حصريا

علي أدهم: عاشق التاريخ وأحد رواد الرواية التاريخية – د.وجيه يعقوب -مصر-

0 41

(علي أدهم: عاشق التاريخ وأحد رواد الرواية التاريخية) بقلم الأستاذ الدكتور وجيه يعقوب السيد، أستاذ النقد الأدبي الحديث بكلية الألسن، جامعة عين شمس

*******************************************************

لا شك أن تسليط الضوء على مبدعينا ومفكرينا الذين لم يأخذوا حظهم الكافي من الشهرة والدراسة يعودبالفائدة والنفع علىالدرس الأدبي وتاريخ الأدب في المقام الأول، كما أنه يسعى إلى أن يعيد لهؤلاء الكُتَّاب والمفكرين بعض حقهم المسلوب بسبب تحكم الأهواء والأيديولوجيات في كثير من النقاد والمؤرخين،فلا يمكنإنكار تأثيرالأهواء والأيديولوجيات في توجه كثير من النقاد قديما وحديثا؛ فكم من مبدع تجاهلهالنقاد ولم يتوقفوا أماممنجزه وإسهاماته الفكريةبسبب الاختلافات والتوجهات الفكرية،وكم من كاتبصغير قام هؤلاء النقاد بتضخيمه والإشادةبمنجزهرغم تهافته وتواضعه الشديد، والشواهد على ذلك كثيرة جدا وإن كانت معايير الأدب الصارمة كفيلة وحدها بغربلة هذا الإنتاج والإبقاء على الجيد فحسب، وهنا قد يحق لنا أن نسألعلى سبيل المثال: لماذا لا يُحتفى رسميا بهؤلاء الأدباء الكبارأمثال: علي أحمد باكثير، ومحمد فريد أبو حديد، ومحمد فريد وجدي،ومحمد عبد الحليم عبد الله، ومصطفى صادق الرافعي، ومحمود شاكر، وشكري عياد، وعبد الرحمن بدوي، وعز الدين إسماعيل، ومصطفى الشكعة، وعبد القادر القط، ومصطفى ناصف، وغيرهم من الأدباءوالمفكرين الكبار الذين لم يحظوا برضا سدنة الثقافة ورعاتها الرسميين؟

لقد كان للتيار الماركسي بشكل خاص أكبر الأثر في إشاعة هذا التحزب وشيطنة الكُتَّاب المخالفين، بسبب مواقفهم من الشيوعية وغير ذلك من القضايا الدينية والسياسية، ويمكن مراجعة ما كتبه الدكتور عبد الرحمن بدوي في سيرته الذاتية عن هذا الموضوع وما اشترطته روسيا أو الاتحاد السوفييتي من تمكين لهذا التيار مقابل تمويل بناء السد العالي،وربما يكون خير مثال على ما نقول ما حدث معكاتبنا الأستاذ (علي أدهم)؛ فقد كان نموذجا ناجحا وكاتبا موسوعيا ومترجما كبيرا أشاد به كبار الكتاب والنقاد والمثقفين، ونُشِرت مقالاته وإبداعاته في كبريات المجلات والصحف المصرية الرصينة، وقد كانالرجل متفرغا تماما للكتابة والترجمة والإبداع بعيدا عنالمعارك والصراعات التي لا طائل من ورائها، لكن فصائل اليسار المصرية أفزعها وأقَضَّ مضاجعها ما كتبه عن حقيقة الشيوعية وتنظيماتها السرية، فراحت تهاجمه بضراوة وسعتلإقصائه عن المشهد الثقافي،فآثر الرجلالانسحاب من هذا السجال في هدوءلكنه ظل وفيا ومخلصا لمشروعه الفكري والإبداعي؛ فقدم عشرات الكتب والمؤلفات والترجمات المهمة في التاريخ والأدب وعلم النفس والنقد الأدبي، وحتى أكون منصفا ليس اليسار وحده هو من يقوم بمثل هذا الإقصاء، ولكن قوى اليمين والتزمُّت هي الأخرى تمارس الإقصاء والتشويه في أقبح صوره؛ ويكفي أن تقف على آرائهم ووجهة نظرهم في كبار كتابنا ومبدعينا من أمثال طه حسين والطهطاوي والعقاد ونجيب محفوظ لتعرف أن أكبر مشكلة تعاني منها الثقافة الحقيقية هي التطرف وممارسة الإقصاء ونفي الآخر، أذكر أن أحد الأصدقاء أطلعني على دراسة ببلوجرافية قام بها أحد الباحثين عن الرسائل العلمية التي تدور حول الرواية ونقد الرواية في مصر،فرُحْتُ أقلِّب صفحاتها جميعا فوجدتها تخلو من أية إشارة إلى رسالتي للماجستير والدكتوراه – وكلتاهما تتناول النقد الروائي – فابتسمت في نفسي وتعجبت من هذا الصنيع، خاصة أن صاحب الدراسة يعرفني جيدا ويعرف ما قدمته في هذا المجال، ولا أظن أن الأمر كان سهوا منه، لذلك فأنا أنتهز هذه الفرصة وأناشد الباحثين – خاصة الشباب – بالابتعاد عن مثل هذه المهاترات،وأن يعلموا أن خدمة العلم والبحث العلمي أَجَلُّ من هذه الحزازات والأهواء والانتماءات السياسية والمذهبية.

