حصريا

علي الطنطاوي وماهية الإسلام – د.عمر ماجد السنوي -العراق-

0 58

علي الطنطاوي وماهية الإسلام

 

عمر ماجد السنوي – العراق

 

ظلّ علي الطنطاوي ثلاثين عامًا يتحرّق شوقًا لكتابٍ يُعرِّف بالإسلام تعريفًا موجزًا بليغًا، يجيب عن تساؤلات العقول الناشئة في عصر الثقافة المتنوعة، ويردّ على شبهات أفكار الملحدين، ويخاطِب به مَن لم يعرف الدين، أو عرَفه مشوَّهًا، أو نسي وجهه الأصيل في زحمة الجدل والتقليد. وقد ألَّفَ مقالاتٍ متناثرةً في هذا المعنى، بعد أن لم يستجب له أحدٌ من العلماء الذين فاتحَهم بضرورة تلبية هذه الحاجة الملحّة لأبناء العصر، منذ أن شاهد حيرتهم في مقاعد الدراسة حين انتقل إلى بغداد عام (1355هـ). ثم جاءه تكليفٌ رسميّ من “رابطة العالم الإسلامي” عام (1387هـ)، فنهض للكتابة على عجل، وأعاد تأليف فصوله من الذاكرة بعد أن فَقَد مخطوطاته الأولى، فأتمّه في عشرة أيام، لكنه اختزن فيه عصارة عمر، وخبرة حياة، وصدق إيمان، وحدّة ذكاء.

ألّف علي الطنطاوي كتابه هذا وجعل عنوانه: “تعريف عام بدين الإسلام”، لكنه لم يعرّفه تعريفًا جامدًا كما في صفحات المناهج، ولا عرضه عرضًا جافًّا كما هو في كتب الكلام، بل كان تعريف بنَفَس رجلٍ عرف الإسلام لا من بطون الكتب وحدها، بل من مسارب العمر، ومن مجاهدة النفس، ومن مكابدة الألم، ومن صحبة الوحي في ظلاله العذبة، ومراميه البعيدة، ومقاصده الشاملة.

إنه علي الطنطاوي (ت 1420هـ)، الرجل الذي لم يكن مجرّد داعية يُكثر الوعظ، ولا فقيهًا يغرق في الحواشي، ولا كاتبًا يتزيّن بالعبارة… بل كان روحًا تفيض بالعلم إذا تكلّم، وتقطر بالحكمة إذا تأمَّل، وتلمَع بالصدق إذا وعَظ. وإذا كتب عن الإسلام، كتب بدمه لا بحبره، وبخبرته لا باجترار الموروث، فخرج كتابه هذا كأنما هو صلاةٌ مكتوبة على أوراق، أو ضوءٌ تجسّد في كلمات.

إنّ كتاب الطنطاوي لا يُقرَأ كما تُقرَأ سائر الكتب، بل يُرتَشف كما يُرتَشف الماء العذب في الهواجر، ويُتلقّى كما تُتلقّى البشارة في ليالي الوحشة، لأنه يوصل الإنسان إلى الروحانية والسكينة، فيَخلعُ القلبُ أثقالَ الأرض ويلتحقُ بأمداء السماء.

وقد شاء الله أن يُكتَب هذا الكتاب في أيامٍ قلائل، لكنها كانت كأنها الدهر، فذوبان صاحبه في معانيه جعله لا يكتب بعجلة المطبعة، بل بلهفة المؤمن الذي يريد أن يُلقي في قلب القارئ قبسًا من النور، يضيء له الطريق في زمنٍ اشتدّ فيه الظلام، وضاعت فيه بوصلة الفطرة، وتحجّبت فيه الأفئدة بالشبهات والشهوات.

جاء هذا الكتاب كما يجيء البلسم في زمن الجراح، وكما يجيء البيان في ساعة الخرس، وكما يجيء صوت الفطرة حين تُغرقها ضوضاء الفلسفات؛ فأعاد تعريف الإسلام كما هو: دينًا للفطرة، ومنهاجًا للإنسان، وسلامًا للروح، ونظامًا للحياة، لا تعقيد فيه ولا غموض، بل صفاء يلامس وجدان الطفل، وعمقٌ يُشبِع عَقل الفيلسوف.

