حصريا

في غزة تسكن أرواحنا-د.حجيبة أحمد شيدخ-الجزائر-

0 87

في غزة تسكن أرواحنا

غزة العزة، غزة الكرامة. تعلمنا من أهل غزة كل القيم النبيلة التي تحملها رسالة الإسلام، تعلمنا منهم الصبر والتسليم لله، فأغلب الرجال والنساء رجال يرددون: الحمد لله، شهداء فداء القدس. لقد أثبتوا للعالم أنهم  مدرسة اكتملت فيها كل وسائل التربية الإيجابية التي لا تصمد أمام انتاجها ورفعتها كل وسائل التنمية البشرية والإرشاد الأسري.

أثبتت غزة للعالم أنها هي الوحيدة التي كانت تعيش الحرية الحقيقية، الحرية التي تعني العيش في رحاب عبادة الله وحده التي تحرّرّك من كل مظاهر الطغيان والانكسار لغير الله. كل ما في غزة مميّز لذلك استعصت على الصهاينة، فلجؤوا إلى إبادة الأطفال والنساء، وتدمير السكنات وقطع العلاقة بالحياة.

تقول إحدى الأمهات بعد استشهاد ابنها الوحيد: الحمد لله فداء للقدس… ولو كان عندي سبعة أولاد لقبلت أن يستشهدوا جميعا…

ورجل أنجب ابنا بعد ست عشرة سنة يبكي ويقول: فداء للقدس ووو…

ذلك السيد الذي بقي صوته في آذاننا: ما تعيطش يا زلمة، يقول:” استشهد اثنان من أبنائي، واحد عمره 23سنة والثاني ثلاث سنوات… نحن نلدهم لذلك ونربيهم على حب الشهادة …” صورة ذلك الرجل الذي يحمل ابنته شهيدة ويقول لها:” سلمي لي على مين؟ على حبيب الأمة حبيبنا محمد صلوا عليه، قولي له يحبك  كثيرا، والله أعلم يحبك أكثر من نفسه ومنك ومن كل الدنيا أحبه…” إنه الإيمان في أصدق تجلياته.

أطباؤكم يا أهل غزة رمز الرجولة؛ يرحل أهلهم إلى بلاد أخرى ويصرون على البقاء؛ إنها الإنسانية في أفضل صورها، رأينا أبناءهم وزوجاتهم يبكون وهم يودعونهم عند المعبر، لكنهم لا يضعفون. تقول ابنة أحد الأطباء:” والدي مختص في جراحة الأمعاء لم يرحل معنا؛ لأن كثيرا من المرضى حالاتهم مستعصية يحتاجونه بجانبهم”، ثم نرى  أحد الأطباء يبكي؛ لأنه فشل في إنقاذ طفل حيث أجرى له عملية جراحية دون تخدير ولم يتحمل فاستشهد… كان يمشي في الرواق باكيا، وطبيب آخر يحضنه ليخفف عنه ووو..

أب يوسف؛ الذي ظهرت أمه وهي تسأل عنه بألم ولهفة وتصفه بأوصافه التي تحبها: يوسف شعره كيرلي أبيض وحلو… كان يبحث عنه من مكان إلى آخر في المشفى؛ لكنه كان صابرا محتسبا يحضن زوجته ويخفف عنها…

الطبيب الذي استقبل جثامين أطفاله ووالدته الشهداء، وهو مرابط بالمستشفى كان يقبلهم بدموع منهمرة، مرددا: الحمد لله الحمد لله، ثم يصلي عليهم صلاة الجنازة.