نبذة عن الكاتب:

ولنرجع بعد هذه التوطئة إلى كاتبنا الذي خصصنا له هذه المقالة في محاولة لإزالة بعض الغبن الذي لحق به؛ ولد علي أدهم في الإسكندرية عام 1897م لأسرة ذات أصول تركية، وقد أطلق عليه أبوه هذا الاسم تيمنابالبطل التركي أدهم باشا؛حيثتصادف ميلاده في العام نفسه الذي حققفيه هذا القائد انتصارا كبيرا على اليونان، وهو بالمناسبة لا يمت بصلة للكاتب إسماعيل أدهم صاحب كتاب: لماذا أنا ملحد؟ الذي مات منتحرا عام 1940م وأوصى بأن لا يُدفَن في مقابر المسلمين، وعلى الرغم من أنه لم يحصل على شهادة جامعية،فقدأعد نفسهإعدادا علميا مميزا من خلال القراءة فقد كان قارئا نهما، خاصة للتراث والأعمال الموسوعية وسير الأعلام، وقد مكَّنَه إتقانُه للغة الإنجليزية من الاطلاع على الثقافة الغربية فجمع بذلك بين الثقافتين العربية والغربية،كما كانت صحبته للعقاد وشكري وطه حسين ورواد الفكر في ذاك الوقت دافعا له علىالمشاركة الفعالة في الحياة الثقافية في مصر؛ فنشر أعماله وترجماته في أهم المجلات الأدبية والفكرية مثل: المقتطف، والكاتب المصري،والعصور،والهلال، والثقافة،والرسالة الجديدة،والفكر المعاصر،والعربي،وغيرها من الصحف والمجلات المهمة، وتمتاز مقالاته بالعمق والتنوع وسلاسة التعبير واللغة،كما أصدر عددا من الكتب والروايات التاريخية والأدبية المهمة منها: صقر قريش، ومنصور الأندلس، وبوذا، والمعتمد بن عباد، وأبو جعفر المنصور، وعبد الرحمن الناصر، وعلى هامش الأدب والنقد، والنقد والجمال في روسيا، وتاريخ التاريخ، وصور تاريخية، والهند والعرب، وألوان من أدب الغرب، وفصول في الأدب والتاريخ، وحقيقة الشيوعية، والفوضوية، والمذاهب السياسية المعاصرة، وغير ذلك من الترجمات التي تدل على مثقف نخبوي أثرى الحياة الفكرية والثقافية بكتاباته ودراساته.

رواية صقر قريش بين الواقع والتاريخ:

هذه رواية ذائعة الصيت كتبها المؤلف في أربعينيات القرن الماضي، ونظرا لأهميتها نشرتها مجلة المقتطف وقامت بتوزيعها مجانا مع أحد أعداد المجلة، وقد أعادت دار البشيرنشر تلك الرواية المهمة وعهدت إليَّ بكتابة مقدمة ودراسة عنها، وقد أحسنت الدار صنعا حين اعتنتبنشر تلك الأعمال الأدبية الكلاسيكية، التي شَكَّلَتْ وجدانَ الأمة ووعيَها طوال العقود الماضية؛فقد كانت تلك الأعمالُالأساسَ الذي أدى إلى تطور الأدب والنهوض بالإبداع نهوضا مدروسا ومحسوبا.

