التكوين الإنساني الأخلاقي ومساهمته في بناء الدولة- أ.جلال الدين معيوف
التكوين الإنساني الأخلاقي ومساهمته في بناء الدولة.
أ.جلال الدين معيوف.جـــــامعة غرداية – الجزائر
مقدمة:
الحمد لله حمدا يليق بجلاله وكماله، المعلوم والمعروف بعدله وإتقانه، الذي جعل في الكون نواميس تسير بحكمته وعطائه، والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه محمدٍ نبيه الشريف، الذي كان قائما بالحق والعدل فلا يظلم ولا يحيف، فرفع الله به الهمَّة وكشف وأزال به الغمَّة، وبيَّن طريقا قويما لا يخاف فيه العبد ظلما ولا هضما، أما بعد:
فإنَّ الله تعالى خلق الخلق وهو أعلم بما يصلح حالهم وأحوالهم، في المعاش والمعاد، فشرع الشرائع وأمر فيها ونهى، عن كل ما من شأنه أن يسبب ضررا وهما للإنسـان، الذي هو أعظم الخلق لديه فقال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا الإسراء: [70]. فكانت الشريعة جالبة للمصالح ومبعدة للمفاسد، وإن السياسة في الشريعة الإسلامية تمثلُ دائرةً جدُّ هامةٍ، لما يرتبط بها من مصالح العباد والبلاد، وقد أضحت اليوم ضرورة ملحة في فهمها وحسن تنزيلها، لأنَّ فقه الواقع يمليها وتمليها الإشكاليات والتحديات المعاصرة التي تتجسد على الساحة يوما بعد يوم، لكون الشريعة ذات بعد حركي تتفاعل مع مستجدات الحياة في كل حضارة وزمان ومكان، وبالتالي فهو فقه يتحاكم إلى الواقع ودوافعه وخلفياته وأبعاده.
وإنَّنا في زمان تشعبت فيه الأمور، واختلط فيه الحابل بالنــابل، فالكل براء، والكل متهم، وأعجزَ الداء الأمّة الدواء، فحضر الشهود إلا شاهد العقل، واستُحضرت الحجج إلا حجّة الإنصاف؛ إيغالاً في الابتعاد عن عقلنة جدالنا، وتنظيم اختلافاتنا وترتيب درجات سلمّ أولوياتنا، وتحسين نياتنا وإراداتنا، على الرغم من أن قصدنا جميعاً هو طاعة الله ورسوله r.
ولقد كان الإمام محمد الغزالي – رحمه الله – صاحب نهجٍ قويم في فهم مقاصد الشريعة خاصة السياسية منها، التي جعلت عند الكثيرين تحت النعال والأقدام، خدمة وتزلفا لأناس لا يحسنون صُنعا فقال: ” كل دعوة تحبب الفقر إلى الناس، أو ترضيهم بالدُّون من المعيشة، أو تقنعهم بالهون فى الحياة، أو تصبرهم على قبول البخس، والرضا بالدَّنية، فهي دعوة فاجرة، يرادُ بها: التمكين للظلم الاجتماعي، وإرهاق الجماهير الكادحة فى خدمة فرد أو أفراد. وهي قبل ذلك كله كذب على الإسلام، وافتراء على الله، وأي تجاهل لأحوال الأمم المحرومة من العدالة الإجتماعية، أو تهوين لآثار الضيم النَّازل بها أو التسكين للثوائر المهتاجة فيها، فهو دليل على أحد الأمرين: خبالٍ في العقل، أو نفاقٍ في القلب “[1].
وإنَّه عند النظر الفاحص في أحوال الأمم العربية والإسلامية، يجد غياب البعد التكويني في الإنسان لفهم الحياة، وصار الجميع يودُّ التغيير إلى الأفضل دون فهم وحساب للخطوات، ولقد أتت على الأمة أحداث وثورات وغيرها أتت بما أتت وعصفت بمن عصفت، ولكن منظومة الاستبداد مازلت سارية بشكلٍ أو بآخر، وثبت أنَّ السياسة الرشيدة إن لم يتبعها إصلاحٌ إنساني شامل فهو الهلاك بعينه.
ولقد ذُكر في القديم أنَّ غزاة هاجموا الصين، رغم ما يحيط بها من سور عظيمٍ يحميها إلا أنهم نجحوا في الغارة عليها، فلما تحرى الصينيون وبحثوا، وجدوا أنَّ الغزاة قد أغروا الجند والحراس لكي يفتحوا لهم الأبواب، وكذلك فعلوا، فكادت تباد المدن بسبب ذلك، وفهم الصينيون يومها أنَّهم انشغلوا ببناء الأسوار، وتناسوا وأهملوا بناء بناة الأسوار وهم البشـــر، وسواء صحت القصة أو لم تصح من التَّاريخ لكنها تحمل في طياتها عبرة عظمى وجب فهمها لأنَّ الأمر قد يحدث في كلِّ أمة.
