عينٌ على كتاب: تكملة الوفيات، للشيخ أبي محمد سعيد هرماس – أ.عبد الرحمن قارف -الجزائر-
عينٌ على كتاب: تكملة الوفيات، للشيخ أبي محمد سعيد هرماس
أولُ تكملةٍ لوفيات ابن قنفذ القسنطيني
عبد الرحمن قارف
المقدمة:
مِن المتفق عليه أنَّ العلوم والمعارف ليس لها حدودٌ تنقضي عندها وتنفد، بل هي في توسُّع وتطوُّر مستمرَّين مذ أن نشأت، على درجات متفاوتة حسب ما يبلغه الإنسان منها بعقله وأدواته المنهجية الآخذة في التطور أيضا. والتاريخُ من أكثر تلك العلوم والمعارف توفُّرا على الثغرات والمساحات الفارغة التي تحتاج إلى مَن يسدُّها. ومِن هنا كان كتاب (تكملة الوفيات) للشيخ الأستاذ سعيد هرماس نموذجا لتطور المعارف والعلوم، فهو تكملةٌ وتتمةٌ مفتوحةٌ لكتاب (الوفيات) أو (شرف الطالب في أسنى المطالب) الذي صنَّفه الإمام المؤرخ ابن قنفذ القسنطيني المتوفَّى في بداية القرن 9هـ/15م.
وتأتي هذه الورقة راصدةً منهجية الشيخ هرماس في كتاب التكملة، وآتيةً على محتوياتِه العلمية بالتحليل والبيان، وعلى قيمته المعرفية بالإنصاف والاعتراف، مع تحقيق أسباب تأخر ظهور هذا العمل لأكثر من 6 قرون بعد وفاة ابن قنفذ.
حول كتاب الوفيات:
وجب التعريف في صدر بحثنا هذا بمؤلف كتاب الوفيات على وجه الإيجاز، فهو الإمام الفقيه القاضي المؤرخ، أحمد بن حسن بن علي بن حسن بن علي بن الخطيب، المولود قريبا مِن عام 740هـ في قسنطينة، والمتوفى عام 809هـ، وقيل: 810هـ([1]). وقد أحصى الأستاذ المحقق عادل نويهض لابن قنفذ سبعا وعشرين عنوانا في فنونٍ شتى([2])، عشرون منها ضائعة، ولم يسلم من الضياع إلا سبعة، ومِن هذه السبعة ما هو مُحقق مطبوع كحال كتاب الوفيات.
وكان كتاب الوفيات قد طُبِع في المرة الأولى عام 1911 بمدينة كلكته الهندية تحت إشراف مولوي محمد هدايت حسين، متضمنا نقائصَ وعيوبَ موجودة في المخطوط أصلا، ولم يُصَوَّب أكثرُها لاحقا حين أعاد نشرَه المستشرق هنري بيريس عام 1939 زاعما تصحيحَه، وإنما تولى هذا الأستاذ عادل نويهض حين أعاد تحقيق الكتاب باعتماده على مخطوطتين منسوبتين له، والاستعانة بالنسختين المطبوعتين سابقا([3])، ونُشِرت نشرته الأولى([4]) عام 1971م/1390هـ. ثم أتى الدكتور محمد حجي ليُعيدَ تحقيقه باعتماده على نسخة بيريس المطبوعة، ومقابلتها بثماني مخطوطات منه وقف عليها بمدينة الرباط، فنشره عام 1976م ضمن كتابٍ جامعٍ كبيرٍ حقق فيه أيضا وفيات الونشريسي ووفيات ابن القاضي وجمعهما إلى وفيات ابن قنفذ([5]).
