التراث الإسلامي بين الجمود والجحود د. عبد الرقيب صالح محسن الشامي
التراث الإسلامي بين الجمود والجحودد. عبد الرقيب صالح محسن الشامي
كانت العرب أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، ولم يكن للعلم في حياتهم حظ ولا نصيب حتى جاء الإسلام بإعلان نهاية عهد الجهل والأمية بأول خطاب من السماء يرفع من شأن العلم ويجعله أساس النهضة والرقي معبراً عن ركنيه الأساسيين، وهما القراءة والكتابة، قال سبحانه وتعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5].
ومع اكتمال نزول الوحي وانقطاعه بعد موت النبي e نهض العلماء لدراسة الوحي للتعرف على مناهج الفقه والفهم لاستجلاء واستكشاف مراد الشارع في كل ما ينزل من الوقائع والمستجدات، وبدأت دائرة العلوم تتسع وتتمايز حتى أصبح لكل علم استقلالية بأصول وقواعد تضبطه ليؤدي غرضه بصورة إيجابية تكون سبيلاً للوصول إلى المراد الإلهي.
وتعددت مدارس الفهم والتفسير سواء على المستوى الفقهي أو الفكري أو السلوكي واجتهد كل أهل مدرسة ومذهب في رفد المكتبة بأنواع من العلوم والفنون في مختلف المجالات حتى تكون على مدى قرون ثروة علمية ومعرفية شاملة تعبر عن دور الأمة الريادي في العلم والمعرفة.
ولأن هذا الجهد الكبير والإنجاز العظيم إنما هو جهد بشري مستهد بالوحي ومنهجه فقد اشتمل على قدر كبير من الصواب، ولا يخلو من وجود أخطاء ناتجة عن خطأ في ثبوت النص أو في فهم معناه، أو التأثر بالواقع والبيئة الفكرية والاجتماعية، أو لنزعات من التعصب والتقليد ونحو ذلك.
ولم يكن في ذلك إشكال لدى علماء الأمة ولا مثقفيها أو مفكريها بل ولا حتى ناقديها على مدى التاريخ إلى وقت قريب، لأنهم كانوا ينظرون إلى التراث على أنه إنجاز يستفاد من صوابه ويعتذر لما فيه من أخطاء حتى جاء عصرنا الذي اختلت فيه الموازين، وحصل فيه نوع من الخلل في الإعدادات بصورة أثرت على الموقف من التراث، وذلك بسبب تقدم الآخر في مختلف المجالات العلمية والمعرفية وما أحدثه من ثورة صناعية وتقنية عامة، في الوقت الذي شاع الجمود والتقليد في الفكر والفقه والتشريع، هذه المفارقة أحدثت اختلالاً في التوازن والموقف من التراث بين طرفين متطرفين:
الطرف الأول: جمد على ما في التراث جملة من دون تمييز بين ما هو وحي أو رأي، وبين ما هو ثابت وما هو متغير، وبين ما هو تشريع وما هو تدبير، وبين ما هو اجتهاد ظرفي تاريخي وما هو خالد، فجعل الجميع في دائرة الثوابت التي تعد مناقشتها نقداً للدين نفسه.
والطرف الثاني:اعتبر أن التراث هو العائق أمام التحديث والتطوير مستنداً إلى جمود أصحاب الموقف الأول، فاتخذ الهدم المطلق أساساً للبناء.
فالأول: يرى النقد هدماً ممنوعاً،والثاني: يرى الهدم نقداً مشروعاً…
والحقيقة أن المشكلة ليست في ذات التراث فهو ثروة فيه الجيد والرديء.
إنما المشكلة في قراءته والتعسف في إسقاطه أو سوء توظيفه أو الجمود على متغيره أو تقديسه مطلقاً…!
ونحن نرى أن الحق هو التوازن والاعتدال في تقييم التراث لنستفيد مما فيه، فهو إنجاز يستحق البناء عليه من دون جمود ولا جحود.
