حصريا

قضايا المرأة في القرآن الكريم: مكانة حواء من آدم تأصيلا وتنزيلا -د. سهام داوي -الجزائر-

0 341

قضايا المرأة في القرآن الكريم:
مكانة حواء من آدم تأصيلا وتنزيلا
د. سهام داوي
كلية العلوم الإسلامية ــ جامعة الجزائر ــ
Sihemdaoui75@gmail.com

خلق الله تعالى سيدنا آدم ــ عليه السلام ــ من طين، وأمر الملائكة بالسجود له تكريما وتشريفا، فــ “كانت السجدة لآدم، والطاعة لله تعالى”، فأذعنت الملائكة بالسجود، وتولّى إبليس بالتكبّر والجحود، قال تعالى:”إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ”
وعاقب الله تعالى إبليس على تمرّده وتكبّره بالطرد من الجنّة على ما ذكره في مواضع من القرآن الكريم، منها قوله تعالى:” قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ” فلمّا أصرّ على الاستكبار، أذلّه الله تعالى بالصَّغار.
ومع امتثاله للأمر الرباني، وخروجه من الجنة التي لم يكن في مستوى سكناها، كان له طلب لحاجة في نفسه، توجه به إلى ربّ العزّة، سائلا الإرجاء إلى يوم البعث، وهو يوم القيامة، فأجابه الله تعالى إلى طلبه لحكمة يعلمها سبحانه، وقرّر ذلك في قوله:” قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ”، وحكى بعدها عن التوعّد الذي صرّح به إبليس لبني آدم، وما يسعى إليه من فتنتهم في دينهم لصدّهم عن الحقّ، حيث قال:” فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ”، وكلّ ذلك غيرة وحقدا من هذا المخلوق الذي كرّمه الله تعالى، وأعدّه لشأن يعلمه، وحكمة يجريها.
وبعد أن طرد الله تعالى إبليس من الجنة، أسكن آدم وزوجته فيها، واباح لهما من الأكل ممّا شاءا، إلاّ شجرة عيّنها لهما، ونهاهما عن الأكل منها، بدليل قوله تعالى:” وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ”، “والنهي عن قرب الشيء أبلغ من النهي عنه، فهو يقتضي البعد عن موارد الشبهات التي تغري بالمنهي عنه، وتفضي إليه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، كما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم”
واستمرّ بإبليس حسدُه لهذا المخلوق المكرّم، فاغتنم الفرصة، ووسوس له بالوقوع في المحظور، فانخدعا، ووقعا في الخطيئة، وعاتبهما الله تعالى مجتمعين بلا تفريق بينهما، جزاء الخطأ المشترك، حيث قال تعالى:” فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ” فلا عبرة بالتشويش على الحقيقة، ونسبة الغواية إلى حواء ضعفا أمام وسوسة الشيطان دون آدم، والمعتمد هو الخطاب الرباني في العتاب، والعقاب بعدها بصيغة التثنية على ما قدّره سبحانه في الأزل من هبوطهما إلى الأرض لعمارتها.
ومع العتاب كانت التوبة، وكان الإقرار بالخطأ، وبظلم النفس، فلقّنهما الله تعالى ما يطلبان به العفو، حيث قال:” فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ”، ولكن هذه التوبة لم تمنع إخراجهما من الجنة، حيث مستقرّ الحياة البشرية، بمعية إبليس بوسوسته وفتنته لمن يطاوعه:” قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ” فجُعلت الأرض مصيرا، تُمتحن فيها الخليقة، وتُختبر جيلا بعد جيل، إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، ويقضي بين الناس بالعدل.