وجرى ابنُ قنفذ في كتابه المذكور على تأريخ وفيات الأعلام والعلماء بدءً من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وغيرهم من المائة الأولى، وانتهاءً إلى وفاة الفقيه الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المراكشي الضرير سنة 807هـ، ذاكرا مِن الوفيات بالإجمال ما عددُه سبعًا وثمانمائة. وكان من أسباب تأليفه الكتاب ما ذكره بقوله: “وَلَـقَدْ أخْبَرَنِـي طَالِبٌ مِنَ الطَّـلَبةِ عَنْ مَـجْلِسِ عِلْمٍ اختَلَفَ فيهِ صَاحِبُ الدَّرْسِ وآخَرُ فِـي مَالِكٍ بْنِ أنَسٍ وَمُسْلِمٍ بْنِ الحجَّاجِ؛ أيُّـهُمَـا أسْبَقُ بِالوَفَاةِ؟ فَقالَ صَاحِبُ الدَّرْسِ مُسلِمٌ سَبَـقَ، وقال الآخَرُ: مَالِكٌ سَبَـقَ، والصَّوابُ معَهُ، والخطأُ مَعَ صَاحِبِ الدَّرْسِ؛ فإنَّ مُسْلِمَ بنَ الحجَّاجِ توفِّـيَ بعدَ مَالِكٍ بمُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى ثَمَـانينَ سَنَـةً“([6]).
وقد وقع خلافٌ بين المحققين في تحديد الفرق بين كتاب (شرف الطالب في أسنى المَطالب)، وكتاب (الوفيات)، وكلاهما لابن قنفذ. فثمة مَن يرى أنَّ الأول هو كتابٌ في علوم الحديث شرح مؤلفُه فيه المنظومةَ المسماة (القصيدة الغزلية في ألقاب الحديث لابن فرج الإشبيلي)، أو (غرامي صحيح)، وأنَّ الثاني هو ذيلٌ عليه وتكمِلة وتتِمَّة له مستقلة عنه، وهذا ما ذهب إليه عادل نويهض([7])، وأبو القاسم سعد الله([8])، وناصر الدين سعيدوني([9]). وثمة مَن يرى خلاف ما سبق، قائلا بأنَّ شرف الطالب هو عنوان كتاب الوفيات نفسه، وهو رأي محمد حجي الذي جعل الكتاب قسمين، الأول في الحديث والثاني في الوفيات([10])، والشيخ سعيد هرماس الذي قال بأنَّ ذلك التفريق “هو تفريقٌ وقع فيه المتأخِّرون لا غير، فابنُ قنفذ صنف كتابا واحدا في هذا الباب سماه: شرف الطالب في أسنى المطالب، وهو المعروف بالوفيات، صدَّره بمقدمةٍ تحدّث فيها عن عُلُوم الحديث النّبويّ الشّريف المعروفة لِترابط الأمرين معًا، ولِتلازمهما في الفحوى المُراد، ولِلتّعليم والإفادة، لا أكثر ولا أقلّ، فالوفيات أحد عُلُوم التّاريخ، كما لا يخفى، وله علاقةٌ ابتدائِيّةٌ ومُتّصِلةٌ ووثيقةٌ مع عُلوم الحديث“([11]). وقد نقلنا سابقا ما أشار إليه الدكتور سعيدوني -مع ذهابه إلى الرأي الأول- من أنَّ بعضَ العناوين المنسوبة إلى ابن قنفذ قد تكون مُكرَّرة أو تحمِلُ عناوين مختلفة، فلعلَّ هذا هو مَدعاةُ الخلط الذي وقع فيه مَن فرَّق بين شرف الطالب وبين الوفيات. ونحن نعلم النقصَ الذي غالبا ما يعتري خروج المخطوطات القديمة إلى الوجود إذ أنَّ كثيرا منها يُطبَع على النسخ المنسوبة، لا النسخ الأصلية التي هي بخط المؤلف نفسه، مما يقوي احتمالية وقوع التحريف أو التصحيف، سواء أوقع على العنوان أم المتن، وليس وقوعُهما مِن قِبَل الناسخ بالضرورة، وإنما مِن قِبَل المحققين المُحْدَثين أحيانا، “وأكثرُ ما يجيءُ التصحيفُ والتحريفُ في كتب التراث المَطبوعة مِن سوءِ قِراءة المخطوطات، وغيابِ الخِبرة في الموضوعات التي تتضمَّنُها“([12]).
