من الرافضة: (والله إن قتلك لقربة إلى الله عز وجل) فقال له الرجل: إنك تمزح، فقال: (والله ما هذا مني بمزح ولكنه الجد) وقال لهم أيضا: والله لئن وُلِّينا من الأمر شيئا؛ لنقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ثم لا نقبل لكم توبة، ويلكم غررتمونا من أنفسنا).

وتارة تروى هذه الأخبار بلفظ (أهل العراق) فليعلم أن المراد خصوص الرافضة لا عموم من بالعراق، وهكذا ما ورد من الأحاديث في ذم العراق ووصفه بالنفاق، فإنه من العام الذي أريد به الخصوص، فالمراد خصوص من به الروافض، كما نبَّه عليه ابن تيمية، ولو كان على عمومه ما نزله من الصحابة الجم الغفير، ومنهم حذيفة بن اليمان الذي هو أعلم الناس بالنفاق وأهله!

فتنبه وافْهَم، وقس عليه ما يروى من ذم الشام بالنصب، كما أن ما يروى من الفضائل له ليس على عمومه، وإنما هو عندهم محمول على آخر الزمان حيث ينحاز المؤمنون للشام، فتكون معقلهم من الفتن، وإلا فأي فضل للشام وأهله على الحرمين والأقصى، وكذا على مصر والعراق واليمن، وهم سواء في الإيمان والدين والمآثر!

فاختيار العراق موضعا للفتن من جهة موالاته لفارس التي منها الدجال والملاحم والفتن وقد صح أنه منها يخرج ثم يكون أول ظهوره ببلاد العرب خلة بين العراق والشام، وكون الشام معقلا من الفتن فمن جهة موالاته للبحر والروم وهم أهل كتاب، وإلا فبلاد الحرمين أفضل من الشام إجماعا ولم تكن هي معقلهم من الفتن، وعلى هذا تتنزل ما يصح من أخبار الفضائل على قلة الصحيح فيه، وإلا فأي فضل وقع للشام على غيره من أمصار الإسلام حتى تجرى أخبار الفضائل على مومها في الأحوال والأزمان، فصح أنها خاصة في زمان وحال معينين.

وبه يعلم غلط حديث (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم) من جهة أن الفساد واقع فيهم كغيرهم والخيرية لم تبطل في الأمة، ومن جهة أنه معارض للأصل العام: (الخير في أمتي إلى يوم القيامة) وعلى تسليم صحته فهو مختص بالعصابة المؤمنة التي تعتصم بالشام آخر الزمان، ويكون المعنى: لا خير في عموم الناس إذا فسد هؤلاء، وهو حق لأنهم إذا هلكوا لم يبق في الأرض إلا شرار أهلها كما صح في الحديث، فهو عام في كل المؤمنين الذين يعتقلون بالشام آخر الزمان فراراً من الفتن، ولا يختص بأهل الشام؛ ضرورة أن الفساد حل في الشام كما حل في غيرهم، بل لعله فيهم اليوم أكثر من غيرهم.

وقد قال لي يوما بعض هؤلاء العصبيين: ما تقول في العراقي الذي جاء إلى ابن عمر يسأله عن دم البعوض، فقال له: (قتلتم ابن بنت رسول الله وتسأل عن دم بعوضة)؟

فقلت: لو جاءه شامي وسأله نفس السؤال، لقال له ابن عمر: قتلتم عمار بن ياسر الطيب المطيَّب، وحاربتم أمير المؤمنين علي ولعنتموه على المنابر، وقد صح أن بُغضه نفاق، فكيف بقتاله، وتسأل عن دم بعوضة؟

ولو جاءه مصري فسأله نفس السؤال: لقال: قتلتم أمير المؤمنين عثمان ذي النورين وهو يقرأ القرآن، وتسأل عن دم بعوضة؟ وعندك أن عمار وعلي وعثمان أفضل من الحسين، فيلزم أن جرمكم أعظم، فبهت وتفطن إلى المقصود الذي تقدم تقريره.

ولو سأل سائل: كيف ساغ لابن عمر أن يُحمِّل ذنب القتلة عامةَ أهل العراق والله يقول: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)؟ لكان سؤاله كسراً لهذا الفهم المغلوط ونقضا، ويتعين أن ابن عمر علم أن السائل ممن شرك في دم الحسين، أو أنه ممن رضيه، فأخرج الجواب على طريق التعميم بقصد المبالغة في الزجر، فلا يصح تعميمه.

