حصريا

الأقليات المسلمة عند الغرب -دراسة في المفهوم –

الأقليات المسلمة عند الغرب -دراسة في المفهوم -

0 1٬307

 

الإسلام رسالة عالمیة، بعث الله بها رسوله الكریم صلى الله علیه وسلم رحمة للناس كافة(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [1]، كلف بها الإنسان واستخلفه في (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[2] ویكون الاستخلاف في الارض بإعمارها(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) [3] وكذلك بأداء الأمانة(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [4] أمانة الاستخلاف هي تكریم االله للإنسان لیرتقي إلى درجة العبودیة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [5]، وما خص الله سبحانه وتعالى هذا التكریم جنسا دون جنس، أو عرقا دون عرق، أو لغة دون لغة، أو مكانا دون آخربل جعل هذا الدور منوطا بالإنسان أینما حل وفي أي زمان. كما أوجد االله سبحانه وتعالى سننا كونیة، منها التمكین لدین االله، حیث إ ن هذا الدین محفوظ إلى یوم الساعة، وهو یحمل بذور نمائه وانتشاره في ذاته.لذلك، في ظل معطیات صعبة، وعوامل مستعصیة، نبتت بذرة الإسلام في الغرب، نمت وأزهرت، وبدأت ثمارها تأ ذن بالقطاف، في ظاهرة لافتة للانتباه بالرغم من محاولات التعتیم علیها عن طریق الإعلام وبعض الأفهام، إلا أن سنة االله في أرضه اقتضت أن یُتم االله نوره ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [6]، تلك هي ظاهرة الحضور الإسلامي في الغرب، فأولئك الذین كان یُطلق علیهم  lesinvisibles في مرحلة ما، أبى االله إلا أن یكونوا بذرة الإسلام في الغرب، وأصبح الحضورالإسلامي ظاهرا متجلیا في أبهى الصور، وغدا واقعا ملموسا، وكانت الشریعة الإسلامیة مستوعبة لهذا الواقع وفق خصائص المرونة التي تتمتع بها. وقد اطلق مصطلح الاقلیات وصفا لهذه الظاهرة، فما مدى صحته أو انطباقه واستيعابه للمفهوم الدال على ذلك الواقع . في محاولة للإجابة على هذا السؤال نعرض لتعریف هذا المصطلح وما أثیر حوله من جدل، مع التطرق إلى جملة من المصطلحات ذات الصِّلة ، من أجل تحدید المصطلح الأنسب للإحاطة بالمفهوم الأقرب انعكاسا لظاهرة الاسلام في الغرب .

تعريف الحضور الإسلامي والمصطلحات ذات الصلة لغة واصطلاحا:

تعر يف الحضور الإسلامي:

أولا: تعريف الحضور:

حضر: الحضور، نقیض المغیب و الغیبة. الحضر: خلاف البدو، الحاضر: خلاف البادي، الحاضر: المقیم – في المدن،الحاضر:القوم النزول على ما یقیمون به ولا یرحلون[7] وتأتي أیضا بمعنى: حضر حضورا حضارة،ضد غاب، و الحضر: أن یعدو معك ویغالب كقوله تعالى (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) [8] یحضرون حظوظهم في الماء.

ثانیا: تعريف الإسلام لغة و اصطلاحا :

تعريف الإسلام لغة : –

الإسلام والاستسلام: الانقیاد. والإسلام من الشریعة: إظهار الخضوع و إ ظهار الشریعة –

والتزام ما أمر به النبي صلى االله علیه وسلم . وكذلك: التسلیم: الرضاء والسلام، أسلم: انقاد وصار مسلما، استسلم: انقاد[9].

ب تعريف الإسلام اصطلاحا : –

الإسلام: هو الخضوع والانقیاد لما أخبره الرسول صلى االله علیه وسلم .

ثالثا: تعريف الحضور الإسلامي باعتباره مركبا وصفيا:

من خلال التعريفات اللغوية والاصطلاحية لكل من مصطلحي الحضور والإسلام، يمكن أن نخلص إلى تعريف المركب الوصفي للحضور الإسلامي كالتالي:

الحضور الإسلامي باعتباره مركبا وصفيا هو عبارة عن:

التأثير الفعال للأفراد أو الهيئات والمصطبغ بالصبغة الإسلامية.

