تأملات تفسيرية مع آيات العربية
يوسف العلمي
أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي
باحث بسلك الدكتوراه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة -المغرب-
مقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الذي أنزل القرآن بلسان عربي مبين،والصلاة والسلام على الصادق الأمين، وعلى آله وصحابته الطاهرين وكل من سار على نهجه في حفظ القرآن الكريم وضبطه والاهتمام بعلومه وفقهه.
وبعد:
فالحديث عن القرآن الكريم، حديث عن العربية وعلومها للعلاقة الترابطية التلازمية بينهما، فهو الذي أكسبها صفة الخلود فبقيت ببقائه وحفظت بحفظه، ودفع إلى مزيد من الاهتمام بها والحرص على تعلمها وتعليمها، وقد تحدى كل من جحد به وأنكره الاتيان بمثله وبمثل لغته في إعجازها وبلاغتها وقوة أثرها، قال تعالى: {قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن ياتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} (1)
ولو تصفحنا كتاب ربنا لوجدنا كلمات ربانية وآيات إعجازية وإشارات قوية توحي على كون هذا القرآن الكريم نزل بلسان العرب ولغتهم، فلا يمكن فهمه إلا بفهم العربية وعلومها؛
وسأحاول أن أقف وقفات تفسيرية مع الآيات التي بينت نسبة القرآن للعربية وأكدت على ذلك في أكثر من موضع:
- يقول الله تعالى: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} (2)
ففهم القرآن الكريم من خلال هذه الآية يقتضي عربية المفسر وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس، فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات. (3)
يقول الشوكاني في فتح القدير: “…إنا أنزلناه أي الكتاب المبين حال كونه قرآنا عربيا، فعلى تقدير أن الكتاب السورة تكون تسميتها قرآنا باعتبار أن القرآن اسم جنس يقع على الكل وعلى البعض، وعلى تقدير أن المراد بالكتاب كل القرآن، فتكون تسميته قرآنا واضحة وعربيا صفة لقرآنا أي على لغة العرب…” (4)
- وقوله تعالى: {وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق} (5)
يقول القرطبي في تفسيره:”وكما أنزلنا عليك القرآن فأنكره بعض الأحزاب كذلك أنزلناه حكما عربيا، وإنما وصفه بذلك لأنه أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عربي، فكذب الأحزاب بهذا الحكم أيضا. وقيل نظم الآية: وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم كذلك أنزلنا إليك القرآن حكما عربيا، أي بلسان العرب…” (6)
فهو كتاب يحكم في القضايا والوقائع بما تقتضيه الحكمة ومترجما بلسان العرب ليسهل لهم فهمه وحفظه وانتصابه على الحال… (7)
وكما أنزل الله تعالى الكتب على الرسل بلغاتهم كذلك أنزلالقرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم بلسان العرب، ويريد بالحكم ما فيه من الأحكام أو حكمة عربية مترجمة بلسان العرب… (8)
- وقوله تعالى:{ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه آعجمي وهذا لسان عربي مبين}(9)
يقول الرازي في تفسيره: “قولهم: أعجمت الكتاب فمعناه أزلت عجمته، وأفعلت قد يأتي والمراد منه السلب كقولهم: أشكيت فلانا إذا أزلت ما يشكوه، فهذا هو الأصل في هذه الكلمة، ثم إن العرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بلسانهم أعجم وأعجميا. قال الفراء وأحمد بن يحيى: الأعجم الذي في لسانه عجمة وإن كان من العرب، والأعجمي والعجمي الذي أصله من العجم قال أبو علي الفارسي:
الأعجم الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو من العجم، ألا ترى أنهم قالوا: زياد الأعجم لأنه كانت في لسانه عجمة مع أنه كان عربيا، وأما معنى العربي واشتقاقه فقد ذكرناه عند قوله: {الأعراب أشد كفرا ونفاقا} (10) وقال الفراء والزجاج: في هذه الآية يقال عرب لسانه عرابة وعروبة هذا تفسير ألفاظ الآية” (11)
و يقول الله عز وجل مخبرا عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء والبهت أن محمدا إنما يعلمه هذا الذي يتلوه علينا من القرآن بشر ويشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم غلام لبعض بطون قريش، وكان بياعا يبيع عند الصفا، وربما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء، وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف العربية أو أنه كان يعرف الشيء اليسير بقدر ما يرد جواب الخطاب فيما لا بد منه، فلهذا قال الله تعالى: رادا عليهم في افترائهم ذلك:{لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} (12) أي القرآن، أي فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على بني أرسل، كيف يتعلم من رجل أعجمي؟ لا يقول هذا من له أدنى مسكة من العقل. (13)
- وقوله تعالى:{ وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا} (14)
كونه عربيا لتفهمه العرب فيقفوا على إعجازه ونظمه وخروجه عن جنس كلام البشر…(15)
