عين على كتاب: طبقات المالكية الجزائريين خلال المائة الهجرية الأخيرة للشيخ أبي محمد سعيد هرماس – أ.عبد الرحمن قارف -الجزائر-
عين على كتاب: طبقات المالكية الجزائريين خلال المائة الهجرية الأخيرة (1317-1421هـ/1900-2000م)
للشيخ أبي محمد سعيد هرماس
عبد الرحمن قارف
توطئة:
مع ظهور أئمة الفقه المجتهدين خلال القرن الثاني الهجري، ظهر الاعتناء بتاريخهم ومذاهبهم على أيدي تلامذتهم، كما حدث للأئمة الأربعة. ومنهم مَن لم يحظَ بتلامذةٍ حُذاق ينشرون مذهبه كحال الطبري والأوزاعي والثوري والليث وغيرهم، مع التنبيه على تأثير الأحوال السياسية والجغرافية الذي كثيرا ما يفوقُ تأثيرَ التلامذة في نشر مذاهب شيوخهم وتعزيزها[1].
وحين استقرَّت المذاهب الحيَّة في أمصارها ومناطقها، وتلقَّاها الناسُ بالقَبول قاطبةً، وفرضتها دولٌ على شعوبها في مختلف الأزمنة والعهود، توسَّعت أنماط الاعتناءِ بها، ومِن هذه الأنماط التأريخُ لرجالات تلك المذاهب في كل عصر على نظام الطبقات، وقد وُلِد هذا النمط مِن رحم علم الرجال الذي هو من فروع علم الحديث في القرن الثاني الهجري[2]، ولكنه لم يُفرَد بالتأليف به إلا لاحقا حين اتخذ لذاته شكلا خاصا على أسُسٍ ومعالم خاصة، وصار إلى خدمة التاريخ أقربَ منه إلى خدمة الحديث[3].
ولقد اتسع نطاق العمل على نظام الطبقات حين صار لكلِّ علمٍ من العلوم تاريخٌ طويلٌ لرجاله وأعمالهم، فظهرت كتب الطبقات التي ترجمت لهم، على غرار طبقات الفقهاء، وطبقات المُحدِّثين، وطبقات المفسرين، وطبقات النحويين، وطبقات الأطباء، وطبقات القُراء، ونحوها.
ثم تفرَّعت عن طبقات الفقهاء العامة الطبقات المذهبية الخاصة؛ فظهرت طبقات الشافعية، وطبقات الحنفية، وطبقات الحنابلة، وطبقات المالكية، وغيرها.
ثم تفرَّعت عن الطبقات الفقهية المذهبية الطبقاتُ القُطريَّة، أي تلك التي تُعنى بالتأريخ لرجال المذهب الواحد في القطر/البلد الواحد، والتي نحن بصدد التعريف بأحدِها، وهو كتاب (طبقات المالكية الجزائريين خلال المائة الهجرية الأخيرة) للشيخ سعيد هرماس.
وتعريفا مُجمَلا بالمؤلف، نقول: هو الشيخ أبُو مُحمّدٍ سعيد بن المسعُود هَرْماس البُوذنيّ المحمّديّ النَّائلي، أصولي فقيه وكاتب مؤرخ، ولد في جمادى الأولى 1393هـ/جوان 1973م، بالجلفة. وقد شرع في طلب العلم الشرعي منذ بداية التسعينات، ولقِيَ طائفةً من العلماء الذين أجازوه في أصول الفقه والحديث وعامة العلوم الشرعية. وله ما يزيد عن 28 مؤلَّفا في الأصول والفقه والحديث والأدب والتاريخ، أكثرُها مخطوط، وأقلُّها مطبوع منشور[4]، وقد نُشِر له منها: أشتات مُجتمعات في الدين والدنيا، ومن تاريخ منطقة الجلفة الثقافي، ومن فضلاء منطقة الجلفة، وطبقات المالكية الجزائريين، والموريسكيون في الجزائر، وتكملة وفيات ابن قنفذ القسنطيني.
النشرات السابقة لكتاب الطبقات:
صدر كتاب طبقات المالكية الجزائرية في طبعته الأولى عام 1434هـ/2013م، وفيه تراجم (152) فقيها مالكيا.