وفي ذلك يشير الدكتور جاسر العودة بكلام يؤيده ما قلناه آنفا، فهو يلمح إلى أن الأحداث قد أكدت أنَّ عندنا مشكلة كبرى في بناء الإنسان ثقافيا وفكريا ودينيا وصحيا ومهنيا وتربويا واجتماعيا، وأنَّ الإصلاح السياسي أو الجزئي الذي قد تنتجه أي ثورة في أعلى سلم السلطة لن يغير الاستبداد ولن يصمد من دون إصلاحٍ ديني وأخلاقي وثقافي واجتماعي وفني ومهني وإعلامي يؤازره ويحافظ عليه، وأنَّ ثلاثي الجهل والفقر والمرض هم أعداء الثورة والإصلاح الحقيقيون اللذين لن تقوم لهما قائمة ما داموا متوغلين في هذه الشعوب، فمع الفقر تضيع المبادئ والقيم والكرامة، ومع الجهل تضيع العقلانية والحكمة والدين، ومع المرض تضيع العزيمة والأموال والحياة، إذا فنحن نحتاج إلى ثورة فكرية أخلاقية حضارية تتجذر أولا في المجتمع ثمَّ تنشأ على أساسها مؤسسات مدنية تضبط استمرارية أي تغيير سياسي حقيقي[2].
ولهذا نجد أن رسول الله r أوَّل ما ابتدر في نشر دعوته في تكوين رجال قامت عليهم أعمدة الدولة الإسلامية في دار الأرقم وكانت هذه الدار هي موضع اجتماعهم، فعن الزهري أنَّه قال: « أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ r دَارَ الْأَرْقَمِ، وَبَعْدَ أَرْبَعِينَ أَوْ نَيِّفٍ وَأَرْبَعِينَ بَيْنَ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ قَدْ أَسْلَمُوا قَبْلَهُ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r قَالَ بِالْأَمْسِ: ” اللَّهُمَّ أَيِّدِ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ: عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوْ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ “، فَلَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ نَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، لَقَدِ اسْتَبْشَرَ أَهْلُ السَّمَاءِ بِإِسْلَامِ عُمَرَ »[3].
وهذا التكوين ساهم في بناء عتيد قويم فقد أخرجت تلك الدَّار ثلة من الصناديد، وليست أغلبية، ولكن تلك الثلة هي من صنعت الاستثناء في التَّاريخ الإسلامي، وكان ذات أثر مميز فيه، نافع على مختلف الأصعدة الفكرية والاجتماعية والسياسية وغيرها، وهذا يجعلنا نؤكد أنَّ التكوين الإنساني الذي يقوم على أسس متينة هو الذي يساهم في بناء دولة قويمة قوية، وهذا الأمرُ لا يتأتى إلا عن طريق تحقيق أهداف كبرى تجعل تكوين الفرد همها، فتكون الغلبة، وهذا هو الاستثمار الايجابي الذي نبتغيه.
أولا: التكوين الأخلاقي للإنســان.
إنَّ من أزمات العالم اليوم الأزمة أخلاقية وهي من أشدِّها وأخطرها لكونها تؤثر على باقي الأزمات، فالسياسي الغادر بشعبه والبرلماني اللامبالي بوعوده والمعلم الذي لا يكترث لتلاميذه، والطبيب الذي لا يرحم صرخات وآهات المرضى، والوالد الذي لا يكثرت، ومن جلس على كرسي المسؤولية وهو في الحقيقة اللاَّمسؤول، ترجع إلى أزمة أخلاقية بدرجة أولى، وهذه العقليات السائدة اليوم في الأوساط المجتمعية والفردية هي التي ساهمت فيما يسمى ” احتباس القيم “.
والله تعالى قد بينَّ آثــار أزمات الأخلاق على الأمم والحضارات فقال: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﱠ الروم: [41]، وقال الله تعالى عن فرعون وقومه: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ۙ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ۚ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ الأنفال: [54].
فعلى الرغم من إرادة الشعوب إرادة تغيير فإن كل تغيير لا ينجح كونه يقوم على إزاحة شخص فقط أو مجموعة على الأكثر تمثل تيارا معينا، ولكنَّ الأفكار وشاغليها لم تزاح، ولهذا لابدَّ من قيام ثورة في المنظومة القيمية، وهذه الأزمات الأخلاقية تظهر على مستوى التطبيق والتصور.
فعلى مستوى التطبيق: تظهر هذه الأزمة بتصاعد مؤشر الشكوى العامة، وبدأنا نشعر بخلل على منظومة الأخلاق، فكثرة الآفات والانزلاقات الأخلاقية هي الطامَّة والدَّاهية، فأصبح المقاس على هذه الأخلاقيات على ما ننطلق منه، وهذا الانزلاق ظهر على شكل مراحل، يمكن أن أجملها فيما يلي:
- المرحلة الأولى: ترك العمل بالأحكام التكليفية التي شرعها الشارع الحكيم، والتي قامت عليها مصالح النَّاس في العاجل والآجل، فابتعد المجتمع وقادته عن مسميات الحلال والحلال واستنزفت المعاني والمباني عن طريق القوانين الوضعية التي لم تستمد من واقع النَّاس وخلفياتهم الدينية والمعرفية، بل كانت عبارة عن استيرادٍ يحملُ في طياته الخبث والخبائث.
- المرحلة الثانية: انزال المنظومة الأخلاقية على مستوى القوانين، فجعل الأمر يقتصر على مشروعية الأفعال والأقوال قانونا من عدمها.
- المرحلة الثالثة: تشتت المعنى الأخلاقي لدرجة قصوى على الصعيد الإجتماعي وصار النَّاس يخافون الفعل أو القول عيبا لا حراما، وصارت عليه عملية انقلاب في المعنى من الممنوع إلى لائق وغير لائق، وأصبح الحاجز المنيع فيها هو الرقابة الاجتماعية فقط، فإن وجد مسلكا لفعل ما لا يجب فعل من اختلاس وتزوير الحقائق والإفك وغير ذلك.