ونقصد بالأعمال الروائية الكلاسيكية؛ تلك الأعمال التي نهض بها كُتَّابٌ عِظَام، اتكأوا في تجاربهم الإبداعية على عدد من المحاور والآليات المعروفة، يأتي على رأسها الاهتمام بالنموذج الإنساني أو القدوة، والعناية الفائقة باللغة والتعبير الأدبي الرصين، والحرص على إقامة جسور مع قضايا الأمة وتراثها، فكانت أعمالهم مرتكزا للتجارب الإبداعية اللاحقة، التي استلهمت تلك الأعمال فطَوَّرَتْ من الشكل الفني للرواية، ونَوَّعَتْ في المضمون الفكري، وكان من أبرز هؤلاء: جورجي زيدان، ومحمد فريد أبو حديد، ومحمد فريد وجدي، وعبد الحميد جودة السحار، ومحمد سعيد العريان، وعلي أحمد باكثير، وعلي الجارم وعلي أدهم، وغيرهم.

لقد كان دافعالروائيين إلى استلهام أحداث التاريخفي بداية الأمرهو نشر الوعي بالتاريخ في الغالب،وحث الناس على قراءته للعبرة والاستفادة من أحداث الماضي، مستغلين مهارتهم في الكتابة وصياغتهم الفنية للأحداث للترويج لهذا الأمر،كما وجدوا في بطولاته النوعية أكبر رد على المتشائمين والمحبطين والمنبطحين أمام الاستعمار، فقدموا بذلكنموذجا مقاوما ورافضا للتبعية المقيتة والانبطاح أمام النموذج الغربي عسكريا وثقافيا، على أن استلهام التاريخ لم يخل من بواعث فنية وجماليةخالصة، لما تتمتع به الكتابة التاريخية من عناصر فنية تغري أي كاتب باللجوء إليها والاستفادة من طرق السرد المختلفة التي ابتدعها المؤرخون.

وللأستاذ علي أدهم عدد من الدراسات المهمة التي تتناول الرواية التاريخية، ناهيك عن أعماله الروائية التاريخية التي تعد تطبيقا عمليا لما كان يؤمن به ويعتقده، لذا يحسن الوقوف عندهالتحديد مفهومه للرواية التاريخية الذي تجلى بوضوح في روايته الشهيرة: صقر قريش وغيرها من الروايات التاريخية؛فهو يرى أن الرواية التاريخية التي ظهرت على يد الكاتب الإسكتلندي السير والتر سكوت كانت بديلا عن التاريخ الجاف، الذي يقدم لنا الأحداث والمعلومات – على عظيم أهميتها – بأسلوب ممل وغير مشوق،ولا يقدم لنا أرواح الرجال والأبطال، ولا يطلعنا على روح العصر، ويخلو من الخيال والتشويق والتوظيف الفني، وقد ظهرت الروايات التاريخية لتعالج هذا الخلل، وكان لها أثر محمود في الترويج للتاريخ وتقريب حوادثه إلى الأفهام، لأن أكثر الناس يملون من قراءة كتب التاريخ الجافة المملوءة بالحوادث المملة والأخبار المتشابهة الرتيبة، على الرغممن أن الكثير من المؤرخين قد يجيدون البحث والتحري ويبذلون جهدا جبارا في جمع الأخبار وحشد المعلومات، ولكنهم يعرضونها عرضا مملا يغري الناس بالزهادة في قراءة التاريخ والوقوف على حوادثه وأخباره، ويرى أدهم أن الروائي المؤرخ تلزمه صفتان متلازمتان هما: عقلية تاريخية تستطيع أن تستخلص الصور من سجلات الماضي وتكوّن الأفكار عن حقيقته، وقوة الخيال الخالق الذي يستطيع استحضار الأحاسيس والمشاعر.(انظر: علي أدهم: الرواية التاريخية، مجلة الثقافة، العدد 662، 3 سبتمبر 1951م)