ثم نُشِر مرة أخرى عام 1440هـ/2019م، متضمنا تراجم (211) فقيها مالكيا، بزيادة عددية قدرُها 59 ترجمة، وقدَّم لها الشيخان المحققان: بشار عواد معروف، وعبد الهادي التازي.
ثم نُشِر نشرته الثالثة عام 1444هـ/2023م بزيادة في عدد المترجم لهم قدرُها 13 ترجمة، فصار العدد الإجمالي (224)، وقدَّم لها الدكتور عباس الجراري.
سبب التأليف:
جاء في مقدمة المؤلف للطبعة الأولى بيانُ سببِ تأليفه الكتاب، وهو أنَّ الشيخ محمد مخلوف التونسي (1281-1360هـ/1864-1941م) لما ألف كتابه: شجرة النور الزكية في طبقات المالكية “أعطى بُلدانا تُحدِّدُ مكان المُترجَم لهم.. فذكر الفرع الأول: الحجاز. الفرع الثاني: العراق. الفرع الثالث: مصر. الفرع الرابع: إفريقية (تونس). الفرع الخامس: الأندلس. الفرع السادس: فاس (المغرب).
ثم رتَّبهم حسب كل طبقة باعتماد تاريخ الوفاة، وعند ما يذكرُ المالكية الجزائريين، يُضيفُهم إما إلى تونس (أفريقية)، وإما إلى المغرب (فاس)”.
يقول المؤلف: “ولا أعلم سببَ ذلك، أهو لقِلة المالكية الجزائريين، أمْ لسببٍ آخر أجهله؟ كل ذلك كان مَدعاةً للبحث والتنقيب، أو لتصنيف كتاب يخصُّ المالكية الجزائريين”[5]. ومعلومٌ أنَّ الذات الجزائرية الثقافية (المغرب أوسطية)[6] في الكتابة التاريخية، لم تكُن ظاهرة بما يكفي قبل بروز جيل المؤرخين الأول مع أوائل القرن العشرين الفارط.
منهجية المؤلف وما انتُقِد عليه فيها:
قد جرى ترتيب أسماء المترجمين في نظام الطبقات الذي اعتمده الشيخ هرماس ترتيبا جيليا-زمنيا. ويمكن بيان منهجيته في العناصر الآتية:
1- المترجَمون في الكتاب هم ممن عُرِفوا بالفقه المالكي وسِعة الاطلاع فيه.
2- إدراج أسماء الفقهاء مضبوط بالنطاق الجغرافي للجزائر الحديثة، فالمقصودون هم الفقهاء المالكية الجزائريون، سواء أوُلِدوا وعاشوا وماتوا في البلاد كما هي حال جُل المترجَم لهم في الكتاب، أم كانت أصولهم جزائرية دون أن يولدوا أو يعيشوا فيها، كحال العلامة طاهر الجزائري.
3- أكثرُهم عاش في المئة الهجرية الأخيرة (1317-1421هـ)، وهي الفترة التي ضُبِط بها المجالُ الزمني في الكتاب.
4- السماع، أي الرواية الشفوية، هو مصدر ثانوي في الترجمة. والأصل هو المصدر أو المرجع المكتوب.
5- الاستعانة بمنهج المُحدِّثين في ضبط الأخبار وتمحيصها[7].
6- تقسيم المترجَم لهم زمنيا على ثلاث طبقات زمنية مُحدَّدةُ مُدتُها بـ33-34 سنة.
7- كل طبقة تُعرَف باسم أعلمِها في الفقه، حسب رأي المؤلف.
8- ترتيب أسماء المترجَم لهم في الطبقة الواحدة على حسب تاريخ الوفاة.
9- إضافة “طبقة ذيل” تضم مَن عاش أو ولد في النطاق الزمني للطبقة الثالثة، ولكنه توفي بعد 1421هـ أو لا زال حيا، وسُمِيت هذه الطبقة باسم الإمام أبي بكر جابر الجزائري المتوفى عام 1423هـ.