أما على مستوى التَّصور: فهو تشبعٌ بمبادئ ليست من الأخلاق في شيء كالبراغماتية والميكافيلية، وتشبعت العقول بهذه الطامات الكُبرِ التي لا تبقي ولا تذر، فالغاية تبرر الوسيلة هو فكر منحط إذ تجعل من الأخلاق تتربى على آفات الخيانات وقضاء المآرب بأي وسيلة كانت، وتحت أي ظرف كان، ومثله كذلك النفعية التي هي تعبير صادق تماما على الفكر الغربي، لربط الحقيقة والذاتية والنفعية وهو عين التفكير الرأسمالي، الذي أدخل العالم في هوة من الشراهة المادية، فصرنا نلبس قشــور الحضــارة وداخلنا أنفس الجاهلية الأولى.
أو ما تتصوره كثير من التيارات الإسلامية التي تجعل أعمالها حكرا حول أفكار قد أكل عليه الزمان، أو أشخاص قد ذهبت به المنايا، أو جماعات متغيرة، وهؤلاء كذلك لابد من تصحيحات جدية في المنظومة الأخلاقية للفكر السياسي لتصحيح العمل، لتحقيق غاية أعظم وهي مصلحة المواطن أو هي المصالح العامة، وهذا فعل الأئمة y رغم وجودهم في فترات زمنية قاسية، مثل الفقه السياسي الذي تمتع به الإمام مالك – رحمه الله – .
ومن أمثلة عمل الإمام مالك بها تسكين ثورات الثائرين والعمل على رعاية دماء المسلمين، خاصة أنَّه كان في واقع صعب سالت فيه دماء المسلمين واستنزفت بين العباسيين والأمويين وغيرهم، وكوقف عمل واضعي الفتنة في البلد فمثل هؤلاء لابد من ذكرهم والتشريد بهم، لأن ما يعود على المسلمين من ضررهم إذا تركوا، أعظم من الضرر الحاصل بذكرهم والتنفير عنهم إذا كان سبب ترك التعيين الخوف من التفرق والعدواة. ولا شك أن التفريق بين المسلمين وبين الداعين للبدعة وحدهم – إذا أقيم – عليهم أسهل من التفرق بين المسلمين وبين الداعين ومن شايعهم واتبعهم، وإذا تعارض الضرران يرتكب أخفهما وأسهلهما، وبعض الشر أهون من جميعه، كقطع اليد المتآكلة، إتلافها أسهل من إتلاف النفس. وهذا شأن الشرع أبدا: يطرح حكم الأخف وقاية من الأثقل[4].
والأزمة الأخلاقية تدخل تحتها مصائب أعظم فهي أمُّ الشرور مثل :
- الأزمات التربوية: كاستهداف المنظومات التربوية بغرض التغريب، وضرب الأمَّة في صميم هويتها وفكرها وفي أعز ما تملك وهم كنز الأمة وهم الناشئة، والمصيبة إن سُلب هذا الكنز، فنوعد الأجيال على أفكار، قد تكون لنا يوما هما وحزنــــا، فنصير كمثل قول الشـــاعر:
وينشَأُ ناشئُ الفتيـــــــــــــــــانِ منا * * * * على ما كان عوَّدَه أبــــــــــــــوه.
- الأزمات الصحية: كفعل الشركات احتكار للدواء لأهداف اقتصادية، أو المختبرات التي تقوم بصناعة الفيروسات وبثها في أنحاء العالم، أو التجارب البشرية.
- الأزمات الفنية: وقد نجح الاستنزاف الأخلاقي من الشاشة اليوم، جعلت تكسر الأخلاق عمودا عمودا بمعول إعلامييها، فتفككت الفضائل وانتشرت الرذيلة، وارتشف الشباب من كأس مسمومة، فضربت الأســر، واستعرت الحروب، وسالت الدِّماء وثكلت النساء، ويُتمَّ الأطفال، تحت زيف الحقيقة من أجل دراهم معدودات.
- الأزمات الاقتصادية: كانتشار الربا، وسقوط قيمة العملات بسبب التضخمات، وتشريع قوانين جائرة، والسماح بمزوالة أنشطة لا أخلاقية من المتاجرة بالخمور، والسياحة الجنسية، والقائمة تطول في هذا.
وإننا من خلال ما سبق نثبت أكثر أنَّ منظومة الأخلاق التي إذا ما تغافلنا عنها فلن تقوم لدول الإسلام قائمة أبدا، ولن يحصل أبدا الأمن الاجتماعي الذي ننشده، وهو تحدٍ كبير في عالم يعج بالأفكار الحداثية والعولمة قد بسطت بساطها على المعمورة أجمع، فهي تؤثر وتتحلل لتتقبلها الجماهير وتكون بداية الانسلاخ.
وهذا ما كان يشير إليه المفكر مالك بن نبي – رحمه الله – فكان يرى أن المجتمع الاسلامي المعاصر لم يستطع أن يستدخل عناصر الدفعة التي ستؤهله إلي مرحلة الاقلاع الحضاري من العوالم الثقافية ومن التجارب المعاشة للصفوة ومن خيرة العقول المفكرة الذين تعلموا بالجامعات الغربية، كما لم يستطع الوقوف على روح وجوهر الحضارة من الايديولوجيات العملية الثورية المتفرقة عبر العالم وبالرجوع إلي عصر ما قبل الحضارة أي المرحلة السابقة على عملية التحضر يواجه ويقوم بنشاطاته بشكل بدائي تقليدي ميكانيكي وبطرق عملية تمثل عالمه الثقافي المتواضع وبالدخول لمرحلة الحضارة دشنت مرحلة الابداع والاختراع بظهور انماط عيش جديدة وفهم آخر للواقع قائم علي الريادة والمسك بزمام الامور وبمفتاح العلم والثقافة والحضارة وبانتهاء هذه المرحلة عدنا إلي المرحلة السابقة للحضارة وأكمل التاريخ دورته إلي الوراء.