ومن ذلك: غلو بعض من يتشيع من أهل الحديث العصريين في ثلب الرواة وأصحاب الحديث والتاريخ، مثل الغماري الذي نبز البخاري بأنه “نويصبي” لأنه خرَّج أحاديث مثل عمران بن حطان، ولم يكثر عن أهل البيت عليهم السلام، مع أن سبب ذلك معلوم مقبول رواية ودراية! وكذلك ثلبه ابن تيمية والذهبي وابن كثير بأنـهم نواصب الشام، وأطلق في بلاد الشام أنـه (البلد المنكوب بالنصب) وأن الأخبار في فضائله كلها باطلة!

وهذا الكلام ينتقض بنحو ما تقدم ذكره في غمز العراق وأهله، وكله مجانب للمنهج العلمي، مائل للعصبية والحمية، ولأجله ظهر النصب اليوم من جديد وانبعث غير منحصر بالشام، في مقالات بعض الباحثين في التاريخ ممن ينبز الحسين وآله عليهم السلام بالخوارج، ويروم عبثا تنزيه الطاغية يزيد، ونحو ذلك من مقالاتـهم، وإنما ظهر هؤلاء رد فعل لغلو مثل الغماري وأتباعه في التشيع، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم

وهذا المأخذ راجع لفحص متون المنقولات والأخبار التاريخية ودراية معانيها، وليس الغرض استيعاب النظائر والوجوه، بل القصد ذكر ما به يحصل المقصود من التنبيه على مواقع الغلط في هذا الباب كي يجتنب.

ثاني المآخذ: راجع إلى نقل التواريخ وروايتها:

وهو أن من العصريين من يتوهم أن في إعمال قواعد الجرح والتعديل ونقد رواية الحديث، في المنقولات التاريخية وتنزيلها عليها قبولا وردَّاً، ما يفضي إلى منهج صحيح في نقد الأخبار التاريخية وتمحيصها.

وهذا باب غلط فيه الألباني في السيرة، وتبعه عليه طوائف توهموا أنه منهج مستقيم، فأعملوه في باب رواية التاريخ كالأستاذ محب الدين الخطيب وغيره، وذهلوا عن أن باب رواية الحديث غير باب رواية التاريخ، ولهذا لم يتقدم لهم سلف في هذا المعنى، فعامة أهل العلم بالتاريخ كابن جرير وابن الجوزي وابن الأثير والذهبي وابن كثير وغيرهم، لم يسلكوا هذا المسلك المتعسف، لأنه يفضي إلى سقوط التاريخ بالكلية.

ولهذا تجد في هؤلاء العصريين من يدعي أن قصة التحكيم باطلة، أو أن وقعة الحرة لا تصح، ونحو ذلك من المجازفات الموهمة والإطلاقات القاصرة، ولو فتح هذا الباب لأمكن أن يتوسل به للطعن في تاريخ الأمة وإسقاطه بالجملة، ولهذا ظهر فيهم من يزعم أن القعقاع شخصية خيالية لا وجود لها، ونحو هذا الهذيان البارد.

وهؤلاء لما وجدوا أئمة الحديث يضعفون حديث الواقدي ولوط بن يحيى وابن مِغْوَل وسيف بن عمر وابن الكلبي والمدائني ونحوهم من أهل العلم بالأخبار والتاريخ، توهموا أن هذا الطعن في روايتهم للحديث يتنزل على منقولاتـهم في التواريخ والأخبار والسير، فخلطوا بين الأمرين وفتحوا باب فساد في العلم من حيث يحسبون أنـهم يحسنون صنعا!

وللمتقدمين قولان في الخبر والحديث والفرق بينهما، حكاهما الحافظ وغيره، والذي يقتضيه تصرف أهل التاريخ من المحدثين: التفريق بينهما، فإنـهم لا يقبلون حديث الواقدي ولوط وسيف وابن الكلبي والمدائني من حيث قبلوا منقولاتـهم التاريخية وأخبارهم في السير، ودونك ابن إسحاق قد أطبق الناس على قبول مراسيله وعنعنته في السير من حيث لا يقبلونـها في باب رواية الحديث، لأن الحديث ليس فنهم الذي اختصوا به، بخلاف التاريخ والسير فإن لهم به مزيد عناية وضبط، وقد انتدبوا لنقله دون غيرهم، لذا عول عليهم أهل العلم فيه وقبلوه.