ولقد انتُقِد على المؤلف إدراجُه أسماءً ظُنَّ بها عدمُ انتسابها إما إلى جملة الفقهاء جملةً، وإما إلى الفقهاء المالكية. ومن الأمثلة على الحالة الأولى: أحمد سحنون، والبشير الإبراهيمي، وأحمد الرِّفاعي الشرفي. ومن الأمثلة على الحالة الثانية: محمد علي فركوس. وهنا ننقلُ ردَّ المؤلف على ذلك النقد في مقدمته للطبعة الثانية، بشيء من الاختصار:
“قالوا أنَّ محمد البشير الإبراهيمي، وأحمد سحنون، وأحمد الرِّفاعي الشرفي، هم أدباءٌ ورجالُ إصلاحٍ، ولا يصلحون أن يكونوا فقهاء. وهذا كلامٌ صحيحٌ، لكن تنقصُه الدقة والضبط… فالشيخ الإبراهيمي بقدر ما كان أديبا عملاقا، ولغويا مفلقا، كان مُحدِّثا بارِعا، وفقيها مُبدِعا. ولم يكُن فقيها ناقلا فقط، بل كان فقيها مجتهدا يوافق المذهب المالكي في الأصول، ويُخالِفُه في الفروع إذا وجد ما يدعو إلى المخالفة، يُنزل الأحكام الشرعية على النوازل الفقهية، يُسنِدُه في ذلك الذكاء والحفظ، فالرجل يحفظ مقرَّرات المذهب، ومُطلِع على كتب الفتاوى والنوازل… وله قَدَمٌ راسخةٌ في أصول الفقه لحُسنِ فهمه وتأتِّيه، ولو كتب في هذه المادة لأبدع وأجاد.
أما أحمد سحنون فهو اديب إسلامي لامِع، وله مشاركة قوية في الفقه المالكي، وقد زكَّاه الشيخ البشير الإبراهيمي، ووصفه بالذكاء والبراعة في تنزيل الأحكام، واختاره عضوا في لجنة الفتوى أثناء التوسيع الذي شهدته في ديسمبر 1962، وقدرُ الشهادةِ قدرُ الشهود.
وأما أحمد الرِّفاعي الشرفي فأعرفه معرفةً جيدةً، على معرفةٍ وتمكُّن في الفقه المالكي، مُطلع على أمهاته، هل فيه باعٌ، يصلح أن يكون مُفتيًا فيه، وليس له فيه تأليف”.
قالوا أنَّ محمد فركوس رجل أصولي أكاديمي، مِن دعاة اللامذهبية، وليس له علاقة بالمذهب المالكي بتاتا، فهو يدعو إلى الاتباع والأخذ بالأدلة المعصومة، والعودة إلى السلف بعمومه، وتركِ التمذهُب والتمسُّك بالأشخاص. وهذا أيضا كلامٌ صحيح وجيد، ولكن على إطلاقه، ففيه تقييدٌ، فالرجل عندما يكون سلفيا ليس بالضرورة ألا يتمذهب، أو يُلغي المذهب”.
وبعد أن ذكر المؤلفُ -بقدر مِن التفصيل- أنَّ الأخذَ بأصول المذهب والاجتهاد في فروعه لا يعنيان سقوط انتساب المجتهد إليه، وأنَّ هذا من أصول السلفية، ومثَّل على ذلك ببعض الأئمة المجتهدين، من أمثال ابن عبد السلام الشافعي، وابن تيمية الحنبلي، والشاطبي المالكي، قال: “والشيخ محمد علي فركوس أحسَبُه مِن هؤلاء[8]، وهذه حقيقةٌ لا أكعُّ في قولها، وجُلُّ أعماله كانت في أصول المذهب المالكي“، ثم ذكرها [9].
ثم بيَّن الشرائط التي عليها مَدارُ إدراج الرجل في الكتاب، والتي يستحقُّ بها وصف الفقيه إذا استوفاها، وهي: “مَن علِمَ الأحكام الشرعية العمليَّة المُكتسَبة مِن أدلتها التفصيلية، أو مَن استخرج الفروع الفقهية مِن أدلتها النصية والقياسية، وأضاف بعضُ الأصوليين قولَه: مَن عرفَ الصفات التي تتبنَّى عليها الأحكام الشرعية. وقال قومٌ آخرون: هو مَن اطَّلع على موارِد الأدلة وعرف مقاصِدَ الشريعة، والفقهاء درجات“[10].