إن العالم يشمل ويحتوي علي أفكار رائدة وأخري عملية فالأولى تتجلى بشكل رئيسي في في المخزون الاخلاقي و يمكن القول بأن المجال الأخلاقي مجال تشترك فيه الفلسفة والدين معا وهو ما ينبه إليه ابن نبي . فاللاعنف عند غاندي ومفاهيم الإسلام الأخلاقية: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق هي التي ألهمت مالك بن نبي فكرته الأخلاقية لعنصر مركب لعناصر الحضارة، إلى جانب ما أنتجه الفلاسفة من عناوين أخلاقية مثل أسس ميتافيزيقا الأخلاق، وينبوعا الأخلاق، والواجب الأخلاقي، وكلها كتب لفلاسفة غير مسلمين، يؤكدون فيها على العنصر الأخلاقي في بناء الحضارة الإنسانية[5] .
ثانيــــا: المنهج القرآني والنبوي في مواجهة أزمة الأخلاق.
- من القـــــــرآن الكريم:
إنَّ القرآن الكريم كان صريحا في مواجهة أزمات الأخلاق على مختلف المجالات التي إن نهضت علت بها الأمة، وإن تعكرت سَفُلت بها الأمَّة إلى أسفل سافلين، وإنَّ أفضل الحلول لوقف هذا ” الزحف الانسلاخي” هو مواجهة هذه الأزمات التي من شأنها أن تؤخر النهضة، وقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز نماذج عدَّة للحدِّ من هذه الظواهر:
- أزمة الاستبداد السياسي: إنَّه من المعلوم أنَّ الاستبداد قد ضرب أطنابه في هياكل الأمَّة وجعل الأمَّة الإسلامية تتقهقر في تقدمها، بداية من التعصب المستميت إلى حدود السايس بيكو إلى الحدود العرقية والمذهبية، وهذا ما يساهم بشكل أو بآخر في استمرارية الاستبداد الذي يعدُّ ضرره جسيما على الأمة جمعاء، لكون مصالح العباد ترتبط به، وهذا الاستبدا يجلب بهم ضيقا وحرجا، على عكس مقصود الشريعة، أنها جاءت للتوسعة واليسر، وفي ذلك أشار الإمام الشاطبي إلى إن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه والنصوص القرآنية كثيرة في ذلك، وما ثبت أيضا من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به، ومما علم من دين الأمة، فرفع الحرج والتيسير جزء من التكوين الإنساني المسلم لا يستطيع أن ينفك عنها[6].
فلا يقصد إذا بالأخلاق في ميدان السياسة حزمة القيم الشائعة عن الصدق والوفاء والشجاعة، على أهمية هذه القيم وضرورتها في العمل السياسي النظيف، بل أساسا تلك العلاقة الشائكة والمعقدة بين الهدف السياسي والوسائل المفضية إليه، أو بمعنى آخر ماهية التحديات والمعايير الأخلاقية التي تعترض أصحاب غاية سياسية عند اختيارهم وسيلة نضال ورفض أخرى، وقد ذكر القرآن الكريم كيفية مواجهة هذا الاستبداد، وفق استراتيجية تضمن مكاسب إصلاحية حقيقية على الأرض؛ فدَّل على وجوب:
- الوحدة والتمــــــاسك: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَﱠ الأنفال: [46]. فلابدَّ عند مواجهة الاستبداد من ضرورة التماسك وحجز دائرة الاختلاف لا منعه لأنَّه من المستحيلات، ولكن كيفية إدارة هذا الاختلاف تعتمد على الحكمة، بل وقد أذاب القرآن كل الحواجز من أجل هذه الغاية فقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَالحجرات: [10].
- الشـــــورى: إنَّ المتتبع لكتب أغلب المتقدمين، يكاد يرى تطابق في معرفة مقصد الشورى وهو الوصول إلى الرأي السديد، وهذا في الحقيقة اختزال لمعنى أعمق من هذا، ويمكن أنَّ هذه التفاسير أتت ملائمة للطبيعة الاستبداية التي كانت تعشيها تلك الحضارات، ومن الأئمة الذين توسعوا في ذكر مقاصد الشورى، الإمام الجصاص الحنفي فقال عند تفسير قوله تعالى: آل عمران: [159]: ” وكان في ذلك ضروب من الفوائد:
أحدها: إعلام الناس أن ما لا نص فيه من الحوادث، فسبيل استدراك حكمه الاجتهاد وغالب الظن.
الثاني: إشعارهم بمنزلة الصحابة y، وأنهم أهل الاجتهاد، وجائز اتباع آرائهم، إذ رفعهم إلى المنزلة التي يشاورهم النبي r ويرضى اجتهادهم وتحريهم لموافقة المنصوص من أحكام الله تعالى.
