حُــلــمٌ أيــقـــظ الحَـــنـيـن – أ.خنساء قوادري – الجزائر
حُــلــمٌ أيــقـــظ الحَـــنـيـن
اشتد بي الغضب، وثار في نفسي حب الانتقام، وعزمتُ على الثأر لكرامتي، فتوجهتُ مباشرة صوب المديرية العامة للتربية، إلا أن عيشة -إحدى العاملات بالأمانة هناك- باغتتني بأن المدير قد خرج للتو! وبهتني حينها أنّنا في نهاية الموسم الدراسي، وأنّ اليوم هو آخر أيام العمل!
فاندفعتُ متوجهة صوب مركز الشرطة.
- ماذا! أتقولين مركز الشرطة؟
- أجل.. مركز الشرطة، أولا يتوجب ما تعرضتُ له من إهانة السّعي لأخذ حقي من ناظر المؤسسة؟
وأنساني ما كنتُ فيه من غيظ وحنق، الانتظار عند الباب الخارجي للمقر العام للشرطة، فدلفتُ مسرعة من البوابة الكبيرة، مغتنمة فرصة خروج إحدى الآليات العسكرية، وهنا وجدتُني في مواجهة شباب يعكفون على ترتيب بعض الأسلحة الخفيفة في أيديهم، وحين طلبتُ توجيهي، أشاروا عليّ بالجهة المقابلة، ومنها وُجهتُ إلى المسئول العام هناك.
وقفتُ أنتظر دوري، وكانت تجري أمامي مرافعة لرجل متهم في قضية أحسبها من صنف الجنايات، يشهد على ذلك حنق المدعين عليه، وحالة الغضب التي كانوا عليها، بصك أرجلهم على الأرض بقوة، وصفق أيديهم على الجدار!
* * *
وعادت بي مخيلتي إلى ناظر المؤسسة، وكيف هزأ بي وبمستواي التعليمي، مردِّدا:
- وهل لِمثل هذه أن تحسن كتابة الفاتحة لو أمليَتْ عليها! ناهيك عن كتابة حروف الأبجدية كتابة صحيحة!؟
قال ذلك في سخرية انتفضتُ لها قائلة:
- أواه! لقد تجاوزت الحد يا هذا! أَ لِمثلي يقال هذا الكلام!
وحين رحتُ أستقصي البراهين لنقض دعواه الباطلة في حقي، تعالت ضحكاتٌ من زميلة قديمة، لَطالما شاكستني ونحن طالبات في “بلكحل”، فواصلتُ دفاعي عن نفسي لتنظم إليها أخرى.
- أواه.. لقد أتعبني الأمر!
وهنا التفت إليّ المسؤول الكبير بقسم الشرطة لتقديم دعواي، فذهبتُ أشرح الظلم الذي تعرضتُ له، وكلي خيبة في زملاء المهنة، الذين أوردوني هذا المورد الصعب، وألجأوني إلى مثل هذه المعاناة، التي انتهت بأن رفعتُ رأسي، فإذا أنا في غرفتي وعلى سريري!
* * *
وفي الحلمِ كانت محاكمة ومرافعات، رحتُ أبحث على إثرها في ذلك الماضي السعيد، عن طفلة صغيرة، يقفز قلبُها فرحا كلما ذُكِرت المدرسة، تسائل أمَّها كل حين، عن موعد حملها محفظة بها كراريس وأقلام، كتلك التي يحملها تلاميذ الابتدائي، تقف عند باب الدار موعد رجوعهم إلى البيوت، لتستمتع بذاك المنظر المبهج، والذي يمني القلب بكل جميل.
ويا لها من ذكريات رحلة طويلة، انطلقت من مُدَيرَسة بقريتي “ازنينة”، كانت تسمى “الشرقية”، بها ثلاثة أو أربعة أقسام في الفضاء الطلق، فلا سور ولا بوابة، ولا حتى إدارة لمدير..!
تخرج فيقابلك الفضاء الشاسع قبلة قرية ازنينة.
أما على يسارها فبيت الخالة “فاطنة بنت إبراهيم” داية القرية، حيث يطالعك الصباحُ بصياح الديكة ونباح الكلاب، وانفلات دجاجات الخم خارج الدار بين الحين والحين..