ونعني بقبوله: أن الأصل فيه هو قبول ما رووه في التاريخ والأخبار والوقائع وأيام الناس والسير، من حيث روايته، لكن متونه تسبر على الأصول وتعرض على المنقول والمعقول في الشرع، فإن ظهر في معانيها ما يستوجب القدح فإنه يُرد، وإلا قُبل.

ولهذا قبل أهل العلم خبر التحكيم لشهرته عند العلماء ولم يرده أحد برواية أبي مخنف، لكن لم يقبلوا حكاية عمرو بن العاص في مبارزته عليا وكشف عورته، فإن هذا غير متعقل من العرب ولا هو من عاداتـهم، بل إن الكافر فيهم لا يرضاه لدنائته ومجانبته للمروءة، فكيف بصحابي، وإنما يقبل هذا من لا يميز من أهل الأهواء كالروافض، وهؤلاء قوم بـهت رأس مالهم الوقيعة في السلف وثلب الصحابة.

وأيضا: تجد أهل العلم بالنقل للأخبار قبلوا روايات وقعة الحرة وما فعله يزيد الطاغية بأهل المدينة النبوية، لاستفاضته وتداول أهل العلم له، لكن لم يقبلوا ما روي فيه من العدد المبالغ به فيمن قُتل من أهل الحرة، ولا حكاية سيلان الدماء في سكك المدينة والمسجد النبوي ومنبره ونحو هذه المجازفات.

وأيضا: قبلوا أخبار أبي مخنف وسيف والكلبي وغيرهم في صفة مقتل الحسين عليه السلام، لكن لم يقبلوا ما روي فيه من كسوف الشمس ومطر الدم ونحو ذلك، ولا ما يذكرونه من فعل يزيد بآل الحسين من نقلهم عرايا إلى الشام حاسري الرؤوس على الإبل التي لم يكن لها سنام، فنبت لها السنام لإخفاء عورات نساء آل الحسين، فإن هذا كذب مكشوف لا يصدقه إلا من هو أضل من حمار أهله، ولا يصنعه أدنى العرب مروءة بعدوه فكيف بمن بينه وبينهم نسب وقرابة، وقد اشتهر عن العرب صيانة العرض والمحاماة عنه، ومما يدل على كذبه أن يزيد الطاغية صح عنه أنه قال حين بلغه قتل الحسين عليه السلام: (لعن الله ابن سمية، أما والله لو كان بينه وبين الحسين رحم ما قتله).

لكن في مقابله: قبلوا ما يروى من أن الله تعالى انتقم من قتلة الحسين عليه السلام وسلط عليهم من يتتبع مصارعهم، كالذي أخرجه الطبراني وابن عساكر عن السُّدِّي قال: أتيتُ كربلاء تاجراً، فعمل لنا شيخٌ من طَيّ طعاما فتعَشّينا عنده، فذكرنا قتل الحسين عليه السلام، فقلتُ: ما شارك أحدٌ في قتله إلا ماتَ مِيتة سوءٍ!

فقال: ما أكذبكم، أنا ممن شرك في ذلك؟

فلم نبرح حتى دنا من السراج وهو يتّقِدُ بنفط، فذهب يُخرج الفتيلةَ بأُصبُعه، فأخذتِ النارُ فيها، فذهب يُطفِئُها بريقه، فعلِقَتِ النارُ في لحيته، فعدا فألقى نفسَهُ في الماء، فرأيته كأنه حُمَمة!

ولهذا قال أبو العباس بن تيمية في نقض ما حكاه ابن المطهر من أن يزيد قتل جمعا من وجوه الناس في المدينة من قريش والأنصار والمهاجرين؛ من يبلغ عددهم سبعمائة، وقتل من لم يعرف من عبد أو حر أو امرأة عشرة آلاف، وخاض الناس في الدماء حتى وصلت الدماء إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وامتلأت الروضة والمسجد!

