حصريا

ابن سلَّام وانتقال منهج المحدثين إلى نقد الشعر: متابعة لأطروحة محمود شاكر -أ.سعيد بوشنافة

1 2٬162

ابن سلَّام وانتقال منهج المحدثين إلى نقد الشعر:

متابعة لأطروحة محمود شاكر

سعيد بوشنافة

تأتي هذه المقالة توسيعا وتعميقا لأطروحة كان قد أشار إليها محمود شاكر بخصوص تأثر ابن سلام الجمحي في طبقاته بصنيع أهل الحديث والرواية، إلا أنها إشارة وإن دلت على وعي دقيق فهي لا تزال تفتقر مزيدا من التعميق!

حيث تعد قضية النحل والانتحالالتي أثارها ابن سلام في “طبقات فحول الشعراء” من أبرز القضايا التي شغلت النقد العربي القديم والحديث، وهي قضية تبحث في محصلها عن وثوقية النص الشعري في نسبته إلى قائله، وغايتنا هنا توثيق الصلة بين فكر ابن سلام الحديثي والطريقة التي عالج بها تلك القضية، حيث إن الدلائل ناطقة بأن الجمحي نقل منهج أهل الحديث في تحقيق روايات السنة إلى رواية الشعر العربي، واستنسخ التجربة مع تعديل وإضافةتقتضيهما طبيعة المادة المدروسة، ليشيد له عِلْما كما شيد المحدثون للسنة علما، لما هاله كثرة الدخيل على الشعر، تماما كما حصل لحملة السنة تجاه حركة الوضع والكذب.

وهو الأمر الذي لمحه محمود شاكر حينما نص على تأثر ابن سلام في منزعه النقدي بابن معين وابن المديني وابن القطان يومَ التقى بالأول منهم: “…وهؤلاء الرجال هم الذين أسسوا علم معرفة الرجال والجرح والتعديل، وعلم الموضوع من الحديث على رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ، وأنا أتوهم أن هذا الذي عرفه ابن سلام يومئذ، قد أثاره إلى أن يؤسس هو أيضا أساسا لمثل هذين العلمين في ناقلة الآداب والأخبار والشعر، لينفي عن الشعر خبث ناقلته ورواته، وخبث الموضوع على ألسنة شعراء الجاهلية وغيرهم”[1]، وإذا كان محمود شاكر يشير –من باب التحفظ المنهجي- إلى أنه يتوهم هذا التأثير، فإن لنا من الدلائل ما يؤكد توهمه أكثر فأكثر، لكن قبل التعريج على تلك الدلائل تفصيلا نحاول إرجاعها إلى نقطة أساسية تعتبر القاسم المشترك ومظنة التأثير بين منهج أهل الحديث ومنزع ابن سلام، وهي ما عبر عنه أهل الحديث بقولهم: “الإسناد من الدين”:

هذه النقطة تلخص منهج النقد التاريخي لدى المحدثين الذين يعتبرون رواده لا بحسب هذه الأمة ولكن بالنظر إلى التفكير البشري عامة، وحيث إن النص هو مصدر المعرفة فإن الاعتناء بثبوته عن طريق التحقق منه متنا وسندا من الأولويات والضروريات، ولعل إماما كبيرا في قيمة مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح يلخص لنا هذه القضية على طريقة القوم عندما يقول في صحيحه: “بَابٌ في أَنَّ الْإِسْنَادَ مِنَ الدِّينِ وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات وأن جَرْح الرواة بما هو فيهم جائز بل واجب وأنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة:

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ»…عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: “لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ “…حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:”أَدْرَكْتُ بِالْمَدِينَةِ مِائَةً، كُلُّهُمْ مَأْمُونٌ، مَا يُؤْخَذُ عَنْهُمُ الْحَدِيثُ، يُقَالُ: لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ “…عَنْ مِسْعَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ يَقُولُ: «لَا يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الثِّقَاتُ»…سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الْمُبَارَكِ، يَقُولُ: «الْإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ، وَلَوْلَا الْإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ»، وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ أَبِي رِزْمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ، يَقُولُ: «بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْقَوَائِمُ» يَعْنِي الْإِسْنَاد “[2].