ويحسُن بنا الإشارة إلى طريقة الشيخ أبي محمد في عرض الترجمة الواحدة، وكثيرا ما تكون على نفس النسق والترتيب، فهي بوضع الاسم مع تاريخ الميلاد والوفاة فوق نص الترجمة، ثم البدء بالتعريف الشخصي بذكر الاسم، والنسب أو اللقب، ومكان المولد، ثم النشأة والمسيرة العلميتين، ثم أسماء الشيوخ الذين درس عليهم، والتلامذة الذين تخرجوا عليه، والمراكز العلمية والمقررات المقروءة والمحفوظة، وكذلك الإجازات والشهائد العلمية. ثم يأتي توصيف المؤلف العلمي والأخلاقي -كلاهما أو أحدهما- لشخصية المترجَم له حسب رأيه فيها [11]، وأحيانا يكون ثمة نقد عليها في بعض آرائها أو مواقفها، ثم المؤلفات والرسائل وعامة الآثار العلمية والحضارية، ثم الوفاة ومكانه وموضع الدفن، والعقِب من الأبناء والأحفاد. مع التهميش بذكر مصادر الترجمة في الأخير.
وكل العناصر الآنفة تتفاوت في توفُّرها من ترجمة إلى أخرى. ولا ننسى وفرة فوائد المؤلف ومَلاحِظه واستطراداته على الهوامش في كثير من صفحات الكتاب، ونقاشَه الآراء الفقهية للفقهاء والتعقيب عليها بالنقد أو بغيره في بعض المواضع.
مَعالم كتابة الترجمة في الطبقات:
1- الاستعانة بالمصادر الشفوية: أول ما نبدأ به في الحديث عن معالم الترجمة هو المصادر والمراجع، فاعتمادُ المؤلف في عرض الطبقتين الأوليين يكاد يكون على المؤلفات المكتوبة لأنها الأصلُ عنده، وأكثرُ المنضوين فيهما هم ممن حَظُوا بمَن يؤرِّخهم، إنْ باليسير وإنْ بالكثير، مِن تلامذة أو كُتاب أو صِحافيين أو مؤرخين. ولعل أكثر صنف من فقهاء تينك الطبقتين استعان المؤلف في تأريخهم بغير الموارد المكتوبة، هم فقهاء منطقة الجلفة الذين كانت الرواية الشفوية مصدرَ ترجمتهم على الغالب، وكذلك المغمورون من بقية ربوع الوطن [12].
وفي تراجم الطبقة الثالثة والطبقة الذيل يكثُرُ الاعتماد على الرواية الشفوية في التوثيق الكلي أو الجزئي، خصوصا حين يكون المترجَم لهم أقربَ إلى زمن المؤلف ومنطقته[13]، سواءٌ أذكر مصدر الرواية مباشرة، أم أحال إلى كتابه (من فضلاء منطقة الجلفة) الذي قامت مادته في أكثرها على صرح الرواية الشفوية. وبعضُ الروايات الشفوية هي مُحصِّلةَ اللُّقيا الشخصية المباشرة بين المؤلف وصاحب الترجمة، وبعضها الآخر مُحصِّلة لقائه بواسطةٍ -أو أكثر- بينه وبين صاحب الترجمة. مع الإشارة إلى وجود تراجم اعتمد المؤلف فيها على السير الذاتية التي يكتبها أصحاب التراجم بأنفسهم استجابةً لطلبه الشخصي دون حصول اللقيا، فهي غير شفوية إذا [14].
هذا، وإذا كان ثمة روايتان شفويتان، جرى تقديمُ إحداهما على الأخرى أو اعتمادها وحدها إذا تعذر التوفيق بينهما، ويكون ذلك التقديم أو هذا الاعتماد للرواية بناءً على حال راويها قُربا أو بُعدا من صاحب الترجمة [15].
ويمكن اعتبار النقل عن الحصص التلفزيونية المرئية-المسموعة في جملة الرواية الشفوية غير المباشرة، وهو ما استعان به المؤلف أيضا في ترجمة بعض الفقهاء [16].
