من جهود الدكتورة هند شلبي – رحمها الله – في الدراسات القرآنية-وردة دحماني-الجزائر-
إن إقبال النساء على تلقي العلم الشرعي برز على يد كثيرات، ولعل من اللائي نلف شرف ذلك هند شلبي التي تُعد واحدة من الشخصيات المغمورة رغم ما لها من جهود في خدمة الدراسات القرآنية، فمن تكون هند شلبي وأبرز جهودها.
ولدت هند شلبي يوم 10 أكتوبر 1943م الموافق 10 شوال 1362ه بتونس العاصمة، في بيت عُرف بالصلاح والتمسك بشرائع الإسلام من أسرة زيتونية شلبية عريقة، حفظت القرآن الكريم على يد الشيخ محمد الدلاعي (ت 2011م)، بدأت دراستها الجامعية في كلية الزيتونة للشريعة وأصول الدين للسنة الدراسية (1964م -1965م)، بمستوى الثاني من البكالوريا، تابعت دراستها على مدار أربع سنوات، شعبة الأصول بقسم الإجازة، نجحت خلال دورات عادية بملاحظات جيدة، فكانت الإجازة في أصول الدين سنة 1968م، درَست الفلسفة بكلية الآداب بتونس، بتشجيع من أستاذها محمد الفاضل بن عاشور (ت 1970م)، وهذا ما أكسبها بعدا ظهر في بعض مؤلفاتها كمقال “مشاكل الألوهية من خلال تفسير الرازي”.
نالت درجة الدكتوراه بقسم أصول الدين سنة 1981م، وكان عنوان الرسالة: “القراءات بإفريقية من الفتح إلى منتصف القرن الخامس هجري”.
آثرت التفرغ للعلم والتأليف على الزواج والحياة الأسرية، واكتفت بكفالة ابنة أختها، وعاشت في بيت متواضع بجانب السوق حيث جامع الزيتونة بتونس العاصمة، بشهادة طالبتها سامية بن سعيد، أستاذة علوم الحديث والسيرة النبوية بقسم أصول الدين جامعة الزيتونة تونس حاليا.
لم تكتف هند شلبي بالتكوين الأكاديمي بل أضافت إليه تكوينا، حيث كانت شديدة الحرص على حضور الحلقات العلمية التي يعقدها بصفة دورية كبار علماء الزيتونة في بيوتهم لدراسة أمهات كتب التفسير والحديث والفقه وأصوله.
كما أتقنت هند شلبي اللغة الفرنسية إلى جانب اللغة العربية، وهو ما مكنها من الإفادة من الإنتاج المعرف الغربي حول الدراسات القرآنية، فمؤلفاتها لا تخلو من قائمة المصادر الأجنبية الفرنسية.
تعرضت هند شلبي لتحديات كثيرة، كانت سببا في عزلتها العلمية خاصة مع صدور مرسوم (108) للأحوال الشخصية سنة 1981م الذي منع ارتداء الخمار في المراكز الحكومية، مما اضطرها لبس السفساري وهو لباس تونسي تقليدي، ويعرف بالجزائر بالحايك، استطاعت من خلاله الجمع بين التزام مرفوض وزي تقليدي تونسي لا يستطيع أحد معارضته.
غادرتنا هند شلبي في 24 جوان2021م، بسبب وباء كورونا، بعد أن عانت التضييق والحرمان في بلدها، خلفت وراءها أيقونات علمية لا يتجاوزها باحث في مجالها إلا حال عليها.
ففي مجال التفسير وعلوم القرآن، رافقت إماما بصريا قيروانيا وهو يحي بن سلام (ت 200هـ)، حيث حققت كتابه التصاريف، وهو في علم الوجوه، وهند شلبي أول من أخرجت هذا المخطوط للدارسين ونسخته الوحيدة متوفرة بتونس، أما تحقيقها الثاني فهو تفسير يحيى بن سلام، الذي وُزعت نسخه عبر مكتبات تونس؛ مكتبة العبدلية، مكتبة حسن حسني، مكتبة جامع القيروان.
تمكنت الباحثة من خلال تحقيق تفسير ابن سلام، إيجاد الحلقة المفقودة في تاريخ التفسير، هي حلقة يحيى بن سلام رائد التفسير النقدي، الذي كان مُمهدا لظهور تفسير ابن جرير الطبري، كما أبدعت هند شلبي في التأريخ للقراءات من خلال رسالتها للدكتوراه: “القراءات بإفريقية من الفتح إلى منتصف القرن الخامس الهجري” التي ناقشتها سنة 1981م، حيث استطاعت الباحثة التأريخ للقرآن والمصحف والقراءات والقراء بإفريقية، خلال مرحلة زمنية التي تعد بداية الحضارة الإسلامية بإفريقية التي كانت في القيروان ثم المهدية، ونهايتها كانت بقدوم بني هلال إلى القيروان، الذين أضروا بالاستقرار الداخلي، وغيروا أوضاعها.