والخلاصة أن هذا المنهج قائم على التفتيش عن الرواة والطرق وعلى الجرح والتعديل للتأكد من سلامة النص، غير أن النص وإن سلم ثبوته فإن سلامة دلالته منوطة بقواعد العربية المستنبطة بدورها من المنقول من كلام العرب الذي لا يعرى عن الصحة والزيف تماما كما هو حال الأحاديث، وبالتالي هل من رجل من أهل الحديث يتقلد مهمة تأسيس منهج لبيان الصحيح من المغلوط في المنقول من أشعار العرب على طريقة المحدثين حماية للعربية ثم للنص الديني؟

نعم إنه ابن سلام الجمحي الذي يُعَدُّ من أئمة اللغة المهتدين بهدي أهل الحديث، حيث يقول عنه الذهبي: “العَلاَّمَةُ، أَبُو عَبْدِ اللهِ الجُمَحِيُّ، وَوَلاَؤُهُم لِقُدَامَةَ بنِ مَظْعُوْنٍ، كَانَ عَالِماً، أَخْبَارِيّاً، أَدِيْباً، بَارِعاً، حَدَّثَ عَنْ: مُبَارَكِ بنِ فَضَالَةَ، وَحَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ، وَأَبِي عوَانَةَ، وَطَبَقَتِهِم، حَدَّثَ عَنْهُ: أَحْمَدُ بنُ زُهَيْرٍ، وَثَعْلَبٌ، وَأَحْمَدُ بنُ عَلِيٍّ الأَبَّارُ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ، وَأَبُو خَلِيْفَةَ، وَعَدَدٌ كَثِيْرٌ… قُلْتُ: صَنَّفَ كِتَابَ ” طَبَقَاتِ الشُّعَرَاءِ””[3].

وقال أيضا: “قال أبو خليفة: حدثنا محمد بن سلَّام قال: حدثنا زائدة بن أبي الرقاد، عن ثابت، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم عطية: إذا خفضت فأشمي ولا تنهكي، فإنه أسرى للوجه وأحظى عند الزوج، قال ثعلب: رأيت يحيى بن معين عند ابن سلام فسأله عن هذا الحديث، روى أبو خليفة عن الرياشي، قال: أحاديث محمد بن سلام عندنا مثل حديث أيوب عن محمد عن أبي هريرة*، قال أبو خليفة: وقال لي أبي مثل ذلك، وقال صالح جزرة: صدوق، وقال محمد بن أبي خيثمة: سمعت أبي يقول: لا يكتب عن محمد بن سلام الحديث، رجل يرمى بالقدر، إنما يكتب عنه الشعر، فأما الحديث فلا “[4].