فقال: (وأما ما فعله بأهل الحرة، فإنـهم لما خلعوه وأخرجوا نوابه وعشيرته، أرسل إليهم مرة بعد مرة يطلب الطاعة، فامتنعوا، فأرسل إليهم مسلم بن عقبة المري، وأمره إذا ظهر عليهم أن يبيح المدينة ثلاثة أيام، وهذا هو الذي عظم إنكار الناس له من فعل يزيد، ولهذا قيل لأحمد: أتكتب الحديث عن يزيد؟ قال: “لا ولا كرامة، أوليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل”؟ لكن لم يقتل جميع الأشراف، ولا بلغ عدد القتلى عشرة آلاف، ولا وصلت الدماء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا إلى الروضة، ولا كان القتل في المسجد).

ففرق بين أصل الخبر وبين آحاد ما يروى فيه من الوقائع، فأما ردُّ الأخبار جملة بعلة الطعن في حديث ناقليها وعدالتهم فليس من سبيل أهل العلم، وإنما هو محدث اخترعه من اختلط عليه باب الرواية للحديث بباب التاريخ ورواية السير ولم يميز، فالتعويل على هذا المنهج غلط يفضي إلى اطراح تاريخ الأمة بالكلية، وهو نحت في الجلامد، وضرب في حديد بارد.

ومن الجور رد علم التاريخ والسير من رجال انتدبوا لروايته وجمعه والفحص عنه دون غيرهم ممن لم يتكلف عناء هذا الباب، بل هذا كمن يرد علم إعجاز القرآن ومعانيه وبلاغته بأن من قرره ودوَّنه معتزلي! ومثل من يرد بدائع فوائد الزمخشري البلاغية بمجرد اعتزالياته، ومن يرد ما قرره عبد الجبار وأبو الحسين في الأصول بمجرد اعتزالهم، وهذا عبث لما تقرر أنه لا يرد منه إلا ما ظهر فيه أنه لتقرير بدعتهم.

وعلم السير والأخبار قد تضمن عبراً وأخباراً وأحكاما ووقائع، والأصل بعد تقرير قبولها ممن انتدب لروايتها وتتبعها وجمعها: أن تقبل ثم تعرض على الأصول فإن خالفت حكما شرعيا متقرراً، أو أصلا كليا، أو إجماعا أو قياسا جليا: رُدَّ ما خالف ذلك دون ما لم يخالف، ومن ذلك أيضا: أنه لا يقبل ما تضمنتها من أحكام تأسيسية إذا لم يكن لها أصل في النصوص والأحكام المتقررة.

وهنا أصل آخر يغفل عنه العصريون من الباحثين في التاريخ: وهو أن تلقي الأمة لهذه الأخبار بالقبول وتناقلها جيلا عن جيل في كافة الأعصار والأمصار، ظاهر في قبولها وإن وجد طعن في حديث ناقليها، فمن رام -بمجرد القدح في عدالة ناقليها في الحديث- ردها، فهو غالط بيقين، مخالف لسبيل المؤمنين، وما جرى عليه عمل العلماء في كافة الأعصار والأمصار.

ولهذا قال ابن تيمية في قبول أخبار هذا النوع من رواة التاريخ المطعون في حديثهم: (وكثير من الناس لا يحتج بروايته المفردة؛ إما لسوء حفظه، وإما لتهمة في تحسين الحديث، وإن كان له علم ومعرفة بأنواع من العلوم، ولكن يصلحون للاعتضاد والمتابعة كمقاتل بن سليمان ومحمد ابن عمر الواقدي وأمثالهما، فإن كثرة الشهادات والأخبار قد توجب العلم وإن لم يكن كل من المخبرين ثقة حافظا، حتى يحصل العلم بمخبر الأخبار المتواترة، وإن كان المخبرون من أهل الفسوق؛ إذا لم يحصل بينهم تشاعر وتواطؤ، والقول الحق الذي يقوم عليه الدليل يقبل من كل من قاله، وإن لم يقبل بمجرد إخبار المخبر به).

وقد تقرر أن من علم حجة على من يعلم، وهؤلاء الأخباريون علموا من هذا الباب ما لم يعلمه غيرهم من أهل العلم بالنقل، وانتدبوا له واعتنوا به فكيف ترد أخبارهم في التاريخ والسير بمجرد طعن أهل الحديث في حديثهم، وقد تقرر في الأصول أنه يرجع في كل فن إلى أهله العارفين به المطلعين عليه، فلو روى هؤلاء حديثا فإنه يرجع في تقويم ما رووه لأهل الحديث، وأما إن رووا التاريخ والحوادث فإنه يرجع في تقويمه إلى أهل العلم بالتاريخ ورواية الأخبار.

