الأمة وعدالة القدر الرباني..نحو مفهوم آخر للعدل: الدكتور جواد بحر
الأمة وعدالة القدر الرباني..نحو مفهوم آخر للعدل:
الدكتور: جواد بحر
البشر الذين لم تنحرف فطرتهم ينشدون العدل دوما، وإن كان فريق منهم يسلكون في سبيله المسلك الذي لا يوصل إليه، لجهل بحقيقته، وعجز عن معرفة ما يصلح للبشر مما لا يصلح لهم؛ والعدل هو أهمّ مطالب الشعوب، ورأس الأمر في طموحاتها، لأنه قيمة كبرى بذاته، فيستحق توجيه الاهتمام إليه؛ ولأنه يوصل بتلقائية ظاهرة إلى طموحات أخرى، كالقوة والتمكين والتقدم وبناء الحضارة والعمران، لتنال الأمة، أي أمة، بعد ذلك مكانا مرموقا بين الأمم.
والعدل ذو شمولية مطلقة بحيث يسع الحياة بأسرها؛ حتى إنه يجب العدل مع النفس ومع الولد والزوج والذرية؛ فضلا عن وجوبه فيما يتعلق بجوانب الحياة ابتداء من الأسرة، ومرورا بالعلاقات الاجتماعية والمالية، وانتهاء بدور الدولة والنظام الحاكم في تحقيقه ونفي مضادّاته، وبناء الإحساس به في الرعية؛ إذ بدون ذلك الإحساس، تكون الحياة بلا روح، وإذا فقدت الروح، فقدت الدافع لإيجاد العدل.
ومن أهم الجوانب التي ينبغي التأكيد عليها فيما يتعلق بالعدل: عدل الأمة مع ذاتها، حتى تتحقق لها طموحاتها، وتتقدّم في سبيل الإنجازات في الصُّعُد جميعِها؛ وأقصد بعدل الأمة مع ذاتها، ذلك المعنى الذي يغيب في كثير من الأحيان، والذي يتمثل في حق الأمة على نفسها بأن تنخلع من عباءة الظلم الذي يقع عليها، وتسعى لإبدال عباءة العدل بها؛ إنها إذا لم تفعل ذلك، بقيت تحت عباءة الظالم؛ فعدل القدر هنا كامن في تساوي حالة قعودها عن النهوض، مع حالة ارتكاسها..
إن الأمة التي تخنع للظالم إنما تظلم أول ما تظلم: نفسها؛ وتقهر أول ما تقهر: روحها؛ وتكبت أول ما تكبت: تطلّعها إلى المعالي؛ إنها باختصار تقتل في نفسها معاني الإنسانية، وتقهر في ذاتها جلال الروح الرباني فيها.
والمشكلة الكبرى في الأمم عموما: بطء تحرّكها في سبيل خلع أسمال الظلم عنها؛ إن وقوع أمة من الأمم في ظلم واليها وصاحب الأمر فيها ومالكي المال في اقتصادها، مع شيء من الاستمرارية لهذا الظلم، يؤسس فيها تبلّدا عجيبا، ويحطّم ما بقي فيها من النفور من ظلم الظالم، حتى لو كان الظالم ابن جلدتها، وذرّيّة من ذرّيتها؛ ويبدّد عنها بقية كرامة كانت لها في عهود مضت؛ من ها هنا أوجب الشرع الأمر بالمعروف في أول الأمر؛ والنهي عن المنكر في بداية بروز شيء منه؛ حتى لا يتبلد الحس لكثرة المنكر، وشيوع ترك المعروف، لأنه إن تبلّد، رضي صاحبه بالمنكر، فإن رضي به، استجلب المنكرُ الذي نال القبول منكرا آخر، حتى تغطي المنكرات ميدان الحياة الاجتماعية؛ فها هنا تقع الأمة في شرّ فعلها، ويتمكن منها الظالم الخارجي والداخلي معا، ليعمل الظالم الداخلي في كثير من تحركاته لصالح الظالم الخارجي؛ وهكذا ينهدم كبرياء الأمة، ويسقط من داخلها عنفوانُها، ويتجرّأ على أصولها ومقدّساتها وحرُماتِها أغرارُها، ويطمع بها شذّاذ الآفاق من الأمم كلها.