أما عربة ابنها “الكراك” فرابضة بحصانها الرمادي أمام الباب!
مُدَيرَسةٌ رسمت الابتسامة، وصنعت المستحيل، ترمِّم ذكراها القلب، وتروي الحنين.
* * *
استدرتُ يمينا أجتاز الممر الضيق لمدخل الحي الجامعي ألف سرير بالوادي، لأستأذن الحارسَ مستظهرة بطاقتي الشخصية، سرتُ على إثرها في فضاء واسع رحيب، باتجاه بوابة كبيرة تقابلني من بعيد، على يميني مساحات مخضرة بها كراسي مُعدَّة لاستراحة الطالبات، أما على يساري فسور الحي الجامعي المحاذي للطريق المؤدية إلى الجامعة على بعد أمتار.
كل شيء يوحي بغربتي، وبقدر طول الطريق إلى هنا، كانت الفجوة بيني وبين حلمي، تعاكسني الأمواج دوما، فأعود أدراجي وترسو سفينتي..
واهٍ لأقدارٍ صنعت المستحيل، وأخرى أركست قدماي!
حضرتْ صورتكِ سريعا “مُدَيرَستي الشرقية”، فرحتُ أتنسمُ عبق الحنين، حين ولجتُ بابكِ لأوّل يوم لالتحاقي بالتعليم، كان عمّي ممسكا بذراعي، جبتي البيضاء توحي بالصفاء، شعري المرفوع إلى أعلى لينسدل بحنو على كتفَي، يعطيني شعورا جميلا بالتميز، أما اصطكاك قدمَي بالأرض فذاك بلا شك من رهبة المكان.
تناولني المدير “سي مولاي” وأجلسني بأحد الأقسام على كرسي، لَطالما كان لطيفا بي وبالصغار من سني، وُزعتْ علينا قصاصات ورق لكتابة أسمائنا عليها، بيد أن قصاصتي لم تعجبني، فطلبتُ تبديلها بأخرى مستقيمة الحواف، هال المعلم تصرفي الغريب ذاك، فضحك وزملاءه مني.
أخرُج لأجد عمي ينتظرني، ليحمل حقيبتي بدلا مني، ونسير الهوينا، وكثيرا ما تسرق مني أدواتي إن هو غاب عني، فأعود باكية إلى الدار.
أزقة قريتي ازنينة تبدو هادئة على الدّوام، والناس فيها بسطاء وطيبون، يلقون التحية من بعيد، ويعرفون بعضهم بعضا من أقصا القرية إلى أقصاها، هي قرية يسودها الاحترام، يتراحم الناس فيها بشكل عجيب، لا نعرف شيئا اسمه قبَلية أو عنصرية، فشعارنا جميعا أنّنا “وليدات ازنينة”.
كانت تمثل قارة في مخيلتي، ولكل بقعة في قلبي رنة حنين.
* * *
مُديرَستي الشرقية، فألُ اسمكِ شرّق بي شمالا إلى جامعة الأمير، ولا يزال الحظ يعاكسني، حتى شرّقتِ بي جنوبا حيث أنا الآن.
تفحصتُ ما حولي..!
وكتيار جارفٍ لنهر جارٍ ألجمني الحنين!
ليلفحني من جديد نبضُ الذكرى..
وكطفلة صغيرة أجهشتُ حينها بالبكاء..
لأردد:
سلوا قلبي غداة سلا وثابا لعل على الجمال له عتابا
ويُسأل في الحوادث ذو صواب فهل ترك الجمالُ له صوابا
وكنتُ إذا سألتُ القلبَ يوما تولى الدمعُ عن قلبي الجوابا.
* * *
لكن، أَوَلَا يجدر بي إحسان الظن بناظر المؤسسة؟ فلعله كان يقصد كتابة الفاتحة على الرّسم العثماني، وتدوير الحروف على أساس ذلك كله!
إذن، كيف لي أن أعرف؟ وقد استيقظتُ من الحلمِ الآن!
أم تراني أتوجه إلى الناظر لأسأله!؟ لا شك في أنه سيضحك مني حتى يسقط على قفاه، وما أحسبه إلا سيُسىء الظن بقواي العقلية!