حول كتاب التكملة:
ومِن التعريف بابن قنفذ ووفياته، إلى التعريف الموجز بالشيخ سعيد هرماس وتكملته، فهو أبُو مُحمّدٍ سعيد بن المسعُود هَرْماس البُوذنيّ المحمّديّ النَّائلي، ولد في جمادى الأولى 1393هـ/جوان 1973م، بِبلدة دار الشّيوخ شرقيّ وِلاية الجلفة. وقد شرع في طلب العلم الشرعي منذ بداية التسعينات، ولقِيَ طائفةً من العلماء الذين أجازوه في أصول الفقه والحديث وعامة العلوم الشرعية. وله ما يزيد عن 28 مؤلَّفا في الأصول والفقه والحديث والأدب والتاريخ، أكثرُها مخطوط، وأقلُّها مطبوع منشور([13])، ومما نُشِر له منها: أشتات مُجتمعات في الدين والدنيا، ومن تاريخ منطقة الجلفة الثقافي، ومن فضلاء منطقة الجلفة، وطبقات المالكية الجزائريين، والموريسكيون في الجزائر، وتكملة وفيات ابن قنفذ القسنطيني. وهذا الأخير هو موضوع بحثنا، وعليه مَدارُ حديثنا.
صدر كتابُ التكملة للشيخ هرماس في طبعته الأولى عام 1435هـ/2013م، عن دار صبحي للطباعة والنشر، بغرداية-الجزائر، بتقديم الدكتور المحقق محمد بنشريفة المغربي، وقد تجاوز عددُ المتوفين المذكورين فيها ألفا وستمائة وثلاث عشر (1613) متوفَّى([14]). ثم صدر في طبعته الثانية عام 1440هـ/2018م، عن منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) ([15])، بالرباط-المغرب، بتقديم من الشيخ الفقيه أحمد بن مالك الفلاني الجزائري، وقد بلغ عددُ الأسماء المتوفاة فيها ألفين ومائة وواحد وثمانين (2181) ([16]). وظهرت الطبعة الثالثة عام 1442هـ/2021م، عن دار الماهر للطباعة والنشر والتوزيع، بسطيف-الجزائر، وتألَّف عددُ المتوفين المذكورين فيها من ألفين وثلاثمائة وثمانية وثلاثين (2338) متوفى([17]). أما الطبعة الرابعة فقد صدرت عام 1445هـ/2024م، عن دار إيلياء للنشر والتوزيع، بالجزائر العاصمة، متضمنةً ما عددُه ألفان وخمسمائة وخمسة وأربعين (2545) متوفَّى.
وفي كل طبعة جديدة يُحدِث المؤلف من التصحيحات والاستدراكات والإلحاقات والإضافات العلمية الجديدة ما يزيد عملَه جودةً وفائدةً.
منهجية المؤلف:
قام الشيخ هرماس باختيار نظام العقود الزمنية للسير عليه في ذكر الوفيات، تبعًا لمنهجية ابن قنفذ وتلافيا للخروج عنها، فابن قنفذ بدأ عمله من عام وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (11-20هـ)، فكان لِزاما عليه أن يتبعه فيه. ولكنَّه واجه إشكالا من ناحية الابتداء في ذلك، إذ كان مُخيَّرا بين أن يُفرِد سنوات (808-809-810هـ) ويعزلها عن ما بعدها، ليكون انطلاقُه من مبدأ العقد التالي، وهو (811-820هـ)، فيكون موافقا تمامَ الموافقة لابن قنفذ، وهذا ما اقترحه عليه البروفيسور بشار عواد معروف. وبين أن يبدأ من نفس السنة التي انتهى إليها عملُ ابن قنفذ، وهي سنة (807هـ)، فيأتي هو ليجعلها مُبتدأ العقد الجديد ليكون (808-817هـ)، فيُخالِفَه مخالفةً طفيفةً في طريقته، وهذا ما اختاره المؤلف وارتآه، وأقرَّه عليه البروفيسور محمد خليفة، وقد علَّل اختيارَه هذا بقوله: “تحقيقًا للفظةِ التكملةِ يجب أن أبتدئ مِن حيث انتهى إليه ابنُ قنفذ، وأحافظ على نظام العقود الذي سار به… هذا من جهة، ومن جهة أخرى إذا فعلتُ ما أشاره عليَّ الدكتور بشار، أكون قد ابتدأتُ عملي باضطراب، ووقعتُ في أمرٍ غيرٍ مُنتظَمٍ؛ ثلاث سنوات، ثم عشر سنوات، وهذا -في رأيي- غيرُ سوِيٍّ” ([18]). وكان آخر العقود الذي انتهى إليه في آخر طبعات الكتاب هو العقد (1438-1447هـ).