الفرع الثاني: تعريف المصطلحات ذات الصلة:

التعبير عن الحضور الإسلامي في العالم غير الإسلامي يأتي بمصطلحات مختلفة، حيث يعبر عنه تارة بالأقليات وهذا المصطلح هو الأكثر تداولا، أو يعبر عنه بالجالية أو الوجود الإسلامي، وفيما يلي تعريفات لهذه المصطلحات:

أولا: تعريف الأقليات لغة واصطلاحا:

1- تعريف الأقليات لغة:

قلل: القلة: خلاف الكثرة.

القل: خلاف الكثير.

قل: قليل[10].

2- تعريف الأقليات اصطلاحا:

وردت عدة تعريفات لمصطلح الأقلية، نذكر منها:

– كل مجموعة بشرية تعيش في قطر من الأقطار تتميز عن أكثرية أهله في الدين أو المذهب أو العرق أو اللغة، أو نحو ذلك من الأساسيات التي تتمايز بها المجموعات البشرية عن بعضها البعض[11].

– الأقليات جمع أقلية، وهو مفهوم سياسي توصف به جماعة من رعايا دولة تنتمي الى قومية أو لغة أو مذهب أو دين، تختلف عما تنتمي إليه الأغلبية السكانية في الدولة[12].

مجموعة سكان في قطر أو إقليم أو دولة ما تخالف الأغلبية في الانتماء العرقي أو اللغوي أو الدين، دون أن يعني ذلك بالضرورة موقفا سياسيا وطبقيا متميزا [13].

مجموعة قومية أو إثنية أو دينية أو لغوية تختلف عن المجموعات الأخرى الموجودة داخل دولة ذات سيادة[14].

ثانيا: تعريف الجالية لغة واصطلاحا:

1- تعريف الجالية لغة:

جلا: جلا القوم عن أوطانهم وأجلوا إذا خرجوا من بلد إلى بلد.

و الجلاء، ممدود: مصدر جلا عن وطنه.

والجلاء: الخروج عن البلد.

وقيل لأهل الذمة الجالية لأن عمر رضى الله عنه أجلاهم عن جزيرة العرب لما تقدم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فسموا بالجالية ولزمهم هذا الاسم أين ما حلوا ثم لزم كل من لزمته الجزية من أهل البلد.

– والجالية: الذين جلوا عن أوطانهم.

– جلا القوم عن الموضع ومنه جلوا وجلاء وأجلوا: تفرقوا.

2- تعريف الجالية اصطلاحا:

مجموعة من السكان يعيشون في غير وطنهم الأصل.

ثالثا: تعريف الوجود الإسلامي:

1- تعريف الوجود:

وجد: وجد مطلوبه والشيء يجده وجودا.

الواجد: الغني.

ووجد: غضب.

ووجد الرجل في الحزن وجدا: حزن [15].

والمصدر وَجْدًا، وِجدَة، ووجدا، ووجودا، ووجدانا، واجدانا، وأوجده الله مطلوبه أي أظفر به.

و لا يقال وجده الله إنما يقال أوجده[16].

2- تعريف الإسلام: (سبق تعريف).

3– تعريف الوجود الإسلامي باعتباره مركبا وصفيا:

ظهور الإسلام متمثلا في المنتسبين إليه أو من يمثلونه من أشخاص أو هيئات دون التأثير اللازم في البيئة المحيطة.

والبيئة المعنية هنا هي الغرب.

رابعا: أسباب اختيار مصطلح الحضور الإسلامي:

استخدام مصطلح الحضور الإسلامي دون المصطلحات الأخرى ذات الصلة أي الأقليات والجالية والوجود الإسلامي، يعود ذلك إلى جملة من الأسباب مرتبطة بهذه المصطلحات، من ناحية، وبمصطلح الحضور من ناحية أخرى.