روح الروح” أبو ضياء”: ذلك الذي اعتقدناه والد الطفلة ريم، وهو في الحقيقة جدها، كان يتحدث، وكأنها لم تمت يقول: أحضر لها كل ما تحب، هذه روح الروح، كان يعانقها كأنها على قيد الحياة، يفتح عينيها الجميلتين يقبلهما، وكأنه ينتظر أن تعود روحها مرة أخرى…ثم يصرّح فيما بعد أنها حفيدته من ابنته، كانت تعيش معه، وكانت تملأ عليه الحياة، حبا وحركات وضحكات لتنتقل إلى عالم آخر…

أطفال رجال: أطفال عليهم مسحات الجمال والبراءة، عاشوا الويلات، لكنهم كانوا رجالا، يتحدثون كمجاهدين، أعدّوهم منذ الصغر بالبناء الإيماني المتين لمثل هذه المواقف الصعبة. يظهرون في مدارس اللجوء يصنعون الفرحة ويعلّمون العالم معاني الصبر والقوة الإيمانية، ولكنهم يبقون أطفالا ترى في كثير منهم الحيرة أمام قساوة العنف الصهيوني، يخرجون من بين الأنقاض في ذهول كأنهم من الأجداث ينسلون، بعضهم يبحث عن أم لن تعود، وبعضهم يودع أمه الشهيدة مترجيا ألا تكون ميتة، وبعضهم يتفقد إخوة استشهدوا، وبعضهم يبحث عن أب دفن تحت الركام ووو…وبعضهم يخرج وهو غير مصدق أنه على قيد الحياة قائلا: أنا عايش أنا عايش…وتلك الجميلة التي تقول: ياعم أنا زعلانة، وذلك الطفل الحزين الذي يقول: أريد أن استشهد لأنني جائع وفي الجنة يوجد أكل…آه ما أعظم وجع أبنائنا في غزة.

الصحافيون: هؤلاء الأبطال الذين كانوا ينقلون الصورة كما هي من ميادين المعركة، هدفهم فضح الصهيونية، منهم من استشهد، ومنهم من استشهد أهله ومن هؤلاء الأبطال: “معتز عزايزة” الذي لقب برجل العام 2023م والصحافي “وائل الدحدوح” الذي توفيت زوجته وأغلب أبنائه، فصلى عليهم صلاة الجنازة، ولم يختف بل رجع إلى تغطية الأحداث، كانت عقيدتهم أنهم كلهم مشاريع الشهادة …لقد أعطيتم المعاني الصحيحة للوظائف التي تؤدونها فكنتم أهلا للاحترام والتقدير.

اختصرت لنا غزة كل صور الشهادة التي مرت عليها البشرية وكنا نقرأها في كتب التاريخ والبطولات، لقد عشناها  مع غزة العزة لحظة بلحظة نتفرج على آلامنا وانتصاراتنا على وسائل الإعلام. أحدثت غزة في العالم تحركا لم يعهده من قبل، دعته إلى مراجعة كل الشعارات التي كان يتغنى بها عن حقوق الإنسان، والحرية والمساواة. وفضحت تعامل الغرب مع القضايا الإنسانية بوجهين فضحت تحيزه لأكرانيا وتعاونه مع الصهاينة ضد فلسطين، فضحت القوى الغاشمة التي سيطرت على العالم لتخبره أنه أمام القوة والظلم والجبروت لا وجود لهيئة الأمم ولا لمجلس الأمن…

كشفت غزة حقيقة التطبيع بين العرب والصهاينة، لقد التزم أغلب حكام العرب بما أملته عليهم اتفاقيات التطبيع، لنكتشف أننا على حافة الهاوية، وأن بلاد المسلمين اخترقت من الصهاينة، وأنهم استحوذوا على عقول حكام العرب وأولهم رئيس الفلسطينيين المزعوم، الذي اختفى عن الظهور لأنه لا يملك من الحكم إلا كرسيا ملطخا بدماء الأبرياء… لقد كشفتم لنا الشعارات المزيفة وأن بلاد العرب ما عادت بلادنا كما كنا نتغنى بذلك في الصغر…

