استدعاء التراث
إن من الحسرة أن أقول : إن التراث قد قعد به أهله، وخذله محبوه إلا قليلا، واتَّخذه الناس مادة للفخر من دون أن يتعلَّق به عمل، وشيءٌ يوضع في الرّف من غير أن يجاوز مكانه، ومصدرا للاستئناس من غير أن يتعدّى ذلك إلى الاستدلال به أو التحاكم إليه …
أنا أتكلم عن المحسنين الذين لم ينبذوه كلية؛ ممن اعتبروه مرحلة زمنية مباركة فلم يبخسوا مكانته، أما أولئك الذين أنكروه واتخذوه سخريا فألئك ليسوا منا ولسنا منهم ..ومن أنكر أصله وصار ذيلا في جسد أمةٍ أخرى؛ فهو وما اختار؛ إذْ (لا إكراه في الدين)
وحديثنا عن قوم من أهل العقل اعتبروا التراث واعتدوا به، لكنهم يجعلونه على الهامش من الاهتمام، كأنه فرع يحتاج إلى غيره أو لكأنه ذكرى طيبة تُذكر بين الفينة والأخرى لكيلا يُقال : إن القوم قد تنكّروا لأصلهم …وهذه لعمري أشرّ من نبذه، وهذا النوع من التؤدة في القتل أشد من النحر، وهو أضرّ بالتراث، فتقزيمه وتهميشه يجعله في برزخ بين العمل به وإهماله ..ولأجل هذا صح قول الناقد الكبير إحسان عباس (إنَّ التراثَ لا يَتَحَقَّقُ دَرْسُه بغير إحيائِه) فمن احبّ التراث عمل على إحيائه : هذا هو دليل المحبة الصادقة لا مجرد التغني أو النحيب، وإحياؤه عملية ضخمة تحتاج إلى جهود ضخمة كجهود أعدائه ونابذيه، وربما أكثر، ولو أمعنا النظر في جهود المستشرقين وهم يحيون التراث ليقتلوه بالتشكيك والتحريف، وتقديمه للمستعمرين كي يحسنوا القتل والفتك لتبدّى لنا كيف اتّخذ الاستشراق التراث أداة ترجع علينا بالهدم كما يقول محمود شاكر : هو عينُ الاستعمار التي بها يُبصر ويُحدِّق، ويده التي بها يُحِسُ ويبطش، ورجلهُ التي بها يمشي ويتوغل، وعقله الذي به يفكر ويستبين، ولولاه لظل في عميائه يتخبط. ومنْ جهلَ هذا فهو بِبدائِة العقول ومسلماتها أجهل. ) ولقوة المستشرقين جَلَدٍهم خلق لنفسه أتباعا وخصّب لأفكاره عقولهم، فهم يتلقفون بذوره لينبتوها في أراضي الناشئة والشعوب ثم يتعاهدونها بالاستدلالات المشوهة والشبه القوية التي تُربِيها حتى تستوي على سوقها، فتصير كالحقيقة التي يُعجَز عن دحضها …وكثير من أفكارهم قد ارتوت منها العقول وسارت في أجسادنا سيران الدم الذي نحيا به، وقد صرح بشيءٍ قريبٍ من هذا محمود شاكر فقال : (قضيت حياتي…أُعالج أثر الاستعمار في قلبي، في ضميري، في عقلي، في نفسي، في نظري، في رؤيتي، أعالج أكبر المسائل في داخلي ) فإذا كان هذا شأن النخبة فإن الأمر فيمن دونهم أشدّ وأنكى
ومن آثار هذا الاستشراق في أذنابهم تجد الاستهانة بأعلام الأولين والاستهزاء بهم فيخرج علينا من يقول : إن الشافعي قد حجّر العقل بتعظيم السنة، ومن يقول إن أساليب الأولين في نظم الكلام معقدة لا توائم العصر وأهله، فاحتقروهم حتى وقعوا في أساليب الغرب وركاكته وشعرهم، فغدوا أمة مسخا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، يقول محمود شاكر في أمثال هؤلاء : (يأتي الصبي الكبير يهزأ بالخليل الفراهيدي وسيبويه وفلان، ولو بُعث أحدهم من مرقده، ثم نظر إليه نظرة دون أن يتكلّم لألجمه العرَقُ ولصار لسانه مضغة لا تتلجلج بين فكيه من الهيبة وحدها دون علمه الذي يستخف به ويهزأ.))
ورحم الله ابن رجب الحنبلي حين قال : كلام السلف قليل كثير الفائدة وكلام الخلف كثير قليل الفائدة
وبعدُ : فهذه مقدمة معلومة لا أزعم أني قد أتيت فيها بالجديد ، وإنما هالني من أخبار المستشرقين ما أغاضني فتذكرت ما قاله إمام دار الهجرة مالك رحمه الله : (لا يصلح آخر هذه الأمة الا بما صلح بها أولها)، ولا تحجِّرن واسعا فتظن بهذه الكلمة اقتصارها على علوم الشريعة فحسب، بل هي قاعدة عامة مُطَّرِدة تصلح في كل العلوم أو تكاد، وقد أوتي هذا الجيل لما استخفّ بتراثه ونبذه وراءه، ولم يذكره إلا لماما، فكان ينبغي أن يُستدعى التراث لإصلاح ما أفسدته الحداثة وزنادقتها، وأن يعود هذا الجيل إلى الرعيل الأول ينهل من معينهم لا يرضى عنهم بديلا، يغوص فيما تركوه لنا من إرث فيستشف منه الدواء بعالج ما تركه فينا الاستعمار، وما يجتهد فيه أذنابه من بث السموم، وقد أذهلني كما قلت لما علمت أنه قد دشِّن في ألمانيا مشروع ‘الفلسفة في العالم الإسلامي الحديث’ بتمويل من مؤسسة DFG الألمانية (مؤسسة البحوث الألمانية) بدءًا من العام الجاري حتى 2024؛ يهدف المشروع لتعزيز أبحاث هذا النطاق دولياً وبالألمانية خاصة، ويتمّ التواصل فيه مع باحثيّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
وعلمتُ وهالني أيضا أنه سيَصدُر في أكتوبر الجاري بالألمانيّة الجزء الرابع من سلسلة «الفلسفة في العالم الإسلامي» التي بدأتها دار Schwabe Verlag قبل تسعة أعوام؛ يختصّ هذا الجزء الصادر في مجلدين بالقرنين التاسع عشر والعشرين. استكمالا لما في الجزئين الأول والثاني
فانظر إلى اهتمامات المستشرقين وما ينفقونه من وقت ومال في سبيل الوصول إلى الفائدة التي تنهض بها أممهم بدراسة أمم أخرى
ثم أنظر مرة أخرى في تقديسهم لتراثهم إذا علمت أنه ستقام في بريطانيا، بمناسبة قُرب الذكرى المئويّة لصدور كتاب ‘الوجود والزمان’ لهايدغر (عام 2027) سلسلة لقاءات نقاشية افتراضية برعاية ودعم عدة جهات كالأكاديميّة البريطانيّة British Academy، بدءاً من مارس القادم..تحضيرات مسبقة تُبين عن اعتناءٍ شديد بتراثهم،. فهل رأيت من أحدٍ في دولنا من يقيم ذكريات لكتب من كتب التراث اللهم إلا اهتماما عابرا لبعض العلماء على استحياء …ومن استحيا استحيا الله منه ..والسلام
وكتب
المُتحنِّنُ إليهم
بن جدو بلخير