والثالث: أن باطن ضمائرهم مرضي عند الله تعالى، ولولا ذلك لم يأمره بمشاورتهم. فدل ذلك على يقينهم وصحة إيمانهم وعلى منزلتهم مع ذلك من العلم، وعلى تسويغ الاجتهاد في أحكام الحوادث التي لا نصوص فيها لتقتدي به الأمة بعده r في مثله”[7]، فلا يخفى على أحد فائدة الشورى وما تجلبه من منافع خاصة في أمور تتوارد فيها الاحتمالات والإشكالات، فلا يشترطُ منها مجانبة الخطأ، فقد تكون موزانات بين حسنٍ وأحسن، ولذلك قيل: ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، بل العاقل الذي يعرف خير الخيرين وشر الشرين.
- محاربة الاستخفاف والاستغباء: وهذا من مناكر الاستبداد، أن يمكنوا لكل سبل التي تتيح لهم أن يتربعوا على العروش، ومن أجمل اللفتات في هذه الأزمة الاستبدادية، هو ما فسره السيد قطب – طيبَّ الله ثراه – عند تفسير قول الله U:فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ الزخرف: [54]، فقال: ” واستخفاف الطغاة للجماهير أمر لا غرابة فيه، فهم يعزلون الجماهير أولاً عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها؛ ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة . ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين ! .
ولا يملك الطاغية أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق، ولا يمسكون بحبل الله، ولا يزنون بميزان الإيمان، فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح”[8]، وقد أمر الله تعالى بمحاربة هذا الاستغباء باتباع طرق العلم، وتحصين النفس والعقل في كثير من الآيات، حماية من ” الاستحمار” كما سماه المفكر علي شريعتي – رحمه الله – ، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ الحجرات: [06].
- أزمة التعاملات الاجتماعية: إنَّ أزمات الأخلاق إذا تعدَّت المجتمعات فهي الهلاك، ولقد بيَّن الله تعالى بآيات مَفَاصل هذه التعاملات، التي إذا تشربتها النُّفوس حَصَل الأمن الاجتماعي، وإن لم يحصل حدث خلافه، فقرر الله الأمانة فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًﱠ النساء: [58]، وعكس الأمانة الخيانة، وإذا ما توغلت في المجتمع فكبر عليه أربعا، وبيَّن أسس التعامل بين الأمم والشعوب واحترام الاختلاف فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﱠ الحجرات: [13].
وشرع حق الحماية واللجوء فأمر بحماية من استجار حتى ولو كان على غير الملة، فقالوَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ التوبة: [06]، وذكر الكثير من الأخلاق التي تساهم في تعاملات اجتماعية على أسس تساهم في بناء وتكوين فردي أخلاقي، لأنَّ المجتمع كيانٌ قائم يمكن تحديد سماته كما تعرف سمات أي فرد من أفراده وهذا الكيان هو نتاجُ مجموعة من الأفراد، يحملون هذه الأخلاق التي تؤثر عليه.
- أزمة الأسرة: إنَّ الاختلال القيمي الرابط بين الرجل والمرأة يُرَى على الساحة اليوم، فهي تواجه موجة عظيمة من ” التحلل في القيم”، في مختلف الأصعدة فبداية من مفهوم الزواج إلى مفهوم التربية والإنجاب، إلى مفهوم الميراث وغير ذلك، إلى ظهر أشكال جديدة لم تعرف قبلا، كزواج المثليين، والأمهات بدون زواج[9]، وهذا بسبب كثير من العوامل التي يمكن أن نذكر من بينها:
- سوء فهم الدين ومقاصده الشرعية فيما يتعلق بالحياة الزوجية، وحرمان المرأة من كثير من الحقوق كاختيار عريسها، والطلاق والخلع والتفريق والإرث، وممارسة سلطة القوامة بصيغة الاستبداد.
- جمود قوانين الأسرة على فهم متطلبات التطور الاجتماعي، وإشعار المرأة العربية بالاضطهاد بواسطة الإعلام، واستغل دعاة تحرير المرأة ذلك جيدا.
- قبول المجتمعات لأعراف ما أتى الله بها من سلطان، من التمييز بين الذكر والأنثى، وزواجها من أقاربها فقط، والمنع من الميراث، والاستغلال الأسوء للنصوص الدينية كناقصات عقل ودين.
فذكر الله تعالى الأسس المتينة لهذا البيت وأنَّ أساسه هو المودَّة والرحمة فقال: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَﱠ الروم: [21]، فجعل الزواج من الآيات التي تدُّل عليه لا إله إلا هو، وبينت الآيات أنَّ كل تعاطٍ لهذا المنشط الأصيل في الإنسان خارج دائرة الزواج يعتبر من الإخفاقات، لأنَّ الأمر أوَّلا وأخيرا متعلق بالإنسان فبمجرد كلمة ” الإنسان ” انتهى. فكل ما تعلق به ينبغي أن يكون أخلاقيا إنسانيا.
وبينَّ المولى تعالى أسس التعاون على الطاعة والتكوين الأخلاقي الأسري، فقال: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ طه: [132]، وهذا الاصطبار هو تكوين على التربية والأخلاق، لأنَّ مسؤولية الأسرة عظيمة، وهي وقاية عن حجب النيران، وجعل للمرأة نصيبها من الميراث فقال: لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ۚ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا النساء: [07].
