أدوات الإصلاح وأساليبه في السياقات المعاصرة
أدوات الإصلاح وأساليبه في السياقات المعاصرة
أدوات الإصلاح وأساليبه في السياقات المعاصرة
حسين بوبيدي
جامعة عبد الحميد مهري – قسنطينة 2
في الحلقة السابقة المعنونة بـ: الإصلاح في السياقات التاريخية المختلفة والمنشورة في العدد الثالث من مجلة الربيئة الرائدة، تناولت طبيعة الخطابات الإصلاحية وارتباطها بالظروف المنتجة لها، وأبرزت القضايا الملحة التي ينبغي أن يشتغل عليها هذا الخطاب في الظروف الراهنة، وانطلاقا من هذا التوصيف يأتي الحديث عن الأدوات والوسائل الإصلاحية، ولأن كل غاية لها وسيلتها، فالغايات الكبرى المنشودة من المشاريع الإصلاحية الجامعة تحتاج تنويعا في الأساليب والوسائل، حتى تستطيع تحقيق النهوض الشامل وتسمح للأمة بالتحول من هامش التاريخ إلى قلب التأثير في مجرياته.
1- أي وسيلة لأي غاية:
يتباين نظر الفاعلين الإصلاحيين إلى طبيعة الوسائل الواجب اعتمادها انطلاقا من تراتبية أسباب الأزمة التي ينطلقون منها، ولأن قراءة المشهد الحضاري للأمة متباين جدا فإن آليات الإصلاح التي تقدم سبيلا لتجاوز هذا الوضع بالغة التباين أيضا، ويمكننا أن ننطلق من الرؤيتين الكبيرتين للموضوع، والتي لا تزال تشغل أبناء الأمة الحاملين لهمها إلى اليوم:
أ- البحث عن أدوات للتغيير من أعلى الهرم:
ينطلق أصحاب هذا الموقف من توصيف أزمات الأمة انطلاقا من وضعها السياسي، ويرون أن إخفاق الأنظمة التي حكمت بعد فترة الاستعمار يمثل أهم أسباب استمرار حالة التخلف التقني والعلمي والركود الاقتصادي والإفلاس القيمي والمعرفي، وبالنسبة لأصحاب هذا الرأي فإن الأنظمة الشمولية التي سدت كل أبواب الإصلاح وتغولت أجهزتها الرقابية على كل المؤسسات الدينية والثقافية والتعليمية لا تسمح بنشوء وتطور المشاريع الإصلاحية التي ترى أنها ستمثل لاحقا قوة سياسية منافسة وضاغطة، وبالتالي فإن مختلف العراقيل التي توضع أمام سبل الإصلاح لا يمكن الالتفاف عليها لأنها محمية بترسانة قانونية تخدم السلطة، وسرعان ما تحطم إرادات الفاعلين وتضطرهم إلى التراجع أو التخلي عن المبادئ من خلال مراجعات تعبر عن حالة عجز عن المدافعة أكثر من كونها تغييرا في أساليب العمل، ولذلك يرى أصحاب هذا التوجه أن “المدافعة” السياسية من خلال العمل على الوصول للسلطة عبر العمل السياسي هو السبيل الوحيد لإصلاح حال الأمة، وأن كل الأساليب والأدوات الأخرى سيتم تجاوزها عبر وسائل إلزامية نتيجة سلطة الإلزام والإجبار.
تقوم فكرة التغيير من أعلى الهرم على ضرورة قيام “الرئيس أو من يملك صلاحياته” بإعادة تنظيم الفضاء التشريعي وفق رؤية جديدة تدرك أسباب تخلف الأمة للعمل على تجاوزها، فتمثل أجهزة الدولة ذاتها الوسائل والأدوات الضرورية القادرة على الوصول إلى كل فرد، وتعيد توجيه قدراته واستغلال إراداته في اتجاه الأهداف الكبرى المتمثلة في النهضة والإصلاح والبناء؛ لإنقاذ المجتمع المسلم من المصير الذي ينتظره نتيجة استمرار المنظومة الفاشلة، وهي بالتالي تعمد إلى إعادة توجيه الأدوات والوسائل المتوفرة وليس تكريس حالة من المدافعة غير المتكافئة،
في آلية الاستدلال الذي يخدم هذا التوجه غالبا ما يستحضر الأثر الذي يقول : “إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، ويستدعي النماذج المصلحة من تاريخ الخلفاء والملوك في التاريخ الإسلامي، وفي مقدمتهم عمر بن عبد العزيز ونور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي، وينظر في التجارب المعاصرة إلى مهاتير محمد في ماليزيا ورجب طيب أردوغان في تركيا بعين الإعجاب والتقدير، ولو حاولنا العثور على خلفية فلسفية لهذا التوجه لوجدناه أقرب إلى نظرية البطولة عند الفيلسوف الأسكتلندي توماس كارليل (ت: 1881)، أو فلنقل إنها تنطلق من فكرة الأثر الفردي في مسار التاريخ وصناعة التغيرات الكبرى.