والمطلوب من المفكرين والباحثين والمصلحين نقد التراث،وليس هدم التراث…
إن التجديد والإنجاز والإبداع لا يعني التنكر للذات والبراءة من الأصل، والنظر إلى التراث بالمرايا المحدبةفي الوقت الذي ينظر فيه إلى الآخر بالمرايا المقعرة….
يا سادة: الجهد البشري مقترن بالنقص مهما كان، والإنصاف والموضوعية والتجرد مطلوب، مع الذات ومع الآخر…
لا نريد الخداع عن طريق المرايا المحدبة ولا المرايا المقعرة، بل بالمرايا المستوية التي تنقل الحقيقة كما هي من دون زيادة ولا نقصان….
إن من المؤسف أن يكون بعض الناقدين للحضارة والتاريخ والتراث الإسلامي من غير المسلمين أكثر اعتدالاً، وإنصافاً من بعض الناقدين المسلمين..
إننا نريد أن نتعامل مع تراثنا من منطلقين:
الأول: الاعتزاز والفخر بما قدموه من جوانب إيجابية صالحة لتحقيق مصالح الناس في
كل زمان ومكان.
الثاني: الشجاعة في النقد بموضوعية وعدل للمراجعة والتصحيح فيما تقتضي الموضوعية ذلك.
ونرى أن يقوّمالتراث وفق التصنيف التالي:
1ـ ماكان من قبيل التفسير والاستنباط القطعي، فهذا لايجوز مخالفته من حيث التقرير والفهم، إذا لا اجتهاد في مورد النص، ويحتمل الاجتهاد في التطبيق والتحقق من مناط التنزيل.
2ـماكان تفسيرًا للنصوص التي تحتمل أكثر من وجه،وكانت المعاني منحصرة في ما توصلت إليه تفسيراتهم،فهذه تحتمل الاجتهاد في الانتقاء والترجيح بحسب قواعد الترجيح، من الحيثية القطعية والظنية للنص باعتبار الثبوت، واعتبار الدلالة، ومن حيث التطبيق والممارسة من قبل المكلفين، ومدى تحقق المصالح من عدمها، فقد يكون القول بوجه مصلحة في زمن، وغير ذلك في زمن آخر، أو في بلد يكون مصلحة البلد الآخر يكون اعتباره مفسدة.
3ـماكان من التفسيرات للنصوص التي هي من قبيل تحقيق المناط، والتفسيرالواقعي، كمثل الأخبارالمستقبلية، أوالقضايا الكونية، ونحوها، فهذه تقبل استئناف الاجتهاد وإمكانية القول بخلاف الاجتهادات السابقة بما يقتضي واقع الحال.
4 ـماكان من قبيل الاجتهاد بالرأي المحض والمصلحي في القضايا المستجدة والنازلة، والظرفية والاجتماعية والتاريخية، فهذه تبقى محل تقدير، ومع ذلك تخضع للاختبار والفحص،والتقويم على ضوء ما تحققه من مصالح في الواقع التطبيقي في حياة المجتمع، وقد ينتهي الاجتهاد إلى الاختيار من بين الأقوال، وقد ينتهي إلى قول خارج عن تلك الأقوال إذا كانت تلك المسألة أوالقضية تحتمل ذلك، وحتى مع الاختيار تبقى الحاجة مستمرة للتحديث والمتابعة للقول المختار ومدى تحقيقه للمصالح في الحال والمآل على ضوء التصرفات العملية والاستعمال والممارسة من قبل أفراد المجتمع.
ولاشك في أن الجمود على آراءالمجتهدين من دون معايرتها وفق المراتب السابقة يعد تقصيرًا ونقصًا في الاجتهاد،فإذا كان العلماء يذمون من يجمدون على ظاهر النصوص الشرعية من دون الغوص في أعماقها ومعرفة أسرارها وعللها ومقاصدها، فإن الجمود على اجتهادات ونصوص العلماء السابقين أشد ذمًا.
وبالله التوفيق،،،