حصريا

أثر التنغيم في فهم مايخرج من فم عظيم

1 194

أثر التنغيم في فهم ما يخرج من فم عظيم

الحمد لله الذي خلق الإنسان، وعلّمه البيان، وأمدَّه بلسان، لا فيه عظام ، رحمة من المنان، ليقلب به الطعام، ويُخرِّج به الكلام، سبحانَّه الواحد الدَّيَّان، و بعد:

التقدم لا محالة واقع فقعود الإنسان على حاله أمرٌ محالُ، والتقدم يشترط بَرْءَ أساليب للتعايش والتناغم مع متطلبات الحياة، وهذا البَرْءُ لا ينصَّبُ  فقط على منتقيات العيش وطرقه ومستجدات الإنسان البيولوجية وإنَّما يبْتَقُ أيضا على جانبه اللغوي واللساني، فالتقدم يؤثر على فعل الإنسان اللغوي تأثيرا قد يكون ردميا للمصطلحات وإحياءً لأخرى ولهذا أبان العلماء على شطارة في تنظير اللغة وكشف نُظرها، وفرز ألفاظها، ودرء اللحن عنها، وصونا لها ، ولضمان كمالها فقد أسدى فرسانها ولغويُّوها قواعدَ تُعد وَضَح كل تائهٍ في سِربانِّها، ولعل أحقيتها بالتمجيد والكثرة والتعدد في الدراسات كونَّها زُلفى بين الإنسان وأخيه ووسيلة للتواصل بين المجتمع، أردف يوما أحد فرسانها وهو ابن الجني معرفا إيَّاها قائلا:” هي أصوات يُعبِّر بها كل قوم عن أغراضهم” .

ولكي لا يكون المتمعن في التعريف قد بَلَه فيه لابُد من استبصار قوله بأنَّها أصوات، نباهة منه  على أنَّ الأصوات هي التي تُكَّوِن اللغة، والفعل الأدائي لها هو المحرر للكلام ، وإنَّ هذه الأصوات سلسلة متتابعة يتبع فيها الصوت سابق أخيه من أحواله وهيئاته. وقد قلت:” التقدم ” وأحمل في طياته ابتكار الإنسان لنُظم الكتابة فالإنسان عرف المشافهة قبل الكتابة وتسلح بالمنطوق قبل أنْ يشرع في هَرطقة لأساليب الكتابة بأحقاب طويلة ، ويرى علماء اللغة أنَّه من الضروري أن تأتي دراسة المنطوق قبل المكتوب كون الثاني يقف خائرًا أمام نقل سائر السمات السيميائية للكلام، وتعبيرات الوجه، ونغمات الصوت فارتفاع الصوت وانخفاضه وتغير نبرته يجعل المعنى غير قاعد على حُلَّته ويجعله على حُلَّة أخرى والكتابة لا يمكنها نقل هذه النبرة ! ومن هنا أقف على مصطلح التنغيم في اللغة والذي أتكلم عنه من رؤى فونولوجية لا فيزيائية ممهدا بسؤال ما أثر التنغيم في فهم ما يُنْطَق من تركيب عظيم ؟

وإنْ حاولنا الإجابة على هذا السؤال تتبعنا ما أُلف في سطور كتب الصوتيات والفونولوجيا وما ناحت به عقول الباحثين من عمليات ترجمة واضعين بذلك حجرة الانطلاق من أراء علمائنا وصولا لما مهدته الدراسة الدوسيسيرية وبدءًا بترميد هذا المصطلح في معاجم العرب، فعند مكرم اللغة أبو الفضل علينا “بن منظور” في معجمه لسان العرب :” النغمة جرس الكلمة وحُسن الصوت في القراء، والجمع نَغَمٌ وقيل تنغم بشيء ويتَنَسَم بشيء أي تكلم به،  والنغمة الكلام الخفي ، وقيل الكلام الحسن.”( ابن منظور،  لسان العرب، نَشرُ أدب الحوزة، إيران، 1405ه، مج12، ص590.) فإنَّ الشرح المعجمي لهذا المصطلح قد أبان على أنه يمثل النطق بالصوت وقد يكون حُسنه وتلوينه.

وأما عند كُبَّار المصطلحين لهذا المصطلح فقد عرفه تمام” بأنه ارتفاع للصوت وانخفاضه أثناء الكلام.”( تمام حسان، مناهج البحث في اللغة، ص164.)