وكُتَّابُ الروايات التاريخية ينقسمون إلى قسمين رئيسين: القسم الأول تعامل مع التاريخ باعتباره مجرد مادة حكائية يستند إليها في إقامة تجربته الإبداعية، ومن ثم فهو يحافظ على الأمانة والدقة في نقل تلك الأحداث، وينحصر دوره في تقديمها بشكل مشوق وجذاب لا أكثر وهو ما لاحظناه في كلام الأستاذ علي أدهم، أما القسم الثاني فقد تعامل مع التاريخ بحرية أوسع، فسمح لنفسه بالتصرف في تلك الأحداث بالحذف أو الإضافة وأحيانا بالتغيير الكامل في بعض الأحداث والمواقف، لأن هدفه الأساس ليس التاريخ ولا أحداثه، وإنما إسقاط تلك الأحداث على حقائق العصر، وقد برع في هذا الباب الأديب المعروف جمال الغيطاني.

ويشير (ترنر) إلى ثلاثة أشكال متباينة من الروايات التاريخية لا ينبغي الخلط بينها؛ فهناك الرواية التي تلفق الماضي وتخترعه، وهناك الرواية التي تُقنِّع الماضي وتورِّيه، وهناك الرواية التي تبعثه وتجدده. وعلى هذا، لا يمكن اعتبار كل عمل يتناول أحداثا تاريخية أو شخصيات تاريخية عملا روائيا؛ لأن الرواية التاريخية الحقيقية فن له أصوله وقواعده التي يجب أن تُرَاعَى، فلا يكفي الاعتناء بالوثيقة والحدث ودقة الأحداث وتحليلها، وإنما بالكيفية والطريقة التي تقدم بها هذه الأحداث، ومدى براعة الكاتب في توظيفها من أجل تسليط الضوء على قضايا العصر المختلفة.

يتناول علي أدهمفي روايته: صقر قريش حياة البطل التاريخي الأسطوري عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك المعروفبعبد الرحمن الداخل، المؤسس الحقيقي للحكم الأموي في الأندلس عام 138 هـ بعد ست سنوات من سقوط الخلافة الأموية بالشام عام 132 هـ. ولعل الأقرب إلى طبيعة هذه التجربة هو اعتبارها عملا فكريا تحليليا أو سيرة تاريخية لا رواية بالمعنى الفني، وقد أعلن ذلك المؤلف نفسه في المقدمة الطويلة التي كتبها لهذه السيرة فقال: حاولت أن أستقصي أخبار عبد الرحمن الداخل وحياته السرية، ولم أُبِح لنفسي الاسترسال مع الخيال والتوهم، بل التزمت الحقائق التاريخية وحرصت على الحق التاريخي.

إن الحدث الرئيس الذي قامت عليه تلك الرواية حدث معروف ومشهور، وقد تناولته العديد من الكتب التاريخية والأدبية؛ وهو حدث جدير بالتسجيل والدراسة والتوقف أمامه طويلا بلا شك؛ حيث تمكن عبد الرحمن الداخل من الهروب والنجاة بنفسه من المذبحة، التي قام بها العباسيون ضد أمراء بني أمية، من أجل القضاء عليهم حتى لا تراودَمَنْ نجا منهم فكرةُ العودة إلى الحكم مرة أخرى، وخاض غمار الموت متسلحا بقوة جبارة وطموحلا يتوقف عند حد، فهو سليل أحد بيوتات العز والمجد والشرف؛ ورث عن أجداده العزة والأنفة والإباء، ومن ثم لم يعرف الانكسار ولا الهوان، بل كانت نفسه تحدثه بضرورة استعادة مجد آبائه وأجداده رغم هذه الظروف.

وعلى الرغم من خلو هذا العمل المهم من أبرز العناصر الروائية المتعارف عليها؛ حيث غلبت عليه الحقائق التاريخية والتوثيق، وشاع فيه استخدام منظور الراوي العليم، الذي يتدخل في سيرورة الأحداث، ويقوم بالتعليق عليها من آن لآخر، ويخبر القارئ بما عليه فعله تجاه الشخوص والأحداث، وهو ما يعكس رغبة المؤلف في إيصال معنى محدد للقارئ عليه أن لا يعدوه، كما جاءت معظم المشاهد الوصفية عبارة عن لوحات منفصلة،يؤكد من خلالها الكاتب على براعتهوقدرته التصويرية فحسب، دون أن تسهم في تطور السرد، ولا تكشف عن طبيعة الشخصية الروائية، ولا تؤدي دورا رمزيا محددا،ومع ذلك نجح الكاتبفي تحليل شخصيات الرواية نجاحا كبيرا، مستعينا في ذلك بمعارف عصره من علم اجتماع وعلم نفس، وبقدرته الكبيرة على النظر بعمق للظواهر التاريخية، وعدم الركون إلى التحليلات السطحية المتواترة لتلك الظواهر.

لقد كان عبد الرحمن الداخل منذ طفولته على موعد مع المعاناة والآلام، فقد مات أبوه وهو في ريعان شبابه، وشعر جده هشام بن عبد الملك تجاهه هو وإخوته بالشفقة والمسؤولية،كما أنه نشأ في ظروف مختلفة؛ حيث تغيرت الأوضاع وكثرت الثورات على حكم بني أمية في تلك الفترة، وهو ما أكسبه صلابة وقوة ونظرة واقعيةللأمور،واختلفت طريقة تفكيره عن أقرانه، وهو ما هيأه وأعده إعدادا خاصا لمواجهة الأقدار وتحملقسوتها، كما كانت أصول أمه البربرية حافزا له على التعلم والطموح،حتى يكون على قدم المساواة مع سائر الأمراء من أبناء عمومته، فلا غرو أن تضافرت كل هذه الأسباب لصناعة بطل من طراز مختلف، وهو ما حدا بمعاصره أبي جعفر المنصور – رغم العداء التقليدي بين العباسيين والأمويين، ومحاولته القضاء على ملكه في الأندلس – أنيبدي إعجابه الشديد بشخصيته الفذة وبطولاته الأسطورية، بل ويلقبه – كما تزعم بعض الروايات – بلقب صقر قريش، وهذا ما جعل المؤلف يتأنى في إصدار الأحكام الأخلاقية على مواقف عبد الرحمن الداخلالتي اختلف بشأنها المؤرخون والمحللون.

فقد فُتِحَتْ بلادُ الأندلس عام 92 هـ في خلافة بني أمية، وظل الناس هناك على ولائهم لهمحتى بعد سقوط دولتهم في الشام عام 132 هـ، وربما كان هذا أحد الأسباب التي حدتبعبد الرحمن الداخل إلى الرحيل إليها والاستقرار بها، وقد خاطر في سبيل تحقيق حلم استعادة أمجاد آبائه مخاطر جمة، أبرزتها الرواية بصورة فنية ووثائقية ممتعة، وكان من الدهاء والكياسة بمكان حيث اتبع سياسة التدرج للوصول إلى أهدافه بدلا من الصدام والجموح، واعتمد في ذلك على أهل ثقته والمقربين منه القادرين على حفظ الأسرار وعدم البوح بها، كما أنه بعد نجاح خطته ووصوله لسدة الحكم لم يعلن نفسه خليفة ولا أميرا للمؤمنين، بل نَصَّبَ نفسه أميرا للأندلس وظل يدعو للخليفة العباسي المنصور في خُطَبِه، حتى لا يتعرض لسخط شريحة واسعة من المسلمين الذين يرفضون قيام دولتين أو خلافتين في وقت واحد، حتى إذا استتب له الأمر أظهر الشدة والقوةوالحزم، وفعل كل ما من شأنه تأمين ملكه وتثبيت نظام حكمه، وقد أخذ عليه كثير من المؤرخين العديد من المآخذ؛ منها بطشه بمعارضيه، وتنكره لكل من قدم له مساعدة عندما كان مطاردا شريدا، حتى أن أقرب أقربائه وأكثرهم إخلاصا له لم يسلموا من مصادرة أموالهم ونفيهم والتنكيل بهم، وهنا ينبري المؤلف للدفاع عن مواقف عبد الرحمن بن معاوية وتبريرها مخالفا في ذلك ما ذهب إليه أكثر المؤرخين؛ فقد كان وجود العرب في الأندلس وجودا ضعيفا وهشا للغاية، يؤذن بزوال ملكهم بسبب التناحر والعداوة التاريخية بين القيسية واليمانية، وهو ما استدعى إظهار القوة والقسوة أحيانا التي اتسم بها عبد الرحمن الداخل؛ فالبطل العظيم هو من يحقق فكرة عصره ويقوم بأكبر مطالب هذا الزمن. واستشهد المؤلف بتجارب تاريخية عديدة تؤكد صحة تحليله ووجهة نظره، وتبرهن على بعد نظر عبد الرحمن ودقة حكمه على الأمور.

ففي الفصل الأخير وعنوانه: الأيام الأخيرة، تحدث المؤلف عن شدة عبد الرحمن وقسوته التي عُرِفَ بها، وبسببها اعتبره كثير من المؤرخين أحدالطغاة والجبابرة، حيثأسرف في القتل والبطش والتنكيل بخصومه وأنصاره على حد سواء، إذ يرى المؤلف أنه كان مضطرا لذلك اضطرارا،ولولا هذه الشدة ما استطاع توحيد كلمة العرب المتفرقة، كما أن كثيرا من المواقف جعلته قليل الوثوق بولائهم له،فقد أظهرت الأحداثعداوة كثير منهم له، وعقدهم للأحلافوالمؤامراتضده، فقد تآمروا مع شارلمان ملك الفرنجة من أجل التخلص منه،لذلك اعتمد عبد الرحمن الداخل على المماليك والبربر واستعان بهم على مواجهة من حاكوا تلك المؤامراتضده، وحاول بذلك أن يرسم صورة قوية للحاكم لدى العامة حتى لا يجترئوا عليه أو يطمعوا في منازعته سلطانه، ويرى المؤلف أن الصواب كان فيما فعله عبد الرحمن، إذإن تأسيس دولة قوية فتية يقتضي مثل هذا المسلك أحيانا، فمن أجل تحقيق فكرة عظيمة قد تداس بعض المبادئ والقيم ويتجاوز في شأنها، وإلا فإن التهاون والتخاذل قد يفضيان في النهاية إلى ضياع كل شيء.

ولم تخل الرواية بطبيعة الحال من مشاهد وصفية جميلة وذات ارتباط وثيق بالسرد، وقد جاء معظمها تمهيدا وتوطئة للحديث عن مواقف بطل الرواية ووصف شجاعته وتبرير مواقفهوقراراته، وبذلك يكون للوصف وظيفة جمالية وتفسيرية مكملة للسرد، لا مجرد استعراض لمهارة الكاتب اللغوية والبلاغية. ويظهر هذا بوضوح في الفصل الذي خصصه المؤلف للحديث عن عبد الرحمن الشاعر، حيث قام بتحليل شعره الذي كان يعكس شخصيته القلقة والرقيقة بصورة جيدة.

وقد أفرد المؤلف صفحات غير قليلة للنجوى وحديث النفس أو الحوار الداخلي، وهو ما كشف للقارئ حقيقة شخصية عبد الرحمن الداخل، وما تنطوي عليه من أسرار يصعب معرفتها عن طريق الحوار الخارجي، فالحديث الخارجي والمعلن الذي يصدر عن الشخصية الروائيةقد يكون مراوغا وخادعا، على العكس من حديث الشخصية لنفسها وهي في مأمن من الرقباء، وربما كان هذا الأسلوب مناسبا تماماللكشف عن شخصيةعبد الرحمن الحقيقية، الذي انطوت حياته على كثير من الأحداث الغامضةوالألغاز والأسرار التي يصعب توقعها والتنبؤ بها.

وبعد، فهذه رواية تاريخية مهمة، تدور أحداثها في محراب الماضي السحيق، تستلهم قيم هذا الماضي وتهدف إلى التأسي بأبطاله، وما أحرانا بالرجوع إلى محراب التاريخ من خلال قراءة مثل هذه الأعمال الخالدة،التيتسهم في بناء الشخصية المعاصرة بصورة إيجابية صحيحة.

 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.