1- ما يتعلق بمصطلح الأقليات:

لا شك أن هناك جدل قائم حول هذا المصطلح لمسناه في معرض البحث عن تعريفه ونشأته وظهوره، فلو ألقينا نظرة حول الخلفية التاريخية لهذا المصطلح نجد أنه ظهر بعد الحرب العالمية الأولى، حيث فرضت معاهدة فرساي تقسيما وتحديدا جديدا لخارطة كثير من الدول، مما تولد عنه وجود أقليات داخل الحدود المفروضة بقوة تلكم المعاهدة[17]، وهذه التقسيمات فرضت على بني البشر أن تعيش كل طائفة منهم في بقعة جغرافية محدودة، حيث لا يستطيع أي فرد ينتقل من البقعة التي يعيش فيها إلى بقعة أخرى إلا سمحت له الدولة الثانية، كأن تمنحه الجنسية ليصبح أحد مواطنيها تجري عليه الحقوق والواجبات التي تجري على سكان البلد الأصلي[18].

وبناء على ظروف نشأة مصطلح الأقلية والخلفية التاريخية فإنه قد يوحي بالضعف والاضطهاد، وإلى هذا ذهبت الدكتورة أمل يوسف القواسمي حيث تقول: “وجدير بالذكر أن مصطلح الأقلية المعاصر يوحي في معناه ودلالته إلى حد بعيد بضعف هذه المجموعة “الأقلية” واضطهادها وتميزها عن غيرها من الأفراد”[19].

ويقوم مصطلح الأقليات على مجموعة من المعايير وهي العدد، الإثنية، العرقية، اللغة، الدين. هذه المعايير ذاتها هي عبارة عن مفاهيم يمكن أن تختلط مع المفهوم الخاص للأقليات.

واختلاف درجة الثقافة بين المفكرين والباحثين أدت إلى اضطراب تعريف الأقليات نظرا للعرق أو السلالة أو الديانة، حيث أدى الخلاف في تحديد مفهوم الأقليات إلى إصابة المصطلح بالجمود وعدم المرونة لتقبل إضافات[20].

ويقول محمد عمارة: “مصطلح “الأقلية” في استخداماتنا الثقافية والاجتماعية الحديثة  والمعاصرة، مصطلح وافد من المفاهيم الغربية التي وفدت إلى واقعنا الثقافي والاجتماعي منذ الاحتكاك بين حضارتنا الإسلامية والحضارة الغربية في العصر الحديث… لذلك فهو مصطلح مُحَمل بالمعاني والظلال (العنصرية، الإثنية، والعرقية) التي ارتبط بها في الثقافة الغربية”[21].

ويضيف محمد عمارة عن هذا المفهوم الوافد لمصطلح الأقلية: “ومن الأمور المهمة، والجديرة بالملاحظة والاعتبار، أن تراثنا الإسلامي، الديني منه والحضاري والتاريخي، وكذلك اللغوي، لم يعرف استخدام مصطلح “الأقلية” بهذا المفهوم الوافد، وإنما عرفه فقط بمعناه اللغوي، أي الأقلية العددية، في مقابل الأكثرية العددية، دونما أي مفاضلة أو تمييز بسبب هذه الكثرة أو القلة في الأعداد”[22].

ويعرض كذلك محمد عمارة تناول القرآن الكريم لمصطلح الكثرة مقابل مصطلح الأقلية ويبين أنه كثر الحديث في القرآن عن ارتباط الكثرة بقلة العلم وبقلة الإيمان ويستشهد بمجموعة الآيات:

﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ

 وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ

 ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [23].

﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ

 مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ۚ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۚ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ۚ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ۚ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ

 وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [24].

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ 

حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [25].

﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [26]. ﴿لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [27].

ويتم حديثه حول هذا الموضوع قائلا: “فالأكثرية والأقلية مصطلحان يستخدمان بمعنى الكثرة العددية والقلة العددية، فقط لا غير، دونما أية ظلال مفهومية لصيقة بالكثرة أو القلة، وإنما العبرة بالمعايير التي تجتمع عليها وتؤمن بها وتنتمي إليها الأكثريات والأقليات.. فالمدح والذم، والإيجاب والسلب، والقبول والرفض إنما هو للمعايير والمكونات والهويات والمواقف، ولا أثر في ذلك للكثرة أو القلة في الأعداد…”[28].