2- إنصاف التصوُّف والمتصوفة: فالشيخ أبو محمد مع سلفيته وانتسابه إلى مدرسة الحديث والأثر في الفقه والاعتقاد كما يصفُ نفسَه وتُظهِره كتاباته، لم يُفوِّت مبدأ الإنصاف في عرض تراجم الفقهاء المتصوفة وحُسن توصيفهم والثناء عليهم بما هم أهلٌ له، وهم أكثرُ الفقهاء المذكورين في الكتاب، وبعضُهم طُرقيَّة، فتراه يصِف صاحب الترجمة بالحُسن والاعتدال في تصوُّفه تارة، وبالصحة والالتزام فيه تارة أخرى، وبشتى الأوصاف والأخلاق الحسنة الحميدة تارة ثالثة [17]. ومعلومةٌ منزلةُ الخلق في الدين، بل هي أسُّه وثمرتُه.
3- مناقشة الأقوال الفقهية: ففي الكتاب قدرٌ من مشاركة صاحبه في مناقشة بعض الأقوال الفقهية حين يذكرُه أثناء ترجمة الفقيه، ويأتي عليها إما يتحقيقها وموافقة صاحبها عليها ومزيدِ تفصيلٍ لأوجه الخلاف فيها، وإما بنقدها عليه وترجيح خلافها، وإما بالإشارة إليها إجمالا ونقدها دون تحديدها كما في قوله: “…وله أقوال شاذَّة“[18]. وهذا فيه دلالة على وجوب أن يكون مؤرخ علمٍ ما ورجاله عارفا به وبأقواله، كي يكونُ حُكمُه على رجاله مستقيما، وإلا فكيف يؤرِّخ لرجال الفقه مَن ليس فقيها؟ وكل ما سبق هو مما يُثري مادة الكتاب في موضوعها الجامع الناظم لها، وهو الفقه. ومِن أكثرُ مَن يهمُّهم الكتاب طلابُ الفقه الذين وجب عليهم معرفة رجاله في بلدهم.
4- نقد الآراء والمواقف: عمل المؤلف في كتابه على تصحيح ما ظهر له غلطُه مِن آراء تاريخية، كبيانِه غلطَ القولِ بوجود الحُسينيين في أكثرِ جهات البلاد عكس الحسنيين، وانتقادِه التعصُّب القَبَلي المذموم على أحد الشيوخ الكُتاب وهو القاضي حشلاف، وانتقاده المبالغة والغلو في تبجيل العلماء مِن تلامذتهم كما حصل تجاه الشيخ الفقيه عطية مسعودي، وردِّه على أحد المترجم لهم في تحامُلِه على الشيخين الغزالي والقرضاوي، وانتقاده شيخَه أبا محمد الجابري على المبالغة في تقليد شيخيه عطية مسعودي وعامر محفوظي رغم أهليته للاجتهاد مثلهما، وغير ذلك [19].
5- تصحيح وضبط التواريخ: ويمكن القول أنَّ الفضل في حرص المؤلف على ضبط التواريخ والتنبُّه للغلط فيها هو تأثره بمنهجِ المحدِّثين التاريخي النقدي، ففيه ما يكون الاعتمادُ فيه على النظر العقلي المنطقي المحض، والأمثلة الموجودة في الكتاب تُظهِر أثر ذلك، فالمؤلف قد استعان مثلا بشرط التقاطع الزمني بين راوي الخبر وحاكيه وبين ما يرويه ويحكيه. وإذا وجد روايتين مختلفتين عرضهما على ميزان التقاطع الزمني ثم رجَّح الصحيح، أو الأقرب إلى الصحة[20]، وهكذا مما رأينا أمثلته للمؤلف في غير كتابه هذا أكثر.
6- التزعة السلفية: يبرزُ أثرُ هذه النزعة في مواقف المؤلف من الغلو في التصوف وأخطاء الغلاة واشتطاطهم، مقابل إنصافه لغيرهم كما أسلفنا. ثم إنه -مثلا- لا يتوانى عن إظهار إجلالِه لجمعية العلماء السلفية الاتجاه، فيُعبِّر قائلا بعد ذكرها: “وما أدراك ما جمعية العلماء!“، ولرجالاتها كابن باديس والإبراهيمي، ويحليهم بأفخم التحليات والتوصيفات، خصوصا الإبراهيمي، ويؤكد انتسابهم إلى السلفية اعتقادا وسلوكا. وكذلك يذكرُ ما خاضوه -وغيرَهم ممن لا ينتمي إلى الجمعية كصالح بن مهنا- من جهاد وحرب على غلاة المتصوفة والطرقية، فيذكرُه مع إظهار الانتصار له وإكباره، وغير ذلك من شواهد تلك النزعة[21]
ملاحظات على مضمون الكتاب:
ثمة ملاحظات منهجية وتقنية قليلة ارتأينا تسجيلها مما يجوز أن يكون فيه تنبيه للمؤلف على غلط غير مقصود منه، أو غير ذاك.
