شيء ما عن العزلة د. موفق سالم نوري العراق
يا لها من فرصة رائعة طالما تمنى مثلها …. فعمله مرهق للغاية ….. ارتباطاته والتزاماته الاجتماعية والعملية تكلفه طاقة نفسية وذهنية كبيرة ….. هموم الثروة والربح والخسارة ….. طالما انتابه إحساس أن رأسه سينفجر في لحظة ما …. تاق إلى عزلة من نوع خاص تمنحه فرصة للتخلص من هذا الارهاق ….. لا بأس حتى لو كانت في كهف بعيد في أقصى الدنيا من دون بشر ….. نعم من دون بشر !! ها هي الفرصة الذهبية …. إعلان نادر مثيله لشركة سياحية : لا تفوتكم الفرصة لكل امرئ جزيرة ….. يعيش فيها لوحده لمدة شهر كامل …. فيها ما لذّ وطاب من مُتع ؛ حدائق غناء …. ليل ساحر بنجومه وقمره المنعكس بروعة لا مثيل لها على الشواطئ …. أمواج تتكسر عند حافات رملية برفق وميوعة مغرية ….. أشهى الأطعمة جاهزة ومحفوظة ولا تحتاج سوى تسخينها ….. موسيقى تنبعث في الأرجاء بطريقة آلية ….. مجموعة إناث دمى طرية تستخدمها في كل الأوضاع المثيرة ….. ولكن لا موبايل ولا راديو ولا تلفزيون …. وثَمّ هاتف للطوارئ بمجرد رفع سماعته ومن دون أي كلام تأتيك مروحية انقاذ ….. لا تفوتكم الفرصة شهر تام من العزلة المريحة الممتعة بما لا يوصف ……. والسعر 50 ألف دولار لا غير . تأمل الاعلان ملياً وعيناه تتلامعان ببريق فضح فرحته العارمة ….. وابتسامة خفيفة كشفت انتعاش قلبه لما يقرأ ….. يا له من عرض مذهل ….. ثم لم يطل التفكير والمراجعة ….. اتصل بالشركة وأعلن رغبته في حجز مكان له على تلك الرحلة …. تم الحجز فعلاً …. جهز متاعه …. وأخبر أسرته بعزمه على السفر . كانوا بضعة عشر رجالاً ونساءً هم الفريق الذي قرر خوض تجربة العزلة …. أقلتهم الطائرة إلى أرخبيل على أطراف المحيط الهادئ حيث تتناثر الجزر الصغيرة التي لاحت من الجو ….. ما أجملها وأروعها ….. حطت بهم الطائرة في مطار قريب ….. ومنه أقلتهم الحافلة إلى الشاطئ …. ليمتطوا مركباً نثرهم على تلك الجزر ….. لكل امرئ جزيرة . حط صاحبنا بقدمه على الشاطئ وأخذ يجول في الجزيرة ….. أبهرته حقاً بكل ما فيها ؛ زينة … وجمال …. وطيور …. وموسيقى …. وأزهار وهدوء تام و و و و …. ووجد نفسه تلقائياً بمواجهة بيت صغير ….. دلف إليه ليجد كل ما ذكره الاعلان ويزيد ….. كان فرحه غامراً …. والبهجة تملئ روحه ….. ها هو أخيراً قد وجد الراحة التي طالما نشدها ….. ليعود بعدها إنساناً آخر…… بكامل طاقته وحيويته …. ثم خرج يجول في أرجاء الجزيرة مستكشفاً ومستمتعاً . مضى يومه الأول على أتم ما يكون من استرخاء وسعادة وراحة …. جال على الشاطئ متأملاً كل ما هو رائع …. وفي الليل جلس يتأمل القمر والنجوم وانعكاساتها الرائعة المتراقصة على صفحة مياه البحر …. والموسيقى الساحرة تطرب مسامعه …… يلتهم قرص البيتزا الإيطالية . وكان اليوم الثاني أكثر جمالاً وروعة …. تناول جبنة الماعز المعمولة في الجنوب الفرنسي مع كوب من الشاي الساخن ….. وقد أبهرته الطواويس المتبخترة في مشيتها ….. وثمة بجعات لا تتردد في إظهار حبها وهي تراقص بعضها عند أطرا بحيرة صغيرة ….. حتى راحت سعادته تتصاعد وفرحته تتنامى …. منتشياً إلى حد لا يوصف وجاء اليوم الثالث أكثر إبهاراً ….. فهذه شلالات يتدفق فيها الماء برغوته الثلجية تسحر الروح وكأنها ترقص طرباً على صوت الخرير الذي يقود إلى بحيرة تلهوا فيها أسماك لا وصف لجمالها . عند هذه اللحظة تصاعد انفعاله …. وطفحت السعادة على جوانب روحه …. فهام على شواطئ الجزيرة لعله يجد على الجزيرة القريبة كائن بشري يحدثه ….. يشرح له سعادته الغامرة ….. والسرور العارم الذي لا يسعه كبح جماحه …. وتحمس لذلك كثيراُ ….. ولكن لا أثر لأحد …. نادى على رفاق الرحلة لعل أحدهم يجيبه …. ولا من مجيب …. فكر أن يلقي بنفسه في البحر ليعوم إلى أقرب جزيرة ليلتقي بمن فيها إلا أن أسماك القرش لاحت له غير بعيد …… أسرع إلى البيت ورفع سماعة الهاتف وصرخ فيها : ألو ألو …. ولكن ليس في الهاتف حرارة … ولا أثر لمروحية الانقاذ في الأفق …. يا الله هل هو في مأزق ….. هل كان ذلك فخاً …. هل استدرج إلى هذا المكان ليبتزوه على ثروته …… ها هي الوساوس تهاجمه من حيث لا يحتسب …. هرول مسرعاً إلى الشاطئ مرة أخرى وبدأ يصرخ بأعلى صوته ….. فصرخ وصرخ وصرخ حتى سقط من على سريره وزوجته تهزه بقوة ليفيق من كابوس اقتحم عليه