ويمكن بيان منهجية المؤلف على النحو الآتي:
– الترتيب حسب العقد الهجري ابتداءً من سنة 808هـ.
– ذكر الوفيات في كل عقد دون ترتيبٍ بينهم، لا زمنيا ولا ألفبائيا.
– ذكر تاريخ وفاة كل متوفى بالهجري فقط، مع الإشارة إلى الخلاف فيه إن وقع.
– التوسُّع، بإيجاز شديد، وحسب المقام، بعرض أهم كتب المتوفى، أو آرائه، أو مواقفه في حياته، دون أن يقتضي ذلك الخروجَ عن منهجية ابن قنفذ.
– ذكر الأعلام الذين استفاضت شهرتُهم في المشرق والمغرب.
– العناية أكثر بذكر الأغمار ومتواضعي الشهرة، خصوصا المغاربة.
– العناية أكثر بالمالكية من الفقهاء والعلماء، ثم بالأحناف، لأنَّ المذهب المالكي هو الأول في عامة بلاد المغرب، ويليه الحنفي في تونس والجزائر.
– ذكر أعلام القرنين الرابع عشر والخامس عشر للهجرة، الموافقين بالتقريب للقرنين العشرين، والحادي والعشرين للميلاد.
– التهميش عند ذكر كل متوفى بذكر مصادر خبره ومراجعه التي اعتمدها المؤلف.
– الاستعانة بمنهج المُحدِّثين في الضبط والموضوعية، وفيه ما يُشبه النقد الخارجي في اصطلاح الأكاديمين.
– وضع فهرس عام لجميع المتوفين حسب العقود، وعلى حسب ترتيبهم الذي جاء في الكتاب.
هذا ما ذكره المؤلف في بيان متهجيته في مقدمته للطبعة الأولى([19]).
وفي مقدمته للطبعة الثانية أتى باستفاضةٍ على عرض أكثر كتب التاريخ والتراجم والوفيات المشرقية ومؤلفيها، في مختلف أقسامها وأجناسها، على ترتيبها الزمني، وذلك على سبيل الإشارة إلى ضعف المغاربة وقصورهم -منذ القديم- في العناية بتلك الفنون بفارق كبير جدا بينهم وبين المشارقة، داعيا إلى استدراك ذلك([20]).
وفي مقدمته للطبعة الثالثة ذكر بعضَ ما اعترضه وواجهه من المصاعب والعوائق طيلة وقوفه المستمر على إتمام الكتاب والزيادة فيه، نظرا إلى أنَّ الوفيات دائمة الحدوث في هذا الزمان ولا تتوقف([21]).
أما مقدمته للطبعة الرابعة فكانت موجزة جدا، ذكر فيها غلط المتأخرين في التفريق بين كتاب أشرف المطالب وكتاب الوفيات، وقد نقلنا موقفه سابقا فلا نُعيد ذكرَه.
في قيمة الفكرة وأسباب تأخر تجسيدها:
إنَّ فكرة إكمال كتاب الوفيات في ذاتها، على هذا الشكل الواسع الشامل الذي انتهى إليه المؤلف، فكرةٌ مُبتكرةٌ لم يُسبق إليها، وإن سُبِق إليها نظرًا في خَلَدِ باحثٍ آخرَ، فإنه لم يُسبق إليها عملاً، تماما كما كانت ترجمةُ الوفيات بذكرِ وفياتهم فقط دون تجاوُز ذلك إلى ذكر التفاصيل الأخرى عنهم إلا لِماما، فكرةً مُبتكرةً مِن ابن قنفذ، كما قال هو بنفسه([22]).