وللشيخ القرضاوي رأي حول مصطلح الأقلية يتمثل في أن قوله: “ومن لوازم الأقلية أنها عادة تكون ضعيفة أمام الأكثرية، فالكثرة تنبئ عن القوة، والقلة تنبئ عن الضعف.

والقرآن الكريم يحدثنا عن الكثرة في معرض الامتنان والتذكير بالنعمة، وذلك على لسان شعيب -عليه السلام- حين قال لقومه ﴿وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ۖ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [29].

ونحو ذلك قوله تعالى في الامتنان على المهاجرين بعد غزوة بدر: ﴿اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [30] “. [31]

وينتهي إلى القول أن هذه القلة العددية كثيرا ما تسبب للأقلية أن تلقى الظلم والاضطهاد من الأكثرية، وخصوصا إذا غلب على الأكثرية التعصب والاستعلاء على الآخرين)[32].

أما البوطي -رحمه الله- فيقول في هذا الصدد: “مصطلح الأقليات، لا وجود له في قاموس الشريعة الإسلامية، ولا في تاريخ المجتمعات الإسلامية، وإنما هو تعبير اقتضاه واقع المجتمعات الغربية، وذلك عندما وفد إليها وأقام فيها أناس استقلوا عنها بمعتقداتهم الدينية، أو أعرافهم السلوكية، أو انتماءاتهم العرقية، فحال ذلك دون اندماجهم في نظام تلك المجتمعات، وانضباطهم بقوانينها وأنظمتها”[33].

ونفس المنحى ينحاه طه جابر العلواني بقوله: “لم نقبل مفهوم الأقلية كما هو في العلوم السياسية المعاصرة التي نهض بنيانها على فكرة الدولة القومية، وحين نرجع إلي القرآن الكريم المصدر المنشئ لمعارفنا وتصوراتنا نجده ينحو بمفاهيم الأقلية والأكثرية منحى آخر،  فكثيراً ما يذكر الأكثرية في معرض الذم﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [34]، ﴿يسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ۗ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [35] ففي هذه الآيات يذكر القرآن الأكثرية في معرض النقد وفي معرض التنديد لأنه هو -أي القرآن- لم ينطلق من منطلق القوة كما تصوغ مفهومها العلوم السياسية المعاصرة -القوة التي تحتاج إلى عدد وأغلبية- ولكنه انطلق من مفهوم الحق، ومفهوم الحق شيء ومفهوم القوة شيء آخر، وفي إطار مفهوم الحق يجب علي المكلّف أن يبحث عن الحق والحقيقة بكل ما لديه من وسائل فإذا وصل إلى نهاية جهده وبذل قصارى طاقاته قال: يا ربي هذا ما أملكه وهذا ما توصلت إليه ثم يعمل بما أداه إليه اجتهاده ولكن ينبغي أن لا يتوقف بحثه عن ذلك، فما دام الأمر اجتهادياً فيمكن أن يتغير الاجتهاد بعد سنوات أو في الجيل القادم، فما يتوصل المجتهد إليه مُلزِم له ولمن يقلده في عصره، أو يتبنى – اجتهاده – بعد قبول أصوله بعد ذلك. و”الأقلية” أحيانا تكون هي صاحبة الحق، حتى إن شاعرنا العربي يقول مفاخراً:

تعيرنا أنا قليل عديدنا *** فقلت لها إن الكرام قليل

لذلك ارتبط بوعينا الأدبي مفهوم القلة بالنخبة، فليس بشرط أن تكون القلة ضعفاً بل قد تأخذ مفهوم النموذج-النخبة، الأمة المسلمة المخرجة صاحبة رسالة ودعوة وهي بالنسبة لسائر الأمم أقلية”[36].

وهكذا يتبين أن مصطلح الأقليات لا يعكس الواقع الحقيقي للمسلمين في الغرب سواء حاضرا أو مستقبلا وحتى ماضيا. من أجل ذلك يكون مصطلح الحضور الإسلامي المصطلح الأنسب.