وقد تأملنا صنيعهم فوجدناهم يقبلون ما رووه في التاريخ لكن يعرضونه على الأصول والمعقول، فإن ناقضها بالكلية تركوه، وإلا قبلوه على الأصل، وإن كان فيه ما لا يحتمل قبوله مما يناقض الأصول ويباين المعقول ويعارض المنقول، قبلوا أصل الخبر وردوا المخالف المتناقض المباين، وليس فيهم من يجازف بالطعن في كل ما نقله نقلةُ التواريخ بدعوى أن أهل الحديث طعنوا فيه، مع أن هؤلاء العلماء الذين قبلوا تواريخ هذا النوع ممن طُعن في حديثه، هم من أهل الحديث أيضا كابن جرير وابن الجوزي والذهبي وابن كثير وابن حجر والسيوطي وغيرهم، فتجدهم يقبلون خبرهم مع علمهم بطعن أهل الحديث في حديثهم، بل إذا تعارض خبر المخبرين من هذا النوع المتكلَّم في حديثهم، تجد هؤلاء المؤرخين من أهل الحديث يذهبون به مذهب الترجيح، ولولا أن الأصل عندهم قبول أخبارهم ما تكلفوا الترجيح بينها، ولردوها جملة واستراحوا من عناء الترجيح، فإن الترجيح فرع القبول، فتأمل.

وقد قال الحافظ ابن كثير: (وللشيعة والرافضة في صفة مصرع الحسين كذب كثير وأخبار باطلة، وفيما ذكرنا كفاية، وفي بعض ما أوردناه نظر، ولولا أن ابن جرير وغيره من الحفاظ والأئمة ذكروه ما سقته، وأكثره من رواية أبي مخنف لوط بن يحيى، وقد كان شيعيا، وهو ضعيف الحديث عند الأئمة، ولكنه أخباري حافظ، عنده من هذه الأشياء ما ليس عند غيره، ولهذا يترامى عليه كثير من المصنفين في هذا الشأن ممن بعده والله أعلم).

ثالث الأغاليط والمآخذ: أن تجد بعض المحدثين من العصريين يجترؤون على رد الأحاديث الصحيحة بعرضها على التاريخ، مع أن نقل التاريخ أضعف من نقل السنة، فمن ذلك رد بعضهم الأحاديث الواردة في الرايات السود، بأن بني العباس وضعوها لاستنهاض العامة لتأييد دولتهم وقيامها، ومن الناس من طرد هذا في أحاديث المهدي والخارج السفياني، فاجترأ على ردها بالكلية!

وهذا غلط عظيم سببه الاعتماد على بعض المروي دون جمعه كله وتأمله، ولهذا قال الحافظ ابن المديني: (الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين لك خطؤه) وهؤلاء غفلوا عما تضمنته الأحاديث وآحاد المرويات من تفاصيل، فمن زعم أن أخبار السفياني زورها الأمويون فقد ذهل عن تفاصيل ما فيها مما يضاد فرض تزويرها، كاسم السفياني وموضع ظهوره ووجهته ونحو ذلك؛ فإنه لا يوافق حوادث دولة بني أمية، ومثله يقال في خبر الرايات السود ودعوى أنه إنما زوره من يؤيد ثورة العباسيين والعلويين، فتأمل.

وضابط هذا الباب بعد تسليم صحة السند، أن ينظر في المتن ويفحصه، فإن اشتمل على ذكر ما لا يتلاءم مع سياق التاريـخ، فلا يتجه حمله عليه والحال هذه، والقول بأنه موضوع لأسباب سياسية وتاريخية، أو محمول على عصر أو شخص معينين.

ومن هذا دعوى بعض الباحثين ضعف خبر البخاري في نكاح عائشة وهي ابنة تسع سنوات، لأن في التاريخ أن أسماء توفيت عن مئة سنة، وقد ذكر عن عائشة أن أسماء تكبرها بعشر سنوات، فيكون عمرها يوم نكاح النبي عليه الصلاة والسلام لها لا يقل عن (18 سنة)! وزعموا تفرد عروة بخبر تسع سنوات عن عائشة.