والشاهد أن ابن سلام معدود في أهل الحديث الذين يحظون بتزكية أئمة الجرح والتعديل، وإن غلب عليه الأدب والأخبار فهو من الرواة الذين تحملوا عن الأئمة، واختلف عليهم أمثال يحيى بن معين، أما تحذير أبي خيثمة من أخذ الحديث عنه فهو ـــ علاوة على معارضته بغيره ـــ لا يقدح في صدقه وذاك مدار الرواية، بل القدح متجه إلى عقيدته وتلك قضية خلافية صيغت تحت باب الرواية عن المبتدع، غير أن هذه التهمة بالقدر والتي وإن لم تخرج الرجل من أهل الحديث صناعةً وهذا كاف لإجراء البحث، فأمثال هذه التهمة في حق أهل الحديث كثيرة جدا بحيث لو التزمنا لوازمها لسقط من المحدثين والأحاديث جمهرة كبيرة، يقول إمام السنة أحمد بن حنبل: “نحن نحدث عن القدرية، لو فتشت أهل البصرة وجدت ثلثهم قدرية”[5]، ويكفي مثالا لذلك الإمام الكبير الحسن البصري الذي لم يسلم من تهمة القدر[6]، وما يقال عن القدر يقال عن الإرجاء والتشيع والوقف واللفظ، حيث إن كثيرا من تلك المقالات نسبت لبعض أهل الحديث لكن ليس على صورتها المعروفة عند أربابها ضرورةً، بل كان القَدَر يطلق أحيانا على من بالغ في إثبات الكسب وإن لم يقل به على ما هو مقرر عند المعتزلة مثلا “قَالَ أَبُو سَعِيْدٍ بنُ الأَعْرَابِيِّ: كَانَ يَجْلِسُ إِلَى الحَسَنِ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلاَءِ، فَيَتَكَلَّمُ فِي الخُصُوْصِ حَتَّى نَسَبَتْهُ القَدَرِيَّةُ إِلَى الجَبْرِ، وَتَكَلَّمَ فِي الاكْتِسَابِ حَتَّى نَسَبَتْهُ السُّنَّةُ إِلَى القَدَرِ، كُلُّ ذَلِكَ لافْتِنَانِهِ، وَتَفَاوُتِ النَّاسِ عِنْدَهُ، وَتَفَاوُتِهِمْ فِي الأَخْذِ عَنْهُ، وَهُوَ بَرِيْءٌ مِنَ القَدَرِ، وَمِنْ كُلِّ بِدْعَةٍ “[7].

والآن بإمكاننا أن نسوق دلائلنا مفصلة على تأثر ابن سلام بأهل الحديث، فيما يلي:

الأول: سيرة ابن سلام التي فيها أنه من جملة أهل الحديث مقرب منهم بل أخوه أحد مقدميهم، وقد نال تزكيتهم ومدارسة أئمتهم كابن معين الذي كان يسأله، وقد مضى في ترجمته شيء من ذاك.

الثاني: الطريقة التي عالج بها النحل والانتحال، تشبه إلى حد بعيد طريقة المحدثين، كذكره لأسباب الظاهرة، وبعض معايير التمييز بين الصحيح والمزيف، وتقريره بكون الشعر مصدرا للعلم، وهي أمور يتقاطع فيها مع أسباب ومعايير المحدثين،  فعن أسباب الوضع يقول: “فَلَمَّا راجعت الْعَرَب رِوَايَة الشّعْر وَذكر أَيَّامهَا ومآثرها اسْتَقل بعض العشائر شعر شعرائهم وَمَا ذهب من ذكر وقائعهم ، وَكَانَ قوم قلت وقائعهم وأشعارهم فأرادوا أَن يلْحقُوا بِمن لَهُ الوقائع والأشعار فَقَالُوا على أَلْسِنَة شعرائهم ، ثمَّ كَانَت الرُّواة بعد فزادوا في الأَشْعَار التي قيلت، وَلَيْسَ يشكل على أهل الْعلم زِيَادَة الروَاة وَلَا مَا وضعُوا وَلَا مَا وضع المولدون وَإِنَّمَا عضل بهم أَن يَقُول الرجل من أهل الْبَادِيَة من ولد الشُّعَرَاء أَو الرجل لَيْسَ من ولدهم فيشكل ذَلِك بعض الْإِشْكَال “[8]، و عن كون الشعر مصدرا للعلم، وبالتالي يجب حفظ أسانيده كما هو حال السنن يقول: “وَكَانَ الشّعْر في الْجَاهِلِيَّة عِنْد الْعَرَب ديوَان علمهمْ ومنتهى حكمهم بِهِ يَأْخُذُونَ وَإِليه يصيرون…قَالَ عمر بن الْخطاب: كَانَ الشّعْر علم قوم لم يكن لَهُم علم أصح مِنْهُ…قَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: مَا انْتهى إِلَيْكُم مِمَّا قَالَت الْعَرَب إِلَّا أَقَله وَلَو جَاءَكُم وافرا لجاءكم علم وَشعر كثير “[9].