– وفي ما يتعلق بمصطلح الجالية، فإنه في معناه اللغوي لا يحمل معنى الاستقرار فمعنى الجلاء هو الانتقال من بلد إلى آخر، وبهذا المعنى فإن هذا المصطلح لا ينطبق على المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام في بلدانهم وهم مقيمون ومستقرون بها، ويتعلق الأمر أيضا بالجيل الثالث والرابع من أبناء المهاجرين الذين أصبحوا يعدون أبناء هذا البلد.

وبهذه الاعتبارات لا يكون مصطلح الجالية مناسبا أيضا إطلاقه على جميع المسلمين الذين يعيشون ويقيمون في الغرب.

– مصطلح الوجود استنادا إلى معناه اللغوي، فإنه يستبعد استعماله، إذ أنه لا يعكس الواقع الإسلامي السائد في الغرب، إذ لا تحمل دلالاته اللغوية الحركة والحيوية، على خلاف واقع المسلمين في الغرب، حيث أنهم أصبحوا رقما لا يستهان به، وأصبح لهم أدوارا لا فتة.

و تشهد المؤسسات والمراكز والجهود المختلفة على هذا الحراك الإسلامي في الغرب، بما تقوم به من أدوار تصب في خدمة الدين ومجابهة أهم القضايا والأحداث.

– أما ما يتعلق باستعمال الحضور، فإن هذا المصطلح يستوعب ويحتوي كل أشكال التواجد بالنسبة للمسلمين في الغرب، سواء كانوا مقيمين غير دائمين أو مقيمين دائمين أو معتنقين جدد للإسلام…

والحضور الإسلامي في الغرب لا يعكس أو يمثل أرقاما وأعدادا من البشر فقط، إنما يشير إلى مضمون ودلالة الفاعلية والتأثير الايجابي، ذلك أن انتشار الإسلام هدف في ذاته، ثم يأتي الهدف الأسمى وهو إقامته وتقديم الصورة الصحيحة لهذا الدين، خصوصا في ظل الأحداث الراهنة.

كما لا يستوعب هذا المصطلح مجموع السكان كأفراد فقط، إنما يتعداه إلى الأفراد والهيئات والمؤسسات، وكل نشاط يصب في خدمة الدين بالأسلوب الأمثل من أجل تحقيق المقصد الأكبر وهو العبادة والمصلحة الأعم وهي النفع للناس في الدنيا والآخرة.

وبهذا يصبح مصطلح الحضور الإسلامي ذو بعدين، بعد شكلي ظاهر يتمثل في كل من ينتمي للإسلام من أشخاص وهيئات، وبعد مضموني عميق يتمثل في التأثير والفاعلية، بما يحقق رسالة الإنسان في الحياة وأدائه للدور المنوط به، وهو دور قائم في أي زمان ومكان، وربما يكون هذا الدور أكثر ضرورة في بلاد الغرب.

و لقد سئل الدكتور جاب الله رئيس المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية في باريس عن أي المصطلحات الأنسب استعمالا فكانت إجابته “أنه قد نوقش هذا الأمر، وأفضى النقاش إلى أن استعمال مصطلح الحضور الإسلامي يعد الأنسب، لما يحمله من الدلالات التي ذكرناها”[37].

ويستعمل مالك بني هذا المصطلح حينما يتحدث عن دور المسلم ورسالته من خلال الآية الكريمة: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾[38] حيث يقول: “فالواقع أن (الشاهد) في أساسه هو (الحاضر) في عالم الآخرين، والصفة الأولى المكتسبة لإثبات قيمة أي (شهادة) هي (الحضور) الشاهد. ومنذئذ، إذا كان متعينا على المسلم أن يقوم بالدور الملقى على عاتقه في الآية السالفة، فهو مجبر على الحياة في اتصال وثيق بأكبر عدد من الذوات البشرية ومشاكلها كذلك. ومن ثم يتعين على (حضوره) أن يعانق أقصى حد ممكن في المكان، لكي تعانق (شهادته) أقصى كم ممكن من الوقائع. وعلاوة على ذلك فإن المسلم في هذه الحالة ليس صاحب دور سلبي محض؛ إذ أن حضوره نفسه يؤثر على الأشياء وعلى أعمال الآخرين”[39]. فكم هو مطابق هذا المعنى الذي يتحدث عنه مالك بن نبي عن معنى الشهادة وعلاقتها بالحضور، وأحوال المسلمين في الغرب ورسالتهم هناك!