ولا ريب أن الذي حملهم عليه رد طعون بعض الكفار في الجناب النبوي، وكذا طعن الروافض والحداثيين المتوجهة للبخاري وكتابه، وهو مقصد جميل؛ لكن الخطأ لا يدرأ بالخطأ، ووجه الخطأ عندهم أنـهم عمدوا إلى الصحيح فعرضوه على الضعيف، والأصل عرض المنقولات على الأصول والقواعد الكلية، وفي كلامهم نظر؛ والتحقيق كما رواه البخاري ومسلم ولم ينفرد بذلك عنها عروة، بل وافقه القاسم بن محمد والأسود بن يزيد وكلاهما من رجال الصحيح فيبعد جداً الغلط عليهم.

وما ذكروه من التاريخ عن أسماء صحيح، لكن الغلط الذي لم يتنبهوا له أن رواية عائشة في أنـها تصغر أسماء بعشر سنين لا تصح، فهي مرسلة ورواتها مضعفون، وهم ابن أبي الزناد وابن أبي ليلى، ومثل هذا لا يعارض به ما رواه أهل الصحيح.

وقد راموا تقويتة هذا بخطبة المطعم بن عدي عائشة لولده، فذكر بعضهم أنه لم يكن ليخطبها وهي صغيرة السن! وهذا ذهول عن عادات العرب المستمرة إلى اليوم؛ يخطبون البنت في قماطها للولد، حتى إنهم ليذكرونه في أشعارهم وغنائهم، وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم مليكة بنت كعب وكانت بارعة الجمال كما رواه ابن سعد، فقال له أولياؤها: (إنها صغيرة لا رأي لها) وهذا يدل على أنها في نحو تسع سنوات أو أقل، وهو مصداق حديث البخاري، وكذلك خطب عمر ابنة علي أم كلثوم فقال علي: (إنها صغيرة) ثم زوجه أيها سلام الله عليهم أجمعين لما علم بقصده أن يكون له في الشرف النبوي نسبة.

ولهذا وقع في حديث زواج عائشة أنها قالت: (وأنا جارية حديثة السن) ووقع مثل هذا الحرف عنها في حديث لعبها بالأفراس المجنحة مقدم النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك، ووقع نظيره لما أعمرها من التنعيم وأردفها عبد الرحمن، ووقع أيضا في قصة لعب الحبشة بالحراب فقالت: (فاقدروا قدر الجارية حديثة السن الحريصة على اللهو).

ووقع في خيبر أيضا مثل هذا اللفظ، ووقع عن بريرة في قصة الإفك أنه حين سألها قالت: (ما أعلم إلا أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله) وهذا كله يقوي حديث البخاري أنها كانت جارية حديثة السن تلعب يوم تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تكون كذلك إلا وهي دون تسع سنوات، فكيف وقصة تبوك والإفك وقعتا بعد زواجها، فهل تلعب وتغفل وتنام وهي ابنة العشرين؟!

على أنه قد وافق عائشة على الإخبار بزواجها وعمرها تسع سنوات ابن مسعود رضي الله عنه كما رواه عنه ولده أبو عبيدة، وهو وان لم يسمع منه إلا أنه كان عالما بعلم أبيه، ورواية الصحيح تقويه.

وأما طعن الكفار بالنبي صلى الله عليه وسلم لأجل ذلك فريح في قفص؛ لأن جوابه أن نساء الحجاز وخاصة نساء قريش -كما هو معروف في الطب والفراسة- يكبرن بالعقل ويزدن فيه عن غيرهن من نساء العرب، ولهذا امتدحهن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن: (خير نساء ركبن الإبل) كما هو معروف في الحديث المشهور، ومن ثم قيل: هذا يختص بالشخص أي بعائشة، والحق عند أهل الأصول اختصاصه بالنوع أي من كان من النساء يكبرن سريعا كنساء الصعيد بمصر والأعراب؛ فإنهن يزدن بسبب تأثير البيئة على نساء المدينة، فيبدو فيهن الكبر أسرع، تماما كالشهوة تبلغ فيهن أشد وأسرع بسبب تأثير البيئة، والإنسان ابن بيئته، فمن أغفل هذا فقد ذهل عن اعتبار الواقع في فهم النصوص، وهو باب عظيم من العلم.