الثالث: المصطلحات التي استعملها من قبيل “إجماع أهل العلم”، و”الرواية الصحيحة”، و”الوضع” و”الموضوع”، و”الطبقة”، هي من مصطلحات المحدثين الموحية بالتشدد في الرواية على خلاف المعهود عن غيرهم، فيقول مثلا: “ثمَّ إِنَّا اقتصرنا بعد الفحص وَالنَّظَر وَالرِّوَايَة عَمَّن مضى من أهل الْعلم إِلَى رَهْط أَرْبَعَة اجْتَمعُوا على أَنهم أشعر الْعَرَب طبقَة “[10].

الرابع: الخطة التي أقام عليها كتابه وهي الطبقات المؤسسة على معيار الفحولة، تشبه صنيع المحدثين في ترجمة الرواة وهم الرواد في تأسيس المنهج التاريخي.

ونسوق هنا نص ابن سلام حول الشعر وما دخله من نحل وانتحال حيث يقول: “وفي الشّعْر مَصْنُوع مفتعل مَوْضُوع كثير لَا خير فِيهِ وَلَا حجَّة في عَرَبِيَّة وَلَا أدب يُسْتَفَاد وَلَا معنى يسْتَخْرج وَلَا مثل يضْرب وَلَا مديح رائع وَلَا هجاء مقذع وَلَا فَخر معجب وَلَا نسيب مستطرف، وَقد تداوله قوم من كتاب إِلَى كتاب لم يأخذوه عَن أهل الْبَادِيَة وَلم يعرضوه على الْعلمَاء، وَلَيْسَ لأحد إِذا أجمع أهل الْعلم وَالرِّوَايَة الصَّحِيحَة على إبطَال شيء مِنْهُ أَن يقبل من صحيفَة وَلَا يرْوى عَن صحفي، وَقد اخْتلف الْعلمَاء بعد فِي بعض الشّعْر كَمَا اخْتلفت فِي سَائِر الْأَشْيَاء فَأَما مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ فَلَيْسَ لأحد أَن يخرج مِنْهُ “[11]، ويقول كذلك: “وَكَانَ أول من جمع أشعار الْعَرَب وسَاق أحاديثها حَمَّاد الراوية وَكَانَ غير موثوق بِهِ وَكَانَ ينْحل شعر الرجل غَيرَه وينحله غير شعره وَيزِيد فِي الْأَشْعَار”[12].

ويشرح الأستاذ محمود شاكر الخلفيات التي دفعت ابن سلام لتأسيس علمٍ للشعر يوازي علمَ الحديث قائلا: “والذي لا أكاد أشك فيه أيضا أن ابن سلام قبل نزوله بغداد و هو بالبصرة كان قد سمع بعض ذكر ابن معين، إذ كان صيته قد طار في الآفاق، فلما رآه وفاوضه العلم، رأى منه ما كان يرى الناس منه…والذي لا أكاد أشك فيه أيضا أن ما سمعه ابن سلام من ابن معين قد دله أعظم الدلالةعلى ما يبذله هذا الإمام من جهد في تخليص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل ما يشوب متونه وأسانيده، لينفي عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ولا أظن أن ابن سلام حين سمع ابن معين، لم يذكر ضريعه البصري، وهو بَلَدِيُّـه، رحل مثله عن البصرة إلى بغداد أيضا، وهو علي بن عبد الله بن جعفر السعدي المعروف بابن المديني ( 161 ـــ 234 هــ )، وكان إماما من الجهابذة النقاد للحديث كصاحبه ابن معين، ومن قبلهما صاحبه البصري أيضا يحيى بن سعيد القطان ( 120 ـــ 189 هــ )، وكان من سادات أهل زمانه ورعا وحفظا وفضلا وعلما، وهو الذي مهد لأهل العراق رسم الحديث، وأمعن في البحث عن الثقات، وترك الضعفاء، وهؤلاء الرجال هم الذين أسسوا علم معرفة الرجال والجرح والتعديل، وعلم الموضوع من الحديث على رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ، وأنا أتوهم أن هذا الذي عرفه ابن سلام يومئذ، قد أثاره إلى أن يؤسس هو أيضا أساسا لمثل هذين العلمين في ناقلة الآداب والأخبار والشعر، لينفي عن الشعر خبث ناقلته ورواته، وخبث الموضوع على ألسنة شعراء الجاهلية وغيرهم”[13].