أخيرا، إن مصطلح الحضور من معانيه اللغوية، الحضارة، ونأمل أن تنبعث الحضارة الإسلامية من جديد كما كانت، ويكون الحضور الإسلامي في الغرب في مستوى تحديات الحضارة الغربية.

 

 

[1] – سورة الأنبياء الآية 107.

[2] – سورة البقرة الآية 30.

[3] – سورة هود الآية 61.

[4] – سورة الأحزاب الآية 72.

[5] – سورة الذاريات الآية 56.

[6] – سورة التوبة الآية 32.

[7] –  لسان العرب لابن منظور (ح ض ر) جـ4/1481.

[8] –  سورة القمر الاية 28.

[9] –  القاموس المحيط – دار العلم للجميع- بيروت- لبنان جـ2/ 103، 104، والتعريفات للجرجاني- دار النفائس ط3/ 2012م. ص8.

[10]– لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت، لبنان ج 12، ص 180.

[11]– في فقه الأقليات المسلمة، يوسف القرضاوي، دار الشروق، مصر، ط1، 2001، ص 15.

[12]– الأقليات المسلمة في الغرب، صلاح عبد الرازق، دار الهدى، بيروت، لبنان، ط1، 1428 هـ – 2007 م، ص 13.

[13]– الموسوعة السياسية، د.عبد الوهاب الكيالي، المؤسسات العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط3، 1990، ج 1، ص245.

[14]– نحو فقه جديد للأقليات، د.جمال عطية، دار السلام، القاهرة، ط2، 1482 هـ – 2007 م (ص 7–8).

[15]– لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت، ج15 . ص 156.

[16]– القاموس المحيط، الفيروز آبادي، دار العلم للجميع، بيروت، لبنان، ج 1، ص 343.

[17]– فقه التوازن للأقليات المسلمة، د.محمد سيري إبراهيم، دار اليسر، القاهرة، ط2، 1433 هـ – 2012 م، ص 74.

[18]– الأحكام السياسية للأقليات المسلمة في الفقه الإسلامي، سليمان محمد توبولياك، دار البيارق، لبنان، بيروت، ط1، 1417هـ – 1997 م، ص (28 – 29).

[19]– المرجع السابق، ص 22.

[20]– أوضاع الأقليات والجاليات الإسلامية في العالم، د.مجدي الداغر، دار الوفاء، المنصورة، ط1، 1426 هـ – 2006 م، ص31.

[21]– الإسلام والأقليات، د.محمد عمارة، مكتبة الشروق العالمية، القاهرة، ط2، 1427 هـ – 2007م، ص 7.

 [22]- المرجع السابق، ص8.

[23] – سورة الحديد، الآية 16.

[24] – سورة هود، الآية 17.

[25] – سورة البقرة، الآية 243.

[26] – سورة الأنعام، الآية 116.

[27] – سورة الزخرف، الآية 78.

[28]– المرجع السابق، ص8.

[29] – سورة الأعراف، الآية 86.

[30] – سورة الأنفال، الآية 26.

[31]– في فقه الأقليات المسلمة، د.يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة ـمصر، ط1: 2001م، ط 2: 2013م، ص16.

[32]– المرجع السابق، ص16.

[33]– الإسلام والغرب، محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر- دمشق، دار الفكر المعاصر-بيروت، ط1، 2007م، ط 3، 1435هـ – 2014م.

[34] – سورة الأنعام، الأية 116.

[35] – سورة الأعراف، الآية 187.

[36] –  مدخل إلى فقه الأولويات، مقال لـ طه جابر العلواني:

http://www.alrashad.org/issues/12/12-Alwani.htm

[37]– – محاضرة ألقاها الدكتور جاب الله في كلية الشريعة بباتنة.

[38] – سورة البقرة، الآية 143.

[39]– فكرة كمنولث إسلامي، مالك بن نبي، دار الفكر المعاصر-بيروت –ودار الفكر –سوريا ودار الوعي-الجزائر، ط1، 1434هـ-2013م، ص72.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.