وقد أشار إلى ذلك السبق الدكتور المحقق محمد بنشريفة في تقديمه للكتاب، حين ذكر الأعمال الجزئية الناقصة السابقة في نفس الباب، فقال: “…أمَّا عملُ الأخ الأستاذ الشَّيخ سعيد هرماس فقد أراد له أن يتَّسِم بالشُّمول والاستيعاب، وقد حقَّق مِن ذلك شيئاً كثيرا، وفي ذلك مَا يدل على صِدق جُهده، وطُول نفسه، وحُسن تأتِّيه وتتبُّعه، ولا شكَّ في أنَّ وفيات المُعاصرين بابٌ واسعٌ مفتوحٌ، لا بدَّ فيه مِن الاستدراكات والإلحاقات “. وأضاف قائلا: “لقد وُفّقتم أيها الأخ الفاضل في الحُلى و الصِّفات الّتي خصصتم بِها كُلّ متوفّى، مما دلَّ على معرفتكم بترجمته، أو شخصه، واطِّلاعكم على أعماله، كما أنكم سِرتم على نهج ابن قُنفذ وغيره مِن أصحاب الوفيات، في شُمول الرُّؤية للأعلام في مغارب الأرض ومشارقها، على اختلاف عُلومهم ومذاهبهم. بل إنكم قد توسَّعتم في هذا الاتجاه، ولاسيَّما في أعلام القرن الرّابع والخامس عشر الهجريين. فوفيات هذين القرنين غنيةٌ بذِكر الحُلى والصِّفات والميزات والمؤلَّفات، مِمّا يكفي القارئ ويُغنيه عن الرُّجوع إلى التّراجم المُفصّلة، وقد وجدتُني أقف مُعتبراً عِند وفيات بعض المُعاصرين الّذين لم أعرف وفاتهم إلا في هذه الوفيات الجامعة“([23]).
بل إنَّ بنشريفة قال للمؤلف: “لو كان محمد حجي حيًّا لأغبطك على هذا العمل“([24]).
هذا، ومعلومٌ ما كان في التاريخ العلمي لبلاد المغرب الكبير من ضعف العناية بعلم التاريخ والتأليف فيه، حتى أصبح هذا الضعف علامةً بارزةً عند ذكر واقع الكتابة التاريخية في تلك البلاد عامة، وفي الجزائر خاصة، وأسبابُ هذا في الجزائر كثيرةٌ منها ما عُرِف به عامة الجزائريين قديما مِن إهمال شأن العلماء واحتقارهم وهم أحياء([25])، فكيف يُعتنى بهم وهم أموات؟ ومنها -على حسب الدكتور سعد الله- “سيطرةُ روح التصوُّف والروح الديني السلبية“([26]). ومنها كثرة واستمرار الاضطرابات السياسية والأزمات الاجتماعية التي لم توفِّر مناخا علميا تحيا فيه وتنتعش روحُ الكتاب والتأليف في شتى العلوم، بما فيها التاريخ. ومنها ما تعلق بعهد الحُكم العثماني خلال القرون (10-11-12-13هـ/16-17-18-19م) حين أهمل العثمانيون العنايةَ بالجانب الثقافي في الجزائر بشكل لافت([27]) فوق ما هي عليه من الإهمال، لأسباب سياسية وإدارية بالأساس، “فالعثمانيون لم يُوفِّروا الأمنَ والصحةَ والحرية والاستقرار الضرورية للإنتاج الفني والعلمي والأدبي“([28]). ومنها ما تعلق بعهد الاحتلال الفرنسي بعد 1246هـ/1830م حين دام 132 عاما، رغم ظهور الحس التاريخي في بعض فترات ذينك العهدين السابقين، ولكن على نطاق ضيق غير واسع. ولم يبرز ذلك الحس ويقوى إلا بعد الاستقلال عام 1962م مع قيام المؤسسات الأكاديمية وظهور جيل مِن المؤرخين الأكاديميين، ومع هذا فهو ضعيفٌ عند مقارنته بما يجب عليه أن يكون في الواقع.
