حصريا

الفهم في المنع-تلي علاء الدين-الجزائر-

0 83

تلي علاء الدين

 

 

الفهم في المنع

 

لسنوات كنت أتساءل، أين الخير فيما أنا فيه من بطالة ويأس ـرغم يقيني ـ فالسؤال لم يكن للتشكيك أو لأثبات العكس، بل لفهم المغزى والحكمة من ورائهما، أو كمال قال سيدنا الخليل ليطمئن قلبي، ويزداد إيماني، فهذه طبيعة النفس البشرية. إلى حين أن قرات حكمة عطائية لمولانا السكندري يقول فيها: “متى فتح لك باب الفهم في المنع، عاد المنع عين العطاء”، حرّكت هذه الكلمات وجداني ورُحت أرددها علني أصيب بعضا مما أصاب مولانا من الفتح، لكن هيهات فأين أنا منه ـ قدس الله سره ـ وبقيت على هذا الحال لسنوات أخرى خضت فيها طرقا عدة، من نضال لافتكاك منصب شغل، لطلب العلم ـ على قلته ـ وحتى محاولة إيجاد بديل يخرجني مما أنا فيه من بطالة، كالتفكير في مشروع مستقل أو حتى الهجرة لبلد اوربي أو خليجي ـ وقد كنت على وشك هذا ـ المهم ان لا ابقى مكتوف اليدين أندب حظي.

ولأن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من سعى وجاهد واقتحم الصعاب ، اتى الفرج بعد تلك السنوات العجاف، وكما أن المصائب لا تأتي فرادى كما قالت العرب، فالأفراح كذلك لا تأتي فرادى هي الاخرى، فخلال شهر واحد، احتليت المرتبة الخامسة وطنيا في مسابقة للمشاريع المبتكرة والشركات الناشئة، بعدها بأيام نلت شهادة من الوزارة الوصية توثق مشروعي وتعترف به، بعدها بأيام أخرى تنشر نتائج الفحص لإحدى الشركات البترولية الكبرى لأجد اسمي من بين الناجحين، فالحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، على نعمه التي لا تعد ولا تحصى ما علمنا منها إلا القليل.

عندها فقط استذكرت ما قاله بن عطاء في حكمته، بعدما رأيت ما فيها وعشته، ورحت أتساءل، لو أنى رزقت بمنصب عمل قبل ست سنوات، أكنت لأشق هذا الطريق واتعلم ما تعلمته؟، أكنت لأتمكن من تأسيس مشروعي الخاص؟ غالب الظن لا، لأني ربما كنت سأهتم بأمور أخرى كالزواج مثلا، وأغرق في دوامة الوظيفة ورتم العبودية.