حواء…السكن والأنس
كما أنه أبو البشرية، فهي أمها، خلقها له ليسكن إليها، ويقترن بها، وفق ناموس غريزي تتكاثر به البشرية، وتتزايد به أعدادها، ويتحقّق الاستخلاف في الأرض بمكوّناته المستوفاة، ويصير الزوجان الكريمان أبوين، فجدّين، فأصلين لما لا يُحصى من النفوس التي احتضنتها الأرض إذ هي تدبّ عليها، وعادت فاحتضنتها في جوفها على ما سنّ الله تعالى من خلال الغراب في الدفن ومواراة الموتى وقد استكملوا المشوار مع الحياة… إنها أمّنا حواء، الأصل والقالب لسائر النساء، كُرّمت في الجنة، وأُنزلت إلى الأرض بخطيئة بشرية لا علاقة للجنس بها، وتابت مع زوجها فتاب الله عليهما، وأدّت ما عليها من حق العشرة، والإنجاب.. ومضت، كما مضى الأوّلون، وبقي التحذير الرباني عبرة للآخرين:
” فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى”
************
هي أوّل امرأة خُلقت، وأوّل زوجة وُطئت، وأوّل أمّ حملت وأرضعت.. تأسيسا لمعالم الحياة البشرية على الأرض، فلم تفارق زوجها آدم عليه السلام منذ أدخلها الله تعالى في حياته، وجعل لهما تشريفا، وتكليفا، ومصيرا مشتركا، بلا تفريق، ولا مفاضلة إلاّ في نطاق التمايز التكويني على سبيل التكامل في الحياة.
أمّنا حواء لم يصلنا عنها من المواقف والمشاهد إلاّ ما كان متعلّقا بالخطيئة المشتركة، والتوبة العاجلة، والنزول إلى الأرض حيث نثرت لزوجها فيها ما في بطنها، وضمنت للعنصر البشري الاستمرار، ولكنّ وجودها في حياة آدم الذي خُلق من غير أب ولا أمّ ولا أخ مرافق يعطي لها حقيقة دورها، ويكشف عن أسرار مكانتها، ومن خلالها مكانة كلّ حواء في حياة كلّ آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد كانت حواء رمزا للسكن الزوجي، وعلامة خالدة على استحالة استمرار الحياة بالأحادية الجنسية، فكلاهما مكمّل للآخر، يعطيها من قوّته فتعطيه من نعومتها، ويحميها بقوامته فتحيطه برعايتها، ينسى في الأنس بها التعب، ويتهاوى أماما النصب، وتوالى من نسل آدم الذكور، كما توالت الإناث، واستدام الحال على ما فُطر عليه، وجُبل عليه، في الأنس المشترك، والدور الحضاري المكفول بنوازع غريزة التجاذب، لتُعمر الأرض ببني الإنسان تجسيدا لما قضاه الله وما كان.
ولم تقتصر الإشارة إلى حواء على آيات الخلق، والوسوسة، وملابسات النزول إلى الأرض، بل ذكر القرآن الكريم ما يرجوه الله تعالى لهذه العلاقة الزوجية أن تكون عليه، فقال:” هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا”، “فهي نفس واحدة في طبيعة تكوينها، وإن اختلفت وظيفتها بين الذكر والأنثى، وإنما هذا الاختلاف ليسكن الزوج إلى زوجه، ويستريح إليها .. وهذه هي نظرة الإسلام لحقيقة الإنسان، ووظيفة الزوجية في تكوينه، وهي نظرة كاملة وصادقة جاء بها هذا الدين، يوم أن كانت الديانات المحرّفة تعدّ المرأة اصل البلاء الإنساني، وتعتبرها لعنة ونجسا وفخّا للغواية تحذّر منه تحذيرا شديدا، ويوم أن كانت الوثنيات ــ ولا تزال ــ تعدّها من سقط المتاع، أو على الأكثر خادما أدنى مرتبة من الرجل ولا حساب له في ذاته على الإطلاق .. والأصل في التقاء الزوجين هو السكن والاطمئنان والأنس والاستقرار، ليظلّ السكون والأمن جوّ المحضن الذي تنمو فيه الفراخ الزغب، وينتج فيه المحصول البشري الثمين..”
فالمرأة ملاذ الرجل الذي يسكن إليه، ليطمئن معها، ويرتاح في صحبتها عاكسا كلّ ذلك على ما حوله في محيطه الاجتماعي، حيث تحقق هذا القدر من الهناء لزوجها، ولسائر أفراد الأسرة في المحصلة، وتكون نعومتها، ورقتها، وأخلاقها الراقية أرضية متينة لتماسك المجتمع، تحقيقا للمقصد الأسمى في الاستقرار، والنهوض إلى المعالي.
ولقد رّدّد اسم حواء في معرض ادّعاءين، وتخمينين غلبت عليهما التجاوزات، وطمست على المعاني العميقة فيهما الشكليات والافتراءات:
أوّلهما: تهوين شأنها باعتبارها مخلوقة (من آدم) ومستخلصة منه: فلطالما شُغل من بهم سوء فهم، أو قلة علم، أو رغبة مجرّد التشويش بتفجير لغم بطريقة خلق حواء، غافلين عن حقيقة ذلك، ومقاصده، فيكفينا أنها وجدت في حياته لتستمر بهما الحياة، حيث لم يوضح لنا الله تعالى كيف خلق حواء، ولكنه أدخلها معه في الخطاب، فقال تعالى:” وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ” و”نفهم من سياق قوله تعالى (وخلق منها زوجه) أنّ حواء قد خلقها الله خلقا مستقلا، كما خلق آدم، وكما أوضح لنا الحقّ تعالى أنه خلق آدم من طين، فكذلك خلق حواء، ولنا أن نتأمّل حكمة الخالق الذي ربط الرجل والمرأة برباط تحمل مسؤولية عمارة الكون” فخلقها منه، أي من جنس ما خلقه منه، وليست ناقصة خلقة، ولا هيّنة مقام، بل هي نسخة مشابهة إلاّ فيما يقتضي التجاذب والالتحام.
والثاني: بنسبة الضغط على آدم للأكل من الشجرة الممنوعة إليها، باعتبارها مصدر الغواية، ومكمن الضعف الذي يتعدّى البنية الجسدية إلى العقل، وذاك بهتان مبين، فكلّ ميسّر لما خُلق من أجله، والخطاب القرآني في شأن الغواية، والاستجابة، والوقوع في الخطيئة، ومن ثمّ التوبة إنما وُجّه إليهما معا، ولم ينسب إليها شيئا من التقصير أو التأثير، لأنهما انخدعا معا، ورجيا النفع بالأكل فاقبلا معا، ودفعا الثمن سويّا.. وكان ثمنا مقدّرا لتُعمر الأرض بالبشرية.. ولا سبيل هنا إلى تعليق الذنب عليها باعتبار خصوصيتها العاطفية، فإنما زوّدها الله تعالى بجرعة أكبر منها لما تستدعيه مهام الحمل والوضع وحتى التربية الشاقة من التصبّر بالعاطفة على ما ينفر من تحمّله العقل.
فيكفيك أنك حواء، ويكفي الفضل المتوارث منك أن تنعم به سائر النساء، ما عرفن لأنفسهن القيمة الحقيقية، وما جعلن الغاية القصوى هي الاستقامة على النحو الذي يرضي الله تعالى، ويحقّق للرّوح الارتقاء، بالفكر النقي في التكامل والتعايش والتعاون بين الزوجين، على نحو تُستبعد معه التقديرات القاصرة، والمشاعر الأنانية، والصدام الأجوف بدعوى مواجهة أعداء المرأة، وما اعتدنا سماعه من الهراء.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.