حصريا

الافتتاحية/ سلوان القارئ : روافد القرآن

0 299

روافد القرآن

 بن جدو بلخير

لعله لم يصف القرآن أحدٌ كما وصفه الوليد بن المغيرة -على كفره- والسرّ في ذلك أنه كان من أعلم الناس بالشعر واللسان العربي؛ وهو في أعلى درجات بيانه إذْ ذاك
(فو الله ما فيكم من رجلٍ أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجنّ مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمُثمرٌ أعلاه مُغدِقٌ أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلى، وإنه ليَحطِم ما تحته) إ.هـ كلام المغيرة

أرسل الله نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم  إلى الناس ليُعلِّمهم ..أي شيءٍ عند النبي ليعلمه للناس – وهو أمّيّ- ؟ ..

= يعلمهم القرآن ! ويزكِّيهم به ..

كان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أعظم مثال وأفخمه في تأثير القرآن عليه فقد استحالت شخصيته صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول القرآن إلى شخصيةٍ مثالية تستمد قوتها من القرآن وتستلهم أدبها منه ويَسوس الناس بنظامه يقول الله تعالى واصفا الحالة : {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}

وتأمّل كيف وصف القرآن بـالروح !! ثم تأمّله أخرى كيف يُبين عن مهمات القرآن ومنها : تعليم الإيمان ..!

يقول الله أيضا (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ)

كيف جعل العلم وسيلة إلى الإخبات!؟ : كلما فقهت القرآن أخبت قلبك الى الرحمن…

يقول الإمام الطبري : إني لأعجب ممن يقرأ القرآن ولا يفهم معانيه، كيف يتلذذ بقراءته.

حالك..

اذا وجدت لهيب الحب في كبدي / عمدت نحو سقاء القوم أبْترِدُ

والسبيل إلى ذلك أن تتخذ علوم القرآن روافد تصل بك إلى فهمه حقّ الفهم

وهذه العلوم القرآنية إنما هي روافدٌ وسبل، وليست مقصودة في ذاتها ..إنما المراد منها فهم القرآن وتدبره كما تدبره العربيُّ الأول

وعلى هذا النظرة استجْرَيتُ المثال بـ “غريب القرآن” الذي استقلّ بذاته باكرا يوم كان ابن الأزرق يُسائل ابن عباس عن ألفاظٍ من كتاب الله، وابن عباس  يجيبه بما سُمع من شعر العرب، بل صرّح بذلك فيما رواه عنه عكرمة : أن ابن عباس قال: (إذا سألتموني عن غريب القرآن؛ فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب) وعلى هذا وجب تنبيهُ المُتجرِّئ على تفسير كتاب الله أن يكون زاده مما قالته العرب وفيرا حاضرا، وأن القرآن بلسان عربيٍّ مبين فكان السبيل إلى فهمه حق الفهم هو مصادر اللسان العربي، قال الزركشي في برهانه : (ويحتاج الكاشف عن ذلك إلى معرفة علم اللغة: اسما وفعلا وحرفا، فالحروف لقلتها تكلم النحاة على معانيها; فيؤخذ ذلك من كتبهم.
وأما الأسماء والأفعال فيؤخذ ذلك من كتب اللغة. وأكثر الموضوعات في علم اللغة كتاب ابن سيده، فإن الحافظ أبا محمد علي بن أحمد الفارسي ذكر أنه في مائة سفر؛ بدأ بالفلك وختم بالذرة. ومن الكتب المطولة كتاب الأزهري و” الموعب ” بعد لابن التياني و” المحكم ” لابن سيده، وكتاب ” الجامع ” للقزاز “، والصحاح ” للجوهري، و”البارع ” لأبى على القالي، ومجمع ” البحرين ” للصاغاني.
ومن الموضوعات في الأفعال كتاب ابن القوطية، وكتاب ابن طريف، وكتاب السرقُسطي …، ومن أجمعها كتاب ابن القطاع.
ومعرفة هذا الفن للمفسر ضروري، وإلا فلا يَحِلّ له الإقدام على كتاب الله تعالى.
قال يحيى بن نضلة المديني: سمعت مالك بن أنس يقول: لا أوتى برجلٍ يفسر كتاب الله غير عالم بلغة العرب إلا جعلته نكالا.
وقال مجاهد: لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب) إ.هـ كلام الزركشي