يقول ابن سلام عن هذا العلم الذي يريد تأسيسه: “وللشعر صناعَة وثقافة يعرفهَا أهل الْعلم كَسَائِر أَصْنَاف الْعلم والصناعات مِنْهَا مَا تثقفه العين وَمِنْهَا مَا تثقفه الأذن وَمِنْهَا مَا تثقفه الْيَد وَمِنْهَا مَا يثقفه اللِّسَان…من ذَلِك الجهبذة بالدينار وَالدِّرْهَم لَا تعرف جودتهما بلون وَلَا مس وَلَا طراز وَلَا وسم وَلَا صفة، ويعرفه النَّاقِد عِنْد المعاينة فَيعرف بهرجها وزائفها…فَكَذَلِك الشّعْر يعلمه أهل الْعلم بِهِ “.

 يبقى فقط أن نلفت إلى أن تأثر أعلام الأدب بأئمة الحديث في نقد الرواية قديم حتى قبل ابن سلام، فهاهو الأصمعي[14]الذي تبعه الجمحي في قضية الفحولة وزادها تأسيسا وتكريسا، نراه ينقل ما ورد عن بعض أئمة الحديث من ترك الرواية عن المبتدع إلى رواية الشعر فيترك شعر ذي الرمة لقَدَرِيَّـته[15]، برغم الفارق بين الشعر والحديث، وبرغم الاختلاف الكبير بين المحدثين أنفسهم في الرواية عن المبتدعة، وبرغم أن الأصمعي على وعي بالفصل بين جودة الشعر وديانة صاحبه*، بل هو من أوائل من قرر أن الشعر يقوى في الشر ويلين في الخير[16].

قال علي بن حمزة البصري: “حكى أبو العباس أحمد بن يحيى: أن ذا الرمة لما قال:

وعينان قال الله كونا فكانتا ×××× فعولان  بالألباب ما تفعل الخمرُ

قال الأصمعي: فعولين بالألباب، فقال له إسحاق بن سُويد: ألا قلت: فعولان، فقال: “لو شئتُ سبّحتُ “*، وكان الأصمعي لهذه العِلّة يكثر الأخذ على ذي الرمة، والهوى يُردي، ولقد تعدّى ذلك إلى أن كان يعترض عليه في أفعاله…”[17]، وقال أيضا: “وقد كان الأصمعي ـــ دون أبي عمرو ـــ شديد العصبية على جماعة من الشعراء لعِلل سنذكرها عند ذكر ما نذكرهم به، فعِلّة ذي الرمة مع اعتقاد ذي الرمة العدل وكان الأصمعي جَبْرياً*، وقيل لأبي عثمان المازني: لم قلّت روايتك عن الأصمعي قال: رُميت عنده بالقَدَر، والميل إلى مذهب أهل الاعتزال …”[18].

وفي المآل نرى بأن ابن سلام في منزعه نحو تنقية الشعر من الدخيل لم يصدر عن فراغ، بل كان يستلهم تجربة زملائه من نقاد رواية الحديث النبوي، وهو الأمر الذي لمحه محمود شاكر وحاولنا هنا تأكيده.