يمضي بك الطنطاوي في أبوابه وفصوله، لا كأستاذ فوق منصة، بل كرفيقٍ يُمسك بيدك، ويقول لك: تعالَ أحدثك عن سرّ وجودك، وعن ربك ونبيّك، وعن هذا الطريق الذي اسمه الإسلام… يمضي بك من العقيدة إلى العمل، ومن الإيمان إلى السلوك، في بناءٍ محكم، وسياقٍ هادئ، وبيانٍ أخّاذ، يخلو من التكلّف، ويمتلئ بالحكمة.

والكتاب وإن خُصّت به الناشئة، فقد فاق غرضه، وتعدّى هدفه؛ إذ لا يخلو كبير أو صغير، ولا مثقف أو عامّي، من أن يجد فيه مرآةً صافية تعكس له جوهر الإسلام كما أنزله الله: نقيًّا، سمحًا، عميقًا، متزنًا؛ فجاء كتابه جامعًا بين بساطة العرض وعمق المعنى، يُقرَأ على العامة فيفهمونه، ويعود إليه الخاصة فيجدون فيه روحًا وبيانًا.

  • ابتدأ بتأصيل المفاهيم: فعقد تمهيدًا في معنى الدين، وتعريف الإسلام، وفطرة الإنسان، ثم رسّخ قواعد العقيدة في باب مستقل.
  • ومضى إلى أركان الإيمان: ففصّل الإيمان بالله، والملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقدر، بأسلوب هادئ لا يجادل، بل يُنير.
  • واعتمد أسلوب الحوار العقلي: فجاءت عباراته قريبة من النفس، مشحونة بالبرهان، مفعمة بالسكينة.
  • وتجنّب الحشو الجدلي والصراع التاريخي بين الفِرق: فلم يغص في دقائق الكلام، بل اكتفى بالواضح البيّن، معبّرًا عن جوهر الدين للوصول إلى اليقين.

فكانت خلاصة مضمونه أنّ الإسلام هو الدين الذي وافق فطرة الإنسان، لا يُثقله بالتكاليف، بل يرشده بالرحمة. وأنّ الدنيا دار ابتلاء، والإنسان بين طريقين: طريق مشتهى مهلِك، وآخر وَعر مُنْجٍ، والعاقل مَن يختار بعين الآخرة. وأنّ العقيدة ليست معلوماتٍ تُلقَّن، بل حقائق تُوقَف عندها الروح، وتُترجم في العمَل والسلوك. وأنّ الإيمان بالغيب أصل كل يقين، والقرآن هو الوحي الخاتم، والرسول صلى الله عليه وسلم هو هادي الإنسان إلى ربه الرحمن.

فيكون الطنطاوي بهذا قد أعاد تعريف الإسلام بصيغةٍ فطرية، بعيدة عن التعقيد الكلامي، ومتحرّرة من ضوضاء الخلافات. وقدّم نموذجًا حيًّا للدعوة بالتي هي أحسن، بلغةٍ جامعة، تصلح للمسلم الحائر، ولغير المسلم الباحث المعاصر.

وقد طُبع الكتاب عشرات الطبعات، وتُرجم إلى عشرات اللغات، واعتُمد في مدارس وجامعات ومؤسسات، فكان من أوسع كتب الطنطاوي أثرًا وانتشارًا.

فيا أيها القارئ: إنك لا تفتح هذا الكتاب لتزداد معلوماتك، بل لتتوضأ بمداده فتُطهّر قلبك وعقلك، وتثبّت نفسك ويقينك.. وإنك لا تقرأه لتُحصي ما فيه من المسائل، بل لتتبصر بما فيه من الحقائق؛ فإنك إن قرأته بِكُلّك: ستسمع صوت الإسلام كما سمعه الصحابة أول مرة: نداءً من السماء إلى الأرض، وبشارةً من الرحمن إلى الإنسان.

ويا صاحِ: لا تُلْقِ هذا الكتاب بين أوراقك كغيره، ولا تقرأه على عجل كأنك تؤدّي واجبًا ثقيلًا، بل خذه كما يُؤخذ المفتاح إلى باب الطمأنينة، وكما تُؤخذ الوصية من حكيم مودِّع، واجعل لكل صفحة منه وقتًا، ولكل فكرة منه مسرىً في نفسك. إنه ليس كتابًا يُفرَغ منه، بل هو رفيق يناجَى كلّما ضاقت الدنيا واحتدمت الأسئلة، وكلما ضعفت البصيرة وادلهمّت الطرق.

 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.