ومن هنا نرى أنَّه رغم وجود فكرةٍ من جنس فكرة إكمال كتاب الوفيات في أذهان بعض العلماء، على غرار الونشريسي الذي أرَّخ لوفيات القرنين الثامن والتاسع الهجريين، وابن القاضي المكناسي الذي أرَّخ لوفيات القرنني السابقين مع القرن العاشر، فإنَّ العمل على توسيعها وإتقانها على النحو الذي ظهرت به تكملة الشيخ هرماس، لعله ما كان ليظهر في القرون السابقة مع وجود تلك الظلمة الثقافية الحالكة تحت تأثير الاضطرابات السياسية والاجتماعية المتصلة، فلم يكُن بعدها إلا واحدةً مِن بنات أفكار المؤلف التي أخرجها للعيان.
بعض خصائص التكملة ومحاسنها:
لما كان كتاب التكملة على ذلك القدر من الأهمية التي أسلفنا فيها القولَ والبيان، فقد ظهرت فيه جملةٌ من الخصائص والمحاسِن التي اختصَّ بها -حسب رأينا- وازْدَان، ومنها:
– الأولية: فهو أول تكملةٍ شاملةٍ موسعةٍ لوفيات ابن قنفذ، وقد سبق البيانُ في هذا.
– الشمولية الجغرافية: أنَّ فيه الاشتمـالُ على أعلام كافة ربوع العالم الإسلامي مِن التركستان الشرقية و بلاد الـملايو شرقا، وإلى الـمغرب الأقصى وبلاد الشناقطة غربا، فضلا عن بقيَّتِهم الـمُتناثرة في غير بلاد العالم الإسلامي مِن روسيا شمالا إلى أدغال إفريقيا السوداء جنوبا. وإننا لم نرَ الكُتب التي أُلِّـفَت في التراجم أو الوفيات -قديمـا وحديثا- تلك الـمساحة الجغرافية الهائلة التي تكاد تُغطي مساحة المعمورة كلها، عدا أعلام الزِّرِكلي([29]). بل حتى وفيات ابن قنفذ القسنطيني -و هي الأصلُ الذي بُنيت عليه التكملة- لم تستوعِب ما يتعدَّى حدود العالم الإسلامي آنذاك من الهند إلى الـمغرب، فأتى مؤلفُ التكملة ليستقصِيَ وفيات أعلام الأمة و يُوسِّع دائرة البحث فيهم.
– الشمولية العلمية والفكرية: هذه التكملة جاءت لتشمل كافة أصناف الوفيات؛ مِن أصوليين، وفقهاء، ومُـحدِّثين، ومؤرخين، وأدباء، ولغويين، ونحويين، ومثقفين، ومُفكِّرين، ومُجاهدين، وسياسيين، وإعلاميين، وغيرهم الكثير. فهي إذا ليست مُقيَّدة بالعلماء والفقهاء فقط كما هي حال وفيات ابن قنفذ، وإنما هي أشبه بعمل الذهبي -مثلا- في سير أعلام النبلاء. وهذا لا يعني أنَّ صاحب التكملة خالف ابن قنفذ في المنهجية العامة، وإلا فإنَّ التقيُّد التام بها ينقص من قيمة الكتاب ويمنع الفائدة المرجوة منه في هذا الزمن الذي يختلف عن زمن المؤرخ القسنطيني.
– الذات المغربية: التكملة أنصفت أعلام المغرب العربي الإسلامي منذ القرن 9هـ/15م عموما، وفي القرنين الأخيرين خصوصا، لأنَّ المؤلف حرص على إيراد أسمـاء وفيات الجزائريين والمغاربة الـمغمورين ممن لم تُذكَر جملةٌ مِن أسمـائهم في معاجم الوفيات والتراجم الجامِعة الضخمة في هذا العصر؛ على غِرار الأعلام للزِّركلي، فهي تتضمنُ الاستدراكَ عليه رغم التركيز على جانب الوفاة غالبا.
– استيعاب المصادر والمراجع: فقد استوعب المؤلفُ في صدر تكملته أكثر المصادر والمراجع التي تضمَّنت ذكرَ أعلام المسلمين وعلمائهم، والمغاربة منهم خصوصا، على غرار: شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف، وتعريف الخلف برجال السلف للحفناوي، وإتحاف المَطالع لعبد السلام المري، ومعجم أعلام الجزائر لعادل نويهض، والأعلام للزِّركلي، وأم الحواضر في الماضي والحاضر لمهدي بن شغيب، والرحلة العلية لمحمد باي بلعالم، وطبقات المالكية الجزائريين للمؤلف.