ب- البحث عن أدوات للتغيير من قاعدة الهرم:
ينطلق أصحاب هذا الموقف من توصيف أزمة الأمة انطلاقا من فساد المجتمعات، هذا الفساد الذي غالبا ما يرتبط بالجوانب المفهومية والقيمية، وبالتالي يرى أن كل عمل إصلاحي ينبغي أن يعتمد الأدوات والوسائل التي تؤدي إلى إعادة تشكيل العقل الجمعي، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، ومكافحة السلوكات المنحرفة، وأن كل جهد يبذل خارج هذا التوجه لا يعدو كونه قفزا على الخطوات الضرورية التي ينبغي سلوكها في مشاريع الإصلاح، والتي ينبغي أن تأخذ الوقت الكافي لتؤتي ثمارها، وبالتالي فإن التحولات الاجتماعية الناتجة عنها من خلال ظهور جيل جديد متجاوز لصورة الجيل الفاسد والمنحرف ستكون إيذانا بنقلة بعيدة تعرفها الأمة في طريقها نحو الخروج من أزمتها.
من أجل هذا العمل تتمثل أدوات وأساليب الإصلاح في كل ما من شأنه أن يساهم في تربية المجتمع من أنشطة دعوية وعلمية وتثقيفية، ومن مدافعة فكرية للتيارات الإلحادية والتغريبية، وتوضيح مستمر لمواضع الخلل ومكامن الزلل في الأمة من أجل توجه الخطاب الإصلاحي نحوها لمعالجتها، وغالبا ما يستند هذا الخطاب إلى قوله تعالى: ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم“، وقوله أيضا: ” يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت”، وغير ذلك من الأحاديث، وفي التجارب التاريخية يستحضر أصحاب هذا الرأي الدعوة الرسالية المكية، وتجارب السلاجقة في مدارسهم النظامية التي أسست للإحياء السني، وتجربة دولة المرابطين المغربية التي أنقذت المغرب والأندلس، وفي العصر الحاضر يعتبرون نضالات جمعية العلماء المسلمين بالجزائر نموذجا يحتذى باعتباره تأسيسا لعمل تربوي قاعدي حفظ للأمة دينها، ونشاطا تعليميا حمى لها لغتها، ولو قاربنا هذا التوجه فلسفيا رأينا أنه يستحضر نظريات التغيير الاجتماعي، ويؤسس لفاعلية الجمهور الذي يجر الدولة نحو ما يريده ويجبرها على تمثله.
2- وسائل وأدوات متعددة لأزمة مركبة:
انتبه الكثير من الفاعلين في الحقل الإصلاحي إلى أن عليهم تجاوز حالة الاصطفاف الحدي بين الرأيين السابقين، وانطلاقا من الوعي بالتجارب والاستفادة من الأخطاء صار ينظر إلى أزمة الأمة باعتبارها أزمة مركبة، فهي أزمة سياسية تعاني فيها الاستبداد ومصادرة السيادة الشعبية وعدم تمكين الناس من اختيار من يحكمهم، مع ما ينجر على ذلك من أساليب القمع والظلم ومصادرة الحريات، ومعضلة علمية منعت الأمة من مواكبة حركة التقدم الحضاري في مختلف العلوم وبالتالي حرمتها من المنافسة الحضارية والمدافعة السيادية التي تمنعها من تقمص دور المغلوب المولع دوما بتقليد غالبه وتبعدها عن الضغوط التي تفرض عليها ما لا يرضاه لها دينها وانتمائها، وأزمة قيمية بسبب عقود الاستعمار والاستبداد التي أثمرت اضطرابا في معايير التحسين والتقبيح ومفاهيم الخير والشر، وغرست الكثير من الانحرافات السلوكية تحت عناوين خادعة وشعارات موهمة، وأزمة فكرية سببتها تراكمات طويلة من التجهيل المتعمد وسياسات التغريب التي تستهدف الإحلال والإبدال للتصورات الجديدة بعد التدمير واضمحلال الأفكار الأصيلة، وداخل كل هذا أزمة “غاية” حرمت الأمة من الاستفادة الكاملة من مقدرات أبنائها نتيجة عدم شعورهم بأن الإصلاح رسالة الجميع، وليس محصورا على طليعة رائدة أو نخبة مميزة، أو جماعة محددة.