فثمة تراجم غفل المؤلفُ عن ذكر مصادره في كتابتها، وهي تراجم الشيوخ: عبد القادر البلبالي، وسالم بن إبراهيم، وربما أيضا مسعود معمري[22]. وفي ترجمة الشيخ عمر الدردور ذكر المؤلف استفادته معلوماته عنه من جمعية العلماء، دون تحديد الوسيلة[23]؛ أهي موقعها الالكتروني الرسمي؟ أم رسالة إلى المؤلف منها مثلا؟
ومما قد يُنتقد عليه المؤلف استطراده الواسع عند مناقشة مسألة المولد النبوي الشريف في ترجمة الشيخ أبي بكر جابر الجزائري، فمُجمل عدد صفحات الترجمة بلغ 16 صفحة، ثنتان منها فقط فيها ذكر الشيخ، والبقية الغالبة في مناقشة المسألة!
ونُشيرُ أيضا إلى تهافُت الخبر القائل بحرق الأمير عبد القادر مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، فهذا لم يثبُت، والأصلُ في مثله الشكُّ أو النفيُ حتى يثبت، والمؤلف قد ذكره في ترجمة الشيخ طاهر الجزائري، وذكر لي أنه سمعه من الشيخ السوري السلفي المشهور زهير الشاويش.
وبعد، ففي هذه الورقة تتبيَّن لنا القيمة العالية لكتاب (طبقات المالكية الجزائريين خلال المئة الهجرية الأخيرة)، فهو الأولُ في بابه، مع جودة الترتيب والاختصار، واستيفاء شرط التوثيق، وحُسن التحقيق، وهذا مما حدا بالمحققين الكبار على غرار: بشار عواد معروف، وعبد الهادي التازي، إلى تزكية الكتاب والتوصية به، والثناء على عمل المؤلف فيه. والذي علمتُه من المؤلف هو أنَّ باب عمله في هذا الكتاب –كغيره في بقية الكتب- سيظل مفتوحا أمام ملاحظات القارئ أو انتقاداته على سبيل التجديد والتجويد، وهو يدرك أنَّ “كلَّ عملٍ علمي ينبغي أن يُعادَ كتابتُه باستمرار، ويُعاد النظر فيه وتجدد معلوماته وفقا لتقدم العلم، والعلماءُ حقا لا يدَّعون أنَّهم يعطون مؤلفاتهم شكلا لا يقبلُ التغيير“[24].
الهوامش:
[1] لإدراك تطور مفهوم المذهب الفقهي تاريخيا، وأسباب خلود بعض المذاهب واندثار الأخرى، انظر: وائل حلاق، نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، ترجمة: رياض الميلادي، دار المدار الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 2007، صـ209-245. [2] انظر: فرانز روزنثال، علم التاريخ عند المسلمين، تعريب: صالح أحمد العلي، مؤسسة الرسالة، بيروت، لينان، الطبعة الثانية 1403هـ/1983م، صـ133-138. [3] أول كتاب وصل إلينا على نظام الطبقات الخاص، سواء أكان مرتبا على السنين أم على المدن أم على الوفيات أم على الأنساب أم على الحروف، هو طبقات ابن سعد (ت230هـ) بأقسامه الثلاثة كما أكده المحقق الكبير بشار عواد معروف. [4] من سيرة ذاتية كتبها بنفسه وضمَّنها كتابَه: أشتات مُجتمعات في الدين والدنيا، دار إيلياء، للنشر والتوزيع، الجزائر، الطبعة الأولى 1445هـ/2024م. [5] أبو محمد سعيد هرماس، طبقات المالكية الجزائريين، شركة الأصالة للنشر، برج الكيفان، الجزائر، صـ16. [6] إذا أردنا التدقيق فإنَّ مقابلة مصطلح (الجزائر) بـمصطلح (المغرب الأوسط)، أو إسقاط أحدهما على الآخر، كما يفعله بعض المؤرخين والباحثين الأكاديميين، ليس صحيحا بالتمام؛ لأنَّ المغرب الأوسط -رغم اختلاف الجغرافيين والمؤرخين من كل قرن في تحديده، بسبب تجدد التقلبات السياسية فيه كل فترة- لم يكُن -في أقصى اتساعٍ جغرافي وُصِفَ به- يشملُ كل المناطق التي تشملها حدود الدولة الجزائرية الحديثة، خصوصا منها بعض مناطق الصحراء، وقد رأينا بعضَ مدن الجزائر اليوم –أحيانا- تُضَمُّ سياسيا وإداريا إلى دولةٍ عاصمتها غير منتمية إلى حدود الجزائر الحديثة، كحال قسنطينة وبجاية في عهد الحفصيين، وتلمسان في بعض عهد المرينيين. وهذا ما نبَّه عليه العروي بقوله: “لا يتعاملُ قارئ الوثائق المكتوبة مع مفردات الأندلس أو المغرب أو الغرب أو الحوز، إلخ، كمفاهيم جغرافية قارَّة ومُحدَّدة، بل كمفاهيم تاريخيَّة تتغير باستمرار، فيجب إعادةُ تعريفها في كل وثيقة وثيقة“. انظر: عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الخامسة 2012، صـ256-258. [7] لابد من التنبيه على أنَّ المقصود هو الاستعانة ببعض قواعد المنهج التي هي من صميم قواعد البحث التاريخي أيضا، لا بها جميعها؛ لأنَّ أكثرَها لا ينبغي توظيفه في غير تحقيق الحديث وضبطه، للحُكم عليه صحةً أو ضعفًا. وهذا ما تشهد به طريقة المؤلف في عرض التراجم. [8] يقصد اشتراكَه معهم في طريقة الاجتهاد الفقهي، لا في المنزلة والقدر. [9] انظر: أبو محمد سعيد هرماس، طبقات المالكية الجزائريين خلال المئة الهجرية الأخيرة 1317-1421هـ، شركة الأصالة للنشر، برج الكيفان، الجزائر، الطبعة الثالثة 2023، صـ19-22. [10] المصدر السابق، صـ23. [11] وكثيرا ما يأتي هذا التوصيف مقتضبا في بداية نص الترجمة قبل الاسم إذا كانت مشهورة أو ذات منزلة عالية، كقول المؤلف عن صاحبها: “هو اللغوي المتمكِّن والفقيه المتقن”، “المحدِّث الفقيه المالكي”، “الفقيه المُحدِّث المُسنِد”، “هو العلامة الأصولي الفقيه”. المصدر السابق، صـ35، 39، 46، 159، إلخ… [12] انظر أمثلة في الهوامش: المصدر السابق، صـ32، 53، 54، 59، 62، 100، 118، إلخ… [13] انظر أمثلة في هوامش: صـ241، 245، 255، 259، 261، 266، 270، 273، 277، 282، 295، 304، 312-313 (متن وهامش)، 318، 354، إلخ… [14] انظر بعض الأمثلة: صـ425، 427، 428، إلخ… [15] مثلا: صـ244 (هامش). [16] انظر: 289-290، 298، 307، 376. [17] بعض الأمثلة: صـ34، 51، 73، 96، 97، 141، 425، إلخ… [18] أمثلة: صـ258-259 (هامش مشترك)، 266-268، 274، 283-284 (هامش مشترك)، 294، 297 (هامش)، 332-348، 364 (هامش)، 367، 388-390، 398-399، 417-418، إلخ… [19] أمثلة: صـ70، 87 (هامش)، 105، 264-265 (هامش مشترك)، 274-275، 366، 367، 378، 391، 394 (هامش)، 396-397، 421-423. [20] أمثلة: صـ32، 59-60 (هامش مشترك)، 373. [21] أمثلة: صـ44-45،95،107،110، 111، 120، 125، 237، 332، إلخ… [22] صـ279، 360-361، 361-363. [23] صـ316. [24] لانجلوا وسينوبوس، المدخل إلى الدراسات التاريخية، ترجمة: عبد الرحمن بدوي، ضمن كتابه: النقد التاريخي، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الرابعة 1981، صـ237.