وحين يصِل إلى وفيات القرن 15هـ، فإنَّه يواصل الاستعانة ببعض الكتب، مثل: طبقات المالكية الجزائريين خلال المائة الهجرية الأخيرة، ومن فضلاء منطقة الجلفة خلال المائة الهجرية الأخيرة([30]). ولكنه يلجأ في الغالب إلى شتات المقالات في شتى المجلات والجرائد والمواقع الإخبارية الالكترونية على شبكة الانترنت([31])، وهذه هي مَراجعه ومَظان مادة كتابه المُعتمَدة إلى هذه الساعة.
المصادر والمراجع:
– أبو القاسم سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1998.
– أبو محمد سعيد هرماس، تكملة الوفيات، دار صبحي للطباعة والنشر، غرداية، الجزائر، الطبعة الأولى 1435هـ/2013م.
– أبو محمد سعيد هرماس، تكملة الوفيات، منظمة إيسيسكو، الرباط، المغرب، الطبعة الثانية 1440هـ/2018م.
– أبو محمد سعيد هرماس، تكملة الوفيات، دار الماهر للطباعة والنشر والتوزيع، سطيف، الجزائر، الطبعة الثالثة 2021.
– أبو محمد سعيد هرماس، تكملة الوفيات، دار إيلياء للنشر والتوزيع، الجزائر، الطبعة الرابعة 1445هـ/2024م.
– بشار عواد معروف، في تحقيق النص، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2004.
– الزركلي، الأعلام، دار العلم للملايين، لبنان، بيروت، لبنان، الطبعة الخامسة عشر 2002.
– عادل نويهض، معجم أعلام الجزائر، مؤسسة نويهض الثقافية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1400هـ/1980م.
– عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الخامسة 2012.
– ابن قنفذ القسنطيني، الوفيات، تحقيق وتعليق: عادل نويهض، منشورات دار الآفاق الجديدة،، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة 1403هـ/1983م.
– محمد حجي، ألف سنة من الوفيات، مطبوعات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر، الرباط، 1396هـ/1976م.
– ناصر الدين سعيدوني، من التراث التاريخي والجغرافي للغرب الإسلامي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1999.
([1]) انظر: عادل نويهض، معجم أعلام الجزائر، مؤسسة نويهض الثقافية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1400هـ/1980م، صـ268. الزركلي، الأعلام، دار العلم للملايين، لبنان، بيروت، لبنان، الطبعة الخامسة عشر 2002، جـ1 صـ117. وفيه أنَّ اسمه حسين، وهو غلط.
([2]) ذكر الدكتور سعيدوني أنَّ الكتب المنسوبة إلى ابن قنفذ قُدِّرت بـ “ثلاثين مؤلَّفا أو تلخيصا، ذكر منها ابنُ قنفذ نفسه سبعا وعشرين قبل عامين من وفاته 807هـ… ومِن الراجح أنَّ جُل ما كتبه ابن قنفذ هو في الواقع عبارة عن تقييدات وملخصات ومُلحقات وتذييلات لمقررات دراسية وكُتب مطولة، بينما القليلُ منه وضعه بنفسه. ولعل بعضَ العناوين المنسوبة إليه قد تكون مُكررة أو أنها تحمِلُ عناوين مختلفة“. ناصر الدين سعيدوني، من التراث التاريخي والجغرافي للغرب الإسلامي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1999، صـ225.
([3]) انظر: ابن قنفذ القسنطيني، الوفيات، تحقيق وتعليق: عادل نويهض، منشورات دار الآفاق الجديدة،، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة 1403هـ/1983م، صـ18-19.
([4]) مع وجود جملةٍ مِن الأغلاط في ضبط التواريخ والأسماء نبَّه عليها بعض الباحثين.
([5]) محمد حجي، ألف سنة من الوفيات، مطبوعات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر، الرباط، 1396هـ/1976م، صـ3-4،.