رغم الندرة وشح المعلومات في موضوع القراءات بإفريقية إلا أن الباحثة لم يكل لها عزم ولا خبا لها توق في فتح الحقائق التاريخية للقرآن بإفريقية، فوُصف كتابها هذا أنه خير ما كتب في الدراسات الإفريقية خلال القرون الأولى بشهادة المتخصصين أمثال الأستاذ بلحاج شريفي والمستشرق الألماني ميكلوس موراني.
أما كتاب “التفسير العلمي للقرآن بين النظريات والتطبيق” قسمت هند شلبي الكتاب إلى جزء عرضت فيه آراء العلماء القدامى والمحدثين في التفسير العلمي للقرآن الكريم، الذين انقسموا إلى معارضين ومثبتين، متنته بمناقشة لآراء كل مذهب مناصرة القول بالتفسير العلمي للقرآن الكريم دون إفراط.
أما القسم الثاني وهو الجزء التطبيقي حوى ثلاثة فصول بيَنَتْ من خلالها المنهجية التي يجب اتباعها لفهم الحقائق الكونية في القرآن الكريم، ثم عرض للمسائل المدروسة، وهي كروية الأرض، ودور الجبال في تثبيت الأرض، ومسألة تشريحية وهي البنان بمفهوم البصمات، وفي الأخير عرضت فصلا في مفهوم المعجزة.
الكتاب رغم صغر حجمه إلا أنه يُعد من أجود ما كتب في هذا الاتجاه من التفسير.
بعد هذا العرض نلخص إلى نتائج أهمها:
1- نشأة هند شلبي في أسرة علم وصلاح كان له الفضل في بناء شخصيتها العلمية.
2- إتقانها للغة الفرنسية مكنها من الإفادة من الإنتاج المعرف الغربي حول القرآن الكريم.
3- عانت هند شلبي الكثير من التضييق برز من خلال زيها السفساري الذي جمع بين الالتزام والتراث، والعزلة العلمية وحرمانها من حقوقها في الترقي في السلام الوظيفي.
4- مرافقة هند شلبي ليحيى بن سلام البصري، هو إبداع تونسي مزدوج، إبداع متقدم ليحيى بن سلام في خدمة القرآن الكريم، وإبداع للمرأة التونسية في العناية بكتاب الله.
5- التحقيق عند هند شلبي لم يكن مجرد مقارنة لنسخ المخطوط، وترجمتها كالمعهود في التحقيقات، بل جاء عبارة عن مناقشة لقضايا معرفية ممهدة لكل علم حواه الكتاب.
6- اندراج معظم مؤلفاتها ضمن مشروع معرفي وهو الدرس الإفريقي فجاءت مؤلفاتها بمثابة حلقات متصلة.
7- الحيادية التي التزمت بها هند شلبي عند عرضها للآراء المتناقضة التي ناقشتها بكل هدوء وموضوعية بعيدا عن الهوى، مما أكسب كتاباتها المصداقية.
8- احتكام هند شلبي للقرآن الكريم في تحليلاتها، والتنظير بين الآيات القرآنية، أوصلها إلى دقة النتائج.
9- إن لدراسات هند شلبي مزية لا يسع لأحد جحدها فقد أثرت المكتبة الإسلامية بكنوز لا يتجاوزها المتخصصين.
في الأخير:
ولئن فاتتني التتلمذ ومباشرة على يد هند شلبي والاجتماع بها في حياتها، فإنني قد فُزت شرف الجلوس إلى ميراثها والارتواء من معين قلمها، وتجسيد بعض ذلك من خلال تناول جهودها في التفسير وعلوم القرآن في مذكرتي المقدمة لنيل درجة الماستر في العلوم الإسلامية، تخصص التفسير وعلوم القرآن بإشراف الأستاذة الفاضلة نورة بن حسن، بجامعة باتنة 1، وذلك وفاءا لواحدة تعد من أهم الأعلام السنوية المعاصرة فرحم الله هند شلبي.
وبهذه المناسبة أتقدم بالشكر الجزيل للأستاذة المشرفة وجميع القائمين على الكلية
الطالبة: وردة دحماني