لقد أعدتمونا إلى أيام الدعوة الإسلامية الأولى، بمواقفكم التي سيخلدها التاريخ، لقد كنتم رسالة الإسلام التي فرط المسلمون في الدعوة إليها واستسلموا للنعم، ونسوا الوظيفة التي وجدوا من أجلها: الخلافة بمعانيها الواسعة، لقد استسلموا للرخاء وأصبح همهم أن يستعرضوا قوتهم بكل ما هو نجس ونتن كأعراس أبنائهم وبناتهم، ونجاحاتهم، لم يعد همهم الدولة القائمين عليها بل أصبح همهم التمكين لحكمهم وخلاصهم الفردي، لقد أتعبونا بحفلات أبنائهم واستعراضات مظاهر البذخ والترف التي يقيمونها؛ لأنهم يعتقدون أن ذلك هو التحضر، وهو في الحقيقة تعبير عن الانحطاط والنذالة، وإنذار بالرحيل إلى مزبلة التاريخ، لقد جهروا بعصيانهم وتوليهم عن الإسلام، وكنتم خير ممثل له وناقل لتعاليمه إلى العالم في رقيكم الإيماني، وأخلاقكم العالية وثباتكم عند هذه الشدة، فكنتم خير سفراء للإسلام في أيامنا هذه ودخول الكثير من الغربيين الإسلام خير دليل على ذلك…

لقد لقّنتم البشرية دروس الإسلام في التعامل مع الأسرى: وهنا الحديث حزين، فأسيرات وأسرى فلسطين قصصهم تعصر القلوب ألما، لقد ملأ الصهاينة سجونا كثيرة بالفلسطينيين؛ لأنهم لا يريدون العيش غرباء في بلدهم… ليس مهمّا عدد من يخرج من سجون الاحتلال؛ لأن السجناء بالآلاف، ويتعرضون لأسوأ المعاملات، ولم يكن يسمع صوتهم أحد كانوا يعيشون منسيين إلا ممن يهتمون بشؤون الأسرى من أبناء شعبهم، ففضحت هذه الأحداث الصهاينة، وفتحت ملفهم ليراه العالم كله، علمتم العالم أخلاق الرسول –صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الأسرى، فخرج أسراهم مبتسمين سعداء بمعاملة الرجال لهم… وخرج أسرانا من سجونهم بعاهات دائمة، فبعضهم كسر وبعضهم فاقد لعقله وبعضهم يستحي من ذكر ما تعرض له من أنواع التعذيب المتوحش…

وللملثم حضور لن ننساه: العالم كله ينتظر كلمته أمام الشاشات، الرجل الذي أرجف الصهاينة، أبو عبيدة، الذي أحيا فينا الحنين إلى الرجال الذين صنعوا التاريخ وأولهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – وعمر وخالد وصلاح الدين وغيرهم… الذين عاشوا للإسلام، المسلمين الأوائل الذين فتحوا أنفسهم فأخذوا الكتاب بقوة، ثم انطلقوا ليفتحوا الدنيا… أبو عبيدة الرجل الأمة الذي أخفى وجهه ليفضح النفاق والمنافقين والصهاينة في العالم… لقد كنا نتألم ونبكي ولكن ظهور الملثم يحيي فينا الأمل ويعيد إلينا صوابنا… يلقن الجميع دروس الشرف والكرامة يوجه كلامه لحكام العرب على تخاذلهم في نصرة إخوانهم ولو بسيارات الإغاثة والمساعدات الإنسانية: ” إننا لا نطالبكم بنصرة إخوانكم ونصرة أقصاكم وأن تغضبوا لشتم نبيكم بتحريك جيوشكم ودباباتكم لا سمح الله… لا نطالبكم بذلك لأننا أخذنا على عاتقنا كنس هذا الاحتلال… وكل متفرج على عذابات شعبنا سيلحقه العار ويوصم بالخزي، ولن يكون في ملك الله إلا ما أراد الله …

ثم يلقن أبناء اليهودية دروس الأخلاق ومحاربة فلسفة الغيار النتنة “وأن زمن انكسار الصهيونية قد بدأ ولعنة العقد الثامن ستحل عليهم وليرجعوا إلى توراتهم وتلمودهم ليقرؤوا ذلك جيدا ولينتظروا أوان ذلتهم بفارغ الصبر”.

وأختم بقوله: “لقد أعجزتم العالم يا أهلنا في غزة ويا مجاهدينا في الميدان عن فهم  عظمتكم  وسر قوتكم فطوبى لكم وعد ربكم وبشرى نبيكم. وعهدا أن نواصل حمل سلاحنا وأرواحنا على أكفنا حتى يأذن الله لنا بنصره ويمكننا من إذلال عدوه والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وإنه لجهاد نصر أو استشهاد”…

 

 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.