وقد ذكرنا هذه الأزمات الثلاث لأنها هي أم الشرور فالاستبداد السياسي يفعل أفاعيله في الرعية من حب للتمرد والعصيان، وكره تراب الوطن، فيبحثون عن كل منفذ يبعدهم عن هذا الضغط، وأزمة التعاملات الاجتماعية فالمجتمع عصب مهم للدولة، وأي فساد في هذا العصب قد يؤدي بالدَّولة إلى شلل على مستوى كثير من الوظائف، فيكثر الفساد ويسود منطق الغاب والبقاء للأقوى، وأزمة الأسرة لأثرها على الأجيال لأنَّ المجتمع انطلاقة من الأسرة والمجتمع هو الذي يكون الدَّولة، فالتكوين الإنساني الأخلاقي إذا لم يمس هذه الأطراف الثلاث، فسنواجه أمرا عويصا في بناء نهضة الدولة الحديثة.
- من السنة النبوية:
لقد أتت سنة محمد r فكان مشكاة تهدي الحائرين، وتنير درب التائهين، فكان نهجه -عليه صلاة ربي وسلامه- هو أن بُعثَ متمما لمكارم الأخلاق، وكان لهذا التكوين الأخلافي في الرَّعيل الأوَّل من أصحابه الأثر البالغ في تاريخ الدولة الإسلامية وإنجازاتها، فالتربية المحمدية جعلت من سيدنا عمر t رجلا تهابه مشارق الأرض ومغاربها بعد كان ما كان في أيام الجاهلية، وجعلت من خالد وعمرو بن العاص وغيرهم من الصحابة y شموســاً أنارت الدُّنى.
وقد ظهر هذا التأثير الأخلاقي في الربعي بن عامر t لما سأله رستم ملك الفرس عن سبب مجيء المسلمين إليه، فأجابه : ” الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله”. ويلاحظُ أنَّ التكوين الأخلاقي عند رسول الله r مرَّ بمراحل:
- المرحلة الأولى: التكوين الإيماني في إطار الجماعة، وهذا ما ظهر في دار الأرقم، حيث يقوي روح المسلمين على التمــاسك مواجهة لأي استبداد قد يتعرضون له.
- المرحلة الثانية: التكوين على مواجع الحياة كأمره r بهجرتهم إلى الحبشة، لأنَّ الدولة قد تتعرض في أي حال من الأحوال إلى انتكاسة، فلابدَّ من التكوين في مواجهة هذه الأزمات السياسية.
- المرحلة الثالثة: تأسيس النَّهضة الأخلاقية بإعطاء دور رائد شمولي للمسجد لما قدم إلى المدينة، فكان معقل الاجتماعات والتخطيطات والاستشارات، ومكان العلم والفتوى.
- المرحلة الرابعة: تأسيس دستور المدينة، وبذلك غرس في الصحابة معنى التَّنظيم والهيكلة والقانون داخل الدولة، وقد ظهر ذلك جليا في فقه الصحابة خاصة سيدنا عمر وعلي في الأمور السياسية، واحترام ما سلف هو تكوين أخلاقي موازة مع العدل في تطبيقه.
إنَّ المنهج النبوي في التعامل مع أزمات الأخلاق كان يعتمد على تحري المقاصد، فوظيفة الإسلام ليست الإجهاز على المجرم بل إنقاذه، لأنَّ المقاصد هي المنبع الأبدي الذي يستقي منه المجتهد وهو ينظر إلى النُّصوص والوقائع والنوازل، فقد أتى لرسول الله r شاب يستأذنه في الزنا، فأقبل عليه قوم فزجروه، وهم بذلك ساهموا بأزمة أكبر، فقال رسول الله r معالجا لهذا الأمر: « أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ قَالَ: لَا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: ” وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ “. قَالَ: ” أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟ ” قَالَ: لَا. وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ… فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ: « اللهُمَّ كَفِّرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ»[10]. وبذلك كان معالجة لأزمة فردية في شاب سولت له نفسه، ومعالجة لمشكلة أخلاقية اجتماعية عندما أرادوا زجره.
ومثله لما أشار الخباب بن المنذر t في بدر على رسول الله r بتغيير المكان، وقبول رسول الله لرأيه، كان تربية أخلاقية في الشورى مع المحكومين، وما حدث مع الأنصار أثناء تقسيمه القسمة وقد حدث في نفوسهم شيء من رسول الله r فقال لهم موضحا: « يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي» كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، قَالَ: «مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ r». قَالَ: كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، قَالَ: ” لَوْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ: جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا، أَتَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالبَعِيرِ، وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رِحَالِكُمْ، لَوْلاَ الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ »[11].
وفي هذا تربية أخلاقية على المصارحة والنقاش، فإن لم تصارح الرعية حاكمها أخذت في نفوسها النفور منها، حتى يقع ما لا يحمد عقباه، وهذا الأمر ليس فلسفة مجردة وإنما يفتح آفاقا لتطوير وتجديد المفهوم الأخلاقي السياسي، كمفهوم للنصيحة في النُّظم المعاصرة، وأهل الحل والعقد الذي يعرفون اعتبارات مصالح النَّاس، وهذا التكوينات الأخلاقية هي التي ستساهم في بناء الدَّولة تقوم على الثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم وفق ضوابط معرفة مالك وما عليك، سواء من الحكام أو رعايهم.
ثالثــا: مساهمة التكوين الأخلاقي في بناء الدولة.