من خلال هذه الرؤية التركيبية ينبغي أن ينظر إلى أدوات الإصلاح السياسي والتربوي والعلمي والثقافي والتعليمي والدعوي والوعظي باعتبارها مجتمعة أدوات إصلاح، محطاتها: المسجد، والأسرة، والمدرسة، والجامعة، والشارع، والسوق، والمؤسسة الاقتصادية، ومركز البحث، و الإدارة، والتلفزة، وشبكات التواصل الاجتماعي، ومنتديات الترفيه والرياضة، وأن المستهدف فيها هو الإنسان المسلم أينما كان، لا باعتبار الهدف هو جره نحو تنظيم معين – مع أهمية العمل التنظيمي-؛ بل لإشعاره في موقعه أنه يقوم بدور رسالي عندما يعي مسؤوليته ويقحم نية الإصلاح مع نية العمل وكسب الأجر.
إن الذي ينبغي التأكيد عليه أن أدوات الإصلاح لا ينبغي أن تدخل في صراع ومواجهة بين بعضها البعض، باعتبارها تخدم هدفا واحدا، فليس الإصلاح السياسي بديل عن الإصلاح التربوي، ولا الإصلاح الوعظي يغني عن المدافعة الفكرية، ولا مخبر البحث يحل محل البرامج الإعلامية، أو يكتفى بالمغالبة في الفضاءات الإفتراضية عن المنافسة في صناعة المضامين الوثائقية والبرامج الموجهة للأطفال، ولا ينبغي أن يكتفى بدرس المسجد عن الخروج بالدرس إلى الفضاء العام وفق لغة تستحضر طبيعة المستمع وتميز بين الفضاءات والسياقات، وعندما يدرك المصلحون أنهم يخدمون بعضهم بعضا سنتجاوز بعض المشكلات الخاطئة والمتعلقة بالتراتبية المزعومة التي غالبا ما أنتجت حالة من حالات الإقصاء، حتى اكتفى البعض بتوجه إصلاحي أنساه الغاية بل وغيرها لتتحول الوسيلة الإصلاحية إلى وسيلة نفعية تخدم الهدف المادي للفرد الضائع الذي دخل برنامج الإصلاح وانتهى إلى واقع التيه والضياع.
3- الإصلاح مشروع شعب:
إن تصور الإصلاح باعتباره مفاصلة وقطيعة بين جماعة متميزة وأمة مستهدفة به ينبغي حسب رأيي أن يتم تجاوزه، وتغيير هذا المنطلق إلى اعتبار الإصلاح مشاركة داخل جسد الأمة الواحد، لأنه دون هذا التصور فإن “الجماعة” المصلحة لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تتحول إلى شعب أو بديل للشعب بمختلف مواقعه في شبكة العلاقات الاجتماعية، ودواليب السلط المختلفة، ولذلك عليها أن تعمل داخل الشعب ذاته ليكون المشروع مشروعه وليس مشروعا يستدعى إليه لأجل انتماء تنظيمي أو هيكلي.
إنما تنطلق هذه الفكرة انطلاقا من تجارب سابقة ومعاصرة، فإن طول النظر إلى الأمة باعتبارها “الآخر” وليس “الأنا” ينتج نوعا من القطيعة السلبية، وبدل أن يستفيد المصلحون من كل الطاقات الموجودة أينما كان موقعها فإنهم يتوجهون إلى تقديم المنتمين إلى المنظمة أو الجماعة ولو على حساب الكفاءة الموجودة خارجها، وإذا كان هذا يبدو في حسابات اللحظة ربحا وتقدما فإنه ليس كذلك في حساب مسيرة التاريخ والعلاقات التي تربط هؤلاء المصلحين بمحيطهم، وإذا تخلى المصلح مرة واحدة عن المبادئ التي يدعوا إليها ويناضل لأجلها فإنه لا يستطيع ترميم ذلك مطلقا.
هذا الرأي لا يلغي العمل التنظيمي من أساليب الإصلاح، بل يؤكد عليه على مستوى الأهداف المحددة والتخصصات المستهدفة، لكنه يصر على تجاوز التفريق بين الجماعة المصلحة والشعوب المستهدفة بالإصلاح في صورة من التمايز التي إنما تصلح – جزئيا- في حالات الدعوة للإسلام داخل مجتمعات غير مسلمة، لكنها تؤسس لشكل من القطيعة – غير المدركة بشكل واضح لدى من يمارسها- عندما تستهدف إيقاظ شعوب تملك ملامح الإنتماء لكنها أضاعتها في غمرة سياسات التشويه المستمرة.
الإصلاح رسالة شعب، ووسائله وأدواته هي كل ما يتوفر لهذا الشعب في مختلف المواقع، ووجود نخبة طلائعية له إنما هو تقاسم أدوار فقط وليس تمايز بين هذه النخبة والأمة التي تنتمي إليها، وتعدد سبل الإصلاح حالة صحية إذا تكاملت هذه الجهود وتكاتفت الإرادات، ولا يمكن للإصلاح أن يثمر ولا لأساليبه أن تنجح ولأدواته أن تحقق فعاليتها إلا إذا كانت صورة الأزمة المركبة واضحة، وضرورة إشراك كل أطياف الشعب في معالجتها قاعدة ومنطلقا.