[1]محمود شاكر: قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام، دار المدني، جدة، ص70، 71.

[2]مسلم بن الحجاج: الصحيح، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج1، ص 14.

[3]الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق مجموعة من المحققين بإشراف شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1982، ج 10، ص 651.

* أي: في القوة.

[4] الذهبي: ميزان الاعتدال في نقد الرجال، تحقيق علي محمد البجاوي، نشر دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط1، 1963، ج3، ص 567.

[5]الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، تحقيق مصطفى عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1417، ج12، ص 195.

[6]ينظر ذلك في ترجمته عند: الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 4، ص 563.

[7]ينظر: المصدر نفسه، ج4، ص 582.

[8]ابن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء،تحقيق محمود شاكر، دار المدني، جدة، ج 1، ص 46.

[9]ابن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء، ج1، ص 24.

[10]المصدر نفسه، ج1، ص 49.

[11]المصدر نفسه، ج1، ص 4.

[12]المصدر نفسه، ج1، ص 48.

[13]محمود شاكر: قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام، ص70، 71.

[14]قال الذهبي: “أَثْنَى أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ عَلَى الأَصْمَعِيِّ فِي السُّنَّةِ”، سير أعلام النبلاء،تحقيق مجموعة من المحققين بإشراف شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1982، ج10، ص 176.

[15]عن قوله بالقدر وانتمائه للعدلية، ينظر: الشريف المرتضى، غرر الفوائد ودرر القلائد المعروف بأمالي المرتضى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه، ط1، 1954، ج1، ص 19، 20.

* نشرنا مقالة في مجلة آداب ذي قار العراقية حول هذه النقطة بالضبط تحت عنوان: “نَسَقُ الفُحُولَةِ بين الأصمعيِّ وأبي عُبَيْدَةَ

قراءةٌ في المُضْمَر الإيديولوجي”.

[16]ينظر: إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب،دار الثقافة، بيروت، لبنان، ط4، 1983، ص 50.

*أي: أن الأصمعي كان يختار نصب فعولين على أنه خبر لكان، ويتجه المعنى على هذا الاختيار إلى إثبات خلق الله لأفعال العباد، فما تفعله العينان بالألباب من تكوين الله، لذا سيرميه علي بن حمزة البصري بالجبر كما سترى، ومقصوده بالجبر إثبات القدر، وهو لقب يطلقه منكرو القدر كالمعتزلة على مثبتيه،  غير أن الأصمعي لا يمتنع عن الرفع، فيكون فعولان كلاما مستأنفا، فيه نسبة الفعل للعينين، وحيث إن ما تفعله العينان شر، فالأصمعي يرى في الرفع تنزيها لله عن نسبة الشر إليه، وهو معنى قوله: لو شئت سبحت، أي نزهت الله.

[17]علي بن حمزة البصري: التنبيهات على أغاليط الرواة، ص40.

* عن تهمة صاحب التنبيهات للأصمعي بالجبر، وغير من التهم، ينظر: المعلمي، التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، تعليق الألباني وزهير الشاويش وعبد الرزاق حمزة، المكتب الإسلامي، ط2، 1986، ج2، ص551، 554.

[18]علي بن حمزة البصري: التنبيهات على أغاليط الرواة، ص39.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

  1. صدام حسين مجاهد يقول

    مشكور أخي الدكتور سعيد
    التأثر واضح جدا لكننا نبحث في صلوحيّة تطبيق منهج المحدّثين على الأخبار والشعر والروايات التي نقلها ابن سلّام
    هل هو منهج سديد أم أنه يهمّنا نقل الإبداع بمقاربة حديثية متساهلة
    مثل تعامل العلماء مع مغازي الواقدي (متروك،كذاب) لكن لا أحد طرح المغازي جانبا
    وجدت جوابا للدكتور المحقق بشار عواد معروف علّه يفيدك

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.