([6]) نقلا عن: أبي محمد سعيد هرماس، تكملة الوفيات، دار الماهر للطباعة والنشر والتوزيع، سطيف، الجزائر، الطبعة الثالثة 2021، صـ4-5.
([7]) انظر: ابن قنفذ القسنطيني، المصدر السابق، مقدمة المحقق، صـ16 (الهامش 4+5) صـ17،18. عادل نويهض، معجم أعلام الجزائر، مؤسسة نويهض الثقافية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1400هـ/1980م، صـ268.
([8]) أبو القاسم سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1998، جـ1 ص66.
([9]) ناصر الدين سعيدوني، من التراث التاريخي والجغرافي للغرب الإسلامي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1999، صـ226.
([10]) محمد حجي، المصدر السابق، صـ4، 9 (هامش).
([11]) أبو محمد سعيد هرماس، تكملة الوفيات، دار إيلياء للنشر والتوزيع، الجزائر، الطبعة الرابعة 1445هـ/2024م.
([12]) بشار عواد معروف، في تحقيق النص، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2004، صـ474.
([13]) من سيرة ذاتية كتبها بنفسه وضمَّنها كتابَه: أشتات مُجتمعات في الدين والدنيا، دار إيلياء، للنشر والتوزيع، الجزائر، الطبعة الأولى 1445هـ/2024م.
([14]) أبو محمد سعيد هرماس، المصدر السابق، دار صبحي للطباعة والنشر، غرداية، الجزائر، الطبعة الأولى 1435هـ/2013م، صـ7.
([15]) أبو محمد سعيد هرماس، المصدر السابق، منظمة إيسيسكو، الرباط، المغرب، الطبعة الثانية 1440هـ/2018م، صـ20.
([16]) هذه الطبعة الأولى للمنظمة، وقد أعادت طبعه ونشره في العام الموالي 1441هـ/2019م.
([17]) أبو محمد سعيد هرماس، المصدر السابق، دار الماهر للطباعة والنشر والتوزيع، سطيف، الجزائر، الطبعة الثالثة 2021، صـ33.
([18]) أبو محمد سعيد هرماس، المصدر السابق، صـ14-15 (هامش).
([19]) انظر: أبو محمد سعيد هرماس، المصدر السابق، صـ14-16.
([20]) انظر: أبو محمد سعيد هرماس، المصدر السابق، صـ18-29.
([21]) انظر: أبو محمد سعيد هرماس، المصدر السابق، صـ30-37.
([22]) انظر: ابن قنفذ القسنطيني، الوفيات، تحقيق وتعليق: عادل نويهض، منشورات دار الآفاق الجديدة،، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة 1403هـ/1983م، صـ21.
([23]) انظر: أبو محمد سعيد هرماس، المصدر السابق، صـ5.
([24]) هذا التصريح أخبرني به المؤلف في أحد مجالسي معه.
([25]) أبو القاسم سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1998، جـ1 ص59.
([26]) أبو القاسم سعد الله، المصدر السابق، جـ2 ص321.
([27]) في بيان ذلك انظر مثلا: أبو القاسم سعد الله، المصدر السابق، جـ1 صـ185، 187-195.
([28]) أبو القاسم سعد الله، المصدر السابق، جـ1 صـ194.
([29]) مع التنبيه على أنَّ الزركلي يذكر أعلامَه على اختلاف مِللهم ونِحلِهم، أما التكملة فهي مقصورة على مَن ثبتت نسبتُه إلى الإسلام دون غيره.
([30]) وهذا تأكيد منه على توثيق وفيات أعلام منطقته التي ينتسب إليها ويُقيم فيها إلى حين كتابة هذه الورقة، ولكنها تبدو نزعة جهوية-مونوغرافية خاصة منه في كتابة التاريخ العام، ولذلك قد يراها البعضُ موضعَ نقدٍ عليه. انظر في بيان مفهوم المونوغرافيا: عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الخامسة 2012، صـ189-193.
([31]) انظر من توثيقاته الهامشية لبعض الوفيات مثلا: أبو محمد سعيد هرماس، تكملة الوفيات، دار الماهر للطباعة والنشر والتوزيع، سطيف، الجزائر، الطبعة الثالثة 2021، صـ295، 300، 301، 304، 305، 306…