ومن هنا تدرك وقاحة كثيرٍ من الحداثيين وبعض طلبة العلم في جرأتهم على تفسير كتاب الله بدعوى امتلاكهم لنواصي النقد، غرّهم ما يطبقونه على النصوص البشرية، فظنوا أن الأمر سيان مع كتاب الله، ودونك الأصمعي – وهو إمامٌ اللغة – كان لا يفسر شيئا من غريب القرآن، وثبت عن بعض الصحابة –من ورعهم- توقفهم عن تفسير بعض غريب القرآن، وهم العرب الأقحاح، لعظمة القرآن في قلوبهم، وهذا لا يُنقص من جلالتهم رضوان الله عليهم، فإن عدم العلم باللفظ المفرد استقلالا؛ لا يقدح في العلم به لوجوده في سياقٍ تركيبيٍّ يشرحه إجمالا ويقرّب معناه…

فكيف يطَّلع علينا فئامٌ من الناس يتأوّلون القرآن بفهومهم السقيمة وأمزجتهم المريضة، قد كَرِعوا من حياضٍ كَدِرة مما ينتجه الغرب، فيتلقفونه بنفسية المُنهزم لا بعزة المتعلِّم المُميِّز للحكمة من غيرها، فيغشى عليهم الحق؛ ويظنون أن القرآن كسائر النصوص الأدبية، يسلطون عليه أدوات النقد -زعموا- وكان عليهم قبل ذلك أن يعالجوا أنفسهم حتى تعتدل أمزجتهم، فإن علوم الغربيين بها من السموم أضعاف ما فيها من النفع، ولعل هذا هو مُراد الجاحظ حين قال : وليس يعرف حقائق مقادير المعاني، ومحصول حدود لطائف الأمور، إلا عالم حكيم، ومعتدلُ الأخلاط عليم !!

ولأمرٍ ما، كان القرآن يسيطر على قلوبهم ، ففي حديث جوار ابن الدَّغِنة لأبي بكر رضي الله عنه :
فطفِق أبو بكر يعبد ربه في داره فترة، ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير ذلك، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره وبرز، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقَصَّفُ عليه نساء المشركين وأبناؤهم؛ يعجبون منه، وينظرون إليه.!!

ومعنى يتقصّف : أي يجتمعون اجتماعاً عظيماً؛ حتى إنهم يتساقطون من الزحام والرغبة في السماع!!

وإنما وصلوا إلى هذه الحالة من التأثر لسلامة ذائقتهم …

كل العلوم التي ترى العلماء يمورون فيها؛ إنما منتهاها أن تصل بذائقتك إلى فهم القرآن ..

هاجت قرائح العلماء في مباحث الإعجاز والدراسات التبعية من معرفة المكي والمدني وناسخه ومنسوخه ورسمه والقراءآت القرآنية، بل لم يكتب “سيبويه” كتابه الذي هو قرآن النحو، وسائر ما كتُب في النحو والبلاغة والبيان.إلا لهذه الغاية، وهذا أبو حيان الأندلسي في بحره يُنبئك عن مثال واحدٍ لرافد من روافد القرآن:  ( فجديرٌ لمن تاقت نفسه إلى علم التفسير، وتوّقت إلى التحقيق فيه والتحرير، أن يعكُف على كتاب سيبويه!!؛ فهو في هذا الفنِّ المُعوّل عليه، والمستند في حلِّ المشكلات إليه) إ.هـ

ومؤونة القرآن شديدة وشُقته بعيدة؛ لا يُستعان على استكناه مُخبآته إلا بالإقبال عليه وعلى روافده الموصلة إلى فتق معانيه

وللقرآن ذِمامٌ وعهد، وهو يسيرٌ للذكر (ولقد يسرنا القران للذكر) ولا يستلزم من هذا اليُسر أن إصابةَ مراده قريبة، فالعُجمة قد جعلت المنتأى بيننا وبين القرآن واسع

كل ما تراه مما قلت وما يتبعه مما لم أذكره، كان غرضهم من ذلك هو فهم القرآن وتدبره، وليست هذه العلوم غرضا في ذاته، إنما هي مجرد روافد !

وهذا ممّا ينبغي التنبه له؛ كي لا تكون الوسيلةُ غايةً، فتَقعُد بك عمّا أُرِيد منك! والسلام

وكتب المتحنِّنُ إليهم

بن جدو بلخير

 

 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.