يقول ابن كثير: “وأنزلنا القرآن بشيرا ونذيرا بلسان عربي مبين فصيح لا لبس فيه ولا عي…” (16)
- وقوله تعالى:{بلسان عربي مبين}(17)
فهذا يدل على أنه نازل بلغة العرب… (18)
يقول البيضاوي في تفسيره: “بلسان عربي مبين واضح المعنى لئلا يقولوا ما نصنع بما لا نفهمه فهو متعلق ب نزل، ويجوز أن يتعلق بالمنذرين أي لتكون ممن أنذروا بلغة العرب…” (19)
ويقول ابن كثير:”أي هذا القرآن الذي أنزلناه إليك، أنزلناه بلسانك العربي الفصيح الكامل الشامل، ليكون بينا واضحا ظاهرا، قاطعا للعذر، مقيما للحجة دليلا إلى المحجة” (20)
ويقول الثعالبي: “بلسان عربي متعلق ب نزل، أي: سمعه النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل حروفا عربية، وهذا هو القول الصحيح، وما سوى هذا فمردود” (21)
وأخرج ابن النجار في تاريخه عن ابن عباس في قوله: بلسان عربي مبين قال: بلسان قريش، ولو كان غير عربي ما فهموه. (22)
- وقوله تعالى:{ قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون} (23)
قال الزجاج قوله: عربيا منصوب على الحال والمعنى ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيته وبيانه ويجوز أن ينتصب على المدح. (24)
فقد وصفه الله تعالى بصفات ثلاثة أولها: كونه قرآنا، والمراد كونه متلوا في المحاريب إلى قيام القيامة، كما قال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (25) ، وثانيها: كونه عربيا والمراد أنه أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته كما قال: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن ياتوا بمثل هذا القرآن لا ياتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} (26) وثالثها: كونه غير ذي عوج والمراد براءته عن التناقض” (27)
- وقوله تعالى:{كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} (28)
أي في حال كونه قرآنا عربيا بينا واضحا فمعانيه مفصلة وألفاظه واضحة غير مشكلة كقوله تعالى:
{كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} (29) أي هو معجز من حيث لفظه ومعناه {لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} (30) “. (31)
- وقوله تعالى:{ولو جعلناه قرآنا آعجميا لقالوا لولا فصلت آياته آعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد} (32)
لما ذكر تعالى القرآن وفصاحته وبلاغته وإحكامه في لفظه ومعناه ومع هذا لم يؤمن به المشركون نبه على أن كفرهم به كفر عناد وتعنت كما قال عز وجل: {ولو نزلناه على بعض الاعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين}(33) وكذلك لو أنزل القرآن كله بلغة العجم لقالوا على وجه التعنت والعناد لولا فصلت آياته أعجمي وعربي أي لقالوا هلا أنزل مفصلا بلغة العرب ولأنكروا ذلك فقالوا أعجمي وعربي أي كيف ينزل كلام أعجمي على مخاطب عربي لا يفهمه؟ هكذا روي هذا المعنى عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي وغيرهم؟ وقيل المراد بقولهم لولا فصلت آياته أعجمي وعربي أي هل أنزل بعضها بالأعجمي وبعضها بالعربي؟ هذا قول الحسن البصري وكان يقرؤها كذلك بلا استفهام في قوله أعجمي وهو رواية عن سعيد بن جبير وهو في التعنت والعناد أبلغ. (34)
- وقوله تعالى:{ وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير} (35)
قرآنا عربيا بينه الله تعالى بلغة العرب، وقيل: أنزله الله تعالى على النبي عليه السلام قرآنا عربيا بلسان قومه، كما أرسلنا كل رسول بلسان قومه…” (36)
يقول الشوكاني في تفسير هذه الآية: “أنزلنا عليك قرآنا عربيا بلسان قومك كما أرسلنا كل رسول بلسان قومه” (37)
- وقوله تعالى:{إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} (38)
أي أنزله الله تعالى بلسان العرب، لأن كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه، قاله سفيان الثوري وغيره. وقال مقاتل: لأن لسان أهل السماء عربي.” (39) فهو منزل بلغة العرب فصيحا واضحا لعلهم يفهمونه ويتدبرونه، كما قال عز وجل: {بلسان عربي مبين} (40) ” (41)
يقول البيضاوي: “أقسم بالقرآن على أنه جعله قرآنا عربيا، وهو من البدائع لتناسب القسم والمقسم عليه” (42)
- وفي قوله تعالى: {ومن قبله كتاب موسى إمام ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين} (43)
أي أنزله الله تعالى فصيحا بينا واضحا؛ (44)
يقول ابن جزي: “أي صدق ذا لسان عربي وهو محمد صلى الله عليه وسلم” (45)
وخلاصة القول أن ما أشرنا إليه يبرزالعلاقة التلازمية القوية بين القرآن الكريم واللغة العربية، ويجمع كله أن القرآن الكريم أنزل بلسان عربي مبين على الرسول المصطفى الكريم بلسان قومه ولغتهم ولهجاتهم،كما أنه يوحيإلى أن فهم أسرار القرآن وحكمه يحتاج إلى عقل عربي بامتياز.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
الهوامش:
- سورة الإسراء الآية 88.