إذا سألنا في هذه المرحلة: أين يكمن العدل، فإننا نقول بيقين تامٍّ: العدل هو ذلك الواقع الذي سلكت الأمة في أسبابه، فوقع عليها أو وقع لها، إن شرّا فشرّ؛ وإن خيرا فخيرٌ؛ إن العدل في الذي لا يأكل هو أن يجوع؛ والعدل فيمن لا يشرب هو الظمأ؛ والعدل فيمن لا يؤوي نفسه من برد الشتاء هو تتالي الأمراض حتى إنهاكه ثم موته؛ العدل في هذه الحالة هو النتجية الآتية بعد مسالك سلكتها الأمة، حتى لو كانت واقعة تحت ظلم شديد؛ لأنني ها هنا لا أتحدث عن عدل يجب على البشر، بل أتحدث عن عدل الله تعالى، الذي يتمثل في سننه سبحانه؛ فالله الذي اختار للمسلمين التخلف، لم يختره عبثا ولا ظلما لهم، بل اختاره في سياق ما اختاروه هم لأنفسهم، إذ لم يسلكوا سبيل القوة والعلم والمعرفة.
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة لو تأملها المتأمل لوجد فيها جذور هذا الكلام؛ يقول تعالى على سبيل المثال عن فرعون وقومه: (فاستخفّ قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوما فاسقين)؛ فالآية الكريمة تتحدث عن جماعة من قوم فرعون رأوا الآيات الدالة على صدق موسى عليه السلام، فوقعوا بين القهر الذي يملكه فرعون، وبين آيات الصدق الجليلة في برهان موسى؛ غير أنهم آثروا التواري في ظل فرعون، وخلعوا عن أنفسهم لوازم الإنسانية، فاستحقوا العقاب الرباني الذي ذكره تعالى في الآية التالية: (فلما آسَفونا انتقمنا منهم، فأغرقناهم أجمعين)؛ وهي نهاية عادلة تمام العدل؛ ولو لم يكن في ذلك الزمن السحيق إيقاع العذاب بعد المعصية بالشكل المادي، كالإغراق مثلا؛ لكان العقاب تبلّد حسّ هؤلاء، حتى ينتهي إلى وقوعهم فريسة لمزيد من الظلم، لتكون صورة عدل الله تعالى حينها وقوع مزيد من ذلك التبلد، ليستقر في الحس البشري قبول للذل والاستعباد، بدل العزة والاستعلاء.
ويقول تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)؛ فعدالة القدر الرباني تقتضي إيقاع التغيير بعد خطوات البشر الذاهبة إلى التغيير ذاته؛ فالأمة المريضة لا ينقطع عنها مرضها إذا لم تذهب إلى معالجة ذاتها؛ إنها سنة الله تعالى في الأمم؛ فإن عالجت نفسها، وقعت عليها نتيجة تلك السنن الربانية، فنالت حظها من العافية.
إن إيقاع الأمة لنفسها في دركات الظلم والجهل، أقسى عليها من غزوها من أعدائها؛ إن وقوعها في دركات التخلف والضياع، يستجلب بدون شك سيطرة الأمم الأخرى عليها؛ لتتحقق فيها مسيرة الأسباب التي تعني فيما تعني: أن من لم يأخذ بأسباب العزة، ألبِس لباس الضياع والذل الطويل، ونهشته الأمم، فأنهكت قواه، وأكلت خيراته، ونصّبت عليه من جنسه من يكون ظهيرا لها عليه.
في ختام هذا السياق نقول: إن ظلم الشعوب لنفسها بترْك تطلّعاتها وطموحاتها تتبدّد، وبترك أسباب العزة والسؤدد؛ أقسى عليها من ظلم الظالم لها؛ لأن ظلم الظالم لها لا يتحقق دون تحقّق ظلمها لنفسها.