أجَل، يا سيّدي الناظر، لا أنا ولا سواي من خريجي المدارس الحديثة اليوم، يجيد رسم حروف الفاتحة رسما صحيحا، على ما بيّنه شيوخ الرّسم عندنا، وليس فينا من يعرف “أبا عَمرو الدّاني” ولا ” ابن البناء أبا العباس المراكشي”، ولا سواهما من أئمة الرّسم، ونحن غرباء تائهون عن قواعده وإملائه، ناءون عن كنه أسراره ولطائفه، فقد انقطع الوصل بين أمتي وتاريخها المشرق المجيد، مذ تركت الجوهر وضاع همّها بين القشور، ليتوزع الباقي منه في جمع فتات ما يلقى من على موائد الغربي الصليبي.
أجل، الغربي الصليبي! ذاك الذي ما فتئ يجيش الجيوش، ويؤلب ويكيد لأمتنا عبر تاريخ له من الصراع معنا طويل، انتهى بأن صال وجال في ديارنا، وأتى على الأخضر فيها واليابس، ولم يهدأ له بعد بال.
ونسي بل تناسى في خضم ذلك فضل حضارتنا عليه!
وأعود إلى ما كنتُ عليه فأقول:
- سيّدي الناظر، لكن هذا لا يقلل من شأن الخط الإملائي القائم على قواعد نحوية أسّس لها الأقدمون، وقد شهد تطورا عبر العصور، صَبغه إرثنا الحضاري الإسلامي.
سكتتُ هنيهة أسترجع النّفس..
وكأني بالناظر قد أحس حينها بتأنيب الضمير، ولعله يأتي معتذرا في تتِمّة الحلم في المرة القادمة!
* * *
مُدَيرَستي، مهما صال القلم وجال، في تعداد فضائلك، ورسم شمائلك الزكية، ما أراه موفيك حقك، ولو بالقليل القليل.
مُدَيرَستي، أعرف أنّكِ قد اتخذتِ لكِ بوابة واسعة جميلة وسورا مرتفعا، وقد مرّ على إدارتكِ وأقسامكِ أجيالٌ وأجيالٌ بعدنا، لكن.. أصدقيني القول: أما تراكِ قد اشتقتِ لبراءتنا نحن على الخصوص؟ لِتفاني ولَطافة معلِّمينا زمن سبعينيات القرن الماضي؟ لانطلاقنا مسرعين إلى أزقة يندر أن تلِجها سيارة، وكل ما هنالك عربات تجرها الأحصنة، ليتكئ على جدرانها كبارُ السن، وهم بذلك خير ملاذ لضعيف مِنّا، إذا ما شاكسه بعض الأوباش!
أجل.. وفي أحضانكِ، خَطَّ على السبورة بفن واقتدار قوله تعالى: (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) مريم: ٢٥
فهزت الكلمات قلبي الصغير هزًّا عجيبا، ثم تساقطتْ بركات ما أفاضت به الأيام على جيلنا من نجح وخير، فكانت بحق رُطبا جَنيا، ليشكر ذلك مَن شاء منهم، إذ قد زرعوا في تراب الوطن، وتفرّقوا فيه، فيا لأطايب الثمر مِن حسن ذاك الغراس!
وها أنا ذي أسير راجعة أُأَرجح محفظتي الصغيرة بيدَي، يملأني الزهو أن صرتُ أعتمد على نفسي ذهابا وإيابا، ليصرخ الأطفال فجأة فارّين في كل اتجاه، ودون إحساس مني أو شعور، رميتُ محفظتي ولذتُ بالفرار، إنّها “مباركة المهبولة” فهل من منجاة!؟
جريتُ وجريت، وحين عرفتُ أنّني قد نجوت، نظرتُ مشدوهة، فإذا دارنا تقابلني من بعيد، هنالك في أسفل الشارع، نزلت بهدوء، لتزورنا مباركة من غد برفقة أمها، وبابتسامتها التي تصعقني كلما جالتْ في خيالي الصغير، اقتربتْ مني لتطمئنني وهي تضم كفيها ببعضهما قائلة:
- ولِم فررت منّي صغيرتي؟ كنتُ أريد خنق أولئك الصغار، لكن فقط من عيّروني بالجنون!
وأنا أرتعد من شدة الخوف قلتُ بيني وبين نفسي:
- وهل تراكِ تميزين؟!
* * *