- سورة يوسف الآية 2.
- ينظر تفسير القرآن العظيم (ابن كثير)، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ)، المحقق: محمد حسين شمس الدين، الناشر: دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون – بيروت، الطبعة: الأولى – 1419 هـ، ج 4 ص 313 بتصرف.
- فتح القدير، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250هـ)، الناشر: دار ابن كثير، دار الكلم الطيب – دمشق، بيروت، الطبعة: الأولى – 1414 هـ، ج3 ص 6.
- سورة الرعد الآية 38.
- الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ – 1964 م، ج9 ص 326.
- ينظر أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي (المتوفى: 685هـ)، المحقق: محمد عبد الرحمن المرعشلي، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الأولى – 1418 هـ، ج3 ص 190، بتصرف.
- ينظر فتح القدير للشوكاني ج 3 ص 104، بتصرف.
- سورة النحل الآية 103.
- سورة التوبة الآية 98.
- مفاتيح الغيب = التفسير الكبير، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606هـ)، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1420 ه، ج20 ص 271.
- سورة النحل الآية 103.
- تفسير ابن كثير ج 4 ص 518
- سورة طه الآية 110.
- تفسير الرازي ج 22 ص 103.
- تفسير ابن كثير ج 5 ص 280.
- سورة الشعراء الآية 195.
- تفسير الرازي ج 2 ص 251.
- تفسير البيضاوي ج4 ص 150.
- تفسير ابن كثير ج 6 ص 146.
- الجواهر الحسان في تفسير القرآن، أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي (المتوفى: 875هـ)، المحقق: الشيخ محمد علي معوض والشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت،الطبعة: الأولى – 1418 هـ، ج4 ص 235.
- ينظر فتح القدير للشوكاني ج4 ص 144.
- سورة الزمر الآية 27.
- ينظر تفسير الرازي ج 26 ص 249.
- سورة الحجر الآية 09.
- سورة الإسراء الآية 88.
- تفسير الرازي ج 26 ص 249، بتصرف.
- سورة فصلت الآية 02.
- سورة هود الآية 01.
- سورة فصلت الآية 41.
- تفسير ابن كثير ج7 ص 147.
- سورة فصلت الآية 43.
- سورة الشعراء الآية 198.
- تفسير ابن كثير ج7 ص 168.
- سورة الشورى الآية 05.
- ينظر تفسير القرطبي، ج16 ص 06، بتصرف.
- فتح القدير للشوكاني ج4 ص 603.
- سورة الزخرف الآية 02.
- تفسير القرطبي ج16 ص 61 بتصرف.
- سورة الشعراء الآية 195.
- ينظر تفسير ابن كثير ج7 ص 200 بتصرف.
- تفسير البيضاوي ج5 ص 86.
- سورة الأحقاف الآية 11.
- تفسير ابن كثير ج7 ص 255 بتصرف.
- التسهيل لعلوم التنزيل، أبو القاسم، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، ابن جزي الكلبي الغرناطي (المتوفى: 741هـ)، المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي، الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم – بيروت، الطبعة: الأولى – 1416 هـ، ج 2 ص 276.