إن التاريخ يذكر في كثير من حناياه وخباياه الكثيرة أن سوء التكوينات الأخلاقية للشعوب وحكامهم كانت سببا في زوال حضارات وأمم من على الأرض، لأنَّ سوء الأخلاق يقلب كل المثل، ويديم امتيازات الاستبداديين، ويعمم ويحمي مكاسبهم، لأنَّ الاستبداد يفعل في الأخلاق فعلته، فهو بين أمرين شرين إما أن يضعفها أو يبيدها، فالدولة تقوم على السياسة، والأخلاق هي القيم التي تساهم في بقاء السياسة الرشيدة.
رغم أن الأخلاق والسياسة بيئتان مختلفتان، لكن لا يصعب الدَّمجُ بينهما في جوٍّ من الوسطية والاعتدال، لأنَّ الفضائل السياسية لا يمكن أن تترعرع في مناخ يشوبه التطرف والغلو والعنف والاستبداد وغياب للمعاني الكبرى من المواطنة والمشاركة السياسية الفعالة ومعاني العدل والمساوة، المنشودة في كل أمة وديانة، فلا أمَّةً على وجه الأرض تود أن تُحتقر أو تُذل، ولأنَّ هذه القيم لا يمكن تحقيق خيريتها العامة إلا في اطار المبادئ الأخلاقية على عكس المبدأ الميكافيلي الذي يعتقد أنَّ غاية السياسة هي المحافظة على الدولة وبذلك فهو يسمح باستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة من أجل إبقاء الدولة قائمة وهذا فصل واضح بين السياسة والأخلاق.
فغاية الدولة الحقيقة أن تحافظ على أفرادها، وهذا في الأخير هو كائن أخلاقي لا تقوم الدولة إلا به، فحاجتنا إلى تعميق التكوين الأخلاقي جدُّ ملحة اليوم، وإننا اليوم أمام تحدٍ كبيرٍ جدا أمام أزمات أخلاقية عويصة تهدد بخراب العمران، بعدما استشرت في العقول والأنفس شوائب تعرقل المسيرة الصحيحة للبنيان الصحيح، حتى صارت الدول لاباع لها إلا في تسخير الناس بغير حق، وتصريف الآدميين طوع الرغبات والشهوات، وإرهاق التجار بالمغارم والمكوس الجائرة، وغير ذلك من آيات الظلم الذاهب بأسباب الرجاء والانشراح، المؤذن بخراب العمران، العائد بالوبال على دوائر السلطان، كما أشار إلى ذلك ابن خلدون – رحمه الله – .
وإن الدولة تعتمد على السياسة و تحتاج إلى الأخلاق، حتى الدول العلمانية التى تفصل الدين عن الدولة تتبنى الكثير من القواعد الأخلاقية في أنظمة حكمها، فالأخلاق ما هي إلا قانون في جانبه العملي، والأمل في أن تحفظ االمنظومة القيمية وجودنا مازال قــائما، رغم وجود محاولات كثيرة من الشخصيات والإعلاميين، إلا أنَّ جهدهم سوف يكلل بفشل كبير كسابقيهم، لأنَّ إرساء قواعد أخلاقية في المجتمع لا يحتاج إلى المواعظ والخطب المطولة بقدر ما يحتاج إلى عدالة الفعل، في ظل نظامٍ جدي يحترم مؤسسات الدولة، يحتاج إلى منظومة تربوية تقوم على أساس تعزيز روح الهوية وإشعال نور الانتماء للإسلام والعروبة، وإلغاء حدود ” السايس بيكو النفسية ” قبل الحقيقية، لأنَّ الأولى إذا تحققت فلا يهم الثانية.
كما إنَّ هذا التكوين الأخلاقي الذي يساهم في بناء دولة عصرية حديثة متكاملة البُنى والأركان لابدَّ له من مرساة لسفينة العدالة، لأنَّ النَّاس لا يقوِّم صلاح أمرهم إلاَّ العدل وليس العصا، وهذا الأمر لن ينجح إلا بتجديد العقد الاجتماعي بين السلطة والشعب، فقد أصبح من المسلمات في الأوساط الفلسفية اليوم أن نظرية هوبز التي تقوم على وجوب تأسيس الأخلاق على قوانين موضوعية يكتشفها العقل، لا على التراث لأنها قد مهدت للتصور الحديث عن العلاقة بين القانون والأخلاق، الذي يظل بموجبه القانون ساريا لسلطة حاكمة بغض النظر عن عدم أخلاقيته. وقد تغلغلت هذه الفكرة في نسيج الفلسفة الأخلاقية الحديثة بأكثر الطرائق تعقيدا.
لكنَّ الذي نتبناه أنَّ العقول قاصرة مهما علت، وهناك منبع صافٍ ابتعدت عنه الأمة فلا نتحرجُ أبدا أن تكون النُّصوص الدينية هي منبع الأخلاق، لأنَّ العقل إن كان مكتشفا للأخلاق فقد أتى اليوم في المنظومة الغربية بحوادث لا تقبلها العقول ولا الأنفس ولا الأديــان، بل بالعكس فإنَّ عقول المشرعين قننتها وحمتها وفق قوانين لا يمكن انتهاكها، وقد أخذت بها كثير من بلداننا للأسف، ولكنَّها ساهمت في اندثار الصلة في العقد الاجتماعي بين الحكومة والنَّاس، إذ الإتيان بأمور تنافي الشرائع والأعراف، وبثها واستغباء العامة بها، هو بداية تساقط العقد، لأنَّ النَّاس سيشعرون بعدم الاحترام الذي هو خلق قيِّم، وإنَّ الدولة التي احترم فيها أهل السياسة شعبها، تكون قد نجحت في وضع اللبنات الأساسية للتعامل مع الشعب.