والقرآن دل على ذلك، فإن الله قال: (وما يتلى عليكم في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن) فلم ينكر نكاحهن، بل أقر رغبتهم فيه، واليتيمة غالبا تكون صغيرة؛ إذ لا يتم بعد احتلام.

وهذا العرف لا يختص بأهل الإسلام أو العرب، بل هو في بلاد الغرب شائع، كما في كتاب (ملخص القوانين الإنجليزية) للسير جون كومينز، فإنه ذكر أن النساء في أسكوتلاندا يتزوجن في سن التاسعة بقطع النظر عن سن الزوج.

وذكر ويل ديورانت في كتابه الذي صنفه في تاريخ الحضارة، أن إليصابات وهي ابنة الملك أندرو، تزوجت وهي في الثالثة عشرة من عمرها بأمير ألماني، وكانت أُمَّاً في الرابعة عشرة، وأرملة في سن العشرين، وأن ماريا لويزا جابرييلا ابنة فكتور أماديوس الثاني ملك سافوي، لا تعدو الثالثة عشرة يوم تزوجت فليب، وغير ذلك.

وقال في موضع من كتابه: (كان الشاب في عصر الإيمان قصير الأجل، وكان الزواج يحدث فيه مبكراً، وكان في وسع الطفل وهو في السابعة من عمره أن يوافق على خطبته، وكان هذا التعاقد يتم في بعض الأحيان ليسهل به انتقال الملكية أو حمايتها، ولقد تزوجت جراس صليبي في الرابعة من عمرها بشريف عظيم يستطيع حماية ضيعتها الغنية، ثم مات هذا الشريف ميتة سريعة فتزوجت وهي في السادسة من عمرها بشريف آخر، وزوجت وهي في الثالثة عشرة بشريف ثالث)!

ونظيره طعن بعض الباحثين في أحاديث صوم يوم عاشوراء المحرم، بدعوى أن يوم نجاة موسى عند اليهود هو العاشر من أول شهر في تقويمهم العبري، وهو شهر تشري الذي صادف عام مقدم النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة شهر ربيع الأول وليس شهر محرم.

قال: وهنا يظهر التناقض في الحديث؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم بقي في المدينة ثلاثة عشر عاما، بينما يصوره نص الحديث كأنه صام عام مقدمه عاشوراء ثم لم يأت العام الذي يليه إلا وقد توفي!

وقولهم: إن شهر تشري عند اليهود هو يوم نجاة موسى غلط منه، فإن عاشوراء لليهود أكثر من يوم، منها في أيار وهو اليوم الذي نجا الله فيه موسى فصامه شكراً وهو آشور النجاة الموافق لعاشوراء المحرم، لا كما زعم الدكتور أنه شهر تشري، فإن العاشر من تشري هو يوم عودة موسى إلى سيناء لتلقي الشريعة حسب ميقات الله له، ويسمونه آشور موسى وهو مفترض عليهم صيامه، ومن لم يصمه قُتل، ولهم عاشوراء آخر يصومونه وهو آشور الخروج، وهو اليوم الذي خرجوا فيه من مصر.

وصيام النبي صلى الله عليه وسلم كان لنجاة موسى الذي اتفق في تقويمنا يوم عاشوراء وفي تقويمهم العاشر من أيار، وكانوا يصومونه اتباعا لموسى، فصامه النبي صلى الله عليه وسلم وشرع صومه لأنا أولى بموسى منهم كما قال، وليس صيامه لأجل العاشر من تشري لأنه ليس هو يوم نجاة موسى كما مر، فسقط تشكيك الدكتور أنيس وبالله التوفيق.

وإذا كان تشري أول شهور السنة عندهم كما قال الطاعنون في الحديث، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد انتظر تسعة شهور حتى قدم عاشوراء النجاة عندهم الذي يوافق أيلول في شهورهم وهو الشهر التاسع من شهور السنة عندهم، وهو عليه السلام قد دخل المدينة في ربيع الأول ثم صام عاشوراء في المحرم أي بعد عشرة شهور من تاريخ دخوله، وهو موافق تقريبا لعاشور النجاة إذا اعتبرت تناقص الأيام باختلاف السنين مع فارق عدد أيام السنة الهجرية عن العبرية، فلا إشكال في الحديث.

