الصوفية المعاصرة بين التجديف والتوظيف-الدكتور أحمد الزاوي
الصوفية المعاصرة بين التجديف والتوظيف
الدكتور أحمد الزاوي – نيوزيلندا –
يمثل التصوف السني الفقهي تاريخيا ظاهرة جماهيرية عميقة في واقع المجتمعات الإسلامية انطلاقا من المرحلة التاريخية التي يسميها ابن نبي رحمه الله فترة “مابعد الموحدين حتى عهود الانحطاط”
التي غزا فيهاالاستعمار بلاد المسلمين ، حيث ملأ التصوف الدنيا بتكاياه وزواياه، ورباطاته وجهاده ضد الأجنبي الغازي ، بل وباسهاماته الفكرية التي كانت كثيرا ما تثير الجدل حول أصالتها وامتداداتها ،وحقيقة التصوف والكشف عن كنهه ظلت ولاتزال تمثل لغزا اشكاليا في الفكر الاسلامي، باعتبار تنوع مشاربه واستمداداته التأصيلية ، فلقد استنزفت المناقشات والكتابات جهد الأمة بين متعصب متطرف لطروحاته، ومخالف ناقم على نظراته ومخرجاته، فضلا عن أنه لم يعد سرا أن يتهم التصوف وأهله بالسلبية والانسحاب من الحياة .باعتبار ان الدنيا تمثل المدنس الشهواني وليس المقدس اللدني الذي يجب الغوص والتماهي فيه بالاتحاد والحلول وغيرها من التنوعات التجاربية المتكئة على الغنوصية التقليدية التي تستبطن الروح كأداة لاكتساب المعرفة ، حتى وصفه المفكر المغربي الجابري في تقسيمه للعقل العربي بالعقل المستقيل ، حيث يجعل منه نقيضا للعقل بل هو في نظره حركة ارتداد على العقل ومقتضياته ، لان اعتماده على العرفانية هو مضادة للعقلنة .
والنقاش وحبر المداد لا ينتهي في الحديث عن الصوفية وطرقها ، فالسلفي يختزلها في القبورية ومخالفة هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ، والحداثي يراها ضربا من التخلف والنكوص عن بديهيات العقلانية ، والحركي يختصرها في موالاة الظلمة والتعاطف مع المستبدين وعدم الانحياز للمستضعفين.
وعطفا على ماسبق التأسيس له من اشكالية التصوف ، والذي لست في وارد الحديث عليه الا من زاوية بيان اشكالية التصوف المضروبة في أعماق تاريخ أمتنا الثقافي ، فالتصوف اليوم هو جزء من الامة الاسلامية التي تعيش أسوأ أزماتها ، اذ تعاني من الفوضى الشاملة،والتمزقات المذهبية الأيدولوجية ، والتي بدورها تعمل على تفكيك الوحدة وتغذي الحروب وتنمي الصراعات ، اذا لم نقل ان هذا الوضع التاريخي الرهيب بسياقاته الفكرية والاجتماعية هو نتاج لابتذالية مؤسسة العلماء والزوايا وانحرافها عن التواصل مع الواقع وقراءةالاحداث عبر تاريخنا المعاصر، فلاشك ان العقم الفكري والسلبية في التعاطي مع النوازل والملمات والانحياز الى صف الظلمة بالتبرير هي التي أسست لهذا الواقع المريب.
واذاكان تصوفنا المعاصر لم يعد يلعب الأدوار نفسها التي كان يمارسها بالامس من ايقاظ للعباد لمجاهدة العدو الغاصب وتطهير للنفوس التي أخلدت الى الدنيا وانغمست في رذائلها فضلا عن أن ينتج معرفة أو حركة في الواقع ، فكيف نجد من يروج للتصوف كبديل عن باقي تراثنا الذي أنتجته أمتنا عبر جهادها ونضالاتها التي لم تنطفيء شمعتها بعد في مقاومة الظلم والاستعباد ، فهل يكفي من حجة أن التصوف يمثل المشترك الإنساني بين الديانات باعتبار أن كل الديانات قد أنتجت تيارات صوفية تنسكية، وهل تكفي تجربة برغسون الحدسية ، أو محاولات لويس ماسينيون الاستعمارية ، أو مؤتمرات غروزني ، ومؤامرات شيوخ الإمارات المزيفين لإقناعنا بجدوى التصوف كحل لمعضلاتنا الفكرية في فضاء امتلأت أجوائه برائحة الكراهية لكل ماهو حر أصيل في التعبير عن أزمة الأمة ومآزقها المتكررة
وفي عالم الحداثة التي تغزو ديارنا كرها وطوعا لم يعد غريبا ان تبطل مفاعيل علم الكلام ، وتفكك آيات القران لانها اساطير عفا عنها الزمان ، ويشكك في الحديث النبوي باعتباره وهم اضطلع بوضعه فقهاء السلطان لانشاء عصبية الدولة الفتية في مواجهة خصومها، لانها تمثل الدغماتية التي أسسها الاسلام الارثذكسي على حد تعبير المستغرب محمد أركون ، لكن التصوف وكل المفاهيم المرتبطة به صورة ومعنى اصبح الكثير منها ينتج مفاعيله، وينشر سحره وتأثيره ، ويؤثر بتزاويقه المزركشة ومساحيقه ، وتصدر تأويلاته وتفسيراته الى العالم على انه الإسلام المعتدل الذي ينبغي التحاور معه وتشجيعه بل والترويج له كبديل عن حركات الإسلام السياسي التي تستهدف إلى إعادة الهوية المزورة ووحدة الأمة المختطفة ألم يعد مفارقة أن الصوفية لم تعد مضارعة للخرافة ولا ماضوية تعيسة، بله غدت تنتج المعارف ، وتوزع الاستحقاقات ، وترفع من تشاء وتضع من تشاء في عالم مليء بالتناقضات، إنه نفاق السياسة الذي لاينتهي جدلها .
وخلاصة القول ان الاجندة الغربية التي ضاقت ذرعا من الاسلام السياسي ، والتي تشعر بالفزع من الإسلام المتفلت عن سيطرتها ، تحاول يائسة تقويض الاسلام الاحتجاجي النضالي واستبداله بايديولوجية اخرى واعطائها صبغة المشروعية بمباركة اولياء الامور لفرضها كنمط تدين لعامة المسلمين يسهل ركوب صهوته والتحكم فيه لتحقيق مصالح جيوبوليتيكية خارجية ومصالح سياسية ضيقة تخدم السلط الذين هم شرط في خدمة السيد الذي لايزال جاثما على صدر الأمة حتى يأذن الله بالفرج ويتحقق وعده بالتمكين لعباده الصالحين .