إن التكوين الأخلاقي اليوم للأفراد والمجتمعات والمؤسسات، لابدَّ أن تُعدَّ له العدَّة ويُربط له الجأش العظيم، وتتكون له لجان ومؤتمرات للبحث في هذه القضايا، والبداية في محاولات اجتهادية للحد من الأزمات الأخلاقية التي تعيق العمل المؤسساتي، وتتعب التعاملات الاجتماعية، وتضعف المبادرات الفردية أو توقفها، والبداية في حملات للوعي ومحاربة التغييب العقلي، لأنَّ الجهل من مولدات أزمات الأخلاق، والحث على المضي قدما نحو دولة متينة تقوم من أدنى الهرم إلى أعلاه، فبناء الدولة مسؤولية الجميع دون استثناء لا مسؤولية السياسين فيها فقط.
خـــاتمة
إنَّ الدولة بنيان متين لابدَّ أن لا ينقض بنياه، وإنَّ صرف النظر عن التكوين الأخلاقي الإنساني سيردي بأي دولة كانت، وكلما كبر الانفصال بين الدولة والمساهمة التحسينية الأخلاقية إلاَّ وهو علامة حدوث الشَّرخ الذي يبدأ ينخر في الدولة من كل نواحيها السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها، فالتكوين في الأخلاق إن غاب في السياسة ولد لديك ثلة ميكافيلية قد تعصف بالدولة أجمع مثلما فعل مع هتلر وستالين وغيرهما، وإن غابت هذه التكوينات في المجتمع ولدت مجتمعا يأكل بعضه بعضا أي لا يرحم، وهذا هو مهد التطرف والإرهاب، وإن غابت عن التربية والثقافية كونت جيلا جاهلا ناكرا لهويته مبتعدا عنها، وإن نكر الهوية فهل سيقبل بالوطن؟!…هذا ما يغيب عن الكثير.
وإنَّ من أهم توصيات هذه الدراسة:
- البداية في انطلاقات علمية جدية لمحاولة فك الانفصال الذي حدث بين الأمة الإسلامية وأخلاقها ومحاولة لم هذا الصدع عن طريق استحداث برامج تربوية أخلاقية للناشئة كمعاهد وكتب ومواقع خاص بالأسر، أو قنوات إعلامية.
- الحوار الهادئ بين السلطات السياسة والشعوب لضمان إعادة حبال الثقة، وتكوين مجالس تنسيقية بين الطرفين تساهم في معرفة المشاكل وأسبابها، وإيجاد الحلول.
- حدوث التغيير المنشود لابدَّ أن يبدأ ببناء الإنسان المتخلق المثقف الواعي، هذا هو الذي سيحترم الدولة، ويساهم في بناءها وحمايتها، على عكس تأسيس موطن جهول فهل سيحمي وهل سيبني؟.
- إحداث التغيير الحقيقي لضمان عجلة التنمية لابدَّ له من ثورة أخلاقية شاملة بناءة، وأن يبتعد الفكر على أنَّ التغيير يأتي فقط من تغيير سياسي، وهذا اختزال وجزء.
- مفهوم الدولة المعاصرة مصادم في عدة وجوه للشريعة، ولكن كمال الفقه هو أن نعود بالسياسة إلى أصولها فتقوم على أساس ما يصلح به أمر النَّاس، وتحقيق مقاصد الشارع الحكيم وفق فهم فقه الواقع ومآلات الأمور.
هذا وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وســــــــــــــــلَّم تسليمـــــــــــــا كثيرا.
والحمد لله رب العالمين.
[1] – محمد الغزالي، الإسلام المفترى عليه، شركة النهضة للطباعة، ط06، مصـر، سنة 2005م، ص55.
[2] – جاسر العودة، الدولة المدنية نحو تجاوز الاستبداد وتحقيق مقاصد الشريعة، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط01، بيروت، سنة 2015م، ص09، بتصرف.
[3] – عمر بن شبة البصري، تاريخ المدينة، تحقيق: فهيم محمد شلتوت، د.ط.ت، مصر، ج02، ص659.
[4]– إبراهيم بن موسى الشاطبي، الاعتصام، تحقيق: سليم بن عيد الهلالي، دار ابن عفان، ط01، السعودية، سنة 1992م، ج02، ، ج02، ص 731، بتصرف.
[5] – عبد الباسط شرقي، مقال: دراسة لكتابه مشكلة الأفكار العالم الإسلامي – مالك بن نبي تحت المجهر-، على موقع: www.aljazair24.com، تم النشر يوم: 04-09-2016م.
[6]– إبراهيم بن موسى بن محمد الشاطبي، الموافقات، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، ط01، الكويت، سنة 1997م، ج02، ص210، بتصرف.
[7] – أبو بكر الرازي الجصاص، أحكام القرآن، تحقيق: محمد صادق القمحاوي دار إحياء التراث العربي، ط01، بيروت، سنة 1984م، ج02، ص52.
[8]– السيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق ، ط17، القاهرة، سنة 1993م، ج05، ص3194.
[9] – نهى عدنان القاطرجي، الغزو الناعم: دراسات حول أثر العولمة على المرأة والأسرة والمجتمع، دار الكتب، د.ط.ت، بيروت، ص 227- 228، بتصرف.
[10] – رواه الطبراني (7679)، 08 / 162.
[11] – رواه البخاري ( 4330)، 05/157.