ولم يقل أحد من العلماء إنه عليه الصلاة والسلام صام عاشوراء في أول سنة قدمها، بل هذا لا يمكن تصوره لأن عاشوراء إذ ذاك كان مفترضا صومه علينا قبل رمضان شرعاً مستقلاً لا تعلق له بصيام اليهود وعاشورهم، فإن العرب كانت تصوم عاشوراء والأيام البيض في جاهليتها، كما كان للملل صيام معهود كالبراهمة في صومهم عن اللحوم واقتصارهم على النبات، وكان لليونان صوم ولحكماء الفلاسفة كذلك، وكانوا يعدونه من الرياضة، كما قال الشاعر:

إذا المرءُ لم يترك طعاما يُحبُّهُ … ولم يَنْهَ قلبا غاويا حيثُ يَـمّما

فيوشكُ أن تلقى له الدهرَ سُبّةً…إذا ذُكرتْ أمثالُها تملأُ الفمَا

ثم نُسخ صوم عاشوراء المفترض بصوم رمضان الذي كان فرضه في السنة الثانية من الهجرة قبل بدر، ثم بعد استقرار فرض رمضان، شرع صوم عاشوراء ندباً بعلة تذكر نجاة موسى لأنه من أيام الله التي قال (وذكرهم بأيام الله) فمن توهم أن صوم عاشوراء لأجل نجاة موسى كان في أول قدوم المدينة فقد أخطأت استه الحفرة.

على أن قولهم: إن أول شهور سنيّهم هو تشري إنما هو الآن، وأما قبل ذلك فكان أول شهورهم أيلول، لكنهم لم يحسبوا سنوات التيه الأربعين، فقرروا أن يبدأ العام عندهم من تشري لأنه شهر التشريع الذي كان بعد التيه.

وأما تعلقهم بأن الراوي قال: (لما قدم المدينة) فجوابه أن قول الراوي (لما قدم) أي زمان مقدمه وليس المقصود أول يوم قدومه، لما تقرر في اللغة أن (لما) بمعنى الحين عند ابن السراج وأبي علي الفارسي، وقال ابن مالك: بمعنى إذ، واستحسنه ابن هشام، فالمعنى أنه في أوائل مدة قدومه رآهم يصومونه، فوجود الصوم كان زمان حيون عاشوراء لا في أول يوم قدومه المدينة.

وفي الحديث: إذا كان في عام قابل أصوم التاسع فلم يصمه لموته، فتبين أن المخبَـر عنه يتسع لزمان بقائه صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ولا ينحصر في أول يوم قدومه، فالمعنى في أول سنة قدمها المدينة.

وهو كحديث (لما قدم المدينة أمر بالأذان) مع أن تشريع الأذان كان في السنة الثانية، كما أن واقعة صوم عاشوراء كانت بعد فرض رمضان في السنة الثانية لا في أول مقدمه المدينة، لأنه كان يصوم عاشوراء قبل ذلك على أنه فرض بتشريع مستقل عن تعظيم اليهود وشرعهم، فتأمل.

وبه تعلم أن تهافت الحداثيين على الطعن في نصوص السنة بمثل هذه المعاني الفاسدة التي يندفعون إليها بلا عقل ولا نقل، مجرد شعور بالنقص تجاه ما هو موروث إسلامي، وشغف وكلف متهور بكل ما هو إفرنجي، ولهذا تجد أمثلهم طريقة يتكلم بما لا يفهم، مصداق المثل: (من فات قديمه تاه)!

والعتب ليس على هؤلاء، بل على الباحثين من الشرعيين الذي يغرهم كلام الحداثيين الذي يفتقر للبحث المعرفي، ثم ينحدرون في محاولة منهم صادقة للذب عن السنة بعاطفة وحمية غير محكومة بالعلم، فينكرون ببحث متكلف ما هو ثابت.

والتمثيل على هذه الأنواع يطول، كما أن استقصاء العثار والمآخذ قد يزيد على ما ذكرناه، والقصد التنبيه على النظائر، والعالم العاقل إذا تنبه لنُبَذ من المسالك استدل بفضل علمه وعقله على أشباهها، وبالله تعالى التأييد.

آخره

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

كتبه بلال فيصل البحر

الفاتح/إسطنبول/1444ه

 

 

 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.