بيد أن فرحتي الكبرى كانت بهذا الفتح الرباني لعبد عاص مثلي، نال هذا الشرف العظيم فالحمد لله. وفي غمرة هذه النشوة رحت استذكر تلك السنوات وخربشات كنت قد دونتها، أقول فيها: “لطالما انتابني ذلك الشعور الغريب وهو أني سأحقق ما أطمح له وبأني سأفخر بنفسي ذات يوم وبأن ما وعدت به زملائي سيتحقق (بأنهم ذات يوم سيخبرون أولادهم أن فلان هذا درس معي”.. سيقولون هذا وبكل فخر). صحيح أن المعطيات الحالية والظروف لا توحي بذلك.. إضافة إلى أنني لا أقوم بأي مجهود يذكر عدى التفكير والتخطيط.. لكني واثق من قدراتي، وبأن لا شيء سيقف في طريقي إن هي حانت الفرصة ودقت ساعة الصفر، فقط بعض التروي والتريث، لا يمكنني وصف كم الأفكار التي تتزاحم وسط رأسي.. كما لا يمكنكم أيضا ملاحظة الزخم المتصاعد يوما بعد يوم كدالة أُسية، فقط بحاجة ل tik او impulse لينطلق الكل في تناسق وانسجام ديناميكي لا نهائي بين الأفكار والزخم الذي يبعث فيها الحياة، ما أبحث عنه اليوم، هو ما ينقصني لأنطلق غدا نحو هدفي، شغفي هو أن اجعل لحياتي معنى.، للأرقام المتزايدة كل سنه قيمة، لأن قيمة الانسان ما يتركه بعد مماته، سأسعى لان يتذكرني العالم حتى بعد فنائي..”. كتبت هذه الكلمات وأنا في أشد لحظات الياس وأنا بين جدران السجن مكبل اليدين، وبين يدي القاضي أحاكم في تهمة لم أرتكبها، وأنا على ناصية الطريق اهتف ضد كل من كان سببا فيما نحن فيه. إلا أن إحساسا داخليا يزورني بين الفينة والأخرى يشعرني ببعض الأمان والأمل، إلا أن أكثر ما يؤنسني ويشد عزيمتي حينما أغفو وأرى ملاكي الحارس بجبتها البيضاء والنور يشع من وجهها تقترب مني بهدوء تربض على كتفي وتهمس في اذني “أن اثبت يا ولدي، ولا تبتئس، إن الله معك!” تبعث في هذه الكلمات الطمأنينة والسكينة لكن وبطبيعتي المتذمرة اقول في نفسي “أعلم هذا بل وهو السبب الوحيد الذي يجعلني اقاوم، لكن…” فتقاطع تمتمتي “من دون لكن، أوَ نسيت وعدك لي؟! اوَ تخليت عن العهد الذي بيننا؟! اوَ استسلمت وسلمت لهم أمرك وفشلت دون تحقيقك احلامك؟! “، “لم اتخل ولكنها الظروف يا جدة هي التي وقفت سدا في وجهي، ” متى كانت الظروف سدا في طريق الرجال؟ !..”  زعزعني سؤالها واستفزني وكأن هذا ما ارادته، ان تبث في حماسا ونفسا جديدا.. حكيمة كعادتها لا تكثر الكلام و لا المحاججة.. ملاك في روحها.. شامخة كالطود في وقفتها. رقيقة حنون في تربيتها.. ذكية في تعاملها.. حركت وجداني بكلمات قلائل وهي التي ربتني كليث في حماها.. تلميذ في مدرستها العظيمة.. تمنيت لو انها لازالت بجانبي تشد عضدي كلما أنهكني المسير.. تؤنس وحشتي في هذا العالم الموحش، لكن روحها الطاهرة لازالت ترافقني أينما حللت وارتحلت لازالت وصاياها ترن في أذني إلى اليوم.. ستبقين بحق ملاكي الحارس في هذا العفن. جدتي هي أول من آمن بي قبل حتى أن أعي هذي الحياة وما النجاح قبل حتى أن اشق طريقي في هذا العالم، تعلمت منها الكثير الصبر.. الحق.. الثبات.. التضحية.. إنكار الذات. غرست في نفسي حب العلم والسعي نحو النجاح، أنا ثمرتها.. أنا ابنها هكذا أنادى في الحجيرة.

ما منعنا الله الا لحكمة، وما منعنا الا ليعطينا، املا يثبتنا في منعنا وثباتا عقليا يؤهلنا لنتدبر في حكمة منعه، فما اشد نكراننا لنعمه علينا، يمنعنا فيعطينا لنفهم منعه، وحين نفهم يزيد في عطائه، فيصبح منعه عطاءان، عطاء رضى، وعطاء فهم

فالمنع كان لحكمة علمنا جزءا يسيرا منها، والمنع كان لخوض تجربة ايمانية، والمنع كان لاختبار النفس وتدريبها، والمنع كان عطاءا ولازال، والمنع كان فتحا ربانيا على العبد من ربه، ويبتلى المؤمنون على قدر ايمانهم.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.