ولا وجز في هذا التعريف، فإذا تَحَّمْلَقنا فيه بعض الشيء واضعين جنب التحملق السؤالَ هل للتنغيم أثر في تقليب كلام الكليم ؟ أقررت من هذا المنطلق أنَّ التراكيب قد يكون لها رسم واحد في حين قد يسير المعنى إلى معاني مختلفة  غير متقاربة بالبتَّة إذا تغيرت تأديتها الصوتية، وإقرار صُنَّاع الكتابة بوضع علامات الترقيم كان لوجود التنغيم فالجملة التقريرية تختلف نغمتها عن الإنشائية فخذ ذلك مثالا تستزيد ” التفاحة أكلها زيد.” فالجملة بنغمة مستوية تكون تقريرية تنتهي بنقطة، وإذا بدئنا بنغمة صاعدة ومستوية ثم صاعدة تصبح إنشائية على استغراب السامع من أنَّ زيد قد أكل التفاحة وتقف علامة التعجب ترجمان ذلك :” أكل التفاحة زيد؟!

وقد أختار كلمتين أو ثلاث  يقابل كلمة التنغيم وهي:” التنويع في الأداء الكلامي”، ونجد قول محمد حسن ملوحا لما صنعته قال:” ويقصد بالتنغيم بالتنويع في أداء الكلام.” ( المختصر في أصوات اللغة العربية، ص177.)وقد يشرد القارئ فيما أقول لأتبعه بصنيعة الشرح ودرء قلة الفهم وبيانا لأحقية هذه الظاهرة بالدرس والتحليل ففي كل مقام مقال، واشتكى المقال ماذا لي؟ فكان لكل مقال طريقة في أدائه تُنَاسبُ المقام الذي اقتضاه. فتمسكنا الآن بالتنويع في الأداء الكلامي مما يعني أن نستثني طريحة الكلمات الواحدة ونبقيه على أنَه وصفٌ للجمل أو أجزائها وليست للكلمات المختلفةِ المنعزلةِ .

وبتمسكٍ بهذه التعاريف نحاول صياغة تعريف مسبكٍ غير متهلوكٍ فأقول:” ظاهرةٌ صوتيةٌ، سسببها اختلافاتٌ في تدريجاتٍ نطقيةٍ، بين هبوط وصعود ، طريقةٌ وصفيةٌ للجمل وأجزاء الجمل لا لكلماتٍ مختلفةٍ تقبع في عزلةٍ، وإذا ألوحت بالتنغيم في الظواهر الصوتية التي يتسلح بها النظام الصوتي لأي لغة فهو سلاح المعنى، وراية مضل الطريق في عتبات الفهم، كونه يساعده في تحديد المعنى وفي تنميط الجمل إلى أجناسها النحوية إذ هو مدرج في علم الأصوات لكن قد عدَّه الدارسون من النحاة واللغويين جزءًا من النظام النحوي للغة إذ أنَّ الصيغة التنغيمية له منحى خاص بالجملة يُعينُ على الكشف عن معناها النحوي، كيف لا؟! وهي الذريعة التي أهملت وأدخلت الكسائي عظيم النحو ومقرئ النحاة صاحب الرواية، وسيد التقعيد، وقائد التدوين، قد أدخلته لُبسه من موقف قد أقوى في فهمه، في قصة كانت في مجلس هارون الرشيد وفي حضرة رواشد اللغة اليزيدي ومع من ذكرها السيوطي عن شعر قد قاله الأولُ :

لا يكون العيرُ مهرًا        لا يكون المهرُ مهرٌ

فأنغزت ضمة المهر في آخر الكلام الكسائي فقال:” لقد أقوى الشاعر وكان لابد من نصب المهر الثانية على أنًّها خبر لكان، فقال اليزيدي: الشعر صحيح وإنَّما ابتدأ فقال:” المهر مهرٌ” .

وهذه الحادثة قد نقلتها من عند شيخي السيوطي لا على سبيل إنقاص لسادتنا، وإنَّما الإمداد، إمداد لقيمة التنغيم، فهي حادثة تدل على أنَّ  المنشد سكت سكتة عند( لايكون) الثانية وصوته بنغمة عالية ومنتهيا بنغمة منحدرةٍ، ثم ابتدأ بقوله (المهرُ مهرٌ)، وهذا ما يُحصل دور التنغيم في فهم التركيب اللغوي . والتنغيم مجاله كبير، والتأليف فيه وفير،

وقد كتب هذا ، الفقير لله مهني بولنوار .

 

 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

  1. مرزوقي حمادة يقول

    بارك الله فيك استاذ

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.