حصريا

فقه حديث “حرّز عِبادي إلى الطُّور” ومقارنته بواقع المسلمين اليوم! – عمر ماجد السنوي -العراق-

0 125

فقه حديث “حرّز عِبادي إلى الطُّور” ومقارنته بواقع المسلمين اليوم!

 

عمر ماجد السنوي (العراق)

 

إنّ من آثار الانحراف الخطير في الفكر الإسلامي: أنْ يقوم بعض علماء السلاطين بإثارة عدد من الشبهات للخروج بنتيجة مفادها (عدم جواز الجهاد في فلسطين)! بل الحكم على القائمين بالقتال هناك بالتأثيم والتجريم، ووصفهم بأنهم من الخوارج والإرهابيين، بل وصفهم بأنهم عملاء المحتلّين، وهذا اتّهام -لعمري- مِن باب: (رمتني بدائها وانسلّت).

مثال ذلك فتوى لمفتي مكة المكرمة: الدكتور محمد بن عمر بازمول، في موقعه الإلكتروني الرسمي، عندما سُئل عمّا يجري في غزة من حرب مع اليهود، فقال: ((الجهاد الشرعي له ضوابط، ضوابطه ليست متوفرة فينا اليوم، لا قدرة لنا على المواجهة، و{لا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها}. إذا كان سيدنا عيسى -عليه الصلاة والسلام- سيحكم في آخر الزمان بشريعة الرسول محمد ﷺ… اكتساح يأجوج ومأجوج لمنطقة الشام وما حولها هو مثل اكتساح أهل الكفر وأهل الباطل لمنطقة من المناطق الإسلامية، فجهادهم من باب جهاد الدفع، ومع ذلك اللهُ عز وجل يوحي إلى عيسى أن اصعد بعبادي إلى جبل الطور فإني أخرجت عبادًا لي لا يدان لكم بهم. ما قال له الله: اذهب لمواجهتهم! ما قال له: كيف تجعلهم يستولون على البلاد والعباد! لا، قال: اصعد إلى جبل الطور إني أخرجت أقواماً لا يدان لكم بهم، هذا حكم الله)) ا.هـ.

قلتُ: إنّ هذا الحديث من أحاديث علامات الساعة الكبرى، ومن أحاديث الفتن العظمى في آخر الزمان، وهو حديث طويل فيه ذِكر الدجال ونزول عيسى عليه السلام وخروج يأجوج ومأجوج، رواه الإمام مسلم في صحيحه (٢٩٣٧)، ورواه غيره بألفاظ قريبة، وهو حديث لَمْ يُؤْثَر عن أحدٍ من أهل العلم أنه استشهد به في (باب الجهاد وأحكامه)، ذلك أنّ له خصوصية من عدّة جوانب:

الجانب الأولّ: أنه إخبار عن أمر في المستقبل، وليس هو من أحاديث الأحكام التي نستطيع استنباط الأحكام الشرعية منها، لأن المستقبل له سياقاته غير المعلومة، وواقعه مجهول مغيَّب عنّا، فهو في عِلم الله تبارك وتعالى. بخلاف الأحاديث الواقعية التي أخبرَت عما وقع في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أوامره وأفعاله وأحواله وتقريراته، فإنّ سياقاتها معلومة، ويمكن تنزيلها على الواقع المماثل لها.

الجانب الثاني: أن ما جاء في هذا الحديث هو حالة خاصة استثنائية، فإنه يُخبر عن نبي من أنبياء الله، وأنّ الله يوحي إليه حينها بِوَحي مخصوص، يَلزمُهم الامتثال له، فهو نصّ قاطع، وليس اجتهادًا ورأيًا، فلا اجتهاد مع النصّ. أما واقعنا الآن فليس معنا نبي يوحى إليه، وإنما عندنا الإرث المحمّدي: الكتاب والسنة، فمنهما نستخلص الأحكام، وبهما نتّبع سيّد الأنام، عليه الصلاة والسلام.

الجانب الثالث: أن في الحديث نصًّا من الله بأن المسلمين آنذاك لا قِبَلَ لهم بهذا العدو، ولا استطاعة عندهم على مواجهته البتة. وهذه الحالة عندنا عليها شواهد في الكتاب والسنة، لا سيما النصوص المتعلّقة بالمرحلة الأولى ما قبل تشريع الجهاد والإذن به. وهذه حالة استثنائية، لا تنطبق على واقعنا، لأن عدم الاستطاعة المذكورة هنا هي لأنّهم أمام إبادة كليّة لا تُبقِي ولا تذَر فيها فناء جنس المسلمين عن بكرة أبيهم، وفي تتمة الحديث مصداق ذلك، فإنّه لن ينجو من الناس آنذاك إلا من تحرّز إلى الطور مع عيسى -عليه السلام- واختبأ معه. فهم لا يملكون شيئًا من القدرة، ولن يبقى منهم أحد لو واجهوا العدو؛ فهذه الصورة غير واردة في واقعنا المعاصر.

الجانب الرابع: أنّ في الحديث نصًّا من الله بالتحرّز والاختباء، فهو أمر واجب الامتثال على المسلمين، ومَن يخالفه آثم. بينما في واقعنا فإنّ الحال مختلِف، فليس عندنا سوى الاجتهاد في فقه الواقع وتقدير المصالح والمفاسد، لذلك نجد الفقهاء تكلموا عن الاجتهاد في ذلك حتى في حالات ما يسمى بجهاد الطلب، بحيث جعلوه راجعًا إلى تقدير المُقاتِل في أرض المعركة، من ذلك ما ذكره البُهوتي في كتابه “كشاف القناع عن متن الإقناع”، قال: ((وإن زادوا على مثليهم فلهُم الفرار، وهو -أي: الفرار- أولى من الثبات إن ظنوا التلَف بتركه -أي: الفرار-، وأطلقَ ابنُ عقيل استحبابَ الثبات للزائد، لِمَا في ذلك من المصلحة. وإن ظنوا الظفر فالثبات أولى من الفرار، بل يستحب الثبات لإعلاء كلمة الله، ولم يجب، لأنهم لا يَأمَنون العطب كما لو ظنوا الهلاك فيهما -أي: في الفرار والثبات-، فيستحب الثبات، وأن يقاتلوا، ولا يستأسروا، قال الإمام أحمد: “ما يعجبني أن يستأسروا”)).

فواضحٌ أنّ هذه المسألة تتعلق بـ(الأَولى وما يُستحَب)، وليس بـ(الوجوب أو التحريم)، فضلًا عن التأثيم والتجريم. مع أنّها في حال جهاد الطلب.

أما في حال جهاد الدفع فالّذي يُخطِئ في تقدير الأمور وفِقْهها هو أَوْلى بعدم التجريم والتأثيم، بل حقُّه الأجر والشكر، لأنّه عمل بما عرَفَه في سائر مَذاهب الفقه الإسلامي، مِن أنّ (العدوّ إذا هجَم فيجب على الجميع أن يخرج لقتاله، حتى العبد دون إذن سيّده والمرأة دون إذن زوجها والولد دون إذن والديه).

ولا نريد أن نتشعّب في ضرب الأمثلة، بل نقتصر على أهم مثال، وهو الذي نحن بصدده الآن: أعني القضية الفلسطينية، فإنّ أهل فلسطين كانوا وما زالوا مشروع إبادة في حسابات المحتل منذ بداية احتلاله، ولكنهم بصمودهم أمامه وبمواجهتهم له: استطاعوا النجاة والبقاء حتى الساعة بل حتى قيام الساعة، حتى إننا لنعجب كيف كانت المقاومة في أولها، ثم كيف دُحرت وهُزمت، ثم اسْتخْفَت من العدو، ثم تمكنت بعض الشيء، وقادت عدّة انتفاضات، ولم تنقطع عن تنفيذ العمليات الفردية من حين إلى آخر، حتى استطاعت اليوم أنْ تبلُغ من القوة والقدرة ما بلغَت، فصارت مثلًا يُضرَب في الدروس العسكرية، وفي الحروب التحريرية.

هذا بالنسبة للمقاومة نفسِها ذات الإمكانات المتواضعة بالمقارنة مع العدوّ، فما بالنا لو قام المسؤولون من أهل الإسلام بواجبهم تجاه القضية؟ ألا يمكنهم دحر العدو وتحرير كامل الأرض؟ بلى، بإمكانهم ذلك، لولا أنّ أكثرهم أهل خيانة.

والمحتلّ إذا قَتلَ منّا أكثر مما نقتل منه فلا يعني ذلك سقوط فريضة الجهاد عن المسلمين. ولا يعني أننا في حالة تشبه حالة انعدام القدرة والاستطاعة. والنّصرُ ليسَ وعدًا لأحدٍ بالرّفاهية، فلأجلِ ماذا اشترى الله من المؤمنين أنفسَهم؟ وها هي المقاومة تبذل مُهَجَها في هذا السبيل، مِن أكبر رأسٍ فيها إلى أصغر رأس، وكلّهم كبار.

والعجَبُ ممن يتلاعب بفقه الجهاد فينزل هذه الحال منزلة جهاد الطلب فيشترط له شروطه ويذكر فيه موانعه، بحجّة أنّ العدوّ صار مستوليًا مستوطنًا، ولم يَعُد مُداهِمًا! وهذا ليس من فقه السلف ولا مَن تَبِعهم من أهل العلم، إنما كان مِن فقههم ما لخَّصَه الشيخ محمد رشيد رضا في “المنار”، قال: ((والجهاد… إنّما يجب على كلِّ مكلَّف إذا ‌استولى ‌العدوّ على بعض بلاد المسلمين وتوقَّف دفعه على ذلك)).

بل إن الفقه السليم للواقع يدعونا إلى أن نُنزل كثيرًا من الأحوال التي تجري في (غزة) منزلةَ دفع الصائل، ومعلوم أنّ دفع الصائل هو أخص أحوال جهاد الدفع، ولا يشترط له شرط، فلو هجمَتْ عليك الأمم كلها لتعتدي على نفسك أو مالك أو أهلك أو دينك، فعندك نصّ من نبيّك المصطفى -عليه الصلاة والسلام- يجيز لك أن تقاتلهم وإنْ كنتَ أعزل، وإنْ تيقّنتَ موتَك، فتموت شهيدًا، كما صحّ في غير ما حديث عن رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم.

ونضرب على ذلك بمثال من فتاوى أحد علماء الأمّة السابقين، ممن سئل عن حال مثل حالنا هذه، وهو الإمام ابن البارزي الشافعي (تلميذُ العز بن عبد السلام، وشيخُ الحافظ الذهبي)، نقلَ هذه الفتوى الأستاذ محمد براء ياسين من إحدى المخطوطات.

فقد سئل ابن البارزي رحمه الله: (ما تقول السادة الفقهاء في ثغرٍ يتعلّق به مصلحة المملكة الإسلامية، ومنفعته منفعةٌ عامة، وضرره ضررٌ عام على الرعية، والغالب [على أهله] الخوف، وهم مع العدو على بساطٍ واحدٍ، ليس بينهم وبينه حائل، حوصروا فيه… فهل يتعيّن على سلطان العصر سدَّ هذا الثغر؟ وإذا أنهَوا حالَهم إلى وليّ الأمْر بَعد ضرورتِهم وتحقُّقِهم العَجْزَ مِن أنفُسِهم وإياسِهِم مِن جَميع ما يَرسم لهم بهِ مِن العَطاء، ولم يُجِبْ دعوتَهم وسؤالَهم، وضايقَهم العدوُّ ونزلَ بهم، وليس لهم غوثٌ، فهَل يموتون جوعًا؟ أو يُباح لهم تَسليم أنفسِهم إذا كان فيه حقْنُ دمائِهم وسلامةُ ذراريهم؟ أَمْ لا؟ أفتونا مأجورين).

فأجاب رحمه الله: (الجواب: يجب على سلطان المسلمين إعانتهم وإغاثتهم بكلّ ما يَقدر عليه، والاعتناء بما فيه صلاح هذا الثغر، فإنّ مصالح البلاد الشامية والديار المصرية تتعلّق بحفظه، وأنْ يَصرف إليهم من أموال بيت المال ما يكفيهم، ويجعل عندهم من الأقوات والسلاح والمقاتلة كلَّ ما يتوقع أنهم يَحتاجون إليه، ويزيد ذلك احتياطًا. فإن لم يَصرف ذلك إليهم من بيت المال وجبَ على المسلمين من الأمراء والقضاة والولاة والرعيّة أن يصرفوا إليهم من صدقاتهم وأموالهم ما يفي بذلك. وأما أهل الثغر المذكور فلا يحلّ لهم تسليم الثغر المذكور إلى أعداء الدين، وإنْ ظنّوا الموت جوعًا أو السبيَ أو القتلَ، أو تيقّنوا ذلك؛ لأنّ تسليم الثغر المذكور يؤدّي إلى ضررٍ عظيم عامٍ، ويترتب عليه من ذلك ما لا يمكن تداركه، وهذا ضرر موتهم أو قتلهم، لا سيّما مع أعداء قد عُهد منهم الغدر والفتك، وكم من قومٍ ظنوا السلامة في تسليم ثغرهم إليهم، فكان ذلك سبب إهلاكهم أهل ذلك الثغر، وسوء ذكرهم، وكم من قومٍ صبروا، وثبتوا، ونصحوا لله ولرسوله، فسَلِموا، ورفعَ الله درجاتهم وحسُن ذِكرهم في العالمين. والله أعلم).

هذا هو فقه علماء الإسلام الذين ينطلقون من مقاصد الشريعة، لا فقه علماء السلطان الذين يميلون حيث مالت أهواؤهم الشنيعة.

اللهم انصر الإسلام وأهله، واخذل مَن